الفصل التاسع والعشرون

15K 600 19
                                    

الفصل التاسع والعشرون

بمن تتصل؟ بوالدتها التي تهتم بالفتيات الاَتي تسرحهن في أعمالها المنافية أكثر من أهتمامها بابنتها ولو مر على غيابها بالأشهر! وما العجيب في ذلك؟ فالفتيات سيعُدن عليها بالمنفعة.. أما ابنتها المنبوذة عديمة الفهم كما تصنفها دائمًا فما الفائدة التي ستعود من ورائها؟ لأول مرة تحسد الفتيات على أختصاصهم باهتمام والدتها دونًا عنها. ام تتصل بسعد! منبع الفساد والسبب الأساسي في خطيئة حياتها وهي تعلم تمام العلم انه لن يمُر اعترافها بسرهم الأكبر مرار الكرام.. وهي أدرى الناس بغدره وسواد قلبه.. اذن بمن تتصل؟ وزوجها حبيس السجن واخواته الفتيات لن يعيرنها اهتمام ولو وجدنها حتى جثة مرمية أمامهم في الطريق سيتخطينها ويعبرن الطريق دون ذرة من ضمير حي منهم نحوها.. لم تدري بشرودها سوى من صيحة الفتاة الممرضة عليها:
- ياست أمينة..سرحتي في إيه بس؟ ماتمليني أي رقم تعرفيه وخلصيني بقى.
انتبهت فجأة تجيب الفتاة وقد هداها تفكيرها بمن تتصل بها:
- طب اتملي الرقم اللي هقولك دلوقتي!
.....................

في المسجد الصغير والملحق بالمشفى الكبير .. كان جالسًا مربعًا اقدامه.. فمه لا يكف عن التمتمة بالأدعية والأذكار والمسبحة العقيق بيده..وكأنه انفصل عن العالم لصالح قضيته الأساسية.. وهي استجابة الخالق لدعواته بشفاء ابن قلبه حسين..
خاطبه شاكر والذي اتعبه ظهره من كثرة الجلوس:
- وبعدين يا أدهم ... هانفضل هنا لحد أمتى؟ دي الدنيا ليلت علينا.
رفع إليه عيناه المضطربة يرد بكلمات بالكاد تُسمع:
- روح انت ياشاكر.. انا مش متعتع من هنا غير لما ربنا يستجيب لدعايا وابني يفتح عنينه.
رد شاكر بغير تصديق :
- ياابو علاء ماينفعش كلامك ده.. تعالى روح معايا ريح جتتك عشان تقدر تقف في الأيام الجاية .
قال بحسم رغم ألمه
- مافيش أيام جاية ياشاكر ولا في راحة لجتتي طول ما أبني كدة بين الحيا والموت.. مافيش حاجة هاتريحني غير وانا بقربه وبدعيله مكاني ده..
رد شاكر بأسى:
- طيب لو فرضنا عمال المسجد سمحولك تبات هنا.. انت نفسك هاتتحمل نومة الأرض.
- مش لو عرفت اغمض عيني من الأساس.. دا لو حصل يبقى زادت عليا نومة الأرض
قالها بصوت مبحوح من ثقل ما يشعر به وصورة ابنه في العناية المشددة التي لم يتحملها لا تفارق ذهنه.. انعقد لسان شاكر عن الرد ولم يقوى على الجدال مرة اخرى معه..فالمُصاب اكبر من طاقة الجميع.
..................... ...........

وبداخل المشفى كان علاء يتحدث مع سميرة في الهاتف ليطمئن على صحة والدته وبجواره فجر وشروق التي غلبها التعب وغفت على كتف شقيقتها :
- يعني هي كويسة دلوقتي ياخالتي؟
وصله الصوت المضطرب:
- ان شاء الله تبقى كويسة يابني.. طمن قلبك انت.
- طب اديهاني اكلمها
- ماينفعش ياحبيبي الدكتور اداها حقنة مهدئة وهي نايمة دلوقتي.. ان شاء الله لما تصحى يارب نسمع خبر حلو عن حسين عشان تقدر تقوم وتيجي بنفسها.
- يااااارب ياخالتي يارب
- طيب ممكن تديني فجر لو قاعدة جمبك ياحبيبي .
- اه ممكن طبعًا.. اتفضلي أهي معاكي.
تناولت فجر منه الهاتف وردت عليها:
- ايوة ياماما.. ايه الأخبار؟
ردت سميرة بصوتٍ خفيض حتى لا يصل سماعه الى علاء:
- الحمد لله يابنتي.. بس الست تعبت قوي معايا النهاردة بعد ما مشيتوا وهي تصرخ وعايزة تروح لابنها لحد أما وقعت من طولها.. ولولا الدكتور عطاها مهدئ.. ربنا العالم مش بعيد كان راحت فيها لاقدر الله .
هزت رأسها وهي تجاهد لعدم اظهار تأثرها وحزنها أمامه حتى لا تزيد من همه :
- طب انتي اتصرفتي ازاي دلوقتي؟
- والله يابنتي ماعارفة اقولك ايه ؟ عمتك الله يكرمها ساعدت معايا شوية في مراعية الست لكنها فجأة سابتني وخرجت قال في مشوار مهم لناس قرايبها رغم انها ماخدتش بنتها الرغاية معاها!
- يعني هاتكون راحت فين يعني؟ هي تعرف حد في البلد غيرنا؟
خرجت منها بهمس قبل ان تجفلها والدتها سائلة :
- انتوا مش ناوين ترجعوا بقى دي الساعة داخلة على احداشر ؟
- مش عارفة ياماما دلوقتي اصبري كده شوية.
بعد ان انهت المكالمة واعطته الهاتف.. خاطبها هو وقد فهم فحوى كلمات والدتها الاَخيرة:
- على فكرة يافجر خالتي عندها حق ..انتوا اتأخرتوا فعلًا ويدوبك بقى تروحوا ماينفعش قاعدتكم هنا لحد دلوقتي.
لم تسمع أي حرف من كلماته فقد كانت مأخوذة بهذا الألم المرتسم على وجهه وهو يدعي الثبات أمامها وامام الجميع.. دون ان تنطق ببنت شفاه اجفلته فجأة تتناول كف يده الكبيرة تطبق عليها بكفيها الصغيرتين.. تومئ له بعيناها وصوتها الدافى الحنون:
- خليك مطمن انه ان شاء الله هايبقى كويس وهايقوم من تاني على رجليه.
رغم دهشته من جرأتها وفعلتها الغير متوقعة.. غمره إحساس الراحة والسعادة المؤقتة رغم صعوبة الموقف . وكأنه بهذا التواصل البسيط بينها وبينه قد ضمن شفاء اخيه ونهوضه مرة أخرى على قدميه ..دون أن يدري اطبقت كفه الحرة على إحدى على كفيها الملتفين حول كف يده الأخرى.. ليرفعهم اليه ويقبلهم الاثنتان.. في تعبيره عن امتنانه لها ولدعمها .. فخرج صوته بصعوبة:
- انا مش عارف اشكرك ازاي يافجر.. مجرد احساسي بقربك جمبي في اللحظة دي.. خفف عليا كتير قوي وربنا.
التمعت عيناها بدموع تحاول جاهدة لمنع سقوطها أمامه فتفقده صموده حتى الاَن.
- احم احم.. مساء الخير.
ارتفعت عيناهم الاثنان نحو عصام الذي تهرب بعيناه عنهم في رسالة واضحة لهم.. أشعرتهم بالحرج وقد استفاقوا اَخيرًا انهم جالسين في ممر المشفى وعرضة للنظرات الفضولية من البشر حولهم .. سحبت فجر كفها فجأة بحرج لم يعترض علاء وقد انشغل فورًا بالسؤال:
- ايه الأخبار ياعصام ؟ اخويا عامل دلوقتي؟
رد عصام :
- خير ان شاء الله.. بس احنا لازم ننتظر مرور اربعة وعشرين ساعة على ما يفوق
تدخلت فجر :
- طب هو احنا لازم نصبر اربعة وعشرين ساعة ماينفعش يفوق قبل كدة؟
رد بتمني:
- والله ياريت.. بس دي فترة تقريبة عشان بصراحة لو مافاقش بعد كدة ممكن المدة تطول وماحدش فينا يعرف امتى دا هايحصل بالظبط؟.. انا بس بوضحلكم الصورة.
تمتمت فجر بالدعاء اما علاء فقد شحب وجهه خوفًا ان يحدث هذا.. استيقظت شروق على اصواتهم ترفع رأسها على قول عصام :
- انا مش عايز ازعجكم ياجماعة.. بس انا شايف انكم تروحوا ترتاحوا شوية.. قعدتكم هنا مافيش منها فايدة
رد علاء بحمائية:
- انا مش متعتع من هنا غير لما اخويا يفوق.
- يا حبيبي قعدتك مافيش منها لازمة...
قاطعه بحدة:
- بقولك مش منقول ياعصام .
- ايه مالكم؟ هو انتوا بتتخانقوا ولا إيه ؟
قالها شاكر الذي أتى إليهم .. فكان الرد من عصام الذي تنهد بتعب وهو يضع كفيه بجيبي سترته الطبية:
- انا بس بقولهم ان مافيش داعي لقعدتهم كدة وتعبهم.. ويروحوا دلوقتي يرتاحوا شوية.. فيها غلط دي؟
- لا يابني مافيهاش غلط.. الدكتور بيتكلم صح.. قوم معايا ياعلاء يابني مش كفاية والدك اللي مرضاش هو كمان يسيب مكانه في مسجد المستشفى.
قالها شاكر بحزم وكان الرد من علاء ببعض اللطف:
- معلش ياعم شاكر اتفضل انت وروح البنات معاك.. عشان انا مش هاقدر اروح الليلادي خالص.
ردت شروق بانغعال:
- وانا كمان مش هاروح وهافضل جمب حسين .
رد علاء :
- روحي انتي دلوقتي ياشروق وتعالي الصبح.. على الأقل انت هناك هاتاخدي فرصتك كويس عشان تصلي وتدعيلوا من قلبك .. دا اللي محتاجه مننا دلوقتي .
اقتنعت بكلمات علاء ونهضت لتذهب مع أبيها
شدد شاكر على ذراع علاء قائلًا :
- بإذن الله نيجي بكرة وتبلغنا انت بالبشرى ..ربنا يعينك يارب ويقويك.
اومأ له علاء برأسهِ.. القى شاكر نظرته نحو ابنته الأخرى التي ودت لو تُعترض على ترك حبيبها وحده الاَن في محنته ولكن منعها الحياء .. فنهضت بصعوبة وعيناها لا تترك عيناه الملاحقة لها حتى ابتعدت.
عصام والذي كان مراقبًا بسعادة بداخله استقرار صاحبه وعثورهِ على الحب اخيرًا بعد!
استفاق يجلي من رأسه الجرح القديم فقال مخاطبًا صديقه القديم:
- انا كمان مش هاسيب المستشفى الليلادي ياعلاء.. لو عوزت اي حاجة مني انا في مكتبي قريب من هنا..
...............................

عينيكى وطنى وعنواني حيث تعيش القصص. اكتشف الآن