الفصل الرابع عشر
في بلد أيوب
خرجت من المطعم مسرعة لا تعرف أين تذهب، تريد الهرب من الموقف الذي لم تتخيل أن تكون به يوما.
هي بالذات لا يجب أن توضع بتلك المواقف، أن تكون في موضع شبهات أن يظن أحدهم أيا كان بأنها سهلة ورخيصة ترافق الرجال المرتبطينبل ترافق الرجال من الأساس
لطالما وضعت لنفسها وللجميع حدودا لايمكن تجاوزها، كيف سمحت له بأن يهدها جميعها بنفخة صغيرة من فمه؟!
هي المخطئة لن تلوم عليه ، فقد سمحت له بذلك بل استحلت مايفعله من أجلها
توقفت بعد أن تعبت من السير بسرعة واتصلت بفتنة تخبرها بضرورة رؤيتها في الحال.
ولأن صوتها كان يوحي بكارثة أعطتها فتنة عنوان عمتها كي يلتقوا هناك، لأن والدها و أخوها محمود وصلوا بعد منتصف الليل من المدينة الساحلية وحتما لا تريدهم أن يروا لينا منهارة.
أشارت لينا لسيارة أجرة و أملت عليه العنوان لينطلق له ؛ بينما اتصلت فتنة بمنار كي تلحق بهما لمنزل عمتها
بعد أقل من ساعة اجتمعن في منزل جيهان التي استقبلتهن بترقب بعد مكالمة فتنة لها ، لدرجة جعلتها تطلب من إبراهيم أن يترك البيت كي لا تتحرج منه البنات، أطاعها متفهما وذهب لمنزله القديم حيث أن اليوم موعد سفر سفيان بأي حال
بمجرد أن دخلت لينا للشقة رمت نفسها على أول كرسي وجدته لتنهار في بكاء حار، حاولت جيهان تهدئتها دون فائدة حتى وصلت فتنة ومنار في نفس الوقت لحسن الحظ
دموعها التي أغرقت وجهها و صوت شهقاتها العالي بث الرعب في قلب فتنة و منار فقامت فتنة باحتضانها فورا وهي تقول بصدمة:
-ماذا حدث أخبريني فورا، أنت لم تبكِ في حياتك إلا عندما نقصت درجة في امتحان الأحياء في الثانوية العامة، لا تقولي أنك رسبت هذا السمستر؟
أبعدتها منار قائلة بغضب:
-السنة لم تبدأ بعد ثم الطب نظام سنة وليس سيمستر
ثم رق صوتها وهي تربت على شعر لينا:
-مهما حدث لا يستحق أن تبكي من أجله بهذه الطريقة ، لينا التي نعرفها لا يكسرها شيء بل هي من تكسر كل الذي يعيقها صح.
لم تتوقف شهقاتها لكنها خفت قليلا وقد بدأت في مسح دموعها، لتتنفس جيهان الصعداء و تذهب لإحضار مشروب منعش للجميع.
حكت لهن ماحدث باختصار دون أن تقاطعها إحداهن ، فقط تبادلن نظرات ذات معنى.
وضعت جيهان الصينية التي بها أكواب عصير ليمون وكانت قد استمعت لمعظم الحديث الذي انتهت منه لينا للتو.
اندفعت فتنة قائلة بغضب:
-ذلك النذل يغازلك بطرق ملتوية وهو خاطب على وشك الزواج!!!!!
أيدتها منار قائلة:
-يظن أنك سهلة لا ظهر لك كي يتسلى بك قليل،
الآن نذهب لجمع حاجياتك وتأتي للعيش معي حتى تجدي شقة مناسبة.
-تقصدين أن تهرب وتثبت أنها ضعيفة لاظهر لها.
ألقت جيهان جملتها بصوت واثق ليتجمد الجميع، فمدت العصير للينا التي رمشت عدة مرات قبل أن تأخذه منها.
أخذت جيهان كوب عصير وجلست على الأريكة الكبيرة واضعة ساق فوق الأخرى و أخذت ترتشف من عصيرها في استمتاع والفتيات يتبادلن نظرات فيما بينهن ثم يلقين نظرة عليها، دون أن تجرؤ إحداهن على التفوه بحرف
لمعت عيني جيهان وقالت بنبرة بدت غريبة على الجميع خصوصا فتنة، لما تحمله من مزيج غير متجانس من المكر و الحقد والرغبة في الانتقام مع الكسرة والكثير من الخذلان:
-الأمر لا يحتاج لعبقري كي نعرف أنه من قام بمنعك من إيجاد شقة خارج الدار بل هو من تدخل كي لا تحصلي على غرفة أو سرير حتى في سكن الطالبات، إذن هو فعلا يكن لك مشاعر خاصة ، وليس مجرد رغبة في التسلية.
ظهر الاعتراض على وجوه الفتيات الثلاث وهمت لينا بالرد فقاطعتها جيهان :
-لو كنت مجرد تسلية لشخص بمكانة آسر صفوان و مركزه لنالك من مدة طويلة.
رفعت سبابتها لتؤكد على ماتقوله:
-ليس لأنك رخيصة ولكن لأن أمثاله لهم طرقهم الخاصة أسهلها حبة مخدر في طعامك وتستيقظي في سريره عارية.
تعالت شهقات الفتيات مع نظرة الفزع خصوصا في عيني لينا التي قالت باستنكار:
-لا آسر ليس من ذلك النوع أبدا، أقصد أنه لا يبدو عليه أنه... أقصد لا لن يفعل هو لم يحاول التقرب مني عنوة أو مضايقتي أبدا.
لتجيبها فتنة بحاجب مرفوع:
-هل نسيت عندما حشرك في الممر؟
ألم يكن ذلك تحرشا!!!!
انتشرت حمرة خفيفة في خدي لينا و أطرقت برأسها دون إجابة
وضعت جيهان كوبها على الطاولة المقابلة لها وقالت بثقة: -كل الرجال بداخلهم ذلك النوع عزيزتي،الفرق فقط أن بعضهم ينجح في كبته وأحيانا طمسه بداخله والآخر لا؛ المهم الآن فكرة هروبك وترك الساحة إن دلت على شيء فهي تدل على أنك فاشلة أو تخشين المواجهة.
عقدت لينا حاجبيها وقد أغضبتها الفكرة فمسحت دموعها بكف يدها بحركة طفولية عنيفة نوعا ما.
لتريح جيهان ظهرها و تلمع عينيها بطريقة لم تألفها فتنة من قبل ،ثم قالت:
-لن تتحركي من الدار، بل ستبقي أمامه وتكملي تدريبك مع الدكتور سامح الذي يكرهه ، كما أنك ستغيرين قليلا في طريقة لبسك، جسدك رائع تحتاجين بعض الرتوش وهذه أمرها سهل أنا من سأعلمك كيف تبرزين جمالك دون ابتذال، والأهم أنك سوف تكثرين من دروس تعليمك لأطفال الدار، في نفس الوقت الذي تتجاهلين تواجده تماما كأنه جماد لا قيمة له.
رمشت كلا من منار و فتنة عدة مرات و نظرتا لبعضهما في صدمة أو بالأحرى في انبهار!
في الوقت الذي كانت لينا تركز في كل حرف تنطق به جيهان وتحفظه عن ظهر قلب
لكن شعورا بداخلها ببعض الكرامة جعلها
تقول بمعارضة واهنة:
-وأين كرامتي بعد هروبي المحرج أمام خطيبته؟
بنفس النبرة أجابت جيهان:
-أي هروب؟
أنت تأخرت عن موعد مهم وذهبت له بسرعة ، ولم تشعري بالحرج بم أنه سيكمل الإفطار مع خطيبته.
ضربت منار كف يديها ببعض وقالت بحماس:
-يارب السموات أنت داهية فعلا.
نظرت لها جيهان بتحذير
لتقول مصححة في حرج:
-أقصد فكرتك ممتازة ، أعني أن تلك الفكرة جيدة جدا أعني.
وضعت فتنة يدها على فمها وقالت:
-وصلت الفكرة لا داعي للاسترسال في الكلام.
احتقن وجه منار بحمرة الخجل وقد آثرت أن تصمت
لتتابع جيهان بثقة وثبات قائلة:
-أما تلك السحلية التي تظن أنها أفضل منك أمرها سهل جدا، سوف أبحث عن اسمها وأقطع لك ذيلها الذي تتفاخر به كي تعرف مقامها جيدا.
عينيها كانتا مشتعلتين بحقد دفين، حقد تكون من سنوات حرمان و عذاب لا يعرف تفاصيلها سوى فتنة، التي لم تغب عليها نبرة عمتها الكسيرة عكس ما يظن الجميع، فهي لم تكن تتكلم عن خطيبة آسر أبدا، بل لم تكن تقصد لينا حتى في حديثها، إنما تتحدث عن قلب ذبح بيد الحبيب وبمباركته عندما تركها واختار الغدر والهرب كحل أسهل ، ملقيا حبهما في أقرب مكب نفايات وكأنه لم يكن.
أما لينا فأخذت تقلب الأمر في مخها، هي ليست من ذلك النوع أبدا، أي نوع تقصدين من كان يظن بأن مشاعرها ستخونها وتجعلها عرضة لهذا الموقف السخيف، من كان يظن بأنها من الممكن أن تجعل فتاة أي فتاة كانت تسخر منها و تقلل من كرامتها وهي التي حافظت عليها منذ نعومة أظافرها.
كل ذلك بسبب آسر الذي تسلل بخبث ليهدم جدار قلبها المنيع حجرا حجرا!
لكن هيهات لقد استفاقت قبل أن يزيحه تماما، عليها أن ترممه بسرعة وتتأكد بأنه بات غير قابل للهدم؛ وقبل ذلك سوف تنفذ خطة جيهان ليس لشيء إلا كي تثبت لآسر أن اللعب معها يعني الاحتراق بالنار.
❈-❈-❈
في بلد الجعفري
صبت خيرية الشاي لوالدها في منزل الأخير وقد حرصت ألا تتحدث معه إلا عندما يفرغ مجلسه من الجميع حتى مبروكه عادت لمنزلها رغم أنها كانت تنوي المبيت معه، والسبب أن خيرية أخبرتها أنها هي من ستفعل، رغم أن الشيخ عثمان لا يحبذ أن يفعلن ذلك لكنهن أصررن على ذلك خصوصا مع سفر أيوب و حارث، اللذان كانا يتناوبان على تفقده دائما، وجود أيوب معه في نفس المنزل بعث راحة كبيرة جدا في قلوب بناته خصوصا خيرية، رغم عدم قولها ذلك علانية، فالشيخ يرفض ترك منزله ويرفض أن يقيم معه أحد بحجة خدمته أو غيره، فهو حسب كلامه لازال بصحته كما أن لديه من يخدمه العامل الإفريقي؛ لكن أيوب بالذات كان ونيسا و حريصا على صحة الشيخ كما أنه مرافق له في معظم صلواته التي لايزال يصر أن يقيمها في المسجد بدلا من المنزل.
أخذ يرتشف من الشاى وقال دون أن ينظر لها مباشرة: -هات ماعندك يا خيرية، أشعر بتوترك منذ أن سافرت أشماس و حارث.
جلست خيرية أمام والدها وقالت بصوت هادئ:
-أخبرني حارث برغبته في الزواج من در صاف؛ وكما تعرف هناء لن توافق أبدا لذلك أطلب منك التدخل هذه المرة حتى لو اضطررت لاستخدام حق التحجير.
وضع كأس الشاى ونظر في عينيها لثوانٍ ثم اجابها:
-وهي ، هل وافقت على طلبه ؟
راوغت قائلة:
-تعرف جيدا أن هناء لا تحبنا لذلك لن توافق بالطبع
أعاد سؤاله بنبرة أعمق:
-هل توافق در صاف على طلبه ؟
شعرت بأن عينيه تخترقانها لترى قلبها الذي يرفف كورقة تحركها الرياح في صدرها من شدة الخوف أشاحت بوجهها وقالت بتعنت:
-لن تجد أفضل منه في البلاد كلها، تعرف جيدا بأن حارث أحق الناس بها وهو الوحيد القادر على أن يصونها و يحافط عليها، كما أنه اشترى قطعة أرض في وسط المدينة ينوي بناء منزل لها بعيدا عن أمه، ألا يثبت ذلك على أنه يستحقها؟!!!
حرك سبحته بين أصابعه وقال بنفس الثبات المرعب لها شخصيا:
-ومن يجادل في حارث أو في شخصيته، حارث رغم صغر سنه إلا أنه أكثر شهامة و رجولة من والده الذي ربيته أنت!
تغضنت ملامحها دون أن ترد، تعرف بأنه محق في كلامه.
ليتابع عثمان:
-سؤالي واضح هل در صاف موافقة عليه أم لا؟
لو كانت موافقة لا هناء ولا قبيلتها كلها يستطيعون أن ينطقوا بحرف حتى وليس يرفضون زواجهم كي أقيم عليها التحجير، الذي بالمناسبة لن أعود له أبدا كما سبق وقلت،لكن لو لم تكن در صاف موافقة فلن أغصب عليها.
اتسعت عينيها وظهر الألم على محياها
ليقول بنبرة متعاطفة نوعا ما:
-تعرفين مكانه حارث عندي ، لكني كما قلت لن أجبر فتاة بالذات على الزواج حتى من أجل حارث.
مد لها كأس الشاي وقال مغيرا للموضع أو منهيا له بالأحرى:
-صبي لي كأسا أخرى لا أرتوي من شاهيك أبدا ياخيرية
صبت له وقد تملك منها اليأس، والدها والذي كانت تعيل عليه الكثير يرفض التدخل في القصة ، هذا يعني أن حارث لا أمل في إتمام هذه الزيجة!
لكنها لن تتخاذل الآن، من أجل حارث فهو يستحق ذلك، كما تستحق در صاف رجلا يكون عونا لها لاعليها، ومن أفضل من حارث في ذلك.
حارث ليس فقط حفيدها بل هو حفيدها الذكر الوحيد،
لم ينجب أبناؤها أي ذكور فقط إناث ليست مستاءة من الوضع بقدر شعورها بالذنب
ذنب يزداد عندما تنجب إحدى زوجات أولادها وتكون المولودة أنثى؛ هي السبب كم دعت على زوجها الراحل عبدالخالق أن ينقطع نسله من الأرض ويبدو أن أبواب السماء كانت مفتوحة وقتها فقد استجاب الله لها.
عبدالخالق الجعفري.... ابن عمها و زوجها ، والد أبنائها، عالمها الذي لم تعرف سواه ، والرجل الذي نفذ فيها حكم الإعدام بالمقصلة.
عندما تزوجته كانت لاتزال في الرابعة عشر من عمرها ، في ذلك الوقت الفتيات في عمرها كن يساوين فتاة ذات ست سنوات في الوقت الحالي!
خيرية كانت طفلة قولا وفعلا، لم تفقه من أمرها شيئا ، كانت سعيدة بالفرح الذي امتد لأسبوع وأكثر و قد انتقلت للعيش في غرفة كبيرة بحمامها في منزل عمها كبير القبيلة وقتها، هذا كل ماتعرفه؛ بعد مدة قصيرة قرر عبدالخالق أنهم سوف ينفصلون في منزل خاص صغير، رغم أنها كانت تبكي كثيرا فهي تحب اللعب مع بنات عمها و زوجة عمها تعاملها جيدا وتعلمها أمور كثيرة كالطبخ وخلافه ، لكنه أصر ونفذ دون أن يهتم لدموعها
تعلقت به بعد أن انتقلوا لمنزلهم فقد أصبح هو معلمها الأول والوحيد، رباها على يديه كما يقال، تعلمت منه كل شيء حتى كيف تفكر وماذا تقول لم تعد خيرية عثمان الجعفري بل أصبحت خيرية عبد الخالق الجعفري.
أحبته بل عشقته عشقا لا تصفه كلمات ولم يحمله قلب بشر قبلا، الأغاني لم تكن تصف ربع حبها له، لكنه كان دائما ينهرها عن كلام الحب لذلك تعلمت ألا تتحدث بل أن تصبح نسخة منه كي يحبها هو الآخر، نفذت كل ما يريد حتى قبل أن يطلب منها، سنوات عاشتها تظن نفسها ملكة متوجة في بيته وعلى قلبه لتأتيها الطعنة الغادرة وتشق قلبها لنصفين
لا تعرف كيف تصف شعورها عندما علمت بالأمر، كزلازل هدم حياتها، بل بركان انفجر ليلقي بحممه عليها ليطمس صراخها ويحولها لرماد في ثوانٍ كل ما تذكره أنها لم تتوقف عن الدعاء عليه وكادت أن تشق بطنه بسكين كبير لولا أن ولد عبدالخالق استطع تكبيل يديها وحبسها في غرفة إلى أن يأتي والدها.
والدها الذي للعجب لم يلم عبدالخالق كل مافعله أن أخذ ابنته وذهب لمنزله من دون أطفالها الذين تزوج اثنين منهم وقتها.
سألها سؤالا واحدا تريدن الطلاق أم لا؟
كان ردها لا
بعد عدة أشهر عادت بشروط جديدة ومهر جديد كأنها عروس بل أجبرته أن يكتب المنزل باسمها، لكن هيهات هل يعوض المال حرقة القلب؟
لتجد نفسها حامل بأشماس
لأول مرة في حياتها تكره أن تحمل منه، وهي التي كانت تقيم الأفراح في كل حمل لها و تتبختر طوال شهور الحمل ، حاولت إجهاض نفسها
لم تتقبل فكرة إنجابها منه بعد غدره بها، لكنها للأسف فعلت ولم يسقط الحمل بل جاءت أشماس التي لم تتقبلها بدورها، ربما لقرب ملامحها من والدها أو أنها جاءت في الوقت الضائع؟
لمدة طويلة لم تشعر تجاهها بشيء ، لاحب لا حنان ولا حتى كره، وكم شكرت الله أن سليمة أحبتها وأخذتها معها، ربما بعد أن كبرت و عاشت معها تكونت لها بعض المشاعر، لكنها لن توازي مشاعرها تجاه حارث أبدا
لذلك هي عازمة على إصلاح ما أفسده دعائها و تنفيذ مطلب حارث، أما أشماس فقد تحسنت علاقتها معها التي لم تعرف أصلا أنها متوترة ، لا أحد يعرف الحقيقة سوى والدها وسليمة حتى إبراهيم المغيب لا يعرف وقد أوصاها والدها ألا يعرف، بم أنها رضيت بالعودة لزوجها وعدم فضحه بين الناس أو بين أولاده عليها أن تحترم قرارها و لا تجرح إبراهيم أكثر يكفي ما عاناه لسنوات بسبب تعنت زوجها و والده!
تنهدت وهي تتذكر تلك الأحداث التي تذبحها كأنها حدثت للتو وأخذت هاتفها تتصل بسفيان، هو من سيضع حلا لمعضلة موافقة در صاف من عدمه.
❈-❈-❈
-هل أنت متأكد من قرارك بالزواج من در صاف؟
جمله ألقاها سفيان بنبرة عادية في شقة إبراهيم القديمه ليتجمد حارث الذي كان ينوي اللحاق بعمته وشعر بأن اذنيه تخونانه أو ربما أصيب بهذيان جراء السفر؟!!!
التفت له بحدة وهو يحاول ترطيب حلقه الجاف ثم قال : -ماذا قلت من أخبرك أشماس ؟!!!
كتف سفيان ذراعيه ورفع حاجبه قائلا:
-أشماس أيضا تعرف؟!
ومتى كنت تنوي إخباري، بعد أول طفل مثلا؟
اقترب يجلس على أول كرسي وقد شعر بالحرج الشديد فلم تسعفه الكلمات لعدة دقائق، ثم رفع رأسه وقال:
-أنا لست جاهزا بعد لذلك لم أخبرك، كنت أنتظر أن أجهز منزلي أولا كي يليق بها وبك، كما أنني لست واثقا من موافقة درصاف وخفت أن تظن بي السوء إذا...
وجد سفيان أمامه يضربه على رأسه وقال ممازحا: -واضح أن كثرة معاشرتك للبقر جعلتك تفكر مثلهم، أنا أظن بك السوء؟!!!
أنا أثق بك أكثر من نفسي، لكنك محق شخصيا لا أعرف موقف درصاف، عموما كنت أفضل أن أسمع الخبر منك لا من عمتي فهي متحمسة جدا وتريد إقامة الزفاف اليوم؛ أما الآن دع درصاف تنهي سنتها الأخيرة ثم نتحدث في الأمر، لك مني كلمة أنا معك ولن أجعل أمي تقف في طريقكما أبدا.
استقام حارث وحضنه بقوه ليبعده عنه سفيان قائلا:
-في البلاد التي أدرس بها يعتبر هذا فعل فاضح وأطلق ضحكة لتتبدد الأجواء الملغمة ، هو أكثر من يتمنى أن يتم هذا الزواج على الأقل أحدهم سيحظى بحبيبته.
أما حارث فلم تسعفه الكلمات لذلك خر ساجدا شكرا لله الذي سهل عليه مسافة كبيرة كي يصل لها.
في نفس الوقت كان أيوب في الغرفة المخصصة له يتقلب على جنبيه غير قادر على النوم وهو متأكد بأنها الآن حزينة بل ربما تبكي، لم عاندها وأصر على حضور ذلك الفيلم بدلا من الذي أرادته؟
تنهد وعاد يستلقي على ظهره وأخذ يتطلع في السقف وقد استقرت صورتها أمامه ، صورتها الجديدة الرائعة لم يكن يدري أنه قد يراها يوما بهذا الجمال، أغمض عينيه كي تكون تلك الصورة آخر مايراه قبل النوم وليعنه الله كي يقدر على تحمل فكرة وجودها معه تحت سقف واحد بل إنها ملاصقه له لا يفصل بينهما سوى جدار، مد يده يتلمس الجدار خلفه كأنه يلمس يدها، ليغرق في حلم يجمعها قد يتحقق يوما ما.
في الصباح التالي استيقظ بسعادة فأسرع يقيم فرضه و خرج كي يجلب للجميع فطورا خاصا ؛ بعد أقل من نصف ساعة كان حارث وسفيان قد استيقظوا بدورهم و أعد سفيان الشاى للجميع بينما رص أيوب صحون الإفطار بفخر على المائدة، سحب حارث كرسيا وجلس وهو يشم رائحة الطعام الشهي ومد يده ليأخذ رغيف خبز ليسحب منه أيوب الخبز قائلا في تفاخر مخفي:
- الخبز يجب أن ينفض أولا.
قرن كلامه بأن ضرب رغيفي الخبز معا ثم أعطاه له، ليأخذه حارث بسرعة ويبدأ في الأكل غير آبه بما قاله أيوب وتأخر سفيان وأشماس؛ حضر سفيان بعد قليل يحمل صينية الشاى وجلس يأكل بدوره، أما أيوب فقد بدأ يتبدد حماسه لعدم حضورها هل لازالت غاضبة ؟!
يعرف غضبها جيدا فقد جربه عدة مرات وكم هي قاسية تهجر دون أن يرف لها جفن بل تغالي في الهجران فتجعله يتقلب على نيران الشوق دون رحمة .
خانه لسانه ليسأل بنبرة بدت عادية للجميع رغم أنها تقطر شوقا:
- أين أشماس ألن تفطر معنا؟
بلع حارث اللقمة و أخذ يصب الشاي لنفسه وهو يقول: -إنها معتكفة في الشرفة من قبل الفجر، أعتقد أنها لم تنم فقد سمعتها تتحرك في غرفتها طوال الليل لتطير النوم من عيني حتى رحمتني أخيرا بخروجها منها قبل الفجر بقليل.
تظاهر بأنه يأكل وهو يقول:
-لا أعرف إصرار خالك إبراهيم على بقائكم هنا، خصوصا وهو يعرف بأن أشماس لن ترتاح في هذا البيت.
نظر له سفيان بطرف عينه فلاحظه ليتابع بسرعة مصححا اندفاعه:
-كما أن السيدة جيهان لن يعجبها الوضع كما فهمت، أعتقد بأنه كان من الأفضل أن تنزلوا في فندق أو شقة مفروشة على الأقل.
قرب حارث طبق الفول إليه و قال وهو يشمه باستماع قبل أن يهم بالتهامه:
-أتفق معك لكن هذا كان شرط جدي، أن نبقى في شقة خالي إبراهيم القديمة ربما تتقبل أشماس فكرة زواجه من أخرى، لم يكن يظن بأن الأمور سوف تتعقد و تصبح أسوأ كما رأيت، عموما نساء الجعفري عموما لا يسامحن بسهولة أبدا .
ليقاطعه سفيان مصححا:
-بل لا يسامحن من الأساس كان الله في عون من يقع تحت ضرسهن .
لا يعرف لماذا شعر أيوب بأن حديث سفيان موجه له هو بالذات بعكس حديث حارث الذي كان عفويا !
تابع الشباب الأكل و أيوب يفكر في تلك التي تعلن الإضراب عن كل شيء.
بعد قليل دخل للشرفة يحمل بيده صينية وضعها أمامها دون أن يتحدث وجلس في الكرسي المقابل لها على مسافة معقولة .
نطرت للصينية ورفعت حاجبها قائلة باستهزاء:
- سفيان أخذ إجازة و جاء مخصوص يعتذر و يطلب رضاي و أنت تعتذر بشطيرة و كوب حليب و شاهى؟!!!!
أخذ ينظر للنيل وقال :
-من قال أني مدين لك بالإعتذار؟
هذا أولا و ثانيا اسمه شاي ولبن ، أنت في بلدي إذن التزمي بكلامنا ،هيا كلي شطائرك قبل أن تبرد أمامنا مشوار مهم .
امتقع وجهها من الغضب من أسلوبه البارد، وعضت على شفتيها في غيظ لكنها لم تسكت بل قالت مناكفة :
-اسمه في العالم كله حليب لمعلوماتك.
-نظر لها وقد ارتسمت ابتسامة عابثة على شفتيه سرعان ما أخفاها وقال بتحدٍ :
-كل العالم يقول سمك إلا أنتم حوت وكل العالم يقول بطيخ إلا أنتم ماذا تسمونه نسيت؟ اممم
أخذت الشطيرة من الصينية وقالت قبل أن تبدأ في أكلها: -هاها ها دمك خفيف هل تعرف ذلك؟
عادت له روحه المرحة وقال بنفس المشاكسة :
- بالطبع أعرف كثيرات أخبرنني بذلك.
اشتعلت نيران الغيرة و رآها في عينيها مما لا يدع مجالا للشك لديه أبدا في معناها خصوصا عندما قالت بغضب : -لابد أنهن يجاملنك لا غير، ثم من هن بالضبط نهى صح؟!!!
أطلق ضحكة من أعماقه ثم استقام وقال :
- أكملي فطورك والحقي بي لدينا موعد كما أخبرتك هيا بسرعة .
تركها تغلي ورائه و خرج وقد علا قرع طبول الفرح في قلبه ، رد فعلها على كلامه كاد أن يجعله يطير فوق السحاب، ماذا ستفعل بعد أن ترى الذي خطط له دون قصد إذن!
في الداخل أنهى سفيان مكالمته مع والدته التي لم تتوقف عن تقريعه كالعادة وبعدها أخذت در صاف الهاتف منها ليخبرها بطريقة غير مباشرة أنه و حارث معزومان على قضاء وقت مع قريبة زوجة عمه إبراهيم والتي للمصادفة كانت در صاف تذكرها جيدا؛ في الواقع هو يعرف بأنها تذكرها فلم تتوقف عن الحديث عنها بعد زفاف عمها و جيهان لعدة أسابيع وراحت تنتقدها بشدة وتعيب على طريقة لبسها و رقصها وغيرها من الأمور التي إذا دلت على شيء فهي تدل على غيرة واضحة منها؛ لكنه ظنها أنها غيرة عادية مثل كل الفتيات اللواتي ينتقدن كل من هي أفضل منهن، لكنه بعد كلام عمته له بات يربط الأمور ببعضها و لاحظ أن حارث هو من كان المكلف بالاهتمام بها وبعائلتها كما أنه من قام بتوصليها مع عمتها للمزين والفندق و غيره لأن عمه إبراهيم لم يكن يريد لغريب أن يفعل ولن يثق سوى بحارث طبعا؛ كما لاحظ أمورا أخرى قد تكون صغيرة لكنها تدل على الأقل بأن درصاف تحمل لحارث شعورا خاصا و اهتماما لم تحمله لشاب آخر؛ لذلك قرر أن يستغل الفرصة عندما هاتفت فتنة أيوب وقت الإفطار وطلبت أن تلاقيه في النادي كنوع من الاعتذار ففرض نفسه بصوت عالٍ وصل لفتنه عبر الهاتف لتطلب منه إحضار الجميع بم أن لينا و منار سيحضران أيضا؛ أراد أن يتأكد من شكوكه وقد فعل مع نبرة الاستنكار في صوتها .
خرج من غرفته يبحث عن أشماس متوقعا أن تتصل بها ليسمع رنين هاتفها فابتسم وعاد لغرفته هاهي فعلت ماتوقع، المهمة تتم بنجاح والآن عليه أن ينتظر فإذا كانت در صاف تغار قيراط فأشماس سوف تقلب الدنيا فوق رؤوسهم.
لم تكن ترغب في الرد على هاتفها لكن إلحاحه جعلها تتفقده لتجد اسم در صاف فعقدت -حاجبيها و فتحت الخط ليأتها صوت در صاف صارخا: ماهذا الذي سمعته كيف تسمحين لحارث بأن يذهب مع تلك المائعة ؟
أبعدت أشماس الهاتف عن أذنها حتى تنهي در صاف صراخها فهي لم تستوعب منها حرفا ،
-وبعد أن خف الصوت أعادته على أذنها وقالت : وحدي الله أولا من تلك المائعة ، ومن الذي سيذهب معها لم أفهم شيئا تكلمي بهدوء من فضلك.
حاولت درصاف التحكم في تسارع أنفاسها وقالت :
-لقد أخبرني سفيان بأن الشباب معزومون لملاقاة المائعة قريبة زوجة عمك إبراهيم، تلك التي لم تتوقف عن الرقص وهي تظن نفسها ( فيفي عبده ) بينما عي عبارة عن دودة قز تتلوى!
لولا الحذاء المترين الذي ترتديه لما بانت من سطح الأرض ويقولون جميلة ؟
على ماذا لا أفهم!
وأردفت بلهجة آمرة :
-اسمعي يجب أن تذهبي معهم وتمنعي أي تقارب بينها وبين الشباب خصوصا حارث
كانت أشماس مصدومة مما سمعته وهي تعيد كلام أيوب عندما أخبرها بأنه يحضر لها موعدا مهما ، هل هذا ما كان يعنيه؟
لتقول بين أفكارها:
- من أين يعرفها أيوب؟ لم أخلص من نهى كي تظهر لي تلك الفتنة ماهذا الحظ ياربي، ألا يكفي بأنه لا يريد الإعتذار؟
-من هذا الذي لا يريد الإعتذار؟
جائها صوت درصاف ليخرجها من أفكارها فرمشت بعينيها وقالت مبررة :
-لا تهتمي المهم كيف عرفتي أنت بالأمر؟
أخبرتها بمكالماتها مع سفيان، فتنهدت أشماس وقالت بيأس:
- واضح أنهم خططوا للأمر جيدا، لا أعرف يا درصاف الفتاة جميلة حقا لا أريد أن أبدو مثل الفاسوخة بقربها خصوصا مع حجابي الذي لم أعتده بعد لن أذهب معهم ، آخر ما أريده المقارنة بيننا الآن.
عادت درصاف للصراخ مرة أخرى:
-أي مقارنة تلك ياغبية قلت لك أنها قصيرة لا تظهر من الأرض ولا يوجد بها أي ملامح للجمال الأمر فقط زينه متقنة ، اسمعي اذهبي الآن للمول التجاري واشتري ملابس جديدة ثم اذهبي معهم أقسم يا أشماس إن لم تنفذي ماقلته لك لن يخاطب لساني لسانك أبدا.
شعرت أشماس ببعض التخوف من مواجهة فتنة والمقارنة بينهما لتقول بعند:
-لماذا تهتمين أصلا إذا قابلت الشباب أم لا أريد أن أعرف، أنت بالتأكيد لا تغارين على أيوب و لا سفيان، هل يعني ذلك أنك تغارين على حارث؟!
لم يأتيها الرد حتى ظنت أنها أغلقت الخط لكن در صاف ردت بعد قليل بصوت متهدج:
-لا طبعا لا أغار عليه أنا خائفة على أخي أن يقع في غرامها كردة فعل لا أكثر، لا أخفيك بأنني كنت أظن بأن سفيان يحمل مشاعر لأفطيم، ثم أن مسالة حارث لا تهمني أنا فقط أهتم بصورة القبيلة يكفي بأن عمي تزوج عمتها لن أفرح إذا سرقت هي شاب آخر من شباب العائلة خصوصا حارث بكل مميزاته.
ارتفع حاجب أشماس وكادت أن ترد برد متهكم لكنها فضلت عدم الرد، لن تجعلها تنفر منه من يعرف قد تكون تلك نقطة البداية لقلبين جمعهما الحب دون أن يبوح أحدهما للآخر.
❈-❈-❈
في شقة إبراهيم الجديدة
جلست جيهان تتأمله وهو منكب على أوراق تبدو مهمة في مكتبه دون أن يرفع عينيه لها، منذ أن حضر من الخارج بعد ذهاب الفتيات وهو لم يخرج من مكتبه لذلك قررت أن تدخل له هي، رغم معرفتها بكرهه أن يقاطعه أحد وقت العمل لكنها لن تهتم لقد قررت أن تعيش معه كل تفاصيل حياته حتى الممل منها ولن تسمح له بأن يقصيها عنها أبدا.
أغلق القلم ونزع نظارته ثم أخذ يرتب الأوراق و يضعها في درج مكتبه وأغلق عليها بمفتاح خاص وهو يوجه الحديث لها دون أن تتلاقى الأعين قائلا:
-هل تريدين شيئا جيهان، لدي عمل مهم لا أحب أن يقاطعني أحد وأنا أعمل كما تعلمين.
اقتربت من المكتب و وضعت كفيها على سطحه ومالت بجذعها للأمام وقالت بدلال اكتسبته عبر سنوات عمرها لتجيده بدقة :
-أنا لست أحد، أنا روحك وقلبك ونصفك الذي انصهر فيك و بك حتى أصبح جزءا لا يتجزأ منك ، باختصار أنا أنت لذا سأتدخل في كل شيء يخصنا.
عاد بظهره للكرسي ولمعت عينيه قائلا:
- لطالما أجدت الحديث وغلبتني فيه.
أطلقت ضحكة عذبة قبل أن تلتف وتجلس على حجره وأخذت تلعب في شعره ثم قربت وجهها ولاعبت أنفه بأنفها قائلة :
-هذا ليس حديث اللسان بل القلب يا نبضة القلب.
طبع قبلات خفيفة على وجنتيها مرورا بثغرها الذي تعمقت عنده قبلاته ولم يفلته إلا عندما احتاجت للهواء ليريح جبهته على خاصتها وأسبل جفنيه قائلا:
-تريدين في سنة تغيير ماعشت عليه عمر؛ اصبري معي قليلا أو تحملي طبعي هذا ياجيهان القلب.
عرفت بذكائها أن المناقشة معه ستكون حتما ليست في صالحها لذلك قررت تغيير دفة الحديث وأبعدت وجهها عنه
قائلة في براءة أجادتها:
- لم تخبرني أين يقيم أولاد إخوتك ؟ ولماذا لم تحضرهم كي يقيموا في أحد الشقق هنا
راوغها قائلا:
-سفيان معهم وتعرفين أنه لا يملك شقة هنا لذلك لم أرد أن تحدث بينهم حساسية أو غيرة بسبب ذلك، عموما طيارته فجر الغد بعدها سوف أخبر حارث و أشماس عن الشقق، أعتقد يوم عزيمة أخيك لهم نعود كلنا هنا مارأيك؟
هزت رأسها موافقه،ثم قالت بنبرة حاولت أن تكون عادية لكنه استشف البغض فيها:
-ولماذا لا يملك شقة هو أيضا ألا يكون ابن شقيقك ؟
أعني كيف تمتلك الفتاة شقة بهذا الثمن بينما لا يفعل الرجل، لا تقل لي ورثها والقصة التي سمعتها قبلا، لا أصدق أن ورثها أكثر من ورث ابن شقيقك أبدا، كما أنه يعمل صحيح!!!
أبعدها عنه برفق ثم استقام وقال بنبرة عادية في ظاهرها حازمة في باطنها:
-هناك حسابات أخرى لا تعرفينها ولا داعي لتشغلي رأسك الجميل بها؛ ما رأيك في أن نأكل خارج المنزل اليوم.
طبع قبلة على رأسها و سحبها من يدها ليخرجا من غرفة المكتب وقد طاوعته بابتسامة برعت في جعلها مُرضية وبدت كأنها توافق على ما قاله ،رغم أن داخلها رافض تماما له و لاقترابه من أهله أكثر خصوصا ابنة خيرية تلك التي كانت ولازالت السبب في وجع قلبها و هدم حياتها منذ ذلك اليوم؛ لكنها لن تتكلم لأن رضا إبراهيم أهم من أي شي آخر ثم ربما تستفيد من وضعهم أمام عينيها فهو أفضل من أن يبعدوا إبراهيم عنها.
تنهدت وقالت لنفسها:
- من يدري قد تكون فرصتي لأرد الألم لتلك السحلية في ابنتها.
❈-❈-❈
قررت تنفيذ كلام در صاف رغم عدم اقتناعها به، ذهبت للمحلات التجارية القريبة بدلا من الموال الذي يقع بعيدا عنهم ، وقد اختارت الألوان التي لائمتها وعادت للشقة لتغلق عليها غرفتها لمدة أكثر من ساعتين في مهمة لتزيين وجهها بمستحضرات التجميل التي أخبرتها عنها درصاف لتفشل تلك المهمة فشلا ذريعا لتقرر أن تغسل وجهها وتخرج دون أي زينة ، فهي لا تذكر ملامح المدعوة فتنة جيدا والتي تصر درصاف بأنها ليست جملية أبدا!
طرقات عنيفة على باب غرفتها عرفت صاحبها فلم تهتم وأخذت تكمل تعديل حجابها لتتأكد من أنه يناسب ملابسها فقد ارتدت قميص بلون الفستق الفاتح طويل يصل بالوقوف قبل ركبتها بقليل مع بنطال بيج و حجاب بنفس اللون مع وردات صغيرة فستقية وحذاء رياضي أبيض، قررت بعد تردد أن تضع من العطر الذي اشترته ثم أخذت حقيبتها وخرجت لتجد حارث يغلي وقد أنهى علبة سجائر على الأقل حسب عدد أعقاب السجائر الموجودة في المطفأة أمامه !
وقف سفيان حالما رآها تتقدم منهم وقال بنفاذ صبر:
-أخيرا انتهت العروس من تجهيز نفسها هل يمكن أن نذهب الآن أم مازال لديك شيء آخر؟!!
وقف الثلاثة أمامها يتقافز الشر من أعينهم وكان أكثرهم غضبا كالعادة حارث الذي لا يكره شيء في حياته مثل التأخير و انتظار النساء، ربما كان هذا هو السبب الذي جعلها تتمهل عكس عادتها ربما يزداد غضبه و ينقلب لمشاجرة بينهما لترفض الذهاب و يبقى الجميع .
لكن أيوب أمسك بيد سفيان وقال بهدوء يحسد عليه:
-لا بأس لازال أمامنا وقت هيا بنا.
فتحت فمها لترد عليه لكن نظرة حازمة جعلتها تبلع لسانها وتسير خلفهم مستسلمة مؤقتا على الأقل .
في النادي جلست فتنة و لينا ومنار على طاولة كبيرة لتسأل منار مستغربة :
-لماذا اخترتِ هذه الطاولة لقد أخبرتني أن أيوب قادم لكن هذه تحوي أكثر من أربعة كراسي إضافية ؟
عدلت شعرها وقالت:
-ليس وحده بل أقارب زوج عمتي معه.
ثم التفت تواجه لينا وقالت بشراسة :
-إياكِ أن تقومي بحركات مثل المرة السابقة أو تحاولي جرحه بالكلام كما قلت هو ليس وحده ولن أسمح بأن تقللي منه مفهوم؟
مطت لينا شفتيها و عادت بظهرها للوراء مكتفة ذراعيها وقالت:
-منذ متى هذه الحمية تجاه السيد أيوب أكأد أصدق بأنه يعجبك!!
لولا أنني أعرف ذوقك جيدا و متأكدة من أنه لا يناسبك شكلا ولا مضمونا لقلت أنك فعلا معجبة به!
ردت منار مدافعة :
-الشاب يبدو خلوقا يا لينا كما أن شكله مقبول نوعا ما
أظهرت تعبيرا بوجهها يوضح أنه لا يعجبها أيضا لتشير إليها لينا بسبابتها قائلة :
-أنت أيضا توافقينني أنه ليس وسيما ولا حتى من مستوى رفيع إذن كيف يعجب فتنة!!
كلانا يعرف ذوقها جيدا جدا، لازلت عند ظني بأنها تريد فقط أن...
رن هاتف فتنة ليقطع حديث لينا فأجابت بلهفة وقد التمعت عينيها بوميض لم يخفَ على صديقتيها ثم أغلقت و استقامت تعدل ثيابها قائلة:
-لقد وصل أيوب سأذهب لإدخاله مع أقارب زوج عمتي.
ثم نظرت إلى لينا محذرة لتشيح الأخيرة بوجهها دون رد، فذهبت فتنة تتبختر في مشيتها كالعادة.
انتظرت منار ابتعاد فتنة وقالت بصوتها الهادئ :
- في الواقع فتنة محقه لا يهم رأينا فيه أعتقد أنها فعلا مهتمة به، عموما سوف أطلب من أخي أن يجلب عنه معلومات كي نتحقق أكثر.
زفرت لينا دون أن ترد، رغم أن منار محقة نوعا ما إلا أن توقيت معرفتها بأيوب لايتناسب مع تلك النظرية أبدا، هي متأكدة بأن فتنة تحاول فقط أن تبعد الشبهة عنها بل عن نادر بالذات، لن تهدأ حتى تعرف ماذا كان نادر يريد من ذلك الرجل الأمر ليس مجرد فحصا عاديا بل أكبر من ذلك بالطبع ذلك المتسلق ورط صديقتها وهرب من المسئولية كالعادة.
عند باب النادي رحبت فتنة بحرارة واضحة بكلا من أيوب وحارث و سفيان وتجاهلت عمدا أشماس حتى عندما لفت أيوب انتباهها لها مدت أطراف أصابعها لها!!!
بالطبع لم تنسَ وجهها منذ زفاف عمتها في بلدهم فقد أخبرتها عمتها بأنها ابنة تلك السحلية التي تسببت لها بالأذى و هي تكرهها لأجل ذلك؛ أشماس أيضا لم تكن أفضل حالا بل كانت تبادلها نفس الشعور، فتلك الفتنة تكون قريبة المرأة التي اكتشفت مؤخرا أنها سبب عذاب عمتها سليمة لسنوات بل هي من أخذت خالها و والدها الروحي منها عنوة ، والآن تتبختر أمامها ربما ترغب في خطف شخص آخر يخصها؟
لم يخفَ التوتر بين الفتاتين على الشباب الثلاثة لكنهم تابعوا طريقهم للداخل دون تعليق، فقط تبادلوا نظرات بينهم و اتفقوا دون كلام أن يتجاهلوا الأمر مادام لم يتطور.
وصلوا للطاولة لتسلم عليهم لينا ومنار وكانت الأخيرة الأكثر ترحيبا بأشماس بل إنها تبادلت الحديث معها معظم الوقت متجنبة الشباب كعادتها المتحفظة ؛ أما لينا فكانت تحاول أن تتعامل معهم بطريقة جيدة وفي النهاية تجاهلت أيوب وركزت مع سفيان فقد أعجبت بثقافته وحديثه الممتع وتبادلت معه العديد من الآراء حول موضوعات مختلفة جعلها تنسى الكثير مما يثقل بالها.
أما فتنة فكانت منسجمة مع أيوب وحارث وقد وجدت أن أيوب منطلق بعكس المرات السابقة التي رأته فيها وأكثر سعادة لسبب خفي!
أطلقت ضحكة عالية لتلتفت لها أشماس بحدة فوجدت أن أيوب يبادلها الضحك لدرجة جعلت وجهه يتحول للون الأحمر!
ارتفع حاجبها تلقائيا و وجدت نفسها تقول بصوت عالٍ ولهجتها أيضا:
-احذر أن يتشنج وجهك من الضحك فأنت غير معتاد على هذه المرقعة علنا على الأقل .
جز حارث على أسنانه في غضب أما سفيان فقد قال بطريقة مسرحية :
-لقد بدأت المعركة وأنا الذي ظننتها لن تحدث.
عقد لينا حاجبيها في غير فهم؛ أما منار فقد شعرت بأن الموقف كله محرج أكثر من اللازم ولم تعرف ماذا تفعل.
وحدها فتنة وجدتها فرصة لتلقين تلك الدخيلة درسا ليضعها في مكانها فتعود ركضا من حيث أتت !
رمت بخصلة شعرها التي كانت تستريح على كتفها للخلف بحركة رشيقة و رمشت بعينها قائلة بدلال غير مصطنع:
- عفوا ماذا قالت لم أفهم منها شيئا سوى أنها تتحدث عن أيوب صح؟!
أسلوبها الرقيق جعل حارث يذوب فيه وهو ينظر لها غير مصدق أن هناك فتيات يتحدثن بهذه الرقة والأنوثة أمامه وقد صمت أذنيه عن معنى ما قالته أو أن عقلة الغارق في سحر فتنتها لم يترجمها ؟
وقفت أشماس من مكانها بحدة ليسقط الكرسي الذي كانت تجلس عليه خلفها محدثا صوتا عاليا غطى على صوت شهقة منار.
قبل أن يتخذ أي أحد ردة فعل طبيعية كانت أشماس تقف فوق رأس فتنة عاقدة ذراعيها أسفل صدها و قد ارتفع حاجبها ونزل الآخر لتنظر لها بازدراء قائلة:
-ماذا قلتِ يا.... فتلة ؟
ماهو الذي لم تفهمينه بالضبط من كلامي ربما يجب على عمتك أن تعطيك دروسا في اللهجة فهي خبيرة في الحديث مع رجالنا.
احتقن وجه فتنة و اتسعت عينها لوقاحة ما سمعته للتو قبل أن يسعفها لسانها للرد كان أيوب يسحب أشماس من طرف قميصها وقد أجبرها على فك يديها كما أن سفيان قام من كرسيه واعتذر لفتنة بشدة وذهب خلف أيوب الذي سحب أشماس لركن بعيد عن الطاولة رغما عنها.
أما حارث فلم ينتبه إلا بعد سماعه لكلام سفيان ليهز رأسه محاولا استيعاب ماحدث للتو!
لم تتوقف ثورة أشماس الداخلية وكم تمنت أن تفرغها في ذلك الذي يسحبها كنعجة خلفه ، لتنفض يدها منه وتقف مكانها متحفزة لأي كلمة أو تصرف يصدر منه.
التفت لها رافعا كلا يده كأنه أسد يود الانقضاض على فريسته ليقطعها إربا وقد نفر العرق البارز في رقبته مع صوته الغاضب رغم انخفاضه لكنه بعث بعض الرعب بداخلها عندما هدر بها قائلا:
- هل جننتِ أم أنك تحسبين نفسك في مدرستك تضربين هذا و تكسرين أنف ذلك دون أن يحاسبك أحد؟!!
كيف تتحدثين معها بهذا الأسلوب كأنك فتاة شارع لم تعرف الاحترام يوما بل كيف تجلبين سيرة زوجة خالك كأنها غانية ؟!!
صرخ وهو يقول الكلمة الأخيرة مما جعلها تتراجع وقد بدأت الدموع تخدش حدقتيها معلنة عن جرح أدمى قلبها.
لكنه تابع غير مبالٍ بحالتها ولا حتى بسفيان الذي اقترب منه ،
وتابع قائلا:
-كم مرة حذرتك من الحديث في هذا الموضوع، كيف تسمحين لها بأن تنزلك لهذا المستوى أريد أن أفهم، ثم ما شأنك أنت إذا كنت أضحك معها أم لا، لست وصية علي كفي عن أسلوبك المتعالي وإلا !!!
-وإلا ماذا؟
قالها سفيان بنبرة متحدية وهو يقف بقربها يؤازرها؛ صحيح أن أشماس أخطأت وأن كلام أيوب لها في محله لكنه لن يقبل بأن يهين أحد ابنة عمته لحمه ودمه حتى لو كانت هي المخطئة.
رفعت أشماس عينيها للأعلى كي تتحكم في دموعها ثم تنهدت بصوت مكتوم واضعة يدها على صدرها،
والتفتت لسفيان قائلة باعتذار حقيقي:
- أعتذر سفيان لقد افسدت عليك أمسيتك الأخيرة هنا.
حاولت إيجاد تبريرا لتصرفها لكنها لم تقدر فقد أغلقت حلقها غصة صغيرة تريد الخروج لتقول لذلك القاسي أنها تملك كل الحق فيما فعلته أما ماهو شأنها فهو شخصيا شأنها الذي لا يهتم بها بل يوبخها من أجل فتاة أخرى .
تقبض أيوب وقد غرق قلبه في الألم عليها، يعترف بأنه كان قاسيا عليها بل ربما زاد الجرعة هذه المرة خصوصا وأنها لم تعفو عنه تماما، بدلا من استغلال الموقف كي يدللها و ربما يصرح ببعض مكنونات قلبه، هاهو يؤكد لها بأنها لا تعني له شيئا، ليأتي الفارس الهمام وينقذها مثل كل مرة.
ربت سفيان على يدها و قال لها بحنان:
- لم تفسدي شيئا بل خلصتني من تلك الجلسة المملة عموما عودي للطاولة نحن كنا سنمشي بعد قليل هيا.
نظرت له فأكد لها بهزة من رأسه لتعود و هي محرجة لكرسيها دون أن تنطق بحرف وإن كان وجهها يتحدث عنها، أما فتنة التي كانت تحترق داخليا منها من دقائق مضت، أعجبتها حركة أيوب التي اعتبرتها رد اعتبار لها .
بنبرة صارمة قال سفيان موجها حديثة لأيوب:
-كونك أصبحت واحد منا أمر لا غبار عليه ولا أحتاج لتذكيرك بذلك، لكن أن تتصرف مع أشماس بالذات بهذه الطريقة أو تحزنها هو أمر لن أسمح به أبدا، أنا لم أفعلها سابقا ولن أفعلها مستقبلا، إلا أشماس لن أقبل بأن يحزنها أحد أو يقلل منها لست وحدي حارث و علي و عبدالخالق و رؤوف كلنا نفس المبدأ.
لم يرد أيوب ولم تتغير ملامحه بل ظل ينظر له بتحدٍ ، تحدي رجل عاشق لرجل يحاول إثبات حقه و عشقه فيها، وكم هو غبي لو ظن ذلك.
ليتابع الحديث بنبرة أقل حدة :
-أعرف أنها متهورة وأحيانا حادة بل أكاد أجزم لولا تدخلك منذ قليل لكان انقلب الوضع لكارثة وبدأت أشماس في الضرب مباشرة؛ لكنها ليست المخطئة الوحيدة وأعتقد أنك تتفق معي، أرجو أن تفهم الوضع جيدا وتحاول فهم أشماس أكثر وطريقة التعامل معها من الواضح أن طريقكما يتقاطعان دائما.
اقترب منه يلف ذراعه حول رقبته كي يبدد التوتر بينهما وقال بمزاح:
-هيا بنا نعود للطاولة قبل أن تحدث كارثة لا نستطيع السيطرة عليها.
عادا للطاولة التي كانت أجوائها مشحونه رغم أن أشماس صامتة و فتنة تتسامر مع حارث لكن وجه لينا ومنار كانا شاحبين بشدة .
بمجرد أن اقتربا قال سفيان بصوت عالٍ :
- آسف ياجماعة لقد استمتعت معكم لكن مضطر أن
قاطعته فتنة و هي تقف وتأخذ شنطتها معها قائلة بدلالها المعهود:
-هيا بنا لقد وعدني حارث أننا نمضي أمسية في قارب على النيل، سوف تستمتع جدا يا سيف المنظر مبهر هيا لنذهب قبل الغروب.
نظرت منار و لينا لبعضهما في توجس بينما انصدم كلا من أيوب و سفيان، أما حارث فقد شعر بالتوتر خصوصا عندما ابتسمت له أشماس نصف ابتسامة و أخرجت هاتفها لتقول له:
-منظرك رائع سوف أصورك كي يراك الحبايب قبل وبعد ركوبك للقارب!
ليتنحنح حارث وقال في حرج:
-اسمه سفيان بالمناسبة وليس سيف.
لتريح إشماس خدها على كف ذراعها المستند للطاولة وقالت :
-هذه هي المشكلة الوحيدة في نظرك ؟!!!
عموما در صاف تحب النيل سوف تعجبها الصور جدا.
مسح وجهه بيده واستقام يتبع فتنة وصديقاتها اللوتي تقدمن الجمع ليقترب منه أيوب هامسا:
-لماذا ورطت نفسك وما دخل درصاف لم أفهم؟
نظر الأول لأشماس بغيظ التي تأبطت ذراع سفيان وسارت أمامهم وقال:
-لقد اقترحت ذلك في أول الجلسة عندما أخبرتني عن جمال النيل ولم أقل سوف آخذك بل قلت سوف أذهب مع الشباب في مركب نيلي، ثم إني قررت خطبة در صاف وطبعا أشماس تستغل ذلك لتوصل لصديقتها كل تصرفاتي حتى ترفضني!
وقف بعد أن كان يتحرك خلف الجمع وقال بهمس:
- لو رميتها في النيل هل سيكتشف أحد ذلك؟
اتسعت عينا أيوب وقال بصدمة :
-تقتل عمتك؟ هل جننت؟
تنهد وتابع المشي قائلا:
-معك حق لو ماتت ستحزن درصاف ولن نتزوج أبدا، أفضل شيء أضربها على رأسها لتفقد الذاكرة حتى أتزوج وبعدها أهاجر مع درصاف إلى اسكتلاندا.
ليرد عليه أيوب عاقدا حاجبيه :
-ولماذا اسكتلاندا بالذات؟
حرك كتفيه وقال:
-لأنها أفضل مكان لاستيراد الخرفان هناك أستطيع إيجاد عمل بسهولة .
هز أيوب رأسه موافقا وقال له:
-فكرة رائعة لكنها قد تلحقك هناك أو تبعث رسالة لدر صاف أو حتى تتحدث معها بالهاتف.
زفر قائلا:
- معك حق أيوب كل أفكاري فاشلة هل لديك خطة أفضل؟
فكر قليلا ثم قال له:
-ربما اسمعني هي تريد أن تتعلم النقش على
المجوهرات مارأيك أن نأخذها لمحل الصاغة و هناك تقضى يوما جميلا و تسامحنا فلا تخبر درصاف عن شيء.
وقف والتفت له قائلا:
- اها تريدها أن تسامحك على حسابي؟!
سحبه أيوب وهو يكتم ابتسامته ليركب معه في سيارة الأجرة وأشماس ايضا فيما ركب سفيان مع فتنة ولينا أما منار فقد استأذنت لتعود لمنزلها بحجة تأخر الوقت.
بعد قليل كانوا جميعا فوق مركب سياحي في وسط النيل؛ كان مركبا كبيرا به عدد من الناس مزين بطريقة جميلة ، أخذت تتطلع أشماس في النيل و سحره خصوصا وأن البدر كان واضحا الليلة، نسيت كل شيء حولها إلا هذا المنظر الرائع
أما فتنة فكانت تجلس في مقدمة المركب حيث يوجد مغني يعزف على العود بجانبها لينا و سفيان وأيوب يجلس مقابل لهم ليكون مقابلا لأشماس التي اتبعت الصمت منذ ركوبهم للمركب ولم تشارك الجميع الغناء والرقص ولا حتى التصفيق.
حارث كان يجلس بقرب أيوب مقابل لفتنة لكنه ابتعد خوفا من أشماس على الأحرى هو خائف مما ستنقله أشماس لدر صاف، خصوصا بعد أن ضمن موافقة سفيان .
جلس بقربها وقال:
- واو منظر رائع جدا عليك تصويره من المؤكد أنه سيعجب در.
نظرت له من تحت جفنها بنصف عين وقالت:
- لدي صور أفضل متأكدة أنها ستعجبها .
بلع ريقه ثم قال بمزاح:
-أشماسي لا تكوني مستبدة ، تعرفين أنني لا أنظر للنساء بطريقة خطأ ، كل مافي الأمر أن فتنة كانت تلقي بعض النكات بطريقة ظريفة وأنت فهمتِ الأمر خطأ .
حركت شفتيها للشمال وقالت بسخرية :
- لذلك تدلى فكك مثل الكلب الجائع الذي لم يأكل منذ أسبوع أمام قطعة لحم كبيرة !
والآخر وصل صوت ضحكاته لمنزل جدي!
لابد أنها نكتة ظريفة جدا.
كانت تضغط على حروف الجملة الأخيرة متعمدة ؛ ونظرت له تنتظر رد فعله
للغرابة ابتسم لها وقال :
-أنا صرت كلب جائع؟!!
عموما مقبولة منك عمتي وهذا رأسك أقبله أيضا؛ أخذ رأسها وقبله ثم أمسك كف يدها وقال :
-هل رضيتِ أم أقبل يدك كي ترضي عني؟
سحبت كفها و قد علت وجهها ابتسامة لم تستطع إخفائها وضربته بخفة على كتفه قائلة :
-توقف عن حركاتك تلك؛ اثبت حسن نيتك عندها أعدك لن أخبر در صاف أي شيء ضدك.
قرب بين عينيه وقال:
- قلبي ليس مطمئنا أنت لا تخفين شيء عنها، كما أنه من الواضح أنك تعزين فتنة كثيرا أقسمي أنك لن تخبري در .
نظرت لليمين ثم اليسار واقتربت منه ثم قالت بهمس:
-كي تعرف أنك غالي عندي سأخبرك سرا.
ظهر الترقب عليه لتقول بسرعة وسعادة :
- درصاف هي من طلبت مني أن أذهب معك لموعد فتنة، من الواضح أنها تغار عليك.
نظر لها بتمعن غير مصدق، لتقول بجد:
-أقسم بالله هذا ماحدث كيف عرفت إذن موعدكم وذهبت لشراء ملابس جديدة؟
تسللت ابتسامة سعادة لوجهه وكاد أن يحتضنها من السعادة ليقول له سفيان الذي اقترب منه في تلك اللحظة:
-احذر كي لا يقبض عليك بتهمة فعل فاضح في الطريق العام.
أطلق حارث ضحكة صافية تعبر عن سعادته لم يفهم مغزاها سفيان.
أما أشماس فقالت بنبرة هازئة :
-لا تقلق الفعل الفاضح أمامنا .
نظر سفيان وحارث حيث تنظر ليجدوا بعض الفتيات يتمايلن برقة على نغمات العود و قد علت التصفيقات حولهم و من ضمنهم فتنة بالطبع .
أخفض حارث وسفيان نظراتهما بسرعة وأخذ حارث يستغفر وهو يعطيها ظهره؛ فرفعت أشماس حاجبيها وقالت:
-واو أصبحت الشيخ حارث فجأة ؟
تنحنح وقال بصوت حرص أن يصل لسفيان:
-طوال عمري لا أحب هذه الأشياء و اتقي الله كي يحفظ لي أهل بيتي.
لم يهتم سفيان بالرد عليه فرغم رغبته الشديدة في مشاهدة رقص الفتيات ،فإن وجود أشماس يحرجه ويمنعه من فعل ذلك مهما كان هي لم تعد أحمد الصغير الذي يلعب معه ويدعون أنه صبي بل هي فتاة كبيرة ويجب احترام وجودها قدر الإمكان.
أشماس كانت تنظر لأيوب، هذه المرة أقسمت بأنها لن تفتعل مشكلة أو تدع غيرتها تقودها بل ستراقب وترى إذا استجاب لتلك البذائة من وجهه نظرها، لن يكون له وجود في حياتها أبدا .
بعد ساعتين تقريبا أنهت أشماس فروضها بعد أن أخذت حماما باردا و جلست فوق سريرها تخبر در صاف بأحداث اليوم بعد تجميل موقف حارث قليلا .
لم تقتنع در صاف فبدأت تحقيقها قائلة:
-وتلك الفتاة لم تحاول معه اصدقيني القول؟
فكرت أشماس قليلا ثم قالت:
-إحقاقا للحق الفتاة رغم حنقي منها لم تكن مائعة كما وصفتيها، صحيح أن طبعها مختلف عنا قليلا تبدو أكثر انفتاحا ومرحا مع الجميع لكن بصفة طبيعة وليست مبالغة.
ارتفع حاجبا در صاف حتى كادت أن تصل لمنبت شعرها وقالت بتفاجؤ :
- أشماس تدافع عن فتاة أخرى !!!!
نامت أشماس على ظهرها واشغلت نظام مكبر الصوت وأخذت تلعب بخصلات شعرها وهي تقول:
-ليس دفاعا بل أحاول أن أنفذ كلام أفطيم ، بدلا من الهجوم على الخصم و إلصاق به التهم جزافا يجب أن أعرف مصدر قوته كي أستفيد منها.
-الله الله وتقولين حكم أيضا!
قالتها در صاف استهزاء ،
لتغلق أشماس عينيها قليلا ثم قالت:
-اسمعيني جيدا لو كنت تتحدثين بشأن حارث فهذه ليست أول مرة يراها أم نسيت أنه كان المسئول عنها وعن عمتها عندما كانت عندنا؟
لكني لن أنكر أنها و صديقتها أثرت على الشباب الثلاثة حتى سفيان شقيقك، الذي لم يتوقف عن الحديث مع صديقتها لكنه حسب ما رأيت ليس مهتما بها ،و هو من يهمك صح ،أم أنك تسألين عن شخص آخر بعينه ؟
ردت در صاف تنفي عن نفسها التهمة و قالت مستنكرة :
-لا طبعا لا أهتم بأحد أنا فقط أسأل عن سفيان هو من يهمني بالطبع
ابتسامة متلاعبة ارتسمت على وجه أشماس ثم قالت مغيرة للموضوع :
-دعك من هذا الأمر واسمعيني، الفتاة تبدو معجبة قليلا بأيوب أو هو منجذب لها لست متأكدة ولا أريد أن أظهر شيء لكن أريدك أن تعلميني كيف أضع زينة الوجه بعد عودتي ، لو رأيت زينتها المتقنة و زينة صديقاتها لعرفتِ أننا غفر .
وقفت درصاف أمام مرآتها تتأمل وجهها بعد كلمة أشماس ولم ترد حتى سمعت أشماس تكمل:
- أما شعرها فهو قصة لوحده لم أر في حياتي شعرا يلمع بتلك الطريقة واضح أنه ناعم بطريقة طبيعية وليس..
قاطعتها در صاف قائلة بحنق:
-توقفي عن التغزل بها، هذه أنت وقد سحرتك ماذا عن الثور الآخر؟!
زمت أشماس شفتيها تكتم ضحكة أرادت الخروج وهي تتخيل وجه در صاف ثم قالت ببراءة مصطنعة :
- عن أي ثور تتحدثين؟
تصاعت نيران الغيرة بداخلها دون أن تعرف لها سببا ، وقالت بسرعة :
-اقفلي أشماس غدا نتحدث إلى اللقاء.
أقفلت وهي تكاد تحطم هاتفها، بل في الواقع ترغب في تحطيم رأس ذلك المتخلف راعي المواشي؛ كون أشماس تشكر فتاة وتصفها بتلك الطريقة وتقول عنها جميلة تعد سابقة لم تحدث من قبل، ربما هي تمهد لأن حارث معجب بها؟
هزت رأسها تبعد الفكرة عنه ، لكنها عادت وجلست فوق سريرها وأخذت تفكر؛ أشماس مقربة جدا من حارث لابد أن تحاول تلميع الفتاة التي سيقرر حارث الارتباط بها حتى وإن لم تكن تحبها.
يرتبط بها!!!!!!!
أول مرة تشعر بأن قلبها سيتوقف خوفا من الفكرة فقط.
لطمت وجهها وقالت لنفسها بغضب:
-ومادخلك أنت يرتبط بها أو بغيرها هل حديثه مع أمه ليلة زفاف أفطيم جعلك معجبة به فجأة ؟!!
خلعت نظارتها وقررت النوم كي تهرب من ضجيج أفكارها لتقع فريسة كوابيس تعلن عن حقيقة مكنون قلبها.
أما أشماس فبمجرد أن أغلقت در صاف الهاتف بتلك الطريقة أطلقت ضحكة شقية وهي تحرك يديها على التوالي في علامة فوز بأنها حققت هدفا في شباك در صاف؛ ما كانت لتفعلها وتتغزل في فتنة التي تمنت أن تجلبها من شعرها خصوصا عندما مالت به أمام أيوب، لولا وجود حارث بقربها ما كانت قدرت على تمالك نفسها من ارتكاب كارثة ونقض قسمها السابق بأنها لن تتدخل أو تبدي أي فعل حتى تتأكد أولا !
ردة فعل أيوب أيضا ساعدتها كي تتمالك نفسها فقد ابتعد عن مجال فتنة بطريقة متحضرة لا تسبب للأخيرة حرج وتحفظ المسافة بينهما أيضا؛ ربما هذا التصرف جعلها تعفو عنه تنسى إساءته السابقة؟
تنهدت وقررت أن تحضر لنفسها شيئا تأكله فهي لم تأكل شيئا منذ الإفطار حتى عندما أصر سفيان أن يأكلوا بأحد المطاعم بعد أن نزلوا من المركب لم تفعل فقد كانت متعبة بحق ولم تأكل معهم شيئا
لبست إسدال الصلاة وخرجت من غرفتها، رغم تأكدها من أن الشقة فارغة لكن تحذير حارث لها بأن تفعل كلما خرجت من غرفتها جعلها تفعلها تلقائيا، ذهبت للصالة أولا للتأكد من أن الشقة خالية إلا منها ثم عادت لتدخل المطبخ عندما وجدت كيس طعام فوق مائدة الطعام ملصقة عليه ورقة من الخارج عندما اقتربت وجدت أن اسمها مكتوب على الورقة لتفتح الكيس فوجدت به شطيرتها المفضلة شاورما مع مشروب غازي وبطاطس محمرة ، أسفل الكيس ورقة أخرى مطوية فتحتها و فراشاتها ترفرف لسبب غير محدد لتزداد دقات قلبها و تتلألأ عينها بلمعة العشاق وهي تقرأ المكتوب بها.
بخط لا يمكن أن تتوه عن صاحبه قرأت عبارته التي تساوي ألف قصيدة عشق
لقد تذكرت ماذا تسمون البطيخ..... دلاع.
أمطرت الورقة بالقُبل وضمتها لقلبها ثم عادت تقرأها مرة أخرى بصوت عالٍ وهي تقفز حول نفسها بسعادة لم تكن تتوقع أن ينتهي نهارها الغريب بها!
ثم أخذت كيس الأكل ودخلت غرفتها تستمتع بكل لقمة تأخذها منها ومضغة تلوكها في فمها، وكأنه يضع اللقمات بيده في فمها
بعد أن انتهت من طعامها قامت بثني الكيس و وضعه في حقيبة ملابسها كي يكون ذكرى لأول هدية اعتذار غير مباشر منه أو ربما هي مغازلة مبطنة ؟!
لا يهم معناها الحقيقي المهم أنها منه وأنه لم يهن عليه أن تنام غاضبة كما حدث سابقا.
❈-❈-❈
في منزل جمعة السماك كانت فادية تجلس في الصالة وقد ظهر عليها الهم والحزن معا دون أن تتكلم مع أحد منذ أن أخبرها زوجها بأنه قام بدعوة زوج جيهان و أقاربه للغداء عندهم وقد حذرها من أن تفعل مثل المرة السابقة بل إنه أمرها بأن تطبخ أسماك فقط لا غير حتى لا ينحرج من الرجل مثل المرة السابقة؛ وعندما حاولت مجادلته أقسم لو أنها خالفت أمره لن يمرر الأمر لها.
دخلت فتنة للمنزل تتسحب فوجدت أمها جالسة في الصالة ولم تعقب على تأخرها أو تفتعل مشكلة كالعادة
أرادت أن تهرب لغرفتها لكن حال والدتها جعلها تعود للصالة وتجلس بقربها، لم تجد في البداية ماتقوله لتمر عدة دقائق في صمت ثقيل بينهما حتي أجلت فتنة حلقها وقالت: - ماذا هناك يا أم محمود تبدين مهمومة لا تقولي أن أبي فعلها وتزوج عليك مرة أخرى ؟
تنهدت فادية ولم يبدُ عليها الاستياء من كلام ابنتها؛ ليزداد قلق فتنة التي قالت بقلق:
-أمي ماذا هناك واضح أن الأمر كبير؟
نظرت لها فادية وقد شعرت بأنها تريد أن تتحدث وتفرغ مابداخلها لأحد، للمرأة علها تفهم حرقه قلبها؟
قالت بصوت حزين:
-لقد قام والدك بعزيمة زوج عمتك وأقاربه عندنا والأسوأ أنه أقسم علي بأن....
لم تكمل حديثها فقد أغرقت عينها بالدموع لتنصدم فتنة من منظر والدتها التي لا تذكر أنها رأتها تبكي أمامها أبدا.
لم تعرف ماعليها فعله بالضبط فعلاقتهما لم تكن يوما علاقة ابنه بوالدتها، لا تذكر أن والدتها شكت ها حتى مرضها ولا هي اهتمت في الواقع بأن تعرف عنها شيء أو تطمئن عليها عندما تكون حزينة أو مريضة حتى أو العكس طبعا؛ لذلك أول ما جاء في بالها أنها مدت لها علبة المناديل ثم جلبت لها كوب ماء من المطبخ ؛ تناولته منها فادية وارتشفت منه قليلا
لتقول فتنة باستغراب:
-لا أعتقد أن عزيمة طعام تجعلك حزينة لتلك الدرجة؟
هذه ليست أول مرة يقوم والدي بدعوة أحدهم عندنا ويطلب نوع معين من الأكل؛ أعتقد أن المشكلة أن الأكل والعزيمة خاصة بزوج عمتي صح؟
هزت فادية رأسها موافقة
لتتابع فتنة كلامها:
-في الواقع أنا مستغربة لماذا تكرهين زوج عمتي كثيرا؟ أعتقدت بأنك ستكونين مرتاحة لأنها أخيرا استقرت وبعدت عن منزلنا وعنك بالذات؟
تعلقت أنظار فادية بالصورة الكبيرة التي تزين الحائط وقالت كأنها تكلم صاحبتها:
-أمر عمتك لا يهمني كثيرا هي لم تكن تؤذيني كثيرا و أنا قادرة على رد الأذية لها أضعافا مضاعفة ، ربما في بداية زواجي كنت ضعيفة مستسلمة لكن أمي سناء علمتني كيف أكون أقوي، وبعد زواج جمعة علي و كونها هي من سعت لذلك تغيرت وأصبحت أكثر قوة و قادرة على رد الأذى لها؛ لكن المشكلة تكمن في ذلك الذي تسبب في حزن أمي سناء هو و أخته و جعلها تعاني لسنوات الأمر لم يقف عند خطبة فاشلة بل امتدت لفضيحة افتعلتها الحرباء أخته في منزلنا القديم بعد فشل لخطبة بسنوات لتصاب أمي سناء بجلطة وماتت بعدها بحسرتها.
شهقت فتنة وقد اتسعت عينيها فهي لم تكن تعرف أن شقيقة إبراهيم هي سبب موت جدتها، كل ما تعرفه بأن جدتها ماتت بجلطة وهي طفلة لم تكمل السنتين.
عادت فادية تتكلم:
-حتى قبل تلك الفضيحة أمي سناء كانت تبكي كل ليلة وهي تتحسر على ابنتها التي تذبل أمامها وهي تنتقل من زوج لآخر، كانت تدعو دائما أن تتخلص جيهان من حبها لذلك الذي رماها دون أن ينظر خلفه، لكنها لم تفعل،
تعالت شهقات فادية لتمد لها فتنة كوب الماء وتركتها لتهدأ قليلا ثم قالت:
-تعرفين أن ابنتها هنا بالتأكيد سوف تأتي مع زوج عمتي.
التفتت فادية اليها بحدة ثم قالت:
-فليحرق الله قلبها وتموت قهرا كما حُرق قلب أمي سناء، لا أسوأ بل مثلما حرق قلب جيهان وهي ترى حبيبها مع غيرها.
أخذت تدعو على أشماس بأبشع أنواع حرقة القلب واللوعة وفتنة تفكر كيف تساعد والدتها، لأول مرة تشعر بأنها تحتاج لها وأنها الوحيدة القادرة على ذلك.
لتبتسم وتقول بحماس:
-أمي توقفي عن الدعاء واسمعيني، لقد عرفت ماذا تعدين للضيوف، أبي طلب سمك ونحن سننفذ طلبه حرفيا.
أخرجت هاتفها وطلبت رقم منار التي أجابت بعد عدة رنات، لتقول مباشرة دون عبارات الترحيب حتى:
-منار هل لازال لديكم من(..)
اتسعت عينا فادية ثم ارتسمت ابتسامة متشفية وقالت بصوت خفيض:
-ابنة السماك بحق.
يتبع
أنت تقرأ
سيل جارف الجزء الاول من سلسلة الحب والحرب
Romanceسلسلة الحب والحرب و هذا الجزء الاول منها اجتماعية رومانسية قبائل تحكي عن الحب من جنسيات مختلفة والصعوبات التي يواجهها هذا الحب في ظل اختلاف العادات و التقاليد ، و تقدم العمر هل يصمد الحب وحده في مواجهه كل هذا ام لا ، هل ينجح الزمن والبعد في انها...