الفصل الرابع
:- إذن ... هل ستخبريني بما كنت تشغلين به وقتك خلال الأيام الماضية ؟
:- لا
ردت يارا بكل بساطة عن تساؤلات والدتها وهي تبدأ بتناول طعامها بهدوء وثقة لم تشعر بهما منذ أشهر .. كانت الفتاتان قد خلدتا إلى النوم منذ فترة .. في حين كانت هي قد عادت إلى البيت منذ ساعات قليلة فقط ..
ككل يوم كانت تخرج فور إرسالها إياهما إلى النادي حيث تقضيان إجازة الصيف في نشاطات مختلفة تحت إشراف محترفين .. ثم تنهمك بهما و بأمورهما فور عودتها ... مما كاد يطيح بصواب والدتها وهي تشعر بالجهل حول ما يدور في حياة ابنتها ..
وضعت شوكتها فوق سطح المائدة بهدوء مبالغ به وهي تقول بلهجة غاضبة تعرفها يارا تماما :- يارا !!
تنهدت يارا وهي تتوقف عن الأكل قائلة :- لن تتوقفي حتى تعرفي كل الإجابات .. صحيح ؟؟
:- لا أحب أن تخفي عني شيئا
:- أنا لا أخفي عنك شيئا .. أنا فقط أعرف بأن الأمر لن يعجبك لا أكثر
احست السيدة ملك بأنها ولأول مرة في حياتها قد تقدم على ضرب ابنتها الوحيدة وهي تقول بسخط :- يارا .. إن لم تتكلمي الآن ..
قاطعتها يارا وهي تلوح بيديها قائلة :- لا بأس .. لا تبدأي بالتهديد .. أنا أقضي وقتي نهارا في جمعية تهتم بالأمور الخيرية ...
تحدثت عن الأمر بشيء من الإيجاز ...لم تمنحها أي تفاصيل عن المكان .. أو عن صاحب المكان .. الذي يبدو وكأنه ملاك على هيئة بشر ... ولا عن ابتسامته الكفيلة بجعل كل هموم الدنيا تنزاح عن كاهل محدثه وكأنها كانت محملة بتعويذة ضد الحزن .. أو عن الفتيات اللاتي كرس نفسه لمساعدتهن .. الفتيات اللاتي قابلت منهن اثنتين ... هديل .. التي ناقضت جمالها بمقدار الألم الذي كانت يارا تراه في عينيها .. ودنيا .. فتاة سمراء متعثرة النطق ... بدت ضائعة وهي تدخل الجمعية بحثا عن عصام .. وكأن خلاصها يكمن به هو وحده .. شعور عارم أخافها بالحسد وهي تراه يترك ما بين يديه ليهرع إليها ... حسد سرعان ما اختفى فور أن عرفت من أمان جزءا من حكايتها .. إذ أن من المحرم على أحد غير صاحبة الشأن التحدث بأمورها مع الغير .. بغرض السلامة كما عرفت يارا ... لم تكن بحاجة لمزيد من الشرح كي تخمن قصة الفتاة .. فقد سبق وعرفت بأن عصام يستهدف بشكل خاص النساء المضطهدات في المجتمع ... وموضوع اضطهاد تلك الفتاة كان مكتوبا على جبينها وهي تنكمش عند المدخل خوفا من أن يمسها أحد .. ترتجف شاحبة وهي تسأل أمان عن عصام ..
الحنان الذي رأته يارا في عينيه وهو يهديء من روع الفتاة قبل أن يقودها إلى مكتبه أثار الشجن داخلها .. الشجن والإعجاب ... ثم القلق وشيء من الغضب ... أتراه نظر إليها كواحدة من تلك النساء المضطهدات وهو يمنحها فرصة العمل معه كخدمة لجواد ؟؟؟
قاطعت والدتها أفكارها وهي تهتف غير مصدقة :- هل أنت جادة ؟؟؟ تفوتين حفلة أقمتها خصيصا لك لأجل شيء سخيف كهذا ؟؟
أحست يارا بالغيظ وهي تقول :- مساعدة الآخرين ليست بالشيء السخيف
:- أنا لم أقصد مساعدة الآخرين ... أنا قصدت تركك مناسبة أقمتها بهدف إعادتك إلى المجتمع من جديد .. بهدف تحسين صورتك وإسكات الحاسدين عندما يرونك في أفضل هيئة وكأن طلاقك قد جاء في صالحك أنت
قالت يارا بشيء من الحدة :- طلاقي جاء في صالحي بالفعل امي ..وأنا لست بحاجة إلى رضا الآخرين كي أشعر بالرضا عن نفسي
نظرت إليها والدتها وهي ترمش بعينيها قائلة :- هل عاد جواد يعبث بعقلك مجددا ؟؟
أتاهما صوت طارق الذي دخل في هذه اللحظة إلى صالة الطعام قائلا :- مساء الخير ... أعتذر عن تأخري ...
أسرعت والدته تقف فرحا لمرآه فاقترب منها محنيا رأسه سامحا لها بطبع قبلة على وجنته قائلة :- لا بأس ... لقد بدأنا الأكل لتونا ...
اتخذ مقعده في رأس المائدة والذي كان يحتله منذ وفاة والده رغم أن المرات التي كان يشارك فيها والدته الطعام قد قلت في الآونة الأخيرة ... ثم قال بينما الخادمة تقوم بسكب الطعام في طبقه .. وقد لاحظ احتقان وجه يارا .. التوتر الظاهر على ملامح والدته رغم محاولتها إخفاءه :- حسنا .. من كان يعبث بعقل من بالضبط ؟
أسرعت والدته تقول بشيء من الحنق :- ومن تظنه يكون ... ابن خالتك جواد بالتأكيد .. هل كنت تعرف بأنه قد دفع شقيقتك للتطوع في جمعية خيرية ؟؟
قطب وهو يرمق يارا بنظرة سريعة :- كنت أعرف بالتأكيد ... أين المشكلة في الأمر أمي ... تحتاج يارا إلى ما يلهيها قليلا ويشغلها بعيدا عن المنزل والبنات ...
:- أنت قلتها ... يلهيها قليلا ... لا طوال النهار ... الوضع أبشع مما كان أثناء زواجها ... أنا بالكاد أراها هذه الأيام .. في الواقع لا أحد على الإطلاق يراها ... أتعرف ما يقوله الناس حول شقيقتك بسبب امتناعها عن الظهور على الملأ ...
صدر صوت صرير مقعد يارا مزعجا وهي تدفعه بتهور أثناء وقوفها قائلة بجفاف :- أظنني شبعت .. بالإذن ..
بدون أي كلمة ... غادرت القاعة تاركة والدتها وطارق وحدهما ... ساد الصمت للحظات طويلة .. قبل أن يقول طارق بهدوء :- اتركيها وشأنها أمي ... لا تحتاج يارا إلى هذا النوع من الضغط الآن ..
شحب وجه والدته وهي تنظر إلى وجهه الوسيم الجامد .. كارهة كالعادة أن تراه مستاءا منها .. طارق .. ابنها وفرحة قلبها ... الذي اعتادت دائما على وصفه بتوأم روحها بسبب شبهه بها ... قلبا لا قالبا .. إذ كان نسخة عن والده المرحوم عندما كان شابا ... كان يشبهها على الأقل قبل أن يتغير خلال السنوات الأخيرة .. ويمسي أكثر تباعدا رغم طبيعته المتحفظة أصلا .. اعترفت بشيء من القهر :- أنا أشتاق إليها طارق ... يؤلمني أن تنصرف فور تغلبها على محنتها إلى شيء آخر غيري ... لقد أردت منها أن تلجأ إلي بعد أن تقبل أخيرا بالخروج من عزلتها
مد يده عبر الطاولة ليمسك يدها مؤكدا :- ستفعل أمي ... في النهاية ستفعل ... اتركيها الآن ..
نظرت إلى عينيه قائلة :- وهل ستفعل انت ؟؟
رأت اللون ينسحب من وجهه وهو يرفع يده من فوق يدها .. عرفت بأنها قد فاجأته إذ أنها أبدا لم تتطرق منذ انفصاله عن جودي مباشرة إلى تغيره وتباعده عنها ... قالت برقة :- اشتاق لضم أولادك إلى صدري طارق .. متى أراك سعيدا .. مستقرا .. إلى جانب امرأة تستحقك ..
غمغم بلهجة غامضة :- قريبا أمي ... لا تشغلي بالك بأموري ..
حدقت به غير مصدقة عندما عاد لتناول طعامه مكتفيا برده المقتضب هذا .. إلا أنها لم تجرؤ على الضغط عليه أكثر للحصول على مزيد من الإجابات .. خشية أن يحتذي بشقيقته ويتركها وحدها .. إلا أنها لم تكن قادرة على إطفاء الألم الذي كان يآكل روحها على ولديها .. ذاك الذي كانت تحاول إخماده دائما بشغل نفسها بالتوافه الاجتماعية ... عارفة بأن يوما ما .. لن يكون أي شيء بقادر على ملأ الفراغ والوحدة في حياتها ... يوما ما .. سيكون على الأمور أن تتغير .. وإلا فإنها لا تعرف حقا ما سيؤول عليه حال أفراد عائلتها
أنت تقرأ
تبكيكِ أوراقُ الخريف(الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول)مكتملة
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me