الفصل الثاني

5.4K 133 2
                                    

الفصل الثاني




كان المكان خاليا إلا من بضعة أشخاص انشغلوا بترتيب المكان بعد الفوضى التي عمت لساعات خلال النهار ... دخلت هديل بخطوات هادئة نحو المكان الذي بدأت خلال السنتين السابقتين في اعتباره منزلها .. وجهت ابتسامة لأمان .. الفتاة التي تعمل في المركز منذ فترة طويلة ... والتي بادلتها الابتسامة بإشراق ناقض مظهرها المغبر بعد نهار حافل بالعمل .. لقد كانت دائما تثير حيرة هديل في تكريسها التام لبعد ظهر كل يوم في العمل التطوعي بدون أن تظهر مرة أي بادرة للملل أو السأم .. فتاة شابة مثلها بجمال استثنائي .. وعمر يافع لم يتجاوز الواحدة والعشرين ... تستعيض بمساعدة الآخرين عن حياتها خارجا .. لقد كانت موجودة عند وصول هديل قبل سنتين وقد كانت بالكاد تبلغ التاسعة عشرة ..و لا تظهر أي دليل على رحيل قريب
سألتها هديل :- أهو في مكتبه ؟
:- أين تظنينه يكون ؟؟ ادخلي إليه قبل أن يغرق في الأوراق المكدسة فوق مكتبه إذ أنه لن يتوقف عن مراجعتها إذا بدأ حتى طلوع شمس الغد
اتجهت نحو الباب الموارب .. وأطلت برأسها عبره لتنظر إلى عصام الذي بدا مستغرقا بالفعل في مطالعة بعض الأوراق والملفات فوق مكتبه .. رمقت رأسه الأشقر بشيء من الانبهار الذي لا يتوقف مهما فعلت بشعره الغريب ... أشقر قمحي اللون .. طويل بما يكفي ليسمح لتجعيداته الناعمة والفوضوية بمداعبة أذنيه ومؤخرة عنقه ... مكتبه الغارق بالفوضى كان انعكاسا لشخصيته البعيدة عن التنظيم .. الأوراق مبعثرة في كل مكان ... صناديق مكدسة في الزاوية ... أكياس امتلأت بالكثير من الأغراض في انتظار ترتيبها وتنسيقها لغرض التوزيع ... تذكرت سخرية أمان المستمرة منه وتشبيهها له بالطفل يضيع فور غيابها عن العمل يوما واحدا .. وقد كانت محقة ... عصام عبارة عن قلب كبير ... عقل شديد الذكاء .. وحس ضعيف جدا بالترتيب !!
طرقت الباب بهدوء .. فرفع رأسه مجفلا لترتسم على شفتيه ابتسامة ترحيب فور رؤيته لها وهو يقول :- أهلا بك يا هديل ... تفضلي بالدخول ... لقد كنت على وشك الاتصال بك إذ أقلقني تأخرك
بدا على وجهها المليح القسمات الارتباك والقلق وهي تقول :- أنا ..أنا آسفة .. كان علي العودة باكرا كي أساعد في عمل اليوم ... إلا أن عائلة طالبتي أصرت على أن أبقى لتناول العشاء ..
نهض مغلقا الملف الذي كان يتصفحه قائلا وقد اختفت ابتسامته عندما لاحظ شحوب وجهها .. واتساع عينيها الذهبيتين باضطراب :- لا تعتذري يا هديل ... أنت لست مضطرة لتقديم أي تفسيرات لي .. ساعات عملك في المعهد تنتهي عند منتصف الظهيرة .. وما تفعلينه بعدها من شأنك أنت وحدك ..
عدم الثقة المرتسمة في عينيها جعلت ألما كبيرا يخترق فؤاده .. وإدراكا تاما بأن سنتين من البناء والترميم للعطب الذي تعرضت له لم يكن كافيا ... مازال الصدع في روحها كبيرا مادامت تتوقع منه توبيخا أو ربما ما هو أسوأ من التوبيخ نتيجة لتأخرها .. قال برفق وهو يشير لها :- تعالي واجلسي يا هديل ..
تقدمت لتجلس على المقعد الجلدي المواجه للمكتب .. بينما جلس هو مقابلا لها قائلا :- أخبريني .... هل تشعرين بالراحة في عملك معي يا هديل ؟
رمشت بعينيها وكأنها لا تصدق سؤاله :- هل تمزح ؟؟ انا سعيدة جدا في عملي معك في معهد اللغات يا عصام .. لم أحلم قط بمكان أفضل منه للعمل ..
ابتسم وقد بدت له أصغر بكثير من سنوات عمرها السادسة والعشرين .. فأدرك بحزن بأن الوقت قد حان كي تتجاوز هديل صدفتها الواقية .. وتخرج إلى العالم الخارجي متحدية المجتمع بأكمله .. قال بهدوء :- ظننت بأنك قد ترغبين بتغييره .. بإيجاد عمل آخر يناسبك أكثر
راقب الدماء وهي تنسحب من وجهها ... والضياع يلفها كمن وجد نفسه مرميا في قلب المحيط دون أن يعلمه أحد السباحة .. هتفت بصوت تخللته بوادر نوبة ذعر :- ألا ترغب بعملي لديك بعد الآن ؟؟ هل اشتكى أحد الطلاب من عملي ؟؟
:- اهدئي هديل .. أنت أفضل من علم اللغة الانجليزية في معهدي الصغير ... ومهما بحثت لن أجد من يفوقك كفاءة وإخلاصا ...
:- لماذا تطردني إذن ؟؟
قالتها بشيء من الانفعال جعله يقول بصبر :- أنا لا أطردك يا هديل ... أنا أحررك من التزامك بالعمل لدي .. وأفعل هذا لأجلك أنت ... لن تتمكني من المضي قدما في حياتك إن ظللت مختبئة هنا ... يجب أن تخرجي .. أن تعملي لدى أشخاص جدد .. أن تفتحي أمامك آفاق جديدة
قالت بتوتر :- أنا أفعل هذا من خلال عملي هنا .. أم تراك نسيت بأنني أمنح دروسا خاصة خارج المعهد عدة مرات خلال الأسبوع ..
:- دروس خاصة لأشخاص ينتسبون بالفعل للمعهد .. ولا يملكون خيارا آخر إذ لن يجدو أستاذة أخرى تتقاضى الأجر الرمزي الذي تتقاضينه ... ما أريده لك شيئا آخر ... أنت أكثر ذكاءا وموهبة من أن تسجني نفسك هنا ...
نهضت واقفة وهي تقول من بين أسنانها :- انا هنا باختياري الشخصي
وقف قائلا بحزم :- أنت هنا لأنك تظنين نفسك لا تمتلكين خيارا آخر
هتفت بشيء من اليأس :- أنا بالفعل لا أمتلك خيارا آخر .. لن أجد مكانا يناسبني أكثر من معهد المهدي
صفق سطح المكتب براحته وهو يقول بصوت مرتفع :- هذا يكفي يا هديل ... يكفي ... إلى متى ستظلين خائفة .. متى ستملين من أداء دور الضحية المذعورة وتبدأين باحترام نفسك كي يحترمك الآخرون
اتسعت عيناها إجفالا لحدته المفاجئة ... لم يكن عصام من النوع الانفعالي .. لطالما كان هادئا .. رقيقا متفهما ... إلا أن الانفعال كان الوصف الخاطيء لحالته .. لقد كان الغضب .. والتصميم .. والعناد الموجود دائما تحت قناع اللطف الذي غلف عصام المهدي ..
أخفض صوته قليلا وهو يقول بحزم دون أن تفارق عيناه عينيها :- أنت لم تقومي بأي خطأ يستحق منك أن تنبذي نفسك وتنفيها هنا
تمتمت بصوت مختنق وهي تشيح بنظرها بعيدا :- هذا ما تقوله أنت
:- هذا ما أنا متأكد منه ..
ساد الصمت للحظات تحاشت خلالها النظر إليه قبل تغمغم :- ربما تظن بأنك تعرفني يا عصام .. إلا أنك لا تفعل ... لا أحد يفعل ... لا أحد يعرفني حقا .. فلا تتهمني ببراءة لا امتلكها ... إن كان هناك ما تغير بي بالفعل خلال السنتين الماضيتين .. فهو تعبي التام من حكم الآخرين علي بدون أدلة ... فلا تحكم على ما تجهله ..
صمت للحظات كان قد استعاد خلالها هدوءه فبدا وكأن نوبة انفعاله السابقة لم تحدث قط .. ثم قال :- فكري بما قلته لك
أومأت برأسها وهي تتناول حقيبتها وتغادر مكتبه ... كانت أمان وحدها هذه المرة .. تحمل حقيبتها هي الأخرى استعدادا للمغادرة .. إلا أنها بدت بوقفتها المرتبكة عند الباب .. وكأنها في انتظار هديل بعد سماعها لشجارها النادر مع عصام عبر الباب المفتوح ..
قالت بهدوء :- تعرفين بأنه يرغب فقط بما هو في صالحك
تمتمت هديل :- أعرف ... لقد كان واضحا قبل سنتين ... هو مستعد لمساعدتي بكل قواه حتى أقف على قدمي وأكون مستعدة تماما للانطلاق ..
أومأت أمان برأسها قائلة :- وهو يظنك مستعدة ... إلا أنك لست كذلك بعد
اضطربت هديل وهي تعقد ذراعيها حول جذعها في حركة دفاعية وهي تقول :- لا أعرف إن كنت مستعدة أم لا ... ربما هو محق في ضغطه علي .. لقد أخذت لفترة طويلة رعايته لي كشيء مسلم به
ابتسمت أمان بحنو وهي تقول :- عصام لا يتذمر من مسؤوليتك والأخريات هديل ... أنت تعرفينه بما يكفي كي تفهمي نواياه الحقيقية .. هو يريدك قوية ... مستقلة .. كي لا يتمكن أحدهم من أذيتك مجددا ..
هزت هديل رأسها مؤمنة بكلمات أمان .. التي تابعت بهدوء :- إلا أنني أخالفه الراي في نقطة واحدة يا هديل .. أنا لا أعتقد البتة بأنك بريئة كما يظن
رفعت هديل رأسها مجفلة نحو الفتاة الأصغر سنا .. إنما أنضج بكثير من سنوات عمرها اليافعة
:- عندما قابلتك أول مرة قبل سنتين ... كنت منهارة ... مكسورة الجناح ... ضعيفة ... إلا أنك ما كنت بريئة على الإطلاق ..
أحست هديل بجسدها يرتجف وهي تتذكر تلك اللحظة التي دخلت فيها أمان غرفتها في المستشفى ... لتتغير حياتها كاملا بعدها ...
:- لقد كنت مثقلة بشعور تمكنت من رؤيته بوضوح ذلك اليوم ... شعور بالذنب .. بالملامة .. وكأنك قد استحقيت كل ما أصابك ... لقد كان إيمانك بهذا جليا بحيث يصعب على من يراه بأن يشك به ..
صمتت هديل للحظات قبل أن تتمتم :- شكرا لك
كان شكرها لأمان غريبا .. إنما مفهوما للفتاة التي لوت شفتيها بابتسامة جانبية باهتة وهي تقول :- افعلي فقط ما يقوله عصام ... اقلعي بحياتك ... مهما كان ما فعلته في الماضي .. فهو لا يعني عدم أحقيتك بحياة طبيعية يا هديل ...
ثبتت قبعتها الفرنسية الطراز فوق شعرها البني المرفوع على شكل ذيل حصان وهي تقول ملوحة بيدها :- علي أن أذهب قبل أن يفوتني الباص .. أراك في الغد ..
غادرت تاركة هديل وحدها ... ضائعة .... خائفة بالفعل كما اتهمها عصام .. أتتمكن بالفعل من أن تقلع .. وتبدأ من جديد وحدها ؟؟؟ هل ستتمكن من فعلها ؟؟؟ هل سيسمح لها المجتمع بهذا ؟؟
من وراء الباب الموارب ... كان عصام ينظر إليها .. يراقب ضياعها بصمت وعينيه السوداوين تفيضان بالعطف والحزن ... لطالما عجز عن منع نفسه من التورط عاطفيا مع الفتيات اللاتي كرس نفسه لمساعدتهن ... الأمر يفوق قدراته .. إذ كان دائما يحمل همومهن على محمل شخصي ... مدركا بيأس بأنه لن يتمكن مهما فعل من أن يحقق المستحيل .. من أن يمنع فتيات رائعات كهديل وقمر وغيرهن من المعاناة بدون ذنب سوى أنوثتهن المعلقة حول أعناقهن كراية عار قرمزية ..
راقبها تجر قدميها خروجا ... قبل أن يعود صامتا إلى أوراقه ..





تبكيكِ أوراقُ الخريف(الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن