الفصل الأول: مفاجأة غير سارة!

245 5 0
                                    

خصلات شعر كستنائية مموجة تلف وجه طفلة صغيرة لم يتعد عمرها أربع سنوات، وكانت عيناها تشبهان غيمتان رماديتان يهطل منهما مطر مالح يحفر مجراه على وجنتيها الصغيرتين
تحاول اللحاق بسيارة الأجرة التي تسبقها بعدة أمتار على شارع البحر بعروس المتوسط، وظلت المسافة تتباعد بينما هي تجري وتركض وتزيد من سرعتها حتى انكفأت على وجهها ساقطة على الأرض، وهي تودع بعينيها الطيف الأخير للسيارة التي هجرتها للتو بقسوة وبلا وداع
ظلت تنادي وتصرخ بقدر ما تصرخ، ولكن كان القدر قد كتب كلمته الأخيرة، فكان مقدرا لها أن تُهجر وحيدة في خلفية المشهد
ولم تدرك شيئا حتى سمعت صوت سيارة قادمة بسرعة اتجاهها، فالتفتت، وإذا بضوء ساطع يكاد يعمي عينيها يقترب منها بسرعة شلت كل أجزاء جسدها الصغير
فجأة فتحت سمر غيمتيها الرماديتين لتواجه ضوء الشمس القادم من نافذة الغرفة المواجهة للفراش، مصطحبًا معه رائحة البحر المالحة التي كانت تنبعث للتو من ذكريات صورها لها عقلها الباطن كحلم أو بالأحرى كابوس
اعتدلت سمر- صاحبة البشرة البرونزية ذات اال23 خريفاً من عمرها- وهي غاضبة بشدة من الخادمة التي فتحت النافذة، وبالرغم من أنها لا تُعد من طويلات القامة إلا أن هيبتها ليست بالقليلة أبدًا، طالعتها بشرر يتطاير كالبرق من وسط الغيوم، وهي تصيح فيها "أنتِ من امتى وأنتي بتدخلي عليا وأنا نايمة، غوري من وشي حالا"
ارتعبت صباح الخادمة، فهي تعرف كم تكره سمر دخول أحد عليها وهي نائمة "أسفة يا ست سمر كنت بحسب إنك في الكلية معرفش إنك لسه هنا"                                                                        
وهرولت للخارج وهي مازالت تردد بتوتر"أسفة و الله مخدتش بالي"
********************
في (فيلا) فخمة بعروس البحر المتوسط، اجتمع الحاج حسين مع أولاده على مائدة الإفطار ينظر إلى صحنه يفكر كيف يخبرهم بنيته التي لم يستطع إخبارهم بها منذ يومين حين قرر مشاركتها معهما
أشار حسام بحاجبيه لأخيه معاذ- الذي امتلك بشرة اكتست بسمرة أرض النيل-، فرد معاذ عليه بنفس الحركة مع مط شفتيه دلالة على عدم معرفته عم يدور حوله فكر والدهم
قطع حسين نظراتهم المرتابة بنحنحة قبل أن يبدأ حديثه "من فترة كده كنت اتعرفت علي ست محترمة و...ااا.."
صاح حسام مدركًا "ااااه ....هو الموضوع كده يا سحس....يا راجل قلقتنا"
رد عليه حسين بحزم "استني يا ولد لما أخلص كلامي"
تدخل معاذ باحترام "كمل يا بابا"
سأل حسين بجدية متوترًا على غير العادة معهما، ربما لأنه لأول مرة يفكر في الموضوع منذ وفاة زوجته وأم أولاده "كنت عايز أعرف رأيكم ايه؟؟"
"ده حياتك و حضرتك طبعًا حر" أجاب معاذ بأدب
قال حسين "ده حياتنا كلنا يا ذوذ...و زي ما حياتي هتتغير حياتكم أنتم كمان هتتأثر خاصة لو ناويين نعيش مع بعض"
أكد حسام "طبعًا يا بابا هنفضل مع بعض مش حضرتك اللى صممت إننا نفضل مع بعض دايمًا حتى لما...."
وقطع حديثه لم يستطع أن يذكر زواجه من زوجته الراحلة
فأكمل معاذ عنه "أكيد هنعيش مع بعض ولا حضرتك ناوي تتجوز بعيد؟"
أجاب حسين "لأ طبعا بعيد ايه.. وعشان كده باخد رأيكم قبل م يبقى فيه أي حاجة رسمي لأن حياتنا كلنا هتتغير و الموضوع ميخصنيش لوحدى"
بارك معاذ بابتسامة مليحة "يبقي مبروك يابابا.. أنا و حسام مرحبين جدا.. حضرتك تعبت عشاننا كتير ومتجوزتش من بعد (وتردد قليلًا قبل أن يكمل) ماما، وأكيد أنا وحسام مش هنقف فى طريق أي حاجة تسعد حضرتك أو تحبها ولا ايه يا حسام؟"
أجابه حسام بتأكيد "أكيد طبعا معندناش أي مشكلة فى اللى انت تحبه أو تختاره"
تنحنح حسين مكملًا "لسه فيه حاجة كمان لازم تعرفوها..احم.. عندها بنتين"
تدخل حسام بسذاجة "حلو أهو يلعبوا مع فرح ويسلوا بعض"
سعل حسين من صدمته بتفكير ابنه، ثم نفى متنحنحًا كأنه يمهد كلامه "احم احم.. لأ ما هم بنتين آنستين في الجامعة.. أنت فاكرني هتجوز واحدة أد ولادي يعني؟"
حسام مشيرا برأسه نحو معاذ "أوبااااااا كده فيه واحد عنده مشكلة"
استفهم معاذ "هم هيعيشوا معاها هنا؟؟"
أكد حسين "مقدرش أقولها ابعدي عن بناتك.. وكمان أنا متأكد من أخلاقكم أنتم الاتنين"
حسام "أكيد يا بابا هيبقوا زي أخواتنا"
لوى حسين فمه وهو يقول بامتعاض "ما أنا متأكد من كده من غير ما تحلف، واحد مترهبن وعايش حياته كلها لبنته، والتانى خطبناله بالعافية وعلى وش جواز خلاص، أنا مش قلقان منكم خالص، ولكن لازم تبقوا عارفين وموافقين على الوضع الجديد"
أجابه معاذ بما يريح قلبه "خلاص على بركة الله"
أومأ حسين برأسه، ثم تابع "يبقى لازم تتقابلوا و تتعرفوا"
وافق حسام "أكيد في أي وقت"
أغمض حسين عينيه وهو يلقي قنبلته "النهاردة الساعة ثمانية في النادي"
تعجب معاذ "فجأة كده؟"
سأل حسين "عندكم حاجة؟"
أجاب معاذ بتفكير "كنت واعد سالي نتعشى مع بعض برا.. بس مش مشكلة أخليها غداء"
تنهد حسين براحة كمن أكمل الجزء الأول من مهمته "خلاص بإذن الله"
********************
جلس توفيق – رجل في العقد السادس من العمر- لا يجد سلوى في الحياة سوى في زجاجات المنكر المتراصة أمامه على الطاولة، والتي قد شرب منها ما يكفي ليفقد صحوه، ويذهب إدراكه مع الرياح
الخمر يقطر من فمه منذ طلاقه، عيناه حمراوتان، وطاقة جسده منخفضة بالكاد يحرك الكأس إلى فمه ليتجرع منه، لم و لن يوقفه شيء حتى دخول ابنه الشاب: حمزة
حمزة رجل يمتلك عيون واسعة ذات بؤبؤ أسود كبير نسبيًّا، بالإضافة لوجه مستدير، مما يعطيه مظهر طفولي محبب، وشعر أسود طويل إلى جانب بشرته الفاتحة، قامته الطويلة، لحيته السوداء القصيرة التي تعطيه لمسة رجولية، وغمازة على وجنته اليمنى، كل هذا في تناغم بديع بين براءة الشكل وجاذبية الرجولة أعطاه حظ نصف رجال العالم من الوسامة
و لكن من لا يعرفه لم يدرك بعد كم هي خادعة المظاهر!
تأمل حمزة حالة أبيه لثوان بصمت مهيب، لا يعرف أحد ولا هو نفسه فيم فكر بالتحديد؟ فقط أفكار متضاربة بين غضب.. جرح.. كبرياء.. كره.. على قليل من نكهة الحسرة على شعر أبيض مهيب اختلطت به نوبات الهوس بحب مراهقة متأخرة أعمى، لتسقط بعدها الهيبة، وينخلع قناع الوقار، ويظهر من خلفه منظر مقزز لعجوز احتسى الحب حد الثمالة
تقدم حمزة منه بخطى ثابتة ومد يده في برود عكس نيرانه المتأججة غضبًا، التقط الكأس من العجوز، وتوفيق يبعد يده محاولًا تجرع المزيد مما حرر سهام الغضب ليصيح حمزة بوجهه "أنت فاكر لو عملت كده ممكن ترجع تاني، فوووق الحرباية اللي اسمها ملك ده مش ممكن هترجع هنا تاني"
ثم مد يده مرة أخرى، ولكن بعنف مقتلعًا الكأس من يده ملقيًا إياه على الأرض ليتهشم
فهب الأب مترنحًا يوبخه "اتكلم بأدبك.. يا.. حيوان.. أنت، أنت نسيت نفسك ولا ايه"
ثم رفع يده وهوى بها على وجه ابنه بلطمة، ولكنها لم تكن سوى كأنها تربيتة حنون، جعلت حمزة يضحك باستهزاء... فأين ذهبت قوته ولطماته المدمية؟؟
********************
دخلت ملك منفعلة إلى غرفة ابنتها الصغرى ليليان التي ما تزال نائمة للآن، لا تصدق كم هي مهملة تلك الفتاة وخاصة في يوم مهم كهذا، دخلت وفتحت كل أضواء الغرفة، ومن خلفها صباح خادمة المنزل تتبعها كما أمرتها
حاولت ملك إيقاظها وهي تسحب غطاءها "قومي يا ست هانم....نايمة ولا على بالك.. قومي كفاية كده مية مرة أقول بلاش السهر ع الزفت كل يوم للصبح"
ثم بدأت تضربها بغل وعصبية على كتفها وساقيها لتوقظها، فتململت ليليان على السرير محاولة إبعاد أشعة الضوء المزعجة عن عينيها
غمغمت ليليان بتذمر، وهي تعيد الغطاء عليها "فيه ايه يا مامي....أنا معنديش كلية النهاردة ومعنديش أي حاجة مهمة.. سيبيني أنام براحتي بقه.. يوووووه"
سحبت ملك الغطاء من جديد، وهي تقول "قومي عندنا معاد النهاردة مهم"
قالت ليليان بكسل، وهي تفتح عين وتغمض الأخري "معاد ايه ده؟"
ردت ملك بغيظ "ما أنتِ لو بني آدمة طبيعية وصاحية بدري زي الناس كنت لحقت أقولك.. إنما حضرتك نايمالي لحد الساعة ستة... قومي مبقاش فيه وقت"
تهربت ليليان "ده معادك أنتِ أنا مليش دعوة"
وعادت لتسحب الغطاء وتنام، فغضبت ملك وبدأت تهدد "والله يا زفتة أنتِ لو ما قومتي لأمنع عنك العربية والمصروف، وآخد منك الزفت اللي بيسهرك للصبح ده.. قومي حالًا واستعدي عشان نلحق المعاد وكلمي أختك تجيلنا على هناك عشان سمر هانم مش بترد عليا من الصبح"
********************
سمر فتاة عادية جدا حين تراها يميزها فقط عينين رماديتين بلون الغيوم، إن عرفتها تظنها قاسية، وحين تدنو ستجد ما هو أكثر، وإن نظرت بزاوية أخرى ستُكشف لك أسرار حكاية ستود لو لم تعرفها
دفعها الحنين مرة أخري لرؤية ملجأها حتى وإن علمت أنه ملجأ لم يعد مصرح لها بالاحتماء أو اللجوء إليه، ولكن لا حيلة لها فيما تبغيه وتشتهيه روحها خاصة في تلك الأيام التي تستيقظ فيها مفزوعة من كوابيس الماضي، ولا أحد حولها
لكم تشتاق إلى حضنيهما، وإلى رائحة المنزل الوحيد الذي وجدت به أمانها ودفأها، البيت الوحيد الذي وجدت فيه مكانًا لها من هذا العالم، ولكنها حتى الآن لم تجرؤ على الذهاب لذلك المنزل.. ليس بعد ما فعلته بهما، ولكن قلبها يصبو إلى رؤيتهما ولو من بعيد كما تفعل الآن
وقفت تراقب رجلًا عجوزًا أحنى الفقر ظهره، ونهش العمل من صحته حتى لم يبقى سوى ما يكفي ليسير ببطء شديد ساحبًا بمشقة وراءه عربة "الذرة المشوي" الذي يسترزق منها ليعيل عائلته
نظر أمامه إلى الطريق الطويل المتجه لأعلى (مصعد) يبدو سيكون شاقًّا، فشد على عربته، وتوكل على ربه، ليبدأ رحلة صعوده، وسرعان ما شعر بأحدهم يدفع العربة من الخلف ليساعده، فباتت مهمته أسهل كثيرًا، وما إن وصل لنهاية المطلع أخيراً، التفت ليشكر من ساعده، ولكن لم يجد أحدًا، تلفت يمينًا ثم يسارًا، لكن لا أحد على الإطلاق
أما سمر فلم تستطع مراقبته وحسب، لم تستطع سوي المساعدة فهذا ما رباها هو بنفسه عليه، فهو من علمها ألا تبخل بمساعدة أي أحد، وهو لم و لن يكون (أي أحد)، ولكنها اختفت قبل أن يراها فلا يفترض بها أن تكون هنا ولا هي تجرؤ أن تريه وجهها، فاختبأت منه خلف حائط تسند رأسها إليه تنظر للسماء بتوسل، واضعة يدها على فمها تكتم آهات قلب بالشوق قد فاض
قطع أفكارها رنين هاتفها المحمول، نظرت إليه لتجد نفس الاسم مجددا (ملك)، تأففت متذمرة ثم ردت على الاتصال لتجد سيلًا من الكلمات "أنتِ فين يا زفتة أنتِ؟ طول اليوم بتصل بيكِ مش بتردي ليه؟ عايزاكِ تيجي حالًا تقابليني في النادي، عندنا معاد الساعة ثمانية عمالة أكلمك من الصبح وحضرتك ولا على بالك مبتتزفتيش تردي على الزفت ليه؟؟؟؟؟؟؟؟"
أبعدت الهاتف عن أذنها بانزعاج محاولة حماية طبلة أذنها قبل أن تصاب بالصمم حتى انتهى صراخ ملك فأعادته مجيبة عليها ببرود "عايزة ايه يا ملك؟"
أجابتها ملك بعصبية "تقابليني حالًا في النادي"
ردت سمر بلامبالاة "ملك أنا مليش دعوة باجتماعات الHigh Class بتاعتك ده، خرجيني أنا من الحوارات ده "
صاحت فيها ملك مجددا بتهديد "بقولك ايه يا سمر والله لو ما سمعتِ الكلام ليكون لينا حساب تاني وأنتِ عارفاني، أنا هلاحقها منك ولا من الزفتة التانية"
تنهدت سمر باستسلام مجيبة بملل "ماشي يا ملك جاية اقفلي"
ثم أغلقت الخط بعنف، وهي تزفر متأففة من تحكمات ملك التي لا داعي لها إطلاقًا
*******************
نطقت سالي بغيرة واضحة "أنت عايز تفهمني إن بنات الست ده يعيشوا معاكم في نفس البيت ده حاجة عادية وإن أنا مزوداها والمفروض إني معترضش حتى؟؟؟؟؟"
أجابها معاذ بنفاد صبر "لأ وماله؟ اعترضي وأنا أروح لبابا أقوله معلش بلاش تتجوز المرة دي وعيش باقي عمرك وحيد عشان خطيبتي بتغير عليا"
ثم تناول قطعة أخرى من الحلوى أمامه، وأكمل وهو يلوك الطعام في فمه "عيوني حاضر هبلغه باعتراضك، مش عايزة DVD بالمرة ؟"
أخذت سالي شهيقًا تبعه زفيرًا، تحاول أن تهدأ لاحتواء الموقف، فهي تعرفه حين يبدأ بالحديث بهذه الطريقة الساخرة، يعني أنه لا يتقبل ممن أمامه ولا كلمة ولا يعجبه كلام من يحادثه، تعرف كم يكره أن تتحدث معه بعصبية أو أن يعلو صوتها معه وخاصة في مكان عام، و تعرف أنه الآن لا يهتم لما تقوله أو تحديدًا لا يقدر حبها وغيرتها عليه، وذلك يؤلمها بشدة ولا تعرف ماذا تفعل معه ليهتم ولو قليلا؟
رفعت رأسها إليه تحاول بدء الحديث مرة أخرى ولكن بهدوء كي لا يغضب ثانية منها، ولكن وجدته هذه المرة قد أنهى طعامه، وأدار رأسه للنافذة ينظر من خلالها مما يعني انتهاء الحديث لهذا اليوم، ولتعاود الاتصال في وقت لاحق
نظرت بألم تحبس دموعًا تكاد تهطل، ولا تعرف حتى لم تحبسها؟ ليس وكأنه سيهتم أو حتى أحد آخر سيلحظ وسط كل هذا الضجيج في المطعم، ولكن على أية حال أخذت شهيقًا آخر ثم زفيرًا، ثم حاولت التكلم بهدوء، ومناداته برقة لعله يلتفت "معاذ، أنا أكيد مش قصدي كده، بس مش فاهمة ليه لازم بناتها ييجوا معاها"
التفت إليها للحظات بنفاد صبر، ثم أشاح بوجهه مرة أخرى يراقب مشهدًا أثار انتباهه، وهو يكرر على مسامعها "قولتلك الست عايشة مع بناتها مش معقول هنقولها هنجوزك أبونا بشرط تتخلي عن بناتك"
وماذا عنها؟ تحاول أن تشرح له غيرتها وألم قلبها حين يقترب من الأخريات فقط، فما سيكون حالها إذا عاش معهن تحت سقف واحد!!! كيف ستتحمل؟
ولكنه دائما لا يقدر ذلك، ولا يعطيها ذلك الحق حتى، ودائمًا ما يجد شاغل له عنها، فهو يسرح في كل شئ، وأي شئ عداها هي.. خطيبته وصديقة طفولته
تعرف أنه لا يحبها وأنه يحاول ألا يظلمها؛ فيخرج معها، ولكن يبدو كونه معها لوقت طال أو قصر لا يجعله ذلك بالضرورة يركز معها
ظلت تحدثه، ولكنه لم يلتفت؛ فقد لفت نظره هذه المرة مشهدًا آخر، فتاة شابة جميلة لا تبدو عليها القوة إطلاقا تساعد بصعوبة بالغة عجوزًا في دفع عربته على الطريق، يا له من منظر لا يراه المرء كل يوم!
ربما ليس مميزًا ولكنه بث فيه نوع مميز من السعادة، تلك التي تشعرك بالدفء، لاحت ابتسامة قريرة على إحدى زاويتي فمه بسكون
وأخيرًا التفت إليها، والجملة الوحيدة التي قالها "يلا عشان ألحق أوصلك قبل ما أروح لبابا"
وكمحاولة أخيرة منها -على الأقل لترى الفتاتين بعينيها- قالت بيأس "ينفع آجي معاك طيب؟"
أجابها معاذ بحزم، فلا يريدها أن تتسبب بمشاكل بفضل غيرتها "لأ طبعا ده تعارف عائلي"
أرادت أن تسأله "ألست من العائلة؟" و لكنها أسرتها حسرة في نفسها، وفي المقابل قالت بهدوء تكبح به دموعها "مفيش داعي توصلني أنا هاخد تاكسي"
ثم أخدت حقيبة يدها واستقامت
زفر بضيق وهو يلوح للنادل "قولتلك هوصلك استني أدفع الحساب"
ردت بعناد "مفيش داعي روح الحق معادك وابقي سلملي على أونكل حسين وفرح"
وتركته، وسارت حتى وصلت إلى باب المطعم، والتفتت لتجده قد جلس ثانية ويطلب الفاتورة بإشارة من يده!
لم يكلف نفسه حتى أن يذهب خلفها أو يصر على إيصالها للمنزل، وكأنه كان ينتظر أن تغادر، وهذه المرة لم تستطع كبح دموعها أكثر، ورحلت مسرعة من هذا المكان قبل أن تفضحها دموعها فتتألم كرامتها أكثر
*******************
خرج معاذ بعد ذلك يحاول اللحاق بالموعد وهو ينظر لساعته فاصطدم بفتاة، وأسقط هاتفها؛ فانحنى يلتقطه لها في نفس الوقت كانت هي تمد يدها لالتقاطه؛ فنظرا لبعضهما، والتقت قهوته الداكنة بغيمتيْها للحظات في جو يندد بعاصفة وشيكة
إنها هي تلك الفتاة التي رآها منذ قليل تساعد العجوز؛ فابتسم لها بتلقائية، وكأنما يشكرها من قلبه على نبلها الذي شح في هذا الزمان، وأخذ هو الهاتف؛ فاستقاما، وناولها إياه معتذرًا "أنا آسف جدا منتبهتش"
أخذته منه في عجالة وهي تنظر إليه باحترام "حصل خير يا بشمهندس"
ثم غادرت على عجل، وذهبت إلى سيارتها، أما هو فتعجب من معرفتها بأنه مهندس؟؟ هل تعرفه يا تُري؟ أم هو مجرد لقب تطلقه بعشوائية؟
بالتفكير في ذلك الآن.. ربما لم يلحظ لبعد المسافة سابقًا، ولكن لديه شعور أنه رآها من قبل بالفعل، تبدو مألوفة كثيرًا،
هل يا تُرى - ربما- لهم نصيب في اللقاء مرة أخرى؟؟؟
*******************
سأل حسام وهو يقف أمام غرفة صغيرته "فرح جاهزة يا دادة؟"
أجابته بدرية "أيوة ادخلها"
دخل إلى صغيرته غرفتها الوردية المليئة بألعابها في كل مكان، وجدها تنظر إلى نفسها في المرآة تتأكد من شكلها، فالمرأة هي المرأة في أي مكان وفي أي عمر كان
انتبهت لوجوده فنظرت إليه بسعادة تهتف "بابي احنا دلوقتي هنروح نشوف عروسة جدو؟؟؟"
ابتسم لها، وهز رأسه موافقا، فعادت تسأل "يعني هي وجدو حسين هيتجوزوا زيك أنت وماما؟ "
بهت حسام قائلًا بتوتر وصوت عالي كأنه غضبان "خلصي للي بتعمليه علي ما أكلم معاذ أشوفه فين"
وتركها وغادر مسرعا يحاول السيطرة علي ردة فعله الانفعالية
********************
قاد معاذ سيارته وأمامه سيارة سمر، لو كانت خلفه لظن أنها تتتبعه، ابتسم من سخافة الفكرة التي طرأت على باله، وأكمل طريقه حتى وصل فوجدها أيضا تقف عند نفس النادي، فأدرك ربما تقابلا هنا؟؟
لكنه لا يأتي كثيرا، على أية حال، نزل من السيارة بعد أن صفها في مكان مناسب، ودخل يبحث عن والده وأخيه، في نفس الوقت كانت سمر أيضًا عن ملك وليليان، لم تكن منتبهة أمامها، وهي تتلفت بحثًا؛ فاصطدمت به مرة أخرى، وهذه المرة لم يكن هاتفها بل هي نفسها كادت أن تسقط لولا كفيه طوقا كتفيها بسرعة منقذًا إياها من السقوط
لحظة واحدة، وكانت بالعُمر كله، إنها نفسها ذات الغيميتيْن، تأمل عينيها عن قرب، وكادت تغيب بين بؤبؤيه الداكنين
غابا للحظات في موقف مريب محرج لم يستطيعا فهمه، رمشت بعينيها عدة مرات تنجو بعقلها مما يحدث، ثم اعتدلت في وقفتها بخجل، وهو سحب يديه سريعًا، وتنحنح بإحراج،  وتحدث بصوت شبه هامس" آسف"
ازدردت ريقها، وهي تعيد خصلة شعرها خلف أذنها، وردت تجاهد في إخراج صوتها "لا أبدًا المرة ده أنا اللي آسفة يا بشمهندس، أنا اللي منتبهتش"
غمز لها مازحًا "مرتين في يوم واحد! أنا كده بدأت أقلق"
ولأنها تعلم أنه ليس من النوع اللعوب أو المغازل، ابتسمت له بهدوء قبل أن يسمعا ملك وحسين يناديان بنفس الوقت
ملك "سمر"
حسين "معاذ هنا"
فالتفتا ينظران للطاولة التي يجلس حولها أهليهما، ومن ثم إلى بعضهما، ثم إلى الطاولة مرة أخرى
أشار بكفه في اتجاه الطاولة المنشودة، لتسبقه هي ببضع خطوات وهي تهمس له ترد على مزاحه "شكلها مش الأخيرة، كده ممكن تقلق براحتك"
رحب حسين مبتسمًا بود "اقعدوا يا ولاد"
ضيقت سمر عينيها، وعلا وجهها أمارات استفهام كبيرة، فلم تفهم بعد ما سبب اللقاء، أو من هؤلاء الرجال!
قالت ليليان بغموض تثير فضولها، وهي تكتم في نفسها غيظًا "اقعدي يا سمر، مامي عندها ليكي surprise تجنن"
وهنا بدأت سمر تخمن ما يدور حوله الأمر، سحبت مقعد للوراء وجلست متمتمة "معتقدش إنها مفاجأة ليا لوحدي"
تعجبت ملك متسائلة "أنتم تعرفوا بعض؟" مشيرة بيدها إلى سمر و معاذ
أجابها معاذ "اتقابلنا من شوية"
بينما أجابت سمر "البشمهندس يبقى الدكتور بتاعي في الكلية"
معاذ رفع حاجبيه مدركًا لمَ يشعر أنها مألوفة، ولكن لم يكن هذا الشعور كافيًا لملء شعوره بالألفة، فمازال يحس في نفسه سببًا آخر
تعجب حسين "ايه ده بجد يا معاذ؟"
ردت سمر عنه مؤكدة "احنا لسه في أول الترم أكيد البشمهندس ملحقش ياخد باله من كل الطلبة"
تدخلت ليليان قاطعة حديثاً طال في غير داعٍ "ايه؟ مش عايزة تعرفي مفاجأة مامي؟"
انتبهت سمر لها، ففجرتها ليليان في وجهها مباشرة "مامي هتتجوز أونكل حسين"
ورغم أنها قد توقعت بالفعل من هيئة ملك الغير عادية، ونظراتها إلى الرجل بجانبها، ورقة صوتها وهي تناديها منذ قليل، إلا أن العالم توقف من حولها للحظات حين سمعت الخبر بأذنيها، وهدأت أصوات الشباب والأطفال الصاخبة من حولها، وماجت كل أنواع الأفكار السخيفة برأسها، ولم يبق سوى بعض الصور من ذكريات قديمة، وبدون أن تدرك ذهب عقلها لحساب عدد السنوات التي يمكن أن يتم هجرها بها مرة أخرى (هذه المرة لو هُجرت ثلاثة عشر عامًا أخرى ستعود وأنا في.. اممم.. سأكون في السادسة والثلاثين)
و بدون أن تدرك همست "36 سنة"
لم يسمعها أحد فسألت ليليان "بتقولي حاجة؟"
انتبهت فنفت برأسها سريعًا، ثم استدارت لملك بابتسامة متكلفة، ولم تنطق سوى "مبروك يا ملك"
ردت عليها ملك بابتسامة رقيقة "الله يبارك فيكِ يا حبيبتي عقبالك"
ابتسمت لها بسخرية - أكثر منها مجاملة- من الجملة التي نطقتها للتو، فليست جملة شائعة من أم لابنتها، ولا موقف شائع يحدث كثيرًا، ولكن لا مستحيل مع ملك
شئ آخر زاد السخرية على ثغرها، منذ متى وملك تقول "يا حبيبتي"؟ هذه العبارة كفيلة لجعلها تضحك حتى السنة القادمة
التفتت سمر لحسين "ومبروك لحضرتك يا عمو"
أجابها حسين بسعادة "الله يبارك فيكِ يا بنتي"
هبت ليليان واقفة وقالت بغضب من اكتفى من الهراء "مبروك؟؟ ده كل اللي قدرتِ عليه؟"
ابتسمت لها سمر ببرود قائلة "اه معلش معملتش حسابي على النقطة بس متهيألي لسه فيه فرصة في الفرح مش كده؟"
كتم معاذ و حسام ضحكاتهما بصعوبة وهما يريان حرب باردة ليسا متأكدين تمامًا مَن أطرافها بالتحديد
التفتت بعدها سمر نحو ملك، وسألت بمكر "ولا أنتم ناويين على كتب كتاب على الضيق؟"
أجابتها ملك وهي تضغط أسنانها، وترسم ابتسامة محذرة على فمها "لسه بنفكر بس غالبًا حفلة كتب كتاب صغيرة كده"
ردت سمربنبرة ثعبانية ملتوية تقصد بها إزعاج ملك "أنا كمان شايفة الفرح مش مناسب أوي، حفلة صغيرة أفضل فعلًا"
تطلعت ليليان فيهم بذهول، وسألت باستنكار "فرح؟ وكتب كتاب؟ نقطة؟ يعني أنتِ موافقة؟"
أجابت سمر بنفس الابتسامة التي ترسمها على وجهها منذ بداية الحوار "أنتِ قولتي إن ملك عاملة مفاجأة، مقولتيش إنها بتاخد رأيي، ولا ايه يا ملك؟"
نفت ملك بتوتر "أكيد يعني مش هعمل حاجة من غير ما أعرف رأيكم يا بنات"
كادت تجلجل سمر بضحكة رقيعة ساخرة لولا بعض التعقل، فبالتأكيد ملك  ستعرف رأيهما، ولكن هذا لا يعني أبًدا أن تأخذه بعين الاعتبار، لقد قررت ملك بالفعل؛ لذا لن تتعب هي حبالها الصوتية في جدال تدرك تماما أنه بلا فائدة
أجابت سمر بابتسامة مزيفة أجادت رسمها لتخفي بها ألمها من حقيقة أنه يتم التخلي عنها للمرة الثالثة أو ربما أكثر "ده حياتك يا ملك"
ثم التفتت إلى ليليان بنفس الابتسامة، وكأنها تتعمد استفزازها "اقعدي يا ليلي الناس بتتفرج علينا"
ولكن ابتسامتها تلاشت، وتجمدت ملامحها، وهي ترى حمزة يتقدم نحوهما بخطوات الثابتة ينظر إليها مباشرةً، ابتلعت ريقها بتوتر أخفته خلف ملامحها الجامدة حتى وصل
هتف حمزة بابتسامة "ايه ده أنتم هنا؟ ده يا محاسن الصدف"
ظهر التوتر جليًّا على وجه ملك، بينما هتفت ليليان "شوفت يا أبيه؟ مامي هتتجوز"
اتسعت ابتسامة حمزة حتى ظهرت غمازته المحفورة في خده الأيسر "تاني؟.. عمومًا ألف مبروك"
ثم نظر نحو سمر غامزًا دون أن يراه أحد، وقال بمشاكسة وكأنه يوجه حديثه للجميع لا هي "عقبالنا كلنا"
أشاحت بوجهها للجانب الآخر، بينما جلست ليليان متذمرة "أوووووف أنت كمان يا أبيه؟"
عبث بيده في شعرها ثم غادر، بينما يرمقه معاذ وحسام بضيق، وعدم راحة من رؤيته
سأل معاذ "مين ده؟"
أجابت ليليان بتأفف "أخويا الكبير"
استفهم حسام "يعني ابن.."
قاطعت ملك "لأ لأ، حمزة يبقى ابن طليقي"
رد حسام مستدركًا "أها، بس شكله سخيف أوي"
فغيرت ملك الموضوع "بس معاذ شكله هادي أوي يا حسين مش شكلك خالص"
اضطرب معاذ قليلًا، ولكن أخفى اضطرابه دون أن ترمش عيناه حتى وتماسك جيدًا
رد حسين واضعا يده على كتف معاذ بفخر أبوي "معاذ مش بس ابني، ده ذراعي اليمين مقدرش أعمل حاجة من غيره، متبصيش للهدوء ده، ده دماغه توزن بلد بحالها"
تدخل حسام وهو ينظر لأبيه بغيرة طفولية متجاهلًا أنه أبٌ لطفلة تجلس بجانبه الآن "يا سلام يا سحس دلوقتي معاذ هو الكل في الكل؟ طب شوف مين بقا اللي هيشوفلك شغل الشركة اللي البيه رافض يشتغل فيها ده"
قهقه حسين واضعًا يده على كتفه هو الآخر "هو أنا بردو أستغنى عنك يا حُس، ده أنت اللي في القلب يا واد"
حسام نظر بنص عين "وده بجد ولا عشان الشغل؟"
نهره معاذ متصنعًا اللوم "ده كلام تقوله بردو يا حُس؟ "
ثم أكمل متظاهرًا بالجدية "أكيد عشان الشغل"
********************
انتهى اللقاء، وليليان لم تتقبل بعد ما يحدث، كيف لأمها أن تتزوج رجلًا آخر بهذه السرعة؟
اقتربت من سمر، وعيناها لم تفارقا ملك وحسين اللذيْن يسبقانهما بعدة أمتار، وهما يتهامسان لبعضهما، وتبدو عليهما السعادة، ومالت على أذن أختها "أنتِ عاجبك الي بيحصل ده؟"
ردت سمر بدون أن تلتفت حتى "ماله يعني؟"
اغتاظت ليليان من برودها وكأن شيئًا لم يكن، فقالت بعصبية وهي تمسك بذراع سمر لتوقفها "ياسلااام! يعني أنتِ موافقة إنها تتجوز الراجل ده وتروح تعيش معاه ببساطة كده؟"
نظرت سمر ببرود إلى كف ليليان الممسك بذراعها، ثم إلى وجهها، وأجابت بلا مبالاة "مش ده مشكلتك يا ليليان.. أنتِ مشكلتك إنها خلاص مش هترجع لتوفيق تاني، بس ملك مش هيهمها وهتكمل اللي في دماغها فبلاش تتعبي نفسك، مش أول مرة تتجوز يعني ومعتقدش إنها هتبقى آخر مرة"
ثم تركتها و تحركت بضع خطوات، ولكن قدميْها تسمرتا في الأرض حين سمعت أختها تقول بشماتة وتحدٍ وغل تجلى في نبرتها "يمكن أنتِ بالنسبة لك مش أول مرة ومتعودة تبقي زي الكلاب الضالة بس أنا لأ"
وتركتها وتحركت بخطىً غاضبة تقصد أمها تاركة خلفها سمر كجماد لا يتنفس حتى، وكأنها نسيت كيف تقوم بعملية التنفس
خطوات غاضبة ضربت بها الأرض، وحذاؤها ذو كعبٍ عالٍ، وفي لمح البصر انكسر الكعب، وكادت ليليان أن تقع على ظهرها لولا يد معاذ -الذي كان يسير بجوار أخيه وابنته الصغيرة- التي تلقفتها بسرعة كما فعلت منذ قليل مع أختها
وهي ليست كأختها، لا تجيد إخفاء الأشياء، ولا تتلون وفقًا للوضع، هي واضحة وتقع بسهولة، ولا تنكر مشاعرها أبدًا، وهي الآن وقعت، وتعترف بذلك، وقعت بل غرقت في بحر من القهوة الداكنة بعينيْه، وسبحت أفكارها في شوكولاتة لحيته وشعره، ودقت طبول قلبها حين استشعرت طعم القهوة المرة بالشوكولاتة الحلوة جدًّا، مع إضافة الكثير من الملامح الرجولية من حدة خطي الفك، وطول لا بأس به على الإطلاق
بدا كبطل هارب من إحدى الروايات التي تقرؤها، كانت قد سافرت بأفكارها إلى زحل، ولم تعد إلا على صوته الرخيم وهو ينادي عليها "ليليان!"
اسمها بصوته له نغم خاص، لحن ستدندنه برأسها للأبد، وأول ما فعلته حين انتبهت هو إحكام غلق فمها خوفًا من ظهور أسلاك تقويم الأسنان الذي تضعه، ثم اعتدلت لتقف، وجدت نفسها ممسكة بملابسه منذ فترة لا تدري كم مر عليها
احمرت خجلًا، وأبعدت يديها بإحراج شاكرة إياه، ثم عادت كإنسان آلي إلى مكانها بجانب أختها، ونسيت تمامًا أنها كانت ذاهبة بغير اتجاه
********************
نزلت سمر الدرج بعدما استيقظت من قيلولتها لتجد الهدوء يعم إلا من صوت صباح وهي تندب واضعة يدها على صدغها "يا حظك يا صباح، طول عمرك فقرية بنت فقرية يا بنت عتمان، أعمل ايه أنا دلوقت بس يااااني"
قاطعتها سمر باستغراب "فيه ايه؟ و فين ملك وليليان؟"
أجابت صباح بحزن "الست ملك خرجت عندها معاد مع الراجل ده اللي اسمه سي حسين، والست ليليان لسه نايمة"
سألتها سمر "وأنتِ مالك؟ عاملة كده ليه؟"
أجابتها صباح تشكو إليها "عيشي اتقطع يا ست سمر خلاص كده مش هلاقي لقمة لعيالي"
سألت سمر مجددا "ليه أنتِ عملتِ ايه؟"
ردت صباح بانكسار "وهو أنا بعمل بردو يا ست سمر، بس خلاص أنتم هتنقلوا لبيت تاني والست ملك استغنت عن خدماتي خلاص"
سألت سمر بتعجب "هننقل؟؟ مين قالك كده؟"
أجابت صباح "الست ملك من شوية قبل ما تخرج قالت إنكم هتنقلوا بعد جوازها وتقعدوا مع سي حسين وأولاده"
ابتسمت ساخرة في نفسها من تخطيط أمها دون استشارتها حتى، ولكن ملك تحلم فلا نية لسمر بالسير في نفس الطريق مرتين، ولن تسكن مع أحد بعد الآن، ثم تأملت لثوانٍ المسكينة التي تحزن على عيشها وعيش أولادها
نفت سمر قرار أمها قائلة "ملك بتتكلم عن نفسها أنا مش هتنقل لأي مكان تاني"
صباح بفرحة عارمة "بجد والنبي؟ يعني أنا هفضل أشتغل هنا؟"
هزت رأسها بالتأكيد ثم التفتت تغادر، فاستوقفتها صباح منادية في تردد "ست سمر!"
التفتت فوجدتها صامتة تحبس كلماتها في عينيها مترددة في إخبارها، فحثتها للحديث بهدوء "عايزة ايه؟"
نظرت لها صباح بأمل تلاشى سريعًا وهي تفكر بأنه ليس من المعقول أن تساعدها تلك الفتاة التى لم ترها تضحك أو تبتسم في وجهها يومًا؟
كيف يمكن لفتاة لم تتحدث معها يومًا سوى بكلمات قصيرة مقتضبة وفي حدود عملها فقط أن تقدم لها مساعدة؟
فمنذ أن بدأت العمل هنا لم ترَ منها سوى قسوة أو لامبالاة حتى مع أمها، التي يبدو أن كلا منهما قد تقتل الأخرى في أية لحظة، لم ترهما حتى يتسامران كأي أم و ابنتها أو حتى يتناولان وجبة طعام سويًّا!
لطالما خافت من ملك، ولكنها تخشى سمر أكثر لأنها تبدو لها غريبة قد تفعل أي شئ غير متوقع، ليس لديها عزيز أو غالٍ
فأخفضت رأسها مرة أخرى في يأس تكتم ما بها خوفًا من أن تهدر كرامتها مرة أخرى لأجل لا شيء
قرأت سمر التردد بعقل المرأة، فهي ماهرة أحيانا في قراءة البشر كمهارتها في التحكم بانفعالاتها إلى حد ما
جعلت صوتها أكثر لينًا؛ لتحثها على الحديث "مالك؟ عايزة تقولي ايه؟"
نظرت صباح بتعجب لها قبل أن تردف بتردد "كنت يعني.. ااا.. طلبت من الست ملك مبلغ كده سلفة بس هي رفضت على أساس إني خلاص مليش عيش معاكم و.. ااا.."
سألتها سمر مباشرةً "عايزة كام؟"
أجابت صباح بتردد وخفوت "150ألف"
تعجبت سمر بهدوء "كم؟ عايزة كل ده في ايه؟"
أجابتها صباح بحسرة "إبراهيم جوزي عنده فشل كلوي، والدكتور قال لازم يزرعوله واحدة، العملية هتتكلف 200ألف وأنا كل اللي اتحصلت عليه 50 بس، بس والله وغلاوتك يا ست سمر لأرجعهم في أقرب فرصة، ولو عايزة أكتبلك بيهم وصولات أمانة.. و.. يعني خدي الضما..."
قاطعت سمر حديثها الثرثار "عايزاهم امتى؟"
صباح بأمل "كمان أسبوع ولا اتنين"
ردت سمر "ماشي"
التمعت الدموع بعينيها وهي تركض لسمر تحتضنها لا تصدق أنها ستنقذ زوجها، ولن يُيَتم أولادها، هتفت من بين دموعها "كتر خيرك يا ست سمر، ربنا يكرمك ويعلي مراتبك قادر ياكريم، أنا مش عارفة أشكرك ازاي؟"
بينما سمر استسلمت لحضنها دون أن تبدِ ردة فعل، وقالت "تشكريني على ايه ده حقك، طول ما أنتِ بتشتغلي في البيت ده تبقي جزء منه"
وغادرت دون كلمة أخرى، تاركة المسكينة تتساءل كيف يمكنها قول تلك العبارة الدافئة! والأغرب كيف لها أن تقولها بكل هذا البرود!! ألا يبتسم المرء حتى عند التكلم بطف!!
لا يهم كل هذا الآن، المهم أن مشكلتها أخيرًا قد تم حلها، ومن مكان لا تتوقعه على الإطلاق
غادرت سمر صباح ورأسها مليئًا بذكريات امرأة كانت تدعو ذات الدعاء كثيرًا لها ذات يوم، امرأة علمتها الحب ومساعدة الغير بعيدًا عن كل تلك الكراهية التي تعيش فيها الآن، ولكن اللعنة كل اللعنة على تلك السنوات الخمس التي قضتها مع ملك وحمزة
سنوات انتزعت من قلبها الحب والخير، وحتى نفسها انتزعتها، وزرعت مكانهم الألم، الخذلان، الكره وملامح باهتة لشخص مشوه، وحتى الاشتياق الذي كان يكبر يومًا بعد يوم معها إلى حضن ظنته يومًا دواءها، حولته إلى سم تغلغل داخل خلايا روحها ببطء
فالأسف كل الأسف حين يكون زهق روحنا على يد من ظننا يوما أنه الطبيب
********************
دخل حمزة بخطوات ثابتة يتفحص أباه الثمل، ومن في حالته لا ينبغي أن يعرف أخبارًا صادمة، ولكن حمزة لن ينتظر حتى يفيق من ثمالته، فقد قرر أن يخبره ما سيجعله يفيق في التو، اقترب منه حتى جلس قبالته واضعًا ساق فوق الأخرى مسندًا ظهره بأريحية على الأريكة، فاردًا ذراعيه على ظهرها، وأبلغه بشماتة "سمعت اللي حصل؟ سمعت إن الهانم اللي أنت متشحتف عليها أوي كده قررت تتجوز"
وهنا كانت صدمة توفيق أكبر بكثير مما بقي له من عقل، جحظت عيناه من الصدمة لا يصدق أنها يمكن أن تفعل، ثم ببطء بدأت تتحول ملامحه لغضب شديد من تفكيرها فقط في الزواج، وغضب من فكرة ضياعها من يده للأبد
حين رأي حمزة ملامح الغضب برد قلبه كثيرا، وابتسم بانتصار، لعل والده يعي أخيرًا مدى حقارة محبوبة القلب الذي باع لأجلها العالم حتى ابنه
انتصب حمزة واقفًا، وغادر تاركًا أباه يتخبط في أفكاره، لربما يعود له رشده، ويتخلص من حب تلك اللعنة التي حلت عليهما، ولم تتركهما حتى بعد طلاقها من أبيه
********************
استيقظت سمر في الصباح ونزلت الطابق الأرضي تبحث عن أي أحد، فجرس الباب يرن بعنف منذ مدة، وبدا ألا أحد في المنزل، اتجهت لتفتح الباب الذي كاد أن ينكسر، وبمجرد أن فتحت حتي اصطدم رأسها في الباب بقوة الدفع، ودخل توفيق مقتحمًا المنزل كالمجانين
وضعت يدها على رأسها تمسكها بألم، وحين استوعبت ما يجري كان هو قد فتح كل غرف الطابق الأرضي باحثًا ومناديا باستمرار عن ضالته: ملك
هتفت به سمر بغضب "أنت بتعمل ايه انت اتجننت؟"
لم يعرها انتباهًا، وظل ينادي بعلو صوته "يا مللللللك!"
أخذت نفسًا عميقًا تلتمس به بعض ثبات النفس، وأجابته "مش هنا.. مش موجودة بقولك"
تركها غير مصدقًا، وصعد للطابق العلوي يبحث عنها فتركته يفعل ما يريحه، بحث عنها في كل غرفة، وفي كل ركن من أركان المنزل، فلم يجدها، نزل كالمخبول بغضب يسأل سمر"هي فين؟"
أجابته سمر بلا مبالاة "معرفش"
كرر سؤاله بجنون وهو يتابع نزول الدرج "هي فين؟ أنتِ كدابة أكيد عارفة، هي اللي قالتلك متقوليش صح؟"
وصل إليها، وأمسك ذراعها يعتصره لتخبره بمكان ملك، ولكن غضبه كالعدوى انتقل إليها فهي لا تسمح لأحد مثله بالتطاول عليها، فنزعت ذراعها من يده بقوة وهي تجيبه بغضب "قولتلك معرفش مكانها، واتفضل دلوقتي اطلع بره"
وتلك المرة اعتصر ذراعيها الاثنين بقوة أكبر وهو يصرخ بها مهددًا "انطقي هي فين بدل ما تشوفي مني اللي مش هيعجبك"
تألمت ولكنها لن تُظهر، فلن تسمح بأن تكون في موضع الضعيف مرة أخرى، وقررت إن كان لا يصدقها على أية حال فلتؤكد له ظنونه إذًا
أجابته بعناد وهي تحاول تحرير ذراعيها "حتى لو عارفة مش هقولك، أنت وملك حكايتكم خلاص خلصت وهي دلوقتي بتفتح صفحة جديدة بعيد عنكـ..."
كلماتها كانت كالشرارة، أججت نيران غضبه، فلم تكد تكمل جملتها حتى أطبق يديه حول عنقها بقوة حتى خارت قواها
ظلت تتراجع، وهو يتبعها مطبقًا على عنقها،  حتى سقطت على كرسي خلفها، وبدأ هو يضغط بقوة، وهو يهذي بكلمات كـ "ملك مش لحد غيري أنتِ سامعة؟ ملك ليا أنا وبس، محدش هيقرب منها غيري، لو فكرت بس في حد تاني هقتلها.. أيوة هقتلها قبل ما تكون لحد تاني، هقتلها سامعة؟ هقتلهاااااا"
وظل يزيد من اعتصاره لرقبتها الرقيقة بين كفيه الباطشتيْن حتى احتبست أنفاسها، وبدأت شفتاهها الورديتين في التلون للون الأرجواني

أضواء في آخر النفق للكاتبة ندى محمد "ندفة نوش"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن