الفصل العاشر

3.6K 115 6
                                    

الفصل العاشر





دخل عصام إلى مكتبه ليجدها مستغرقة تماما في العمل على حاسوبه الشخصي ... كانت أصابعها الرشيقة تجري بخفة فوق لوحة المفاتيح .. بينما جمعت شعرها ليتدلى فوق أحد كتفيها .. ناعما .. كثيفا ..شديد السواد .. في حين علت تقطيبة حاجبيها وكأنها تركز بشدة فيما تكتبه ... ابتسم وهو يراقبها ... عجز ببساطة عن إصدار أي صوت يقاطعها .. يفسد المشهد الطبيعي الجمال الذي كان يشهده .. استند إلى إطار الباب عاقدا ساعديه أمام صدره .. واستمر يراقبها للحظات حتى أحست فجأة بأنها ما عادت وحيدة
رفعت رأسها تجفلها رؤيته ... اعتدلت وهي تقول متوردة الوجنتين وقد أحرجتها مراقبته لها :- أنت هنا ... هل تراقبني منذ فترة طويلة ؟؟
كذب قائلا وهو يدخل إلى المكتب :- لا .. لقد وصلت لتوي .. أتعلمين كم الساعة الآن ؟
ألقت نظرة على هاتفها المحمول الملقى إلى جانبها فوق المكتب .. وأطلقت شهقة قصيرة وهي تقول :- أهي الثامنة حقا ؟؟
أطلق ضحكة خفيفة وهو يقول :- أنت كنز لأي رب عمل .. إذ تنسين الوقت أثناءاستغراقك في العمل ..
حفظت البيانات التي كانت تنقلها .. ثم بدأت بلملمة أغراضها وهي تقول :- أي كنز .. أعرف بأنني قد عطلتك عن إقفال المكان .. لابد أن الجميع قد غادروا
وقد كان هذا صحيحا .. هو وحده من كان منهمكا في إنجاز ما تبقى من العمل ... لم يشعر بدوره بمرور الوقت فكانت رؤيته لها مفاجئة مبهجة بعد الاكتئاب الذي أحس به عند رحيل الجميع .. كان قد نوى إقفال المكان بالفعل عندما شعر بوجودها ... فأفرحه أن يجد ما يؤخره عن المحتوم .. عن الصعود وحيدا إلى غرفته الصغيرة حيث يعود إلى الواقع مجددا ... حيث ذكريات وأفكار سوداوية كثيرة تنتظره كي يجترها .. فلا ينام بعدها حتى ساعات قليلة قبل انبثاق الفجر ... قال بهدوء :- لا مشكلة ... لست في عجلة من أمري
رفعت رأسها إليه قائلة وهي تعلق حقيبتها فوق كتفها :- هل تقيم بعيدا من هنا ؟؟
عقد حاجبيه قائلا :- ألم تخبرك أمان عن مكان إقامتي ؟؟ عجيب ... أن يكون هناك ما استطاعت كتمانه ..
ابتسمت بدون مرح وهي تتذكر كلمات أمان لها قبل رحيلها هذا المساء ... قالت لها بجدية ( يارا ... لا تتركي نفسك تتعلق به كثيرا .. يبدو عصام لكل من يعرفه القشة القادرة على إنقاذ أي كان من مغرقه ... إلا أن عصام نفسه وهو ما يرفض الاعتراف به ... معطوب بشدة بحيث يعجز أي شخص عن إنقاذه .. لا تضيعي وقتك معه .. انت لا تحتاجين إلى عثرة جديدة في حياتك وقد تخطيت بصعوبة زواجا فاشلا منذ فترة وجيزة )
لم يعجب يارا كلام أمان ... بالرغم مما يقوله عصام عن عجزها عن الكتمان .. فإن ما كانت تقوله عن عصام محدود للغاية .. وغير كاف إطلاقا لإشباع فضول يارا حوله ... وأمان تعرف الكثير عنه ... تستطيع يارا أن تعرف من خلال الطريقة التي كانت أحيانا تنظر فيها إليه وكأنها ترى ما لا يراه الآخرون ... أو عندما تلتقي نظراتهما في حديث صامت لا يفهمه سواهما
تعرف يارا أن أمان تعمل مع عصام منذ سنوات طويلة ... وبما أن أمان ما تزال طالبة في الجامعة .. فلابد أنها قد انضمت إليه مراهقة لا أكثر ... تعرف بأنها لا تمتلك سببا للغيرة ... أو لأي من أحاسيسها العجيبة بالتملك نحوه .. إلا أنها لا تستطيع منع نفسها من أن ترغب في معرفة المزيد عنه ... في إدراك ما وراء القشرة الجذابة والخيرة ... في لمس العطب الذي أشارت إليه أمان ومحاولة إصلاحه
قالت :- لا ... لم تخبرني ... أتقيم قريبا من هنا ؟
أشار بإصبعه إلى الأعلى قائلا :- على السطح ... وبالتالي لن تشكل المواصلات مشكلة لدي إن تأخرت
على السطح !! .. سألته قبل أن تمنع نفسها :- ماذا عن عائلتك ؟؟؟ ألا عائلة لديك ؟؟؟
اختفت ابتسامته ... واعتلى وجهه الغموض وهو يزيح لها الطريق كي تغادر الغرفة قائلا :- لم يخبرك جواد بالكثير عني ... صحيح ؟؟
قالت بشيء من الغيظ :- قد يبدو جواد ثرثارا .. إلا أنه لا يقول إلا ما يحتاج هو للبوح به ..
استدارت تراقبه وهو يقفل باب المكتب بهدوء ... ثم قالت :- أنا آسفة إن أزعجتك بأسئلتي .. أنت لست مضطرا للإجابة عنها ..
التفت نحوها قائلا بهدوء :- لا بأس يارا ... من حقك توجيه الأسئلة التي تريدينها ... ومن حقي أنا أن أقرر إن كنت أرغب في الإجابة عنها أم لا
زمت فمها إلى الأمام بطريقة كادت تنسيه تحفظه وتدفعه للضحك .. لابد أن ابنتيها تبدوان بنفس الشكل حين تغضبان .. قالت بحنق :- و مازلت أتعجب مما جمع بينك وبين جواد ... كلاكما من طينة واحدة .. لا تجب عن أسئلتي إن أردت .. وأنا لن أطرحها عليك مجددا ..
التفتت تغادر فتنهد قبل أن يلحق بها إلى الخارج ...
قبل أن تفتح باب سيارتها سمعته يقول :- انتظري يارا ...
التقتت نحوه وهي تقول بعصبية :- لست مضطرا لقول شيء عصام ... أنا لم أقصد أن أضغط عليك .. ولا ألومك إن رفضت البوح بمعلومات عن نفسك ... أنا حقا لا ألومك ... المشكلة بي أنا ... أنا لاأحب الأمور الغامضة ... لا أحب أن أكون جاهلة ... الحقيقة القاسية أفضل بكثير من التخبط بالظلمة ...
لم تكن تتحدث عنه هو .. سألها بهدوء :- هل كان زوجك يخفي عنك الكثير من الأمور ؟؟
:- هكذا كان يظن ... إلا أنني كنت أعرف دائما ... عن النساء اللاتي كان يخونني معهن ... تظن بأنك تعرف شخصا ...ثم تصدمك الحقيقة حينما تكتشف بأنه إنسان آخر لم تعرفه قط ..
أشاحت بوجهها وهي تتذكر قهر تلك الأيام ... كان هاني ينفر منها خلال أشهر حملها ... كان مرضها وغثيانها المستمر يزعجانه .. فكان يبحث عن حاجته في نساء أخريات ... ويارا كانت تعرف في كل مرة .. إذ كانت لها أعين تراقبه في كل مكان .. عرفت .. إلا أنها لم تجرؤ على الكلام وقد حملت نفسها وضعفها مسؤولية شروده ... التفكير في الطلاق كان يصيبها بالذعر من أن يعرف العالم بأن زوجها كان يخونها هي .. ابنة خالد منصور مع نساء شارع لا يعرفهن أحد ... أن تعرف طفلتيها بأن والدهما رجل عديم الأخلاق .. .. كانت تتألم في صمت ... تتمزق ببطء حتى ينتهي حملها بدون إنذار ... الحمل تلو الآخر ... حتى قرر هاني الزواج مجددا .. مانحا إياها المخرج الذي تريد ... أبدا لن تسمح لامرأة أخرى بإذلالها وإذلال بناتها ...
أبدا لن تسمح لهما بأن تشعرا بأنهما في المرتبة الثانية بعد أي كان الطفل الذي ينوي والدهما إنجابه من تلك المرأة ..
قال عصام بصوت خشن قاطعا ذكرياتها الأليمة :- والدتي ماتت عندما كنت في العاشرة من عمري ... قضيت الثمان سنوات التالية في ملجأ للأيتام ... ابتدأت في القتال لأجل نفسي ومستقبلي منذ دخولي الجامعة .... ثم ومنذ ثمان سنوات تقريبا .. بدأت أعمل في المجال الخيري ... لذا .. وإجابة عن سؤالك السابق لي ... أنا لا عائلة لدي ..
نظرت إلى وجهه الذي حجبت الظلمة ملامحه .. تاقت لأن ترى عينيه .. أن تراهما وهي تسمعه يتحدث عن طفولته .. النبذة المختصرة التي منحها إياها مصالحا لم تكن كافية ... إلا أنها كانت أفضل بكثير من لاشيء .. همست :- ماذا عن والدك ؟؟
رد على الفور بجفاف :- لا والد لي ..
عندما لم تعلق ... وضح باختصار :- والدي تخلى عن والدتي بعد أن حملت بي ... أظن القصة واضحة ومكررة جدا في الأفلام الهابطة ... بحيث لن تتخيلي أبدا أن تحدث في الواقع ... أن يخدع رجل ثري فتاة بريئة وفقيرة مقنعا إياها بزواج عرفي .. ليتخلى عنها عند أي مطالب منها بالمسؤولية ... بل أن عائلته هددتها إن حاولت بأي طريقة نسب الطفل إليه
كبتت بصعوبة هتاف امتعاض أرادت توجيهه نحو الأب الحقير الذي نبذ ابنا مثله .. سألته برقة :- هل حدث قط أي اتصال بينكما ؟؟
:- حدث ... منذ سنوات عندما هددت بفضحه في الصحف إن لم يمول مشاريعي الخيرية ويمنحني ما يكفي لأبدا من خلاله خططي في مساعدة الآخرين ...
أشار إلى المبنى الكبير المنتصب أمامه :- كما ترين ... لقد فعل ومنحني ما أحتاج إليه بدون أي اعتراض .. حتى أنه عرض علي حمل اسمه .... تخيلي هذا ؟؟؟ رفضت بالتأكيد ... الآن ... ما عاد اسمه يعنيني وقد نضجت بما يكفي لأصنع اسمي الخاص ... اسم والدتي طبعا ...
أخفض رأسه ناظرا إلى عينيها الخضراوين الفائضتين بالعطف ... فشد على أسنانه وقبضة من الغضب تعتصر قلبه لما باح به دون أن يقصد .... لم يكن يرغب بالتطرق إلى والده ... لا أحد تقريبا يعرف تلك القصة ... وما كان من المفترض بيارا منصور أن تعرف بالأمر أبدا
قال بجفاف :- ها قد عرفت الحقيقة ... أن هناك أشخاص مثلي مشوهي التاريخ يعيشون حولك ... إذ لم نولد كلنا بملعقة من الذهب تتدلى من أفواهنا .. وعائلة عريقة تحتضننا .. من الأفضل أن تذهبي إذ لا مكان لأمثالك في مكان كهذا ... من الأفضل أيضا أن تزيلي هذه الشفقة التي أراها في عينيك الآن يا سيدة يارا .. إذ أنني لا أحتاجها ...
استدار بنية تركها فأسرعت تمسك بمعصمه تمنعه من الابتعاد .. وأرغمته على النظر إلى عينيها وهي تقول :- ما تراه في عيني ليس شفقة على الإطلاق عصام ... إنه الحسد ...
قطب وهو يمعن النظر في وجهها الذي سبغته الظلال بلمسة سحرية .. في حين أكملت :- كما قلت بالضبط .. أنا ولدت لعائلة ثرية .. متماسكة .. ونعم .. أنا ولدت بملعقة ذهبية في فمي .. إلا أنني أظنك أنت الأكثر حظا .. الأكثر سعادة .. انظر إلى نفسك .. أنا تزوجت برجل ينتمي إلى عائلة لا تقل عراقة عن عائلتي... وأنت تحمل في ظفر يدك ما يفوق عشرة مثله من الرجولة .. أنا امتلكت المال طوال حياتي .. إلا أنني لم أفعل لأجل مساعدة الغير ربع ما فعلت ... لدي عائلة محبة ورائعة .. إلا أنني أتمنى لو امتلكت شيئا يسيرا من صلابتك وثقتك بنفسك .. أنت صنعت نفسك بنفسك ... بنيت حياتك وعالمك هذا بيدك .. أنت الشخص الأكثر استقلالا واكتفاءً بنفسه من بين جميع من قابلتهم في حياتي .. أنا من عليه أن يشعر بالعار من نفسه وضعفه ... لا أنت ..
ساد الصمت ثقيلا بينهما ... لا يشوبه سوى آثار باهتة لعالم بدا بعيدا جدا عنهما ... قال أخيرا بصوت أجش :- ماذا علي أن أفعل بك ؟؟؟ ما الذي جاء بك غفلة إلى حياتي يارا منصور ؟؟ ما الذي تفعلينه بي .. وما الذي تريدينه مني ؟؟
بدون إنذار أمسك بها .. فأطلقت شهقة خافتة وكيانها كله يتخبط عندما قربها منه فجأة لتفصل سنتيمترات قليلة بينهما ... ويستقر جبينه على جبينها في حين أغمض عينيه بقوة ..
لحظات مرت لفهما السكون خلالها ... أنفاسهما فقط تحدت الصمت .. متحدة مع غناء صراصير الليل الشجي لتصنع سمفونية خاصة بهما ..
أحست يارا وكأن قلبها على وشك القفز من بين أضلعها ... بمشاعرها تخنقها وهي تستشعر حاجته الغير منطوقة إليها ... أنفاسه الحارة كانت تلفحها فتثير الرعدة في أوصالها .. بينما أصابعه الممسكة بأعلى ذراعيها تحرقها حرقا ... تحركت يدها بإرادة مستقلة .. لتحط على صدره .. فكانت ضربات قلبه العنيفة صدى لضربات قلبها ... رباه .. لقد كانت تضيع ..
ملمس يدها على صدره أيقظه ... أعاده إحساسه بأصابعها كأجنحة عصفور وجل إلى واقعه مذعورا ... تركها مرة واحدة وتراجع خطوة إلى الوراء وهو يقول بصوت مختنق بينما عيناه تتحاشيان وجهها :- آسف .. ما كان علي التقليل من احترامك بهذا الشكل ..
همست باضطرب :- عـ ... عصام
:- من الأفضل أن تذهبي فقد تأخر الوقت .. لن يكون جيدا أن يرانا أحد سكان العمارة واقفين هنا وحدنا في وقت كهذا ... لن يكون جيدا لا بحقك ... ولا بحق الفتيات اللاتي أرعاهن ..
عرفت بأن مزيدا من الضغط منه سيزيد الأمر سوءا لا أكثر .... فتراجعت بدورها تفتح باب سيارتها وهي تقول بلطف :- تصبح على خير ..... أراك مساء الغد ...
سمع صوت باب سيارتها يغلق .... انتظر حتى أدارت المحرك وانطلقت مبتعدة لينظر أخيرا في إثرها ... ظل للحظات طويلة واقفا مكانه بدون حراك .. قبل أن يعود أدراجه إلى المبنى ..... لا أمل .... قطعا تنتظره ليلة طويلة جدا من السهاد والأرق ...





تبكيكِ أوراقُ الخريف(الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن