الفصل التاسع
:- هديل ..
أطلقت هديل شهقة عنيفة وهي تلتفت نحو امل التي أجفلت من ردة فعلها الحادة .. ثم رمشت بعينيها وهي تحدق بوجنتي هديل المبللتين وشفتيها المرتعشتين ... هتفت باضطراب :- هديل .. هل تبكين ؟؟
لم يسبق أن رأتها أمل تبكي .. لم يسبق لأحد أن رآها تبكي منذ جاءت للإقامة في الشقة مع الفتيات قبل سنتين .. أسرعت هديل تمسح دموعها بيدين مرتعشتين وهي تقول بصوت أجش :- لا .. أنا لا أبكي .. إنه هواء الصباح البارد لا أكثر ..
أخذت نفسا عميقا كي تهديء روحها التي كانت قبل لحظات قليلة فقط تتلوى ألما على إثر وجع الذكريات .. ثم قالت :- هل أيقظتك ؟؟
قالت أمل بقلق :- لا .. لم يصدر عنك أي صوت .. وهذا بالضبط ما أثار قلقي .. لقد استيقظت لأجدك جامدة تماما .. وكأنك غادرت واقعنا وغبت في واقع آخر .. كنت تحدقين في السماء خارج النافذة إنما كانت عيناك خاليتين تماما من أي معنى ..
أجبرت هديل نفسها على الابتسام كي تخفف من توتر واضطراب أمل وقالت :- آسفة يا أمل .. إنها حالة غبية تصيبني أحيانا عندما أكون شاردة .. أنا جائعة .. ما رأيك بأن ننزل إلى المطبخ علنا نجد شيئا نفطره ..
لم تخذلها أمل التي أحست برغبة هديل بنسيان حرج اللحظة .. خلال دقائق كانت الفتاتان تتهامسان ضحكا وهما تتسللان بصمت عبر الدرج مصممتان على ألا توقظا أحد أفراد البيت كي تنعما بالعزلة ..
دخلتا المطبخ بينما هديل تضحك لشيء قالته أمل .. لتتجمد الضحكة تماما فوق شفتيها كما صمتت أمل عندما اكتشفتا أن شخصا آخر كان قد سبقهما إلى المكان ..
وجه جواد كان جامدا تماما وهو ينظر إلى الفتاتين الواقفتين بدون حراك عند باب المطبخ .. أحست هديل وكأنها فأر علق بالمصيدة .. طوال أيام كانت تتحاشى خلالها مواجهته أو التواجد معه في مكان واحد ... في الواقع .. هي لم تر وجهه منذ فاجأها ذلك الصباح في الشرفة الخلفية عندما اكتشفت بأنها كانت طوال الوقت تقيم في منزله .. تحت سمعه وبصره بدون أن تعلم .. تراجعت خطوة إلى الوراء .. ممتقعة الوجه .. وجلة الفؤاد .. حواسها كلها تصرخ بالهرب بينما كانت عيناها عاجزتين عن التزحزح عن الرجل الذي دمر حياتها .. وفي الآن ذاته سكن أحلامها .. وحتى كوابيسها ..
كان يقف مستندا إلى حافة المنضدة الرخامية .. يمسك بين أصابعه فنجانا تصاعد منه البخار ... فتشبع هواء المطبخ برائحة القهوة الطازجة .. بينما بدا هو رائعا للغاية .. بسيطا للغاية .. بدائيا للغاية بسروال من الجينز القديم ... وقميص أزرق لم يتعب نفسه بعقد أزراره .. عيناه كانتا تراقبنانها بإصرار .. رباه ... لا تدعه يضبطني أسترق النظر إلى صدره .. وكأن الفكرة وحدها كانت كافية لتحطيم كل ما لديها من إرادة .. انزلقت نظراتها نحو المسافة القصيرة التي فصلت بين شقي القميص لتحبس أنفاسها ولمحة من عضلات سمراء مصقولة تضرب أعماقها فتبتر تماسكها كما السيف القاطع .. قبل أن تتمكن من تنفيذ خطتها بالهرب .. تعالى صوته .. خشنا .. رجوليا كما تذكره .. يقول بهدوء :- صباح الخير يا آنسات .. أي خير فعلته لأستحق صحبة كهذه في هذا الوقت المبكر ..
ثم ارتسمت ابتسامة ماكرة .. بطيئة على شفتيه وهو يلوح بفنجانه قائلا :- هناك المزيد من القهوة لمن يشتهيه
احمر وجه هديل وهي تنتزع عينيها عنه انتزاعا ...أمسكت أمل بيدها وكأن جزءا منها أحس بنية صديقتها في الهرب ... وقالت بدون ابتسام :- أنا لا أشرب القهوة ... بينما تحبها هديل ..
لانت نظراته وهي تستقر فوق وجه هديل المتورد .. ثم قال بلطف :- وما تحبه هديل ... يجب أن يصل إليها على الفور ..
تسارعت أنفاسها وهي تراه يتحرك بخفة .. ويستدير ليصب السائل الساخن من الدلة في فنجان آخر .. لقد كانت ضائعة للغاية .. مقهورة من الضعف الذي كانت تحس به في وجوده رغما عنها .. حتى خلال سنوات زواجها بمالك لم تشعر بهذا الضعف .. كان تنمره عليها يغمرها بالغضب .. بالقوة وهي تقسم في كل مرة على ألا تسمح له بكسرها .. أما جواد الشاطر .. فقد كان يكسرها بمجرد وجوده ..
التفت حاملا الفنجان ...وعيناه تحدقان بعينيها بتحدي ... بدلا من أن يتقدم ليمنحها الفنجان بنفسه .. وضعه مع طبقه الصغير فوق طاولة المطبخ الخشبية والتي توسطت المكان ... ثم اعتدل وبدأت أصابعه تعقد الأزرار السفلية لقميصه ببطء واستفزاز ... بينما تبرق عيناه الخضراوان ببريق شقي وكأنه يعرف جيدا تأثيره عليها .. مما جعلها تزدري ريقها باضطراب ثم تشيح بوجهها بعيدا عنه .. التفت عندها إلى أمل قائلا بتهكم :- والرد على صباح الخير ... يكون بصباح النور عادةً .. أم أن السنوات التي قضيتها حبيسة ذلك القبو قد أنستك قواعد السلوك يا أمل ؟؟
نظرت هديل إلى أمل بقلق وترقب .. مذهولة بالطريقة الفظة التي كان جواد يتحدث فيها إليها وقد حرص الجميع على معاملة أمل بكل رقة وحذر منذ عودتها ....
رفعت أمل رأسها وهي تقول بخشونة :- أرجوك .. إن كنت كما أذكرك قبل سبع سنوات .. فأنت لا تعرف أي شيء عن قواعد السلوك يا جواد ...
ابتسم راضيا وهو يقول :- لنتخطى إذن كل ترهات المظاهر ... وتعالي لتختاري شيئا لتفطريه .. إن كنت أنت كما أذكرك قبل سبع سنوات .. فقد كنت تستيقظين كل صباح تتضورين جوعا .. لقد كنت تغيرين على ثلاجة منزلي في كل مرة كنت تبيتين فيها هناك ....
ابتسمت وهي تستجيب لدعوته بدون تحفظ ... مما جعل هديل تراقبها بدهشة .. ثم بعطف يشوبه شيء من الغيظ لتمكن شخص بوقاحة وفظاعة جواد الشاطر من تحطيم دفاعات أمل ... التقت أعينهما في حديث صامت .. انتهى به يبتسم بتهكم ساخر .. وكأنه يقول لها وقد قرأ أفكارها ( تخيلي !!!)
فتحت أمل الثلاجة .. وأخرجت الخبز والجبن ... في تلك اللحظة بالذات اندفعت كل من حنين ولين بملابس النوم إلى المطبخ كالإعصار وهما تصرخان :- حفلة إفطاااااااااااااااار ...
ضحك جواد وهو يحمل حنين ويقبل رأسها ثم يجلسها فوق السطح الرخامي لخزائن المطبخ .. ثم يحمل لين التي صاحت :- أريد طبقا من رقائق الذرة ...
:- ألذ وأشهى طبق سيعد حالا لأجمل فتاتين ..
لم يعجب هديل أن ترى هذا الجانب منه .. لقد أحست في تلك اللحظة بأنها بالفعل غريبة عن هذا المنزل ... أمل ... أقرب صديقاتها .. كانت ابنة خالة هذا الرجل الذي تكره ... الطفلتان اللتان ساهمتا بجعل حياة هديل أكثر قبولا في الآونة الأخيرة .. كانتا قريبتيه أيضا .. لقد أحست وكأنها كانت على مدى أيام تتنعم في راحة بال ليست من حقها ... لقد عاد جواد الشاطر ليهز عالمها مجددا .. بدا على الجميع وكأنهم قد نسو ا وجودها لحسن الحظ .. فكانت فرصتها للانسحاب .. إلا أنها لم تستطع المغادرة قبل أخذ فنجان القهوة معها .. قهوة من صنع يده ؟؟؟ كيف لمذاقها أن يكون ؟؟؟ خطت بخفة دون أن يشعر بها أحد لتلتقط الفنجان .. وقبل أن تستدير مغادرة كان جواد قد أجلس لين إلى جوار شقيقتها ثم استدار ليلبي طلبهما دون أن يرى هديل الواقفة في طريقه ليصطدم بها ...
لم يكن الاصطدام قويا ... انما قويا بما يكفي ليقلب محتويات الفنجان كاملة فوق قميصه الأزرق .. أطلقت شهقة ذعر قصيرة وهي تهتف :- رباه ... أنا آسفة ..
بدون تفكير سوى بتأثير سخونة القهوة على بشرته من خلال القميص المبتل .. امتدت يدها تلتقط أول قطعة قماش كانت في متناولها .. لتقف معلقة في الهواء دون أن تصل إلى هدفها ...
حبست أنفاسها وهي تنظر إلى عينيه القاسيتين ... بينما اشتدت أصابعه حول معصمها الممسكة بقطعة القماش دون أن تسمح لها بالوصول إلى صدره ... أدركت فجأة ما كادت تفعله ... فاحمر وجهها وهي تتنفس بعنف واعية لوقوفها القريب جدا منه ... لقدرتها على الأحساس بحرارة جسده وتمييز رائحة عطره الممزوجة برائحة القهوة المسكوبة .. تسارعت نبضات قلبها دون أن تدرك بأن الهدوء قد لف المكان .. لقد توقف عقلها عن العمل عاجزا عن التفكير سوى بملمس صدره الذي كادت تدركه ... وكأنه أحد ألغاز الدنيا وقد فصلت سنتيمترات قليلة بينها وبين حله ... قال بصوت أجش :- لا بأس ... لم تكن شديدة السخونة ..
حررت معصمها من قبضته وهي تتراجع باضطراب أقرب إلى الهلع ... وعندما التفتت نحو الباب .. رأت السيدة ليلى تقف بإزارها الصباحي .. واجمة الوجه .. تشهد الموقف المخزي الذي وضعت هديل نفسها فيه بنفسها ... همست بصوت متقطع وهي تضع الفنجان الفارغ فوق المائدة :- بالـ..... بالإذن ...
غادرت المطبخ بسرعة متجاوزة السيدة ليلى التي نظرت إلى ابنها .. عيناها العاصفتان تنطقان بالكثير ... وعندما لاحظت توتر أمل الواقفة إلى جانب الثلاجة .. و إحساس الطفلتين بغرابة الموقف .. انسحبت هي الأخرى بدون أي كلمة ..
بهدوء ... وكأن شيئا لم يحدث ... أخرج جواد علبة رقائق الذرة من الخزانة .. وعلبة الحليب من الثلاجة ... وبدأ بإعداد الأطباق للصغيرتين ... وعندما انهمكتا بالأكل فوق منضدة الطعام .. استدار ليجد أمل واقفة مكانها .. تحدق به بإصرار ... فقال بنزق :- قولي ما لديك .. لا تكبتي الكلمات في صدرك .. أرجوك ..
قالت بحدة :- ما مشكلتك مع هديل ؟؟ لماذا تتوتر دائما عندما تكون موجودا ؟؟؟
:- ما مشكلتك مع طارق ؟؟ ولماذا تذلينه برفضك الطفولي له كلما كان موجودا ؟؟
بهتت لهجومه المضاد المفاجيء فقالت بغيظ :- كيف تجرؤ ؟؟؟ الأمر لا يخصك أبدا ... أنت لن تفهم أبدا مهما أخبرتك
تراجعت عندما اقترب منها محاصرا إياها بين جسده الضخم وخزائن المطبخ المغطاة بالرخام .. ونظر إلى عينيها مباشرة وهو يقول :- استمعي إلي جيدا أمل .. أنا لن أخضع لورقة ( الفتاة المسكينة والمعقدة ) التي تبتزين بها الآخرين منذ عودتك ... أعرف بأنك قد عانيت كثيرا.. إلا أن طارق قد عانى هو الآخر خلال سنوات غيابك ... كرس حياته كاملة للبحث عنك .. أوقفها .. جمدها .. لأجلك أنت فقط عاجزا عن تخطي عدم تلقيه اتصالك تلك الليلة عندما احتجت إليه
شحب وجهها وهي تهمس متسعة العينين :- هل ... هل أخبرك بهذا ؟؟
تراجع وهو يقول عابسا :- مؤخرا فقط .... أنا أقدر غضبك منه أمل ... إلا أن طارق أيضا بحاجة إلى تجاوزما حصل كي يتمكن من المضي قدما في حياته .. وأنت بتصرفاتك الطفولية لا تسمحين له بذلك ..
رمشت بعينيها محاولة تقبل كلماته دون فائدة .. قالت أخيرة بخفوت :- لا استطيع أن أسامحه جواد .. لا أستطيع .. لقد قضيت سنوات أحمله مسؤولية ما حدث .. لا أستطيع نسيان الأمر الآن
قال بثقة :- لقد كنت بحاجة إلى كبش فداء توجهين غضبك وإحباطك نحوه .. أنا أفهمك أمل .. وأنا لا أطالبك بمسامحته .. لا تسامحيه إن لم ترغبي .. فقط حرريه منك ..
صاحت إحدى الفتاتين مطالبة بإعادة ملئ طبقها فكانت سببا لابتعاد جواد عن أمل سامحا لها بالهروب من محاصرته لها بالحقيقة .. هكذا كان جواد دائما .. لا وقت لديه لترهات المظاهر .. ما لديه .. يلقي به في وجه الآخرين بدون قلق أو تردد .. إلا أن أمل لم تكن ممن يرهبون سلطة جواد الفطرية .. لقد كانت هي الضحية لا طارق .. كيف لجواد أن يساوي بينهما ..
بدون أن تمس الطعام الذي أخرجته من الثلاجة .. غادرت المطبخ
أنت تقرأ
تبكيكِ أوراقُ الخريف(الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول)مكتملة
Любовные романыرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me