الفصل الثالث
كانت دنيا أول من رأتها هديل عند دخولها الشقة الصغيرة الواقعة في الطابق الثالث من المبنى ... فتاة في التاسعة عشرة ... كان عصام قد تكفل بإيوائها في اتفاق مع الشرطة حماية لها من شقيقها الأكبر الساعي خلف قتلها غسلا لعارها الناتج عن تعرضها للاغتصاب من قبل غريب أثناء عودتها من المدرسة في العام الماضي ...
مذنبة أم لا .... كانت الضحية أم لا .. فقد لوثها العار .. واستحقت على هذا إضافة إلى ما سببته لها التجربة من ألم نفسي وعاطفي .. أن يلاحقها قصاص شرف مزعوم تساوى في مفهومه كل من الضحية والجلاد ...
كانت الفتاة السمراء الرقيقة الملامح ... النحيلة الجسد .. والتي سبغ البؤس على ملامحها المرهقة مزيدا من الضعف والهشاشة ... تمسك بقطعة قماش بين يديها وتنهمك في تطريزها .. كان هذا عملا تجيده تستطيع القيام به من مسكنها هذا دون أن تضطر للخروج وكشف مخبئها حتى ومطاردها يقيم في الجانب الآخر من البلاد ... مشغل خياطة قريب كان يرسل إليها قطع تطرزها .. ثم يقوم أحد من طرفها بإرسال القطعة من جديد إلى المشغل بعد انتهائها دون أن تضطر للخروج من الشقة ...
هذه الشقة التي سخرها عصام لأجل مساعدة الفتيات اللاتي تشردن دون أن يجدن منزلا يأويهن ... حيث تقيم فيها هديل برفقة ثلاث فتيات .. دنيا و غادة وقمر ... جميعهن فتيات جنى عليهن الزمن .. والمجتمع ... باستثنائها هي ... هي من جنت على نفسها .. واحتلت موقعا لا تستحقه ضمن المساحة التي يخصصها عصام لمساعدة الآخرين .. ربما كان محقا في حاجتها للتحرر من حمايته ... ربما هي تأخذ بالفعل مكان فتاة اخرى أكثر بؤسا منها وحاجة إلى المساعدة .. كزميلاتها في السكن .. أو الأرملة والدة الأطفال الأربعة والتي تقيم في الشقة المقابلة بإيجار رمزي جدا .. تقديرا لعدم وجود عائل لها ولأطفالها ..
حيت دنيا التي رفعت عينين سوداوين فاضتا بمزيج من الحزن والفرح البريء لرؤية هديل ... عدم خروجها من الشقة جعل عالمها يتمحور حول زميلات سكنها الثلاثة .. وبما أن هديل هي الأكبر سنا منهن .. فقد سبغت علاقتها بباقي الفتيات شيئا من الأمومة ... هذا الإحساس بأهميتها ... بحاجة أشخاص مثلهن إليها .. بقدرتها على تقديم شيء وإن كان بسيطا كالدعم العاطفي .. كان أحد منابع القوة القليلة جدا والتي تبقت لديها في هذه المرحلة من حياتها .. سألتها برقة :- هل الفتيات هنا ؟؟
:- غادة نائمة ... قمر لم تغادر غرفة النوم منذ مغادرة آخر زوار عصام قبل ساعات ..
أومأت هديل برأسها متفهمة وهي تقول :- سأدخل لأراها .. كيف كان نهارك ؟؟
قالت دنيا بفرح :- أنهيت قطعة مهمة جدا هذا النهار ... سأحصل على مبلغ كبير مقابلها فور تسليمها غدا
قالت هديل بلطف :- علينا أن نحتفل إذا بالخروج من الشقة .. ما رأيك بتناول البيتزا غدا عند المطعم القريب في الشارع المقابل ؟؟
شحب وجه دنيا وقد تلاشى فرحها كله دفعة واحدة ... تناولت القطعة التي كانت تعمل فيها ونهضت قائلة باضطراب :- آه ... لقد نسيت الخرز في الغرفة .. يالي من حمقاء ... أظنني سأكمل العمل هناك ..
راقبتها هديل بصمت وهي تغيب في الغرفة التي تشاركها بها غادة ... ثم سارت بدورها إلى غرفتها حيث كانت قمر تجلس على السرير ... تضم ركبتيها إلى صدرها وهي تنظر بشرود عبر النافذة المجاورة لسريرها .. تبدو وكأن عقلها مسافر على بعد أميال عن الغرفة الصغيرة التي تتقاسمها مع هديل .. غرفة خالية إلا من سريرين ضيقين وخزانة خشبية صغيرة ... كانت تشع بالفوضى التي اعتادت قمر بطبيعتها المضطربة أن تنثرها أينما حلت ... فوضى بدت محببة تماما لهديل التي كانت في حياة سابقة تعتبر وجود شيء في غير محله خطيئة كبرى
تمتمت بهدوء :- مساء الخير..
التفتت قمر نحو هديل وهي تقول بابتسامة شاحبة :- مساء الخير .. أنت متأخرة هذا المساء ؟؟
وضعت هديل حقيبتها جانبا وهي تقول :- تحدثت إلى عصام قليلا قبل أن أصعد ... كيف كان عملك هذا اليوم ؟؟
:- ما من جديد ..
جلست هديل إلى طرف سرير قمر قائلة بلطف :- لم لا تخبريني بما حدث وجعل هاتين العينين الزرقاوين تبدوان بهذا الحزن ..
اغرورقت عينا قمر بدموع قمعتها فورا ... تفهم عصام وتبنيه لها منذ سنوات ... حنان هديل التي اعتنت بها وكأنها شقيقة صغرى رغم أن وجودها هنا لم يمض عليه عامان .. في حين أن أربع سنوات مرت منذ عرفت قمر عصام لأول مرة .. وثلاث منذ مجيئها للإقامة هنا ... بالرغم من أنهما كانا عونا كبيرا لها .. إلا أنهما كانا الشيء الوحيد القادر على اختراق أدرعتها ... اللطف يخيفها ... إذ لم تعتد عليه .. وعندما ينبع عن شخصين بصدق ورقة عصام وهديل فإنه يكون مدمرا لها .. تمتمت :- ظننت بأنني قد لمحته اليوم ...
قطبت هديل قائلة برباطة جأش :- أين ؟
:- أثناء عودتي من العمل ... لقد لمحت وجهه .. أو ما بدا وكأنه وجهه داخل سيارة شحن صغيرة..
تمتمت هديل وهي تربت على شعر قمر الشديد الكثافة ... لتبعده عن عينيها الخاليتين من التعبير .. في طريقة عرفت بأنها كانت تتبعها دائما خلال سنوات معاناتها كي تحجب نفسها عن الشعور بما تمر به
:- ستظلين ترينه في كل وجه يصادفك إن ظللت تتذكرين الماضي قمر ... الماضي قد انتهى ... رحل ومضى
الكل كان يعرف بحكاية قمر الغريبة ... حتى هديل التي وصلت بعدها بفترة ... رغم هذا ما كان أحد يجرؤ على سؤالها عنها ... لقد كان بندا غير مكتوبا في قانون حياة كل منهن الجديدة .. لا سؤال عن الماضي .. لا فتح لأي جرح قديم ... ولا تفكير حتى في المستقبل ... لقد كن يعشن الحاضر فحسب .. بدون أي كثير من التوقعات والآمال .. تمتمت قمر :- هل انتهى بالنسبة إليك انت أيضا يا هديل ؟؟؟
جمدت يد هديل فوق شعر قمر التي قالت :- هل نسيته ؟؟ أم أنك مثلي ... تعجزين عن منع صورة زوجك السابق من القفز أمام عينيك كلما ظننت نفسك نسيته ..
نهضت هديل من جانبها وهي تحاول كبت ارتجافة جسدها ... الكل يعرف أيضا عن طلاق هديل البشع ..
إلا أن أحدا لا يعرف التفاصيل الحقيقية لما حدث حقا ... كما أن قمر مخطئة .. فهديل لا ترى صورة زوجها السابق ... لقد محتها تماما من ذاكرتها فور أن أصبح طلاقها نهائيا ... و في مفهوم هديل .. كانت مصيبتها في هذه الحالة أعظم بكثير ... تمتمت :- أظن كل منا ما تزال أسيرة ماضيها بطريقة ما ... ولكن إلى متى سنبقى كذلك يا قمر ؟؟ أنت ما تزالين يافعة ... والحياة بطولها في انتظار أن تعيشيها .. بينما استهلكت أنا الكثير من فرصي .. لديك أنت العديد من الفرص لانتهازها ..
لم تحاول قمر مجادلتها .. كان بندا آخر فيما يتعلق بهديل الرافضة تماما لاعتبارها مجرد ضحية أخرى .. إلا أن قمر كانت ترى رغما عن جميع محاولات هديل ... الكثير من أوجه الشبه بين حالتيهما ... قالت بهدوء :- ما قيمة الحياة ... ما فائدة الفرص ... إن لم يكن هناك من يشاركك بها ؟؟
نظرت إليها هديل بصمت للحظات قبل أن تستدير لتبدأ بتبديل ملابسها دون أن تمنحها ردا ... فقد كانت قمر محقة ... ولم يكن هناك بعد قولها ما يقال ..
أنت تقرأ
تبكيكِ أوراقُ الخريف(الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول)مكتملة
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me