الفصل الرابع عشر

3.7K 125 6
                                    

الفصل الرابع عشر




دس طارق المفتاح في القفل الذي اعتلاه الصدأ بسبب مرور فترة طويلة على استعماله ... ثم التفت قائلا بقلق :- هل أنت متأكدة ؟؟
نظر إلى أمل التي وقفت على بعد مترين .. تبدو بوجهها الشاحب .. وعينيها الواسعتين .. وملابسها الجديدة الأنثوية جدا والتي اختارتها لها يارا ... شديدة الضعف والهشاشة وهي تقف مترددة ... الخوف ينطق من كل جزء من ملامحها حتى وهي تبتلع ريقها قائلة باضطراب :- أنا ... سيكون علي أن آتي إلى هنا في مرحلة ما .. ومن الأفضل أن يحدث هذا عاجلا لا آجلا ..
هز رأسه متفهما ثم قال :- أنت محقة ... وأنا سأكون معك في كل خطوة
مد يده لها فترددت للحظات قليلة قبل أن تتقدم ببطء وتمنحه يدها الباردة ... شد عليها بأصابعه الدافئة وهو يقول ناظرا إلى عينيها :- أنا هنا يا أمل ... تذكري هذا ... وتذكري بأنني سأخرجك من هنا فور أن تطلبي مني ..
هزت رأسها بشكل مبهم وكأنها تستعجل بتوترها انتهاء الأمر .. فتح طارق الباب .. ثم دفعه ليصدر صريرا كما يجدر بأي باب مرت سنوات على آخر مرة اجتازه أحدهم ..
تسلل ضوء النهار عبر النوافذ التي اعتلتها الأغبرة ليضيء البهو الواسع للمنزل المهجور .. مع كل خطوة كانت امل تخطوها إلى الداخل ... كانت تلاحظ انطباع بصمات حذائها فوق الأرض المكسوة بالأتربة ... إلى جانب أخرى واضحة القدم ... إنما ليست قديمة جدا .. تمتمت :- هل المكان مغلق منذ ..... منذ ذلك الحين ؟؟
قال بهدوء :- مغلق تماما ... لم يدخل المكان سواي خلال السنوات السبع الماضية ... بعد توقف الشرطة عن البحث عن أي دليل يقودنا إلى خاطفك ... عندما فقد اغلبنا الأمل في عودتك مجددا
همست :- أغلبكم !!
:- أنا لم أيأس قط من عودتك ... لقد كنت أنتظرها في كل لحظة .. مع كل نفس كانت رئتاي تستنشقانه .. مع كل بزوغ فجر جديد .. مع كل ليل يسدل على النهار أستاره .. لم أيأس قط من سماع خبر عودتك يوما
صوته الأجش جعلها تلتفت نحوه مجفلة ... ترى مشاعره العاصفة ترتسم على وجهه الوسيم .. قالت باضطراب :- هل ... هل كنت تأتي إلى هنا كثيرا ؟؟
:- مرة كل عام ... في تاريخ مولدك بالضبط .. كنت أعود دائما محاولا إيجاد ما غفل الآخرين عن إيجاده .. خيط ما قد أتمكن من خلاله الوصول إلى الرجل الذي اقتحم الحفلة .. قتل والدك ثم اختطفك .. كنت أعود .. وأتجول في هذا المكان فلا أخرج إلا وأنا عائد بالزمن إلى اللحظة التي أخبرني فيها والدي بما حدث
نظر هو الآخر في أرجاء المنزل الفارغ ... الذي غطت الملاءات البيضاء قطع أثاثه الكثيرة .. وكأنه يرى بدوره أشباح الماضي تعود لتتراقص أمامه مستفزة .. ثم تابع :- في كل مرة كنت أقف فيها هنا ... كما أنا الآن ... أتساءل عما حدث بالضبط في تلك الليلة
لحقت عيناها بنظراته التي استقرت عند ذلك الباب الذي قشر الزمن طلائه .. فاتسعت عيناها وبدأ قلبها يخفق في وجل .. اختفى كل ما حولها ليعود بها الزمن إلى سبع سنوات مضت .. كان المنزل مضاءا بالكامل تلك الليلة .. نظيفا ولامعا ... الزينة الملونة كانت موزعة في جميع أنحاءه .. تتذكر جيدا نقاشها مع الخالة ملك ذلك النهار حول الزينة .. كانت الخالة ملك مصرة على أن الزينة المبهرجة والأوراق الملونة واللامعة ما عادت مناسبة للاحتفال بعيد ميلاد شابة صغيرة .. إلا أن أمل العنيدة كانت مصرة على تزيين حفلها بطريقتها الخاصة .. مما جعل الخالة ملك تستسلم .. وتترك أمل ويارا بالإضافة إلى صديقتين لها جئن لمساعدتها لتزين المكان كما تريد ..
كان حماسها للحفل قد انطفأ قليلا ذلك الصباح بعد شجارها مع طارق .. لم تكن قادرة على نسيان كلماته القاسية التي وجهها نحوها .. ولا كانت قادرة على كبح القلق من أن يفعلها بالفعل ويتجنب حضور حفلتها ..
خلال الحفل الذي قام في الحديقة الخلفية للمنزل .. كانت سعيدة جدا وهي تلهو مع صديقاتها وتتراقص على أنغام الموسيقى معهن ضاحكة .. بين الحين والآخر كانت ضحكتها تبهت عندما تسألها إحداهن عن ابن خالتها الوسيم الذي حدثتهن عنه ووعدتهن بحضوره تلك الليلة ... ثم تعود لتشرق فرحا كلما انتزعها والدها من بين رفيقاتها ليقبلها على رأسها مذكرا إياها بالهدية الخاصة التي أصر على ان يمنحها إياها بعد انصراف الضيوف .. لا أمامهم ... فيذهب بحزنها ويبث داخلها حماسا ولهفة ما كانت طبيعتها القلقة والمتمردة بقادرة على احتمالها ..
:- أمل
سمعت صوت طارق إلى جانبها دون أن تفهم ما يقول ... إذ أن أنظارها كانت ما تزال مثبتة على الباب الخشبي وهي تقول هامسة :- لقد كنت خائفة من أن يراني أبي
قال مقطبا :- ماذا ؟؟
تقدمت بخطوات بطيئة نحو الباب .. تمسك بمقبضه بأصابع مرتجفة وهي تتذكر دخولها عبره قبل سنوات .. ثم همست :- لقد أردت وبشوق أن أعرف ما هية الهدية التي خبأها لي .. ما كنت بقادرة على احتمال الانتظار حتى انتهاء الحفل .. أردت أن ألقي نظرة .... نظرة صغيرة فقط
أدارت المقبض .. ودفعت الباب بينما عاد طارق ليقول بقلق :- لست مضطرة لفعل هذا الآن يا أمل .. نستطيع العودة لاحقا .. عندما تكونين أكثر استعدادا
حتى لو آمنت بأنها لم تكن حقا مستعدة لمواجهة الذكريات .. فقد كانت مدفوعة بقوة ما كانت قادرة على محاربتها .. خطت إلى الداخل ... فأحست وكأن موجة لا مرئية من الألم صفعتها مرة واحدة وعيناها تغرورقان بالدموع لمرأى مكتب والدها ... ما يزال كما كان قبل سبع سنوات ...
السجادة الوثيرة الزرقاء التي غطت الأرضية الخشبية .. الأثاث الجلدي الوثير الذي بهت لونه مع الزمن .. الستائر المزدوجة المغلقة أمام النوافذ الكبيرة .. الخزانة الخشبية التي تذكر أنها بحثت بلهفة بين رفوفها عن غايتها .. ثم المكتب الخشبي الكبير ..
تدفقت دموعها وعيناها تستحضران تلك الليلة ... همست :- لقد كنت أبحث بين أدراج مكتبه عندما سمعت صوتا يقترب .. لقد ظننته أبي .. وما أردته أن يراني أبحث عن هديتي الموعودة .. لذا .. وبدون تفكير .. اختبأت أسفل المكتب
سمعته يقول بهدوء :- لكنه لم يكن أباك ..
لراحتها كان صوته خال تماما من المشاعر .. لا شفقة .. لا تعاطف .. وكأنه قد أدرك أنها لن تقابل أي عاطفة منه في هذه اللحظة بالذات إلا بالرفض .. هي لا تحتاج إلى شفقة من أحد .. فلا شيء .. لا شيء إطلاقا بقادر على تسهيل ذكرى ما حدث عليها ..
قالت بصوت مكتوم :- لا ... لم يكن أبي .. غير أنني لم أعرف هذا إلا لاحقا ..
تقدمت خطوات إلى داخل الغرفة ... وأغمضت عينيها .. تستحضر إحساسها بالشخص الذي فتح باب الغرفة بهدوء ودخل ... كان يتحرك في أنحاء المكان بخفة وحذر .. لم تشك للحظة بأنه قد يكون شخصا آخر غير والدها .. حتى سمعت الباب يفتح من جديد وصوت والدها المألوف يهتف بحدة :- من أنت ؟؟ ما الذي تفعله هنا ؟؟
تكورت قبضتاها حتى ابيضت سلامياتها وهي ترفض فتح عينيها .. وكأنها تخشى أن تفعل فترى نفسها مختبئة تحت المكتب .. تستمع مرتعشة .. خائفة إلى جدل لم تفهم منه شيئا .. سرعان ما استحال إلى أصوات وجلبة عنيفة .. انتهت خلال لحظات بالصمت ... بالصمت المطبق
تمتمت :- سمعتهما يتشاجران ... ثم يتصارعان .. وعندما ساد الصمت .. عرفت على الفور بأن والدي قد مات .. لقد كان إحساسا وكأن شيئا داخلي قد اختفى ... تلاشى وكأنه لم يكن .. لم أره .. إذ أن الرجل الذي انتزعني من تحت الطاولة لم يمنحني الفرصة عندما أفقدني الوعي بضربة واحدة ... إلا أن روحي كلها ماتت ببطء منذ استيقظت لأجد نفسي حبيسة في ذلك المكان ..
لم يستطع طارق منع نفسه من القول بصوت أجش :- لم أستطع قط التجرؤ على طرح السؤال عليك منذ عودتك أمل .. إلا أنني بحاجة لأن أعرف .. أعرف بأنه قد أذاك كثيرا .. نفسيا وجسديا .. ولكن ..
قاطعته قائلة بدون تعبير :- أنت تتساءل إن كان قد اعتدى علي ... إن كان قد اغتصبني خلال وجودي في قبو منزله ..
تلاحقت أنفاسه بعنف وهو يشعر بجسده كله يتوتر انتظارا لإجابتها .. كانت ما تزال مديرة ظهرها له .. وكأنها ترفض أن تسمح له برؤية تأثير ما حدث عليها .. إلا أنه كان قادراعلى رؤية الألم في خطوط ظهرها المتوترة ... فخشي الأسوأ ... وأحاطت قبضة من الألم بقلبه تعتصره بلا رحمة حتى قالت :- لا .... هو لم يلمسني قط بتلك الطريقة .. لقد كان مؤمنا وبقوة بأبوته لي .. خلال وجودي لديه ... أخبرني مرارا بأن رحيل والدتي خلال وجوده في السجن وإرسالها طلبا للطلاق بدون حتى أن تراه أو تتحدث إليه كان صادما له بشدة .. خاصة وهو يعرف بانتظارها طفلة منه .. عندما خرج .. عرف بأنها قد ماتت .. إلا أنه صدم أكثر عندما عرف بأنها قد تزوجت بآخر .. بل ونسبت طفلته إليه
قال :- لقد كان رجلا مجنونا ... أنا كنت طفلا عندما عادت والدتك إلى منزل العائلة أخيرا .. إلا أنني أذكر بالضبط الحالة التي كانت عليها لحظة عودتها .. فقد كنت هناك ..في منزل جدي .. ووالدتك كانت مجرد خيال لامرأة ما عادت موجودة .. لقد كانت شاحبة .... نحيلة جدا ... ومريضة حتى أن أحدا لم يتوقع إطلاقا أن تتمكن من إتمام حملها .. لقد كانت معاملته السيئة لها أشبه بوشم حفر على جبينها ... لم يختفي حتى وهي تستعيد نفسها شيئا فشيئا منذ دخول والدك إلى حياتها
قالت هامسة :- أترى وشمي يزول يوما ؟؟
أحست بيده تمسك بكتفها وتديرها إليه .. فرفعت عينيها المبللتين بالدموع نحو عينيه الداكنتين وهي تقول بصوت أجش :- هل انسى قط أنني كنت سببا بموته ؟؟ أبي ... مات بسببي أنا ... لولاي ما خطا ذلك الرجل إلى هذا المنزل وما قتله ..
اشتدت أصابعه فوق كتفيها وهو يقول بحزم :- إياك ان تقولي هذا ... أنت لا ذنب لك أبدا في ما حدث .. ووالدك .. كان ليعيد الكرة فيقاتل الدنيا وما فيها لأجل حمايتك ..
شهقت وهي تقول :- ولكنه لم ينجح ... لم يستطع حمايتي ... هو مات .. وذلك الرجل أخذني معه .. وكل شيء انتهى ... كل شيءل انسى قط أنني كنت سببا بموته ؟؟ أبي ... مات بسببي أنا ... لولاي ما خطا ذلك الرجل إلى هذا المنزل وما قتله ..
اشتدت أصابعه فوق كتفيها وهو يقول بحزم :- إياك ان تقولي هذا ... أنت لا ذنب لك أبدا في ما حدث .. ووالدك .. كان ليعيد الكرة فيقاتل الدنيا وما فيها لأجل حمايتك ..
شهقت وهي تقول :- ولكنه لم ينجح ... لم يستطع حمايتي ... هو مات .. وذلك الرجل أخذني معه .. وكل شيء انتهى ... كل شيء توقف عند تلك اللحظة .. تمر السنوات .. إلا أنني أظل عالقة في تلك اللحظة .. لحظة سحبني من مخبئي مدمرا حياتي كلها .. ليته قتلني .. ليته قتلني أنا تلك الليلة
سحبها ليضمها إلى صدره بقوة فتشبثت به تبكي بحرقة بين طيات قميصه ... تستجديه حمايتها من أشباحها .. من ماضيها وحاضرها الغامض .. أحست بشفتيه تلامسان رأسها وتقبلانه بحنان جعل بكائها يزداد عنفا ... أن تحظى أخيرا بعاطفته ... بعاطفته هو .. كان أكثر بكثير من أن تحتمل ..
سمعته يقول :- ألهذا السبب رفضت العودة بعد إخراج الشرطة لك من منزله ؟؟ ... كان بإمكانك العودة إلينا ... إلى عائلتك ... إلا أنك لم تفعلي .. ظللت تائهة أربع سنوات كاملة بعيدا عنا .. أكنت تلومين نفسك على موت والدك ...
دفعته عنها ... وتراجعت تحيط نفسها بذراعيها .. شهقاتها تتعالى رغم توقف نشيجها .. قالت بصوت مختنق :- لا .... لم يكن هذا السبب الذي منعني من العودة ...
:- أخبريني إذن ...
عندما لم تتكلم .. اقترب منها ممسكا وجهها بين يديه وهو يناجيها قائلا :- أرجوك أمل ... أخبريني .. أنا بحاجة لأن أعرف ..
النظرة التي رآها في عينيها صفعته .. سحبت اللون من وجهه .. وانتزعت الروح من بين أضلعه فتركته جسدا خاويا وهو يسحب يديه متراجعا وهو يقول لاهثا :- إنه أنا ... أنا من منعك من العودة طوال تلك السنوات ... صحيح ؟؟؟
إجفالها أظهر أن نظرة اللوم التي أفلتت من عينيها لم تكن مقصودة .. إلا أن صمتها أكد معناها .. مما جعل ألما شديدا يلم بصدره وكأنها قد طعنته لتوها بسكين حاد .. لقد كانت مخاوفه طوال السنوات السابقة في محلها .. هو من فقدها قبل سنوات .. وهو من تسبب بضياعها خلال السنوات التي تلت .. قالت بصوت مرتجف :- لا أستطيع أن أحملك أنت كل المسؤولية ... أنا لم أستطع العودة لأنني كنت ضائعة .. خلال وجودي تحت أسر رفعت خليل .. علمت نفسي ان أنسى .. محوت الماضي مرة واحدة من ذاكرتي .. أمل ما عادت موجودة .. السنوات الأربعة عشر التي قضيتها تحت كنف والدي اختفت .. ما عاد هناك سوى قمر .. وجدران أربعة شديدة القرب من بعضها .. عندما خرجت .. كان من الأسهل بالنسبة إلي أن أحافظ على الماضي حيث دفنته .. من أن أعود وأستعيد ما حدث حقا .. لقد .. لقد ..
رمشت الدموع من عينيها وهي تقول هامسة :- لقد صدقت حقا بأن رفعت خليل كان والدي ... لقد ... لقد كان مقنعا للغاية .. كانت لديه الأوراق .. أوراق تثبت بنوتي له
قال طارق بجمود :- تلك الأوراق لم تكن تخصك ... شهادة الميلاد التي أظهرها لي عصام المهدي كانت تخص الطفلة التي ماتت بعد أن أنجبتها والدتك بأيام ... لابد أن رفعت خليل تدبر أمر الأوراق بعد خروجه من السجن .. أنا أعتقد بأنه قد عرف بأن الطفلة قد ماتت ..
نظرت إليه حائرة فأكمل ما كان يفكر به منذ فترة :- أظن بأنه رجل مريض ... لم يتقبل قط ترك والدتك له .. وعندما عرف بوفاة الطفلة فكر بطريقة يعوض فيها على نفسه خسارتها .. وفي الوقت ذاته يعاقب فيها كل من والديك على خيانتهما التي كان يتوهمها له
هزت رأسها قائلة :- لا يهم ... ما كان يظنه ما عاد يهم بعد الآن ... في ذلك الحين أنا صدقت بأنني ابنته .. ابنة الرجل الذي قتل محمود راغب ... الرجل الذي لم يكن قط إلا أبا رائعا لي
قال غير مصدق :- أظننت العائلة ترفضك ؟؟
ترددت قبل أن تقول هامسة :- العائلة لم تتقبلني قط .. فكيف لها أن تفعل بعد أن كنت سببا في مقتل أحد أفرادها ..
أخذ نفسها عميقا :- أمل ...
قاطعته وهي تتراجع قائلة :- لا ... لاتقل شيئا ... لا أريد مزيدا من الأكاذيب .. أنا كنت دائما مختلفة ... واختلافي هذا لم يحظ بقبول العائلة قط
هتف بعنف :- لقد أحببناك جميعا
صوبت نحوه نظرة تقول بوضوح ( لا .... أنت لم تفعل ) .. مما جعله يتراجع مجفلا .. في حين قالت بخفوت :- أعرف ... الحب ... يختلف عن القبول ... وأنا في تلك الفترة .. لم أكن في كامل اتزاني .. لقد كان يملأ رأسي طوال سنوات بأشياء ... وأشياء كثيرة ... سنوات دون أن يبحث عني أحد .. أو يجدني لم تساهم إطلاقا في جعل كلماته أقل تأثيرا ..
صمت للحظات قبل أن يقول بصوت خالي من أي عاطفة :- لابد أنك قد أدركت خطأك الآن .. إذ عرفت بأنني .. بأننا لم نتوقف عن البحث عنك قط .. وبأن كل ما قاله لك كان كذبا محضا ..
همست :- ربما ... إلا أن جزءا داخلي يرفض منح نفسي الثقة اللازمة كي أصدق ...
كان جو الغرفة المغلقة خانقا ... وكأن الذكريات كانت تزحم المكان الخالي فتجعله يبدو أكثر ضيقا .. اتجهت نحو النافذة لتزيح الستائر فتهب منها سحب من الغبار .. فتسلل ضوء شمس العصر ساطعا .. دافئا في ذلك النهار الخريفي البارد .. وقالت :- علمني عصام كيف أثق بالآخرين .. إلا أنه لم ينجح قط في تعليمي كيف أثق بنفسي ...وهو شيء لا أعرف إن كنت سأتعلمه قط في يوم من الأيام ..
نظرت عبر النافذة إلى المشهد المألوف .. مشهد كانت تنظر إليه كثيرا فيما مضى .. عندما كانت تتسلل إلى مكتب والدها أثناء انهماكه بالعمل ... حيث كانت تنتظر انتهائه مما بيده كي يتناولا الغداء بعد أن يعداه معا ... كانت تقف هنا ... عند هذه النافذة بالضبط تتأمل الساحة التي كانت فيما مضى خضراء نضرة أمام المنزل .. وقد استحالت الآن إلى مساحة صغيرة جرداء .. إلا من شجيرات يابسة ومهملات رماها عابرون مستبيحين المكان المهجور ..
سمعت طارق يقول من ورائها :- ستفعلين ... سأحرص بنفسي على أن تفعلي
التفتت إليه حائرة وهي تقول :- سأفعل ماذا ؟؟
رأت تصميما في وجهه وهو يقول بحزم :- تعالي معي ... هناك مكان أريد أن آخذك إليه ..




تبكيكِ أوراقُ الخريف(الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن