الفصل 18

82 5 0
                                    

وقف رمزي حذو الرخامة الفاصلة بينه و بينها ومال بجسده واضعا كفه تحت فكه و ابتسم ابتسامة سمجة أفسدت وجهه الملتحي الذي طالما أظهره بوقار خادع...
دائما ما وقع المحيطون به في شرك صورته الرصينة التي تنكسر مع أول زلة لسان فتفسد وقار طابع الصلاة الذي يزين جبينه و مسبحته التي تتأبط معصمه ..

خاطبت نفسها بينما تفرك الصحون الواحد تلو الآخرى بعصبية لاحت على جبينها المقطب و شفتيها المزمزمتين:" إلى متى سيراقبني هذا الأحمق المراهق! أليس لديه عمل غيري!" ..
زفرت و كان صوت نفسها قويا، جعله ينطق بنبرة ركيكة، كأن الأربطة العضلية في فمه ساحت و ارتخت، و صارت لا تقدر على حمل لسانه السليط :" آهٍ .. آهْ ه ه ه ... يا ليتني أنا الذي يُجلى بين يديك!"..

طفْ!...

كان ذلك صوت الصحن الذي كان بيدها، تعمدت تركه ينزلق من كفها فانكسر في حوض المجلى...

صاح فيها الأخير وقد انزلقت ذراعه هو أيضا على الرخامة أثر الصوت فارتطم ذقنه بسطحها قائلا:"أحْ! انتبهي كسرتي عنقي! أقصد الصحن يا هذه! أيْ أيْ!"..
لم تلتفت إليه بل واصلت عملها غير مكترثة، محاولة كتم ضحكتها ...

لا تعلم السبب الذي جعل الحاج راضي يتمسك بها، رغم كل المشاكل و الفوضى ، الذي افتعله حضورها، إما مع هذا اللزج الذي لا يفوت فرصة دون أن يلتصق كالبرص بالرخامة خلفها يمطرها غزلا ركيكا، أو سفالة بعض العملاء حين كانت تعوض فراغ أحد النُّدُلِ ...
لم تكن حينها رائقة البال كما هي الآن!
بل كانت كلغم متحرك تنتظر الصدام مع أحد حتى تنفجر و تخرج ما عجزت عن أخراجه طيلة الأيام الخوالي ...
تذكر يومها، حين جلبتها السيدة عديلة إلى هنا، لم تكن تتوقع بأنها ستنتهي أمام هذا الحوض القذر، تغسل جبالا لا تنتهي من الصحون و الملاعق و غيرها من المواعين ...

لم يكن لديها خيار آخر، فدراستها تحتاج منها جهدا كبيرا و وقتا باذخا، و كل المقابلات المهنية التي اجرتها أو تواصلت مع أصحابها، كان شرطهم على غرار الكفاءة، دواما كاملا و هذا ما لم تستطع تلبيته ..
فما كان لها إلا أن قبلت وظيفة الجلي و كان راتبها كافيا لها لسد مصاريفها و تلبية حاجياتها الشخصية و دراستها بالمقارنة مع طابع الوظيفة المرهق ...
فالوقوف ساعات طويلة جعل عمودها الفقري و ظهرها يؤلمانها ألما مبرحا، لكنها أيضا لم تمنعها عن مراجعة دروسها فقد جعلت من حائط المجلى مكانا لمعلقاتها التي أثارت فضول رفاق عملها و خاصة الحاج راضي ..
كان الرجل على كبر سنه الذي ناهر السبعين، محبا للنشاط و الدراسة، و كان ذلك واظحا من اهتمامه بمعلقاتها التي لا يفوّت منها سؤالا إلا و يسأله و لا بابا للنقاش إلا و يفتحه، مما جعلها في بحث دائم و مراجعة مستمرة ..

اخرجها صوته الوقور الفخم، وهو يحابق على حفيده بلكنة جازرة :" أ لن تنتهي من سفاهتك يا ولد! اللعنة عليك من بين الرجال! ابنتك بنفس عمرها! هيا اخرج من هنا! ولا ترني وجهك و إلا..."..

رواية لا ترحل !.. ®  بقلم درصاف الذيبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن