الفصل 10

151 7 2
                                        

تراجع إلى الخلف حانقا مسند ظهره على كرسيه الفخم الوارف ثم رفع قدميه على طاولة المكتب جاذبا نفسا عميقا من أرجيلته الملتهبة..
نظر إلى بقايا دخانه بعينين ناعستين و مضى يفكر فيها وهي تردد جوابها المعتاد بنزق:"لا يحق لك أن تكون هنا يا "علي"!..
لا تدخل يا "علي"!..
لا تقترب يا "علي!"..
تبا!... لك يا علي "
ثم هتف بحنق :" دائما "علي"!"..

كان قد أوصد بابه معتزلا، بعد أن عاد من الجامع إثر صلاة الفجر، و كان ضوء غرفتها ما يزال على حاله منيرا..

فكر فيها بصمت وقد انبعثت من صدره زفرات خفيضة؛" أكيد! ربما هي مستيقظة تدعو عليه و تتمنى موته!"..

سحب نفسا آخر و كان أشد حرارة و دفء وهو يتسرب بخفة من تجويف أرجيلته، فاشتعل جمرها ملتهبا كحال أعصابه و شعر بفراغ كبير يغط على صدره، و لم يقدر على ضبط دمعة سخية نبست من عينيه...
همس بلوعة:" ليتك تعلمين ما فعلته بي يا ريم الهناء! ليتك ترحمين!"..

مازال يذكر أول صِطدام بينهما، صدام رافقه طوال خمسة و عشرين عاما، مزقت رجولته و أحرقت قلبه كفتات جمر أرجيلته...

كان قد عاد لتوه من القاهرة حينها، بعد شهور مضنية من الغياب أتم فيها صفقات تجارية أوكلها إليه شقيقه الأكبر طاهر .
لم يتسنى له حينها، حضور عرسه المزعوم، فقد كان عرس ثأر أصر عليه عمهم الكبير جابر درءا لحمام الدماء الذي نضح نازفا بشدة فأتى على ثلاث من الجمامزة و ثلاث من الحمايدة..
تساوت الرقاب وكانت مصاهرة أبناء حامد هي الأمل الأخير..
الحياة هنا كانت تسير كالفلْك في بحر من الدماء، وكل شيء كان يسوى بالدماء، دماء الرجال و دماء العذارى..
اختيرت حينها بنت عبد الخالق حامد قربان خلاص لأخوتها الخمس و شبان القبيلتين ..

ابتسم حين عاد إلى تلك الليلة، و كان قد دخل غرفته بعد سفر طويل دون أن يعلم ساكنتها الجديدة، فقد كان موعد عودته مؤجلا إلى زمن غير معلوم..
تقدم في الظلام كعادته و مضى يرمي عباءته على الكرسي الذي طالما حفظ مكانه..
و استأنف حركاته السريعة يتخلص من جلابيته وما تحتها من ملابس، فقد إعتاد على النوم دونها حتى في ليالي الشتاء الباردة..

تنهد بتعب متأوها وهو يتسلل تحت الغطاء و أرجأ حمامه الساخن إلى حين يصحو فجرا كي يتم صلاته..
كان السهر لليال خمس على جلب السلع من الميناء وتفريغها و تأمينها داخل مستودعات العائلة كفيلا بأن يجعل جسده واهنا لا يقوى على الحراك..

لم ينتبه إلى ساكنة غرفته الغريبة حيث جاورته نائمة كالملاك .. حتى أحس بدفء شديد يعتري البطانية و المرتبة.. قطب جبينه مستغربا ثم مال على جنبه يتوسد وسادته، فانتفض عندئذ فزعا وهو يردد:"
ما هذا ؟!
أعوذ بالله... شعر!!!.."..

فكر أن سِيَاقته الليلية قد سببت له الهلوسات، فلعن الشيطان و تعب العمل و طول المسافة و أعاد رأسه إلى حيث كان، و لكنه عاد واهتز من مكانه وجلا حين لامس خده الحرِش الملتحي نعومة الشعر الطويل...

رواية لا ترحل !.. ®  بقلم درصاف الذيبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن