الفصل التاسع عشر

4K 120 1
                                    

الفصل التاسع عشر






راقبته وهو ينهض من مكانه .. دافعا كرسيه إلى الوراء مصدرا ضجيجا مزعجا ... بدأ يتحرك بشيء من التوتر والعصبية في أنحاء المطبخ الواسع ... يفتح أدراجا ثم يغلقها من جديد .. يفتح صنبور الماء ليغسل يديه دون أن ينظفها حقا .. كانت المرة الأولى التي تراه فيها على هذه الحالة .. وكأنه فأر علق في مصيدة أدرك أنه لن يتمكن أبدا من الخروج منها .. كان عليها أن تعرف .. ما الذي قصده بأن ولادته كانت سببا في اختلاف والديه .. توقف فجأة عن الحركة واضعا يديه على حافة السطح الرخامي للخزائن وهو يقول :- من المفترض بميلاد طفل لعائلة ما أن يكون سببا للتقريب بين أفرادها ... أنا كنت استثناءا عن القاعدة .. ولادتي لم تأت على العائلة إلا بالخراب .. ابن لوالدين مختلفين تماما قلبا وقالبا ... لا يتشابهان إلا في جانب واحد .. عصبيتهما وعنادهما وغرورهما الكبير .. هو أراد أن يأخذه إلى الحارات القديمة حيث نشأ كي يعلمه حقيقة أصله .. أراد منه أن يرتدي الملابس المهلهلة ويلعب في الشوارع مع صبيان العائلات الفقيرة ... أن يتشاجر مع متنمريهم فلا يعود إلى البيت إلا منتصرا أو مضروبا إلى حد الإغماء .. أراده أن يعمل منذ الطفولة .. ان يحمل الطوب بيديه ويتعلم كيف يبنى منزلا من لا شيء .. أراد أن يصقله بالعمل الشاق .. فلم يتساهل معه لحظة ولم يرحم طفولته .. قسوته كانت جارحة أحيانا .. فلم يفكر قط بأن كل ما احتاجه ابنه الوحيد هو أن يشعر بحبه واهتمامه ... لا أن يكبر مدركا بأنه أبدا لن يكون على قدر توقعاته ...
تشنجت أصابعها حول شوكتها وهي تنظر إلى ظهره المتوتر .. مذعورة للمعاملة السيئة التي تلقاها جواد طفلا من والده ... مهما كان الآن .. ومهما كانت تكرهه .. فإن التفكير به وهو يعذب نفسيا من أبيه .. يركض محاولا تحقيق توقعاته دون أن ينجح كان مؤلما للغاية .... لامست بطنها غريزيا مداعبة جنينها وكأنها تؤكد له بأنه أبدا .. أبدا لن يعاني بهذا الشكل ..
اعتدل ماسحا وجهه بكفيه وكأنه قد نجح أخيرا في احتواء غضبه .. وعاد يجلس أمامها قائلا بدون تعبير :- والدتي من الناحية الأخرى كانت مختلفة ... متطلباتها كانت مختلفة ... توقعاتها كانت بعيدة تماما عن توقعات والدي .. لقد كانت تريد ابنا مثاليا ... راقيا ... ابنا تفخر به أمام الناس .. ابنا يمثل عائلة راغب رافضة الاعتراف تماما بالجانب الشاطر منه ... هنا بدأت خلافاتهما .. حيث تذكر فجأة كل منهما الحقيقة التي أغفل عنها في شريكه عند الزواج ... تذكرت أمي فجأة بأنها قد تزوجت رجلا فظا همجيا غير مصقول .... وهو تذكر فجأة الفرق الشاسع بينه وبينها مما جعل عقدة النقص لديه والتي جاهد لينهيها بأمواله وعلاقاته المكتسبة تعود لتظهر على السطح من جديد ... كانا يتشاجران يوميا ... يعلو صراخهما .. تتقافز الأواني والأغراض مهشمة من حولهما .. بينما أراقب أنا في الزاوية مذهولا .. خائفا ... حتى تمكنت بطريقة ما خلال السنوات من إغلاق الباب تماما أمام مشاعري فبت مجرد مشاهد صامت .. وكأنه يشاهد شيئا غير واقعي .. شيئا أشبه بفلم مصور بإتقان يبدو حقيقيا في حين أنه لا يعنيه على الإطلاق ..
اختنق صوته وكأن الذكرى تلسعها بآلامها .. مما جعلها ترتجف وهي تشعر بالهالة العميقة الأثر من الحزن والوحدة التي فاحت منه فكانت تغريها بأن تمد يها لتلمسها علها تمتص شيئا منها فتخفف من وطأتها
:- انتهى بهما الأمر وقد نبذ كل منهما الآخر .... غادر والدي المنزل فما كان يعود إلا لماما ... ليسحبني معه غالبا في إحدى رحلاته التدريية التي كان كما يقول يلقنني من خلالها الحياة بدون أن يتواصل حقا معي .. بينما انكمشت والدتي في حالة اكتئاب شديدة كرست بعدها نفسها لحياتها الاجتماعية محاولة من خلالها تلميع صورتها أمام الناس عل أحدا لا يفطن إلى حقيقة زواجها المخزي الذي ابتليت به ناسية تماما الطفل الذي أنجبته .. لقد كان السائق يعيدني من المدرسة يوميا إلى منزل خالتي ملك .. إذ لا يمكن أن أقضي الوقت وحيدا في منزل العائلة الكبير ... منذ طفولتي ومنزل خالد منصور يشكل لي ملاذا .. خلاصا .. بين خالتي التي كانت توازن بنجاح بين تعاليها وواجبها كأم .. وبين زوج خالتي الذي مثل كل ما كنت أحلم به يوما في أبي ... وبين طارق ويارا ... شقيقي ... وأقرب أصدقائي .. كنت أحيانا أبيت لأسايع كاملة في منزل خالتي دون أن يفكر أحد والدي بالسؤال عني ... لا ... لقد كانا يتذكرانني أحيانا ... هي عندما ترغب بالتأكد من حصولي على أعلى النتائج الدراسية كي لا أحرجها أمام صديقاتها ... وهو عندما يرغب في إفراغ عقده السادية بي .. استمر الحال على هذا الوضع حتى وفاة أبي ... كنت شابا ناضجا في حينها إنما يافعا جدا بالكاد تخرجت من الجامعة لأجد نفسي وحمل أبي الثقيل يلقى فوق ظهري بدون مقدمات .. إذ اضطررت منذ ذلك الحين للبدء في إدارة أعماله كخلف له ... امي من ناحية أخرى ... شكلت وفاة أبي راحة لها إذ ما عادت تجد نفسها مضطرة للركض هنا وهناك مغطية على فشلها به ... عندها فقط .. تذكرت الابن الوحيد الذي خرجت به من زواجها الفاشل .. إلا أن الأوان قد فات ... وما عاد من شيء قادر على إعادة الزمن إلى الوراء .. وتغيير ما حدث ..
وإحياء ما مات من قلبه ... الذي عاد وانتعش بالحياة عندما قابلها .. ثم بكى أملا وشوقا عند تفكيره بإنجابه طفلا منها ..
رفع عينيها إليها أخيرا ليجد مشاعر غامضة متكتلة في عينيها العسليتين .. مزيج من الحزن والشفقة .. والتوتر وكأنها لم تتخيل أبدا أن تعرف جانبا كهذا فيه .. قال هدوء :- لهذا أنا متمسك هذا الطفل يا هديل ... سنوات طويلة عشتها ضائعا ... متخبطا .. بدون هدف حقيقي في الحياة ... ضائعا بين جذور والدي وتراث والدتي .. لا أعرف من أكون ... وما أريد أن أكونه .. إلا أنني الآن أعرف ... لأول مرة في حياتي أجد هدفا يستحق أن أعيش لأجله .. طفل أحبه .. أحميه .. أمنحه طفولة مختلفة تماما عن تلك التي عشتها .. ابني سيكبر مدركا بأنه محبوب .. مرغوب مهما فعل ... ابني سيكبر واثقا من وجود أب يحميه .. يقف دائما وراءه ليسنده عندما يقع .. وأم حنون تمنحه حبها الغير محدود أو مشروط ..
أم حنون .. أم أخرى .. يتزوجها بعد خلاصه منها لتربي ابنها هي ... أم ذات سمعة لا يشوبها شائبة .. أم يكبر ابنها فخورا بها .. لا محرجا من تاريخها ..
الألم كان أكبر من أن تحتمل .. إلا أنها جاهدت بطريقة ما كي تحتفظ بتعابيرها جامدة .. مؤكدة لنفسها بأن هذا ما وافقت عليه .. أن تنجب الطفل ثم تتركه له وترحل .. كان هذا الخيار الأفضل بالتأكيد من ذاك الذي تضمن قتلها لابنها بدم بارد كي تتقي الفضيحة .. الخيار الأفضل .. إنما الأكثر قسوة وألما ومرارة ..
سمعته يقول :- وهكذا تدركين بأن والدتي ... وأنا أحبها .. وأقدرها رغم كل شيء إلا أنني عاجز تماما عن مسامحتها على كل ما فعلته هي وأبي بي .. لا تستحق أبدا أن تسمحي لها بتوجيه الإهانات إليك .. بالنسبة إلي .. أنت وولدي تأتيان أولا .. مهما كانت الظروف
تمتمت من خلال سحابات الألم التي كانت تلف حواسها :- ربما هي لا تستحق منك كل هذا الظلم ... أنت تعاقبها منذ سنوات طويلة .. تؤذيها بجفافك وتجاهلك .. ترفض أن تنسى ما سببته لك من أذى في مرحلة حرجة من حياتها ( وأن لا أدافع عنها إذ أن لا عذر لها أبدا في تقصيرها معك ) ... كما ترفض أن تدرك بأنها الآن مجرد امرأة مسنة .. وحيدة .. كل ما تريده في سنواتها الأخيرة هو أن تشعر بمكانتها في قلب ولدها ... بأنه عندما ترحل لن ينساها .. بأنه سيتذكر دائما بأنها من أنجبته .. من حملته في بطنها لأشهر وهي تنتظر قدومه بكل ما لديها من حب وأمل .. الأم أم ... مهما كانت خطيئتها .. ومن حقها أن تنال في مرحلة ما الغفران من ولدها على أفعالها ...
كانت تتحدث عن نفسها ... تعرف هذا يقينا وهي تحارب دموعا تجمعت في مقلتيها ساخنة وثقيلة .. بينما تشنجت أصابعها فوق بطنها وكأنها تستمد من طفلها القوة ... أنا لست وحيدة .. إذ لدي أنت ..
قال بجفاف :- أخبريني إذن ... هل تقيسين كلماتك هذه على علاقتك مع عائلتك ؟؟؟ هل تسامحينهم على ما فعلوه بك .. على ظلمهم لك وتخليهم عنك ... عن رميهم لك للذئاب بدلا من أن يقفوا إلى جانبك فيحموك من قسوة زوج مريض ومن ظلمه وفضحه لك ... أخبريني ... إن خرجت الآن إلى الشارع ... وقابلت والدك صدفة .. وجدته واقفا أمامك مجسدا كل الألم والعذاب الذين عانيت منهما لسنوات دون أن يحرك ساكنا لمساعدتك .. ماذا كنت لتفعلين ؟؟
قالت بصوت أجش اختنق بالعاطفة والشوق والعذاب :- كنت لأركع على ركبتي أمامه طالبة منه العفو ... متوسلة إليه أن يعيدني تحت جناحه .. أن يسامحني حتى وأنا أعرف بأنه من ظلمني .. أن يمنحني شيئا يسيرا من قوته .. حمايته .. فأشعر بأنني قادرة وهو إلى جانبي على مواجهة كل شيء .... كل شيء ..
صمت للحظات وملامحه جامدة تماما بينا خلت عيناه من أي تعبير ... ثم قال بخشونة :- أنت لا تحتاجين إلى تمننه ... أنا أستطيع منحك ما تحتاجين إليه من قوة .. من حماية ... أنا مستعد لفعل أي شيء .. لمحاربة الدنيا وما فيها لأجلك ..
كلماته القوية أجفلتها ... ودفعتها لتقول مستنكرة :- أنت لا تعني ما تقوله .. أنا أم ولدك لا أكثر .. زواجنا هذا مؤقت وسينتهي فور أن أنجبه
:- ليس بالضرورة ..
رمشت بعينيها محدقة فيه غير مصدقة وهي تقول :- ماذا ... ماذا تقصد ؟؟
قال وعيناه تحاصران عينيها :- أقصد بأننا لسنا مضطرين لإنهاء زواجنا هذا يا هديل ... الطفل الذي تحملينه هو طفلنا معا .. ومن حقك أن تربيه معي .. أن تهتمي به معي .. أن تكوني أمه و إلى جانبه إلى الأبد .. نستطيع تسوية خلافاتنا لأجله .. البدء من جديد وإيجاد وضع مناسب بيننا لأجله .. أنت تريدين هذا فلا تنكري .. أراك بعيني تتمزقين في كل مرة تتحدثين فيها عن تركك لطفلك والرحيل
هزت رأسها وهي تقول بخفوت :- إن رضخت لاقتراحك .. إن فكرت بالمحاولة حتى في تسوية الأمور بيننا .. فإنني أخاطر في إعادة التاريخ من جديد .. سيعاني طفلي كما عانيت أنت من حياة لا روح فيها وسط والدين يكره كل منهما الآخر
قال صوت أجش :- أنا لا أكرهك ...
:- أنا أكرهك ..
ساد صمت تخلله هدير أنفاسه ... بينما بدا وجهه الوسيم وكأن الدماء قد انسحبت منه تماما وهو يراقبها تقف .. وتقول ضاغطة على حروفها .. عيناها تلمعان في تصميم :- أنا ... أكرهك .. ولن أسامحك ما حييت على دورك فيما آلت عليه حياتي .. ربما أنت تزوجتني كي تحمي ابني وتقيني من فضيحة جديدة .. ربما انت تهتم بي وتأويني خلال حملي بل وتطهو لي وتطعمني أيضا .. إلا أنني أبدا .. أبدا لن أتقبلك زوجا .. أو شريكا .. أو حتى صديقا ..
عندما لم يقل شيئا ... وجهه أشبه بتمثال حجري خلا من أي تعبير .. نهضت من مكانها وهي تقول :- لقد شبعت .. أظنني سأذهب إلى النوم ..
استدارت لتخرج من المطبخ فسمعته يقول من ورائها صوت لا حياة فيه :- لقد جاء عصام المهدي لرؤيتي اليوم ...
التفتت نحوه متوترة ... عصام !! هل عرف بزواجها ؟؟ كيف ؟؟ ما الذي يعرفه بالضبط ؟؟ أهو من تسبب بذلك الشق في فم جواد ؟؟؟
قال بنفس اللهجة الباردة متحاشيا النظر إليها ... وكأن رؤيتها توجعه :- لقد كان قلقا عليك إذ ظنني ابتززتك بطريقة ما لقبول الزواج بي .. اطمئني .. أنا لم أخبره عن الطفل ... لا أحد حتى الآن يعرف عنه ولن يفعل حتى تقرري أنت .. وقد وعدته بأنك ستذهبين لرؤيته في أقرب فرصة لتتحدثي إليه وتطمئنيه ..
قالت غير مصدقة :- أنت ... أنت لا تمانع بأن أذهب لرؤيته ... بأن أذهب إلى الجمعية ؟؟
قال بجفاف وهو ينهض :- أنت لست سجينة هنا ... من حقك الخروج من الشقة وقتما تشائين .. وبغض النظر عما أعرفه عن عصام المهدي .. أنا أثق بك .. وبالتالي ما من سبب يجعلني أمانع ذهابك لرؤيته ..
ثم صمت للحظات قليلة .. وجهه الشاحب الوسيم كان مثالا للقسوة .. للتباعد العاطفي .. للجمود .. مما جعلها تتخيله طفلا وهو يتظاهر جامدا بأن حياته ما كانت تنهار من حوله بفعل جنون والديه .. قال أخيرا ببرود :- أنا لست مالك .. صدقي هذا أم لا يا هديل .. ربما أنت تتمنينني أن أكون .. بما أنك كنت مستعدة لمتابعة حياتك معه رغم كل شيء .. مستعدة لمسامحته على كل ما فعله بك والعيش ذليلة في منزله حتى يقتلك ذات يوم بجنونه ... في حين أنك عاجزة تماما عن مسامحتي أنا – والد طفلك - على أخطائي ... إلا أنني أؤكد لك بأن لا شيء تفعلينه ... لا شيء تقولينه على الإطلاق سيدفعني للتراجع عن عهدي الذي قطعته لك بحمايتك .. وبالوقوف إلى جانبك .. حتى إنجاب الطفل على الأقل .
استدار مبتعدا عنها حاملا الأطباق نحو الحوض وهو يقول باقتضاب :- تصبحين على خير
خرجت من المطبخ وهي ترتعش من رأسها حتى أخمص قدميها ... شاعرة بأنها تهيم ضائعة مدركة بأنها عندما تعمدت أن تؤلمه .. أن تجرحه .. أن تزرع في صدره شيئا من إحساسها العارم بالوحدة والظلم ..
لم تكن صادقة تماما





تبكيكِ أوراقُ الخريف(الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن