لقد انطلقت الصائفة مبكرا هذه السنة، فالأيام باتت تتسارع دون رحمة، تطوي الأعمار طيا، تنحت على صفحات القلوب أخاديد قدر مليء بالحيرة و الغموض، وهي كذلك، لم تشعر بحلول شهر يونيو، فقليلا ما كانت تخرج، تلازم البيت أغلب الوقت متعللة بشدة القيض و تأثرها الشديد بالحرارة.
تمددت ثريّه في سريرها لساعات و كانت بين الفينة و الأخرى تتململ مصدرة صوت همهمات خافتة، تسكن من بعدها جالسة على ظهرها وهي ساهمة في سقف غرفتها، و قد اغرورقت عيناها بعبرات صامتة.لقد أحبّته بصدق وأعرضت عن كل تحذير قابلته من أمها و لم تستطع بذكائها أن توازن الأحداث من حولها، ورغم العمى، فقد خالجها ذات الشعور المضني و الحاد، أخبرها أنها ربما ، ربما تسرعت و جعلت كل ما بينهما أعمق لدرجة أنها لا يمكنها طمر كل تلك المشاعر و الأحاسيس و الأوهام.
تسللت أناملها المرتعشة من شدة التوتر و حطت يدها أسفل بطنها فانكمشت أصابعها حول اللحاف و أحكمت عليه بقوة..
تقلبت يمنة، ثم يسرة وهي تشعر بجسدها كأنه يستوي على جمر مشتعل، و كان عند شقّ الباب الموارب عين رقيبة لم يغمض لها جفن، تراقب سحنتها الباهتة الشاحبة و رعشة يدها الغريبة و ألف سؤال و ألف جواب يتلون على وجهها الممصوص ...يا ويلها إن أعاد الزمن نفسه!..
وهي على تلك الحال الشاحبة، تنام كالموتى و كأن صورتها تنعكس مصغرة أمامها ، تومض بماض ظنت أنه لن يعود أبدا..
زحفت دمعة سخية، ألمعت في مخيلتها أياما من الأبيض و الأسود و حمرة قانية لوثت براءة شفتيها!
آه آه !
آهات ولهٍ و حرقة و حمرة عنّابية، صرخات ألم من رحمٍ فتيًٍ، و عبرات فاحِمة من عيون واسعة كحيلة و ألف آه على فستان منفوشة مزهر، ذبلت بتلاته و شاخت أيامه من شدة الندم..
زورت عيناها أحد كتفيها و كأنها ترى ظفيرتيها الطويلتين ثم و كأنها تستظل بظل شجرة وارفة، تراقب عقارب ساعتها البسيطة، و لهفة الإنتظار بادية عليها...كم كانت حمقاء حينها!..
تراجعت إلى الخلف و أسندت ظهرها بتعب إلى الجدار ..
بل إلى جذع تلك شجرة و هي مازالت تشعر بأنامله الطويلة، تتسلل بخفة تحيط خصرها الرفيع جاذبا جسدها الرشيق نحو صدره، هو يهمس بصوت رخيم:" لو تعلمين شوقي إليك!"..ابتسمت خجلة و قالت:" حقا.. أ تشتاقني !"..
دفعها قليلا ثم أدارها إليه و رفع ذقنها في حين أن عينيها كانتا لا تنظران إلا إليه تلتهمانه بشغف و ولهفة..
رد دون جواب:" ... إنه .. كذلك!"..حمحمت بينما تشيح عينها عنه و قالت:" أتظن أن والدك سيرضى!"..
أجاب سؤالها بسؤال :" والدي؟!.. "
أردف بهمس:" المهم أنتِ!"..توردت وجنتاها خجلا وهي تردد جوابه بسذاجة :" أ أ أنا!"...
تلك الأنا، اللعنة عليّا أنا!...
![](https://img.wattpad.com/cover/192544390-288-k916913.jpg)
أنت تقرأ
رواية لا ترحل !.. ® بقلم درصاف الذيب
Romanceألا تجلسين لخمس دقائق أخرى ؟ ففي القلب شيء كثير وحزن كثير.. وليس من السهل قتل العواطف في لحظات.. وإلقاء حبك في سلة المهملات. - نزار قباني