11"صدمة لبائس"

31.1K 1.4K 260
                                    

كيف للمرء أن يُحلق في السماء العالية وهو دون أجنحة، وكيف لثماره أن تنمو دون ساقيًا يساعد وشمسًا تشع ضوئها عليه!

في صباحٍ يوم جديد بدأ بسماءٍ غائمة والهواء البارد يلفح الجميع فيجعل منهم من يستكين ببيته خوفًا من البرد، ومنهم من يرتدي أثقل ما عنده ليتدفئ.

كان يقف أمام محله مرتديًا سترته الثقيلة ويضع عود الثقاب بفمه يضغط عليه، فمه يردد الأذكار وعقله مشغولًا بالذِكر، يحب هذه الأيام التي يكون بها الجو باردًا؛ فهو من عشاق الشتاء وأجوائه وليله ونهاره، يتغير مزاجه خلال ذلك الفصل مائة وثمانون درجة ولكن شاء الله أن يكون هذا الشتاء مُعكر المزاج بسبب الأحداث التي يمرون بها، من تشتيت لخطف وقتل.

تذكر آخر مرة كان «وليد» هنا وهددهم بأنه لن يسكت عما يفعلون، وقتها حاول قتل ابنته وبعدها ضربوا «حمزة» بمكان عمله، إذًا ذلك الخبث وصديقه الخبائث لن يسكتا ابدًا.

وجه عينيه على الورشة الخاصة «بعبدالله» على بُعد بسيطٍ منه، يقف صديقه في عمله بملابسه التي تحمل الزيوت والشحوم ممسكًا بيده الأدوات التي يستخدمها في إصلاح السيارة أمامه، أسفًا عليه فهو صاحب قلب عاشق لم ينل عشقه، وحسرةً على قلبه الذي خسر أخته في سنٍ صغير وكان فؤاده مُعلقًا بها.

سحب نفسًا عميقًا ولمح على مرمى عينيه «حاتم» بابتسامته المعروفة آتيًا ناحيته ورمى عليه السلام:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا مروان باشا"

ابتسم له «مروان» بدفئ ودس يديه بجيب سترته الشتوية ذات اللون الكحلي القاتم، ورد عليه السلام مكملًا بقية حديثه:
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، خليك شوية هنا رايح مشوار لحد صلاة العصر كدا هرجعلك نقفل ونروح نصلي"
أومأ له «حاتم» بابتسامة مطيعة:
"أوامرك ياسيد الناس"

ابتسم «مروان» وسار بطريقه يعلم أن الطريق الذي سيسلكه سيُعيده مليئًا بالهموم الثقيلة فوق قلبه، يعلم أن العودة ستكون قاسية كسابقها، ولكنه قرر أن يذهب لأن قلبه أشتاق وعقله أبى التوقف عن التفكير، بضع خطوات واسعة من مشيته وصل نحو المقابر، وتوجه نحو ثلاثة جوار بعضهم البعض مدوّن عليهم الاسماء كالتالي:
<اسماعيل عبدالمجيد>
<سنية عبدالسميع>
<عهد إبراهيم عبدالمجيد>

نظر للثلاثة بتتالٍ يتمعن بتفكيره فيهم ومر شريط حياته معهم أمام ناظريه الآن، وكأنه يقف بتلك الذكريات ويعشها الآن بكل شعورها، سحب نفسًا عميقًا من داخله وتفوه بصوتٍ متحشرج مختنقٍ:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أمي، جيتك ليا في الحلم بترجع الحياة لقلبي تاني وأنا شايف وشك منور، مبنسكيش في دعواتي يا أمي ولا ببطل أطلعلك صدقة جارية وأنا بدعيلك ربنا يرحمك ويسكنك فسيح جناته وأشوفك في الجنة إن شاء الله، كان نفسي تشوفي المحل بتاعي دلوقتي لما كبر وبقوا أهل الحارة كلهم بيجوا يشتروا مني هدومهم، كان نفسي تشوفي ابنك وهو بيحفظ لعيال الحارة القرآن ويعلمهم دينهم صح وكل اللي رايح وجاي يدعيله، كنتِ هتفرحي اوي يا أمي بدعوات الناس لابنك دي، أنا مكنتش لسه شبعت من حنانك يا نور عيني ولا شبعت من طبطتك عليا كل ليلة قبل ما أنام، أو وقت ماكنت لسه بنام .. النوم طار من عيني من وقت ما مشيتي وسبتيني لوحدي، مع إني راجل وكبرت بس أنا وقت ما بحتاجك برجع عيل صغير مش عارف يعمل إيه من غير أمه، ربنا يرحمك يا حبيبة قلب مروان"

تشابُك أرواححيث تعيش القصص. اكتشف الآن