الفصل الثالث عشر
ظل طارق للحظات واقفا مكانه ... ينظر إلى ابنة خالته الصغيرة في حالة انهيار كان يخشى كثيرا أن يراها عليها وإن كان قد توقعها ... القناع الضاحك والواثق الذي كانت ترتديه أمام ضيوف الحفل لم يخدعه .. لن يصدق أبدا وبهذه البساطة كما فعلت أمه بأن أمل قد تغلبت بسهولة على الماضي وبدأت التأقلم بهذه السرعة .. لقد كان يراقبها طوال الوقت ... ولم تفته أبدا تلك اللحظات التي كانت تحت الإرهاق تترك فيها أدرعتها تتهاوى فيلحظ من خلالها التخبط والضياع اللذين كانت تحاول إخفاؤهما عن الأعين ...
كان وجهها الشاحب مبللا بالدموع .... الكحل لطخ عينيها وسال فوق وجنتيها على شكل خطين متوازيين .. فمها الرقيق كان يرتعش تناغما مع اهتزاز كتفيها بفعل شهقات بكائها التي أبت أن تتوقف
بصمت تلوى خارجا من سترته .. وانحنى يحيط بها كتفيها وهو يقول بهدوء :- لنعد إلى الداخل ... تكادين تتجمدين من البرد ..
لم تقاومه عندما أمسك بكفيها الباردتين وجذبها لتقف ... انحنت ركبتاها على الفور وكأن ثقل همومها كان أكبر من أن تحمله .. فلم يتردد بالانحناء وحملها بين ذراعيه ... يضمها إلى صدره بقوة عل شيئا من الدفء يلفها ... استكانتها بين يديه وهي تدفن وجهها المبتل في تجويف كتفه حطمت قلبه وهو يسير بها مغادرا السطح ...
لقد كان ضائعا بدوره بين انهيارها الذي مزقه ... وبين تقبلها له ولأول مرة والذي أنعش الأمل في قلبه ...
كان المنزل غارقا تماما في السكون .. لا يبدد ظلمته سوى الأنوار الخافتة القادمة من الإضاءة المخفية المخصصة لأجل الليل .. لم يتوقف حتى وصل إلى غرفتها ... فتح الباب دون أن يتركها ... وأدخلها ليضعها أخيرا وبرفق فوق سريرها ...
جلس إلى جانبها وهو يضم جانبي السترة باعثا داخلها مزيدا من الدفء وهو يقول بهدوء :- لن يؤذيك مخلوق ما دام في صدري نفس يتردد يا أمل ..
عندما لم تجب مد يده لتتردد لحظات قليلة أمام وجنتها .... تاركا لها خيار الرفض فلم تمنحه إياه ... بأنامل مرتعشة ... مسح دموعها .. وأزال ما لطخ بشرتها حتى عاد نظيفا .. بريئا كما يعهده ... إنما خائفا ... صارخا بالنجدة .. قال مرددا :- إن حاول رفعت خليل الاقتراب منك مجددا .. قتلته بيدي هذه المرة ..
قالها بخشونة مما جعلها ترفع رأسها نحوه .. تنظر إلى وحشية لم يسبق أن اتصف بها طارق ... للحظة ... عاد طارق منصور ابن خالتها المغرور ليكون فارسها ... بطلها المغوار ... القادر على فعل المستحيل لأجلها كما كانت تتوهم في طفولتها ... رمشت بعينيها قائلة :- لم أفكر بالأمر .. حتى بدأ بعض الضيوف يسألونني عن حقيقة ما حدث ... ماذا إن عرف ؟؟؟ سرعان ما سيصل إليه خبر عودتي إلى عائلتي ...
ربما مرت أربع سنوات منذ سمع أحدهم عنه شيئا ... إلا أن حواسها كانت دائما تشعر بوجوده ... إن لم يكن رفعت خليل قريبا منها ... فإنه يبحث عنها وبجهد منذ سنوات ... تعرف هذا كما تعرف يقينا الآن بأنه قد كذب عليها وأوهمها بأنها ابنته ..
قال طارق بهدوء :- الأمر يتجاوز خوفك منه يا أمل .... أنت ما كنت جاهزة كما أوهمت أمي لمواجهة المجتمع ... أنت كنت هذه الليلة متألقة ... فرحة ... ضاحكة ... إلا أنني كنت أستشعر خوفك كصرخة مدوية كانت ترج داخل أعماقي طوال الوقت ...
حدقت به مصدومة ... لتبعد وجهها عن ملمس يديه وتنكمش حول نفسها برفض غريزي لتفهمه .. قال بحزن :- متى ستثقين بي يا أمل ؟؟ متى ستسمحين لي بمساعدتك في تخطي آلامك ؟
همست :- لا تستطيع مساعدتي ..... لا أحد يستطيع مساعدتي
قال بحرقة :- أخبريني فقط ماذا أفعل كي أقنعك بأنني جدير بمنحك إياي شرف المحاولة على الأقل .. أمل ... انظري إلي ..
نظرت إليه وقد بدت وكأنها قد هدأت فجأة .. عيناها خاليتان تماما من التعبير وكأنها عادت لتحجب نفسها مجددا .. قال مؤكدا وهو يحاول اختراق جمودها بنظراته :- أنا إلى جانبك يا أمل ... أنا مستعد لفعل أي شيء .... أي شيء ... كي تثقي بي ..
عند عبارته ... اهتز قناع جمودها ليظهر التردد وعدم الثقة .. قبل أن تقول بصوت مكتوم :- في الأسابيع الأولى من إقامتى لدى عصام ... كنت أجد صعوبة كبيرة في التواصل مع الآخرين ... بعد ... بعد سنوات قضيتها وحدي .. لم أستطع ببساطة أن أسمح لأي أحد بالتقرب مني
أخفى طارق الألم الذي كان يحس به كلما تذكر السنوات التي قضتها أمل سجينة رجل مجنون .. وظل صامتا في تشجيع لها على المتابعة :- ثم جاء إلي عصام بفكرة ... تساعدني على التعاطي مع الآخرين ..
رغما عنه .. أحس بالامتعاض يلفه لذكر الرجل الذي حاز على ثقة أمل ... الرجل الذي اعتنى بها لسنوات في حين كان طارق يبحث خلالها عنها .. أخفى امتعاضه ببراعة وهو يقول :- وما هي هذه الفكرة ؟
بدا عليها التردد ... قبل أن تتمتم :- أخبرني بأن الإنسان يستمد الكثير من الراحة عند استماعه إلى نبضات قلب غيره ..
نظرت إلى عينيه فاستشعر ارتباكها وهي تقول :- بأنه يعرف ... من خلال تناغمه مع نبضاته ... إن كان جديرا بثقته أم لا ...
صمت للحظات وهو ينظر إلى اضطرابها .. ثم فاجأها بأن مد يده يمسك بمعصمها دون أن تفارق عيناه عينيها وهو يقول بهدوء :- ما الذي تنتظرينه إذن ؟
ببط ... رفع يدها ... وبسط راحتها فوق صدره .. فوق قلبه تماما ..
ساد الصمت للحظات طويلة ... لم يتخلله سوى صوت أنفاسها اللاهثة ... في حين كان هو يحبس أنفاسه .. شاعرا بهذا الاتصال الجسدي المحدود .. وكأنه جسر قد امتد بين روحيهما .. راقبها مبهورا وهي تغمض عينيها ... فتساءل بشيء من الهلع إن كان عصام المهدي قد اختبر شيئا كهذا مع أمل ... إن كان قد أحس بالقرب منها كما يحس هو الآن ... إن أحس بالتواصل معها وكأن الدماء التي تجري في عروق كل منهما قد باتت ممزوجة معا .. وكأنها هي قد باتت جزءا منه ...
لقد كان وكأنه قد استحال إلى رجل آخر في هذه اللحظات التي كانت فيها أمل تدرس نبضات قلبه .. وقد أخافه هذا حتى النخاع .. وفي الوقت ذاته .. عندما فتحت عينيها ونظرت إليه بعينيها الواسعتين والحائرتين .. أحس وكأن الدموع تكاد تحرق عينيه عندما رأى فيهما السكينة أخيرا ..
لم تقل شيئا .. إذ بدت وكأنها مثله .. قد خانتها الكلمات ... فشد على يدها التي ظلت مبسوطة فوق صدره ... وابتسم بحنان وهو يقول :- منذ هذه اللحظة أمل .... منذ هذه اللحظة ... أنا سأساعدك في العودة ..
اغرورقت عيناها في الدموع وهي تفهم بالضبط ما قصده بالعودة ... إذ كانت أمل هنا الآن ... جسديا .. إنما روحها كانت ما تزال عالقة هناك ... في ذلك القبو المظلم .. عاجزة عن المغادرة .. أو الاعتراف بالعالم خارجه ..
لقد أرادت بشدة أن تعود .... وفكرة أن تعود أخيرا على يديه .. كانت تخيفها ... إذ أن جزءا منها ما يزال يخشى أن تأتي لحظة يرفض فيها طارق تلقي ندائها .. كما فعل بالضبط قبل سبع سنوات ...
أنت تقرأ
تبكيكِ أوراقُ الخريف(الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول)مكتملة
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me