الفصل الثاني
لا تدرك شيئًا من الدنيا سوى صوته وهو يتوعد "هقتلهااااااا"
واللحظة التالية كانت على حافة الموت، وبعد انقطاع الأكسجين تمامًا عنها أتى هو، هو من ذبح بيديه روحها البريئة من قبل، أتى اليوم لينقذها! يا للقدر حين يسخر! ويا لها من سخرية!
حين أرادت الحياة ذبحها بدون رحمة، وحين استسلمت للموت منعها عنه، دائمًا يتفنن في سلبها حقها في الاختيار
دخل حمزة من الباب مسرعًا يبعد يد أبيه الباطشة بقوة عن عنقها، وهو يتهمه بغضب بالجنون وذهاب عقله تمامًا من أجل امرأة
حاول بكل قوته أن يسحب يدي توفيق عن عنقها الرقيق، ولكن يديه أبت أن تبتعد بلا مقابل، فلم يسمح لها بأخذ أنفاسها قبل أن تأخذ يديه السلسلة التي ترتديها دائمًا حول رقبتها، فقُطعت السلسلة، وسقطت على الأرض
بينما حاول حمزة سحبه بصعوبة محاولًا إخراجه من المكان، وإبعاده عنها، مطمئنًّا إلى صوت سعالها االشديد وهي تناشد الهواء ليدخل رئتيها؛ مما يعني أنها لم تمت بعد، على الأقل ليس من دون إذنه
توقف للحظة ينظر إليها، إلى وجهها الشاحب، آثار الازرقاق على شفتيها، عينيها الدامعتين وهي تنظر لهما بغضبٍ لا يليق إلا بجمالهما، وبدون كلمة تحرك ساحبًا الثمِل مغادرًا المكان
صادف صباح على الباب التي ما أن رأته أوقعت الأغراض التي تحملها متفاجئة من وجودهما، فأشار إليها برأسه أن تدخل لتطمئن على المسكينة التي كاد أبوه أن يرسلها في رحلة أبدية لا عودة منها
دخلت صباح مسرعة تطمئن عليها "أنتِ كويسة يا ست سمر؟"
أبعدت سمر يدها بإباء، وأشاحت بوجهها متظاهرة بالثبات بينما لا تزال تسعل، نهضت بصعوبة، ومشت بترنح خطوات حتى وصلت إلى موضع السلسلة، انحنت لتلتقطها بأيد مرتعشة، أحكمت قبضتها عليها، وهي تلتقط المزيد من الهواء
جاهدت لتسأل بصوت لا زال مختنقًا "ملك فين؟"
أجابتها صباح "الست ملك خرجت مع الست ليليان الصبح بيقولوا هيجهزوا في قصر أستاذ حسين عشان الحفلة بالليل"
********************
فتحت إحدى الخدم باب قصر حسين لتدلف سمر وهي تلف وشاح على رقبتها تخفي به آثار ما حدث، وسألتها بتعجل "ملك فين؟"
تفحصها الخادمة من أعلى لأسفل، وسألتها "مين حضرتك؟"
تركتها سمر ودخلت بينما تجيبها "بنتها، هي فين؟"
أشارت لها على الدرج لتصعد سمر بسرعة، وجدت الغرفة، فدخلت بسرعة، وجدت ملك منشغلة مع مصففة الشعر، والمصممة، والكثير من الناس أتوا لتجهيزها
نادتها سمر وهي تقترب منها بسرعة "ملك لازم نتكلم"
تعجبت ملك من وجودها "ايه ده أنتِ جيتِ؟"
ثم التفتت للمصففة تأمرها "الحتة ده مش مضبوطة عيديها تاني"
أصرت سمر بنفاد صبر "ملك بقولك لازم نتكلم"
أخبرتها ملك بلا مبالاة وهي مشغولة مع مصففة الشعر "ما تنطقي"
وضحت لها سمر "لوحدنا"
تأففت ملك "مش فاضية للدلع ده أنا، اخلصي لو عندك حاجة قوليها بسرعة"
تنهدت سمر تستعيد هدوءها، وكررت "لازم تلغي الحفلة ده لأن تو..."
قاطعتها ملك وهي تقف بحدة "نعم! ألغي ايه؟ أنتِ اتجننتِ ولا ايه؟ شغل العيال ده ملوش داعي دلوقتي"
حاولت سمر التوضيح "يا ملك.."
ولكن ملك لم تسمع، وقاطعتها بتحذير وهي تضغط على ذراع سمر تغرس أظافرها به بغضب "سمر!!! النهاردة يوم جوازي، عايزة تحضري أو متحضريش أنتِ حرة، بس اوعي.. اوعي تدي لنفسك قيمة أكثر من كده.. متخدعيش نفسك، أنتِ عارفة إني كده كده هعمل اللي أنا عايزاه، ومش هسمحلك تقفي في طريقي"
ثم أكملت بهمس غاضب "كفاية أوي إني جبتك غلط على الدنيا و مش هسمح للغلط ده إنه يدمر حياتي، سامعة؟"
تركت ذراعها بعنف، وهي تجلس مرة أخرى محاولة استعادة هدوءها، وأخبرت المصففة أن تتابع عملها بغرور
بينما ظلت سمر تنظر للا شيء أمامها، تجز أسنانها، وتحبس دموع الإهانة التي لا تنسى ملك يومًا أن تلقيها بوجهها؛ فدائمًا تخبرها أنها خطؤها، وهي لا تدري ما ذنبها إن هي أخطأت ذات يوم وتزوجت أبيها الذي تخلى عنهما
ابتلعت غصة علقت بحلقها، وانسحبت بسرعة قبل أن تتساقط دموعها، رحلت غاضبة، وهي تنوي أن تترك ملك لتتحمل نتيجة اختياراتها، لقد حاولت تحذيرها، وهي من لم تسمع، إذًا سقط عنها الذنب إن حدث شيء
خرجت سمر مسرعة من الغرفة باتجاه الدرج، وإذا بها تصطدم بمعاذ مرة أخرى؛ فسقط وشاحها عن رقبتها، نظرت بعينيها الدامعتين نحوه، صُدم حين رأى دموعها، تأملت عيناه الغضب المكبوت في أعماقها، ثم انسابت نظراته إلى رقبتها؛ فاتسعت عيناه وهو يرى جروح رقبتها التي بدت له بوضوح كعلامات خنق!
رفع عينيه مرة أخرى بتساؤل لم يتجاوز عينيه، فأدركت هي ما ينظر إليه، وتلقائيًّا وضعت يدها حول رقبتها تخفي ما يمكن، وانحنت تلتقط وشاحها سريعًا، وحاولت المغادرة، فأمسك بكفها لتتوقف، وسألها "أنتِ كويسة؟"
هزت رأسها بالإيجاب وهي تضغط شفتيها تمنع رغبتها العارمة بالبكاء "أها.. متشغلش بالك"
وغادرت تفر من نظراته التي تشعر بها وإن لم ترها، ولكن أوقفها صوت ليليان وهي تسير باتجاهها "ايه ده أنتِ جيتِ؟"
تخطتها لتغادر، فهمست ليليان بمكر "أنتِ عارفة أن ملك مش هتعديها لو محضرتيش"
مشت خطوة أخرى غير عابئة بهذيانها، قبل أن تقف مترددة وتردد صوت توفيق في عقلها "هقتلهااااا"
تنهدت باستسلام، ثم التفتت إلى ليليان قائلة بلامبالاة "عندك حاجة ألبسها مش كده؟"
ولم تنتظر بل اتجهت مباشرة للغرفة التي خرجت منها ليليان لتنتقي لها شيئًا مناسبًا، فبالتأكيد ليليان قد أحضرت معها أشياء كثيرة كعادتها في المبالغة
دخلت تفتش بين ثيابها، ولحقت بها ليليان "أنتِ بتعملي ايه؟ ده لبسي أنا على فكرة"
تجاهلتها وهي مازالت تبحث عن شيء مناسب لا يكون عاريًا ولا مفتوح من ناحية الظهر تحديدًا
********************
انتهي الكأس للتو؛ فقام توفيق مترنحًا يحضر باقي القنينة ليضعها بجانبه؛ فسمع أحد الحرس الذين وضعهم ابنه عليه يقول لزميله "الباشا منبه إننا نركز أوي النهاردة بالذات و منسيبوش يخرج أبدًا"
التمعت عينا توفيق بجنون وهو يهمس لنفسه "هتتجوز النهاردة!"
********************
وقفت هي بتوتر تراقب الجمع، تم وضع اللمسات الأخيرة، وكل شيء أصبح جاهزا تقريبًا، الجميع منشغل، وهي تراقب المدخل فقد يأتي ذلك المجنون في أي لحظة
وقفت تراقب هذا العالم، العالم الذي تخلت أمها عنها لأجله، هل كان يستحق؟ الحفلات والأزياء والمجوهرات وتلك الابتسامات المتكلفة، هل استحق حقًّا أن تفترق عن أمها، وتعاني لسنوات؟ هل هو أغلى وأهم عند أمها منها؟ هل كان يستحق؟!
وأخيرًا ظهر العروسان، وانهالت عليهما عبارات التهنئة والمباركات، بينما هي ازدادت توترًا، وبعد قليل من اللاشيء هدأت قليلًا، وبدا لها أن تهديده كان مجرد تهديد عابر نتيجة الثمالة، فذهبت تحضر لنفسها كأس عصير تبلل بيه حلقها الذي جف من التوتر
********************
عاد حمزة إلى بيته مرهقًا يدلك رقبته بيده، سأل عن أبيه فأحنى الحارس رأسه
ضيق حمزة عينيه السوداوين محذرًا "توفيق فين؟"
وحين لم يجد جواب انقض على الرجل يقبض على رقبته هادرًا فيه بغضب "قُلتله ايه؟"
ابتلع الشاب الضخم ريقه بتوتر قبل أن يخرج صوته متقطعًا "فتح رأس هشام وكان هيموته فاضطرينا نقوله مكان ال..."
وقبل أن يكمل كان حمزة يركض للخارج صائحًا "حسابي معاكم بعدين"
********************
مدت يدها تحمل كأسًا حينما سمعت صوتًا ناعمًا يصدر من فتاة أشبه بأميرات قصص الخيال
تحدثت إليها سالي "مش عارفة ايه مناسبة الاحتفال بالجواز في السن ده؟"
رمقتها سمر بطرف عينها، ولم تهتم؛ فأكملت الفتاة تعرّف نفسها بدون مقدمات، وهي تضغط على كل كلمة "أنا سالي خطيبة معاذ وهنتجوز قريب جدا"
سمر نظرت إليها تتأمل فستانها الرقيق وملامحها الجميلة، ولم تعقب؛ مما أغاظ الفتاة؛ فهتفت "ايه؟ مش ناوية تردي؟"
أجابت سمر باقتضاب وهي تتجول بعينيها تطمئن على الأجواء التي ما تزال تشغلها "وأنا سمر"
رفعت سالي حاجبها مستهجنة "ايه قلة الذوق ده؟ أنتِ محدش رباكِ قبل كده؟"
رفعت سمر نظرها إليها لا تدري ما سبب شجار تلك الغريبة معها من اللاشيء، وتنهدت تستدعي صبرًا، وأشاحت بنظرها معلنة عدم رغبتها في المجادلة
ولمّا لم ترد، لوحت سالي بكفها بعصبية أمام وجه سمر "هاي بكلمك، أنتِ متخلفة ولا ايه؟"
في تلك اللحظة أتى معاذ حين لمح خطيبته تقف معها متسائلًا "فيه حاجة؟ واقفين كده ليه؟"
ردت سالي وهي ترفع كتفيها "مش عارفة بحاول أتعرف عليها، بس شكلها عبيطة باين"
أنبها معاذ بصوت منخفض "سالي!"
بينما رمقتها سمر بطرف عينها قبل أن تلتفت محاولة المغادرة، لتتجنب شجارًا لا داعي له، مما جعل سالي تستشيط غضبًا كونها الوحيدة التي تبدو بشكل سيء؛ لذا أمسكت ذراعها التي تحمل العصير هاتفة بها "ايه قلة الأدب و الوقاحة اللي أنتِ فيها ده؟"
نظرت سمر بطرف عينها ليدها الممسكة بذراعها، ثم إلى وجهها، لقد ضغطت عليها كثيرًا، وللأسف اختارت اليوم الخطأ لفعل ذلك؛ فقد نفد صبرها ولن تتحمل هراءها كثيرًا
بلحظة ألقت العصير على فستانها الجميل؛ فتلطخ بالكامل؛ فانفزعت سالي وهرعت تحاول تنفض السائل بيدها عن الفستان
وضعت سمر يدها على فمها تمثل الصدمة، وبلكنة أجنبية ونبرة مصطنعة للغاية "أوووووبس.....سوووري"
ثم في لحظة عادت ملامحها بدون تعبير والتفتت لتغادر، فأوقفتها يد معاذ الممسكة بذراعها بغضب تلفها لمواجهته من جديد، وهتف بعدم تصديق "ايه اللي عملتيه ده؟"
وأثناء لفه لجسدها لمحت ما كانت تخشاه، حاولت إفلات يدها منه برعب وهي تلتفت للوراء لتتأكد مما لمحته للتو، دون أن ترد عليه حتى
لما شعر بها تحاول التملص من جريمتها شدد قبضته عليها كي لا تفلت منه، وتصاعد غضبه بالرغم من تعجبه لخوفها فجأة بعد أن كانت لا مبالية، وكأنها تحولت من أسد يستيقظ من نومه بكل استرخاء إلى قط مذعور فجأة!
ولكنه لم يملك الوقت ليفهم، واستنكر فعلتها "أنتِ مجنونة؟ ازاى تعملي كده؟"
أما هي فلم تسمع حتى ما قاله، وتضاعف ذعرها، وازدادت حركاتها عنفًا وهي تحاول التملص منه، وعيناها تتنقل بين والدتها والسلاح الذي رأته مصوبًا تجاهها وهي تهمس بقلق "ملك!!!"
تطلعت نحوه بغضب وذعر صارخة "اوعي، ملاااااك"
لا يدري أهو من تركها أم هي من استطاعت دفعه والركض بلمح البصر تجاه أمها صارخة "ملاااااك!"
وقبل أن يستوعب أحدًا ما يحدث، ألقت سمر بجسدها أمام أمها معترضة طريق الرصاصة، فرشقت بظهرها
جاهدت لتظل واقفة لثوان، احتلت فيها معالم الألم وجهها، وانسابت دموعها من شدة الألم وهي تنظر لملك بوجع تتأكد من كونها بخير، فكانت ملك هي آخر ما رأته قبل أن يهوي جسدها أرضًا غارقة في دمائها
ركض معاذ إليها بينما ركض الجميع إما إليها وإما هربًا من المكان، وتعالت أصوات الفزع، ودب الرعب في النفوس
تجمع حولها معاذ وحسين وملك وحسام، احتضنتها ملك بأيد مرتعشة هامسة بذهول "سمر!"
كانت سمر بين الوعي واللاوعي، لا تدري هل ملك تقلق عليها حقا أم أنها تخاريف وأمنيات ما قبل الموت؟
قال حسين في قلق "لازم تروح المستشفى بسرعة"
انحنى معاذ لحملها، ولكنها قاومت بضعف، تحاول أن تتمسك بثياب أمها محاولة البقاء بهذا الحضن الذي لم تشعر به من قبل
لمَ عليه أن يحملها و يبعدها الآن؟ هل لينقذها؟ هي لا تريد.. فلم تكن لتحلم يومًا أن تموت بهذه الطريقة، ذلك الموت الذي لطالما انتظرته جاءها بصورة رائعة: بين أحضان أمها!
لا تريده أن ينقذها أو ما شابه فلقد اكتفت من الحياة وآلامها ورغبت بالموت وها قد أتى، لا تريده أن يفرقها عن هذا الحضن الذي يبدو لها دافئ.. دافئ للغاية
********************
استيقظت فتحية من نومها فزعة تردد "بسم الله الرحمن الرحيم.. بسم الله الرحمن الرحيم"
مد زوجها محمود يده يضئ الغرفة، مستفسرًا "خير فيه ايه؟"
أجابته فتحية بقلق "قلبي واكلني ع البت، حاسة حصلها حاجة"
زفر محمود بينما يعود تحت الغطاء من جديد موليًا إياها ظهره، وقال "البت اللي مموتة نفسك عليها ده مش بنتنا، وهي خلاص اختارت طريقها بعيد عننا"
أغمض عينيه لينام، وطالعته هي بألم، تتساءل كيف لم يسامحها أو يحن لها ولو مرة واحدة؟
بينما هو فتح عينه من جديد شاخصًا ببصره للاشيء، وقد انتقل إليه قلقها
********************
أرسل حمزة أبيه للمنزل، وذهب بنفسه مباشرة إلى المشفى يستطلع الأخبار
أخبره السائق وهو يفك حزام الأمان يَهم بالنزول "ثواني وهعرفلك الأخبار يا حمزة بيه"
نظر حمزة مطولًا لباب المشفى، ثم أوقف سائقه آمرًا "خليك أنت"
وفتح باب السيارة مترجلًا بخطوات ثابتة ونفس ثقيل، لا يعرف ما أصابها؛ فلم يرى سوى جسدها يتهاوى أرضًا بعد لحظات من إطلاق والده الرصاص
صعد إلى طابق غرف العمليات، ووقف بعيدًا بمسافة كافية كي لا يُرى، بينما يسمع الطبيب يُطمئن ملك والآخرين عن حالتها، تبعه طاقم التمريض يخرجونها من غرفة العمليات غير واعية؛ لينقلوها إلى غرفة أخرى
تبعهم من بعيد بجمود، ولم تفارق عيناه ملامحها النائمة بسلام حتى وصلوا للغرفة، و بينما يدخلونها رأته ملك، جحظت عيناها وهي تستوعب أخيرًا ما يحدث
دخلت الغرفة بتوتر، وخرجت إليه بعد أن اطمأنت لاستقرار ابنتها، بينما وقف هو يستقبلها ببرود
ضربت صدره العريض بكفيها؛ فلم يهتز، وحاولت خفض صوتها قدر استطاعتها وهي تصيح فيه بغضب "لو بنتي كان حصلها حاجة كنت دفنتك"
ابتسم بزاوية فمه، ورفع حاجبًا ساخرًا "بنتك؟ من امتا؟"
اشتعل الغضب بعينيها، وهمت تضرب صدره مرة أخرى، فأمسك هو بكلتا يديها ببرود مانعًا إياها من الوصول إليه، وتحدث من بين أسنانه متشفيًا بها "متهيألي حذرتك قبل كده كتير تبعدي عن طريقي عشان هي متتأذيش وأنت اللي اختارتِ"
نفضها من يده بـِكُرْه، وتابع "يبقى متلوميش إلا نفسك"
********************
دخل حمزة قصره بخطوات واسعة يكور قبضته، و يستعر الغضب بعينيه ينوي الفتك بأي مَن يقف بطريقه، أمسك بأحد الحراس دافعًا إياه نحو الحائط هادرًا فيه "أنتم ازاي تسمحوله يخرج وأنا محذركم قبل ما أمشي"
تحدث الحارس مبررًّا - ولو تعمد إشعال غضبه لن يقول مثل تلك العبارة الحمقاء- "والله يا باشا حاولنا نمنعه مقدرناش عليه، وهو كان معاه مسد.."
صاح به وهو يشدد قبضته على عنقه، وجسده يهتز من الغضب "مقدرتوش ايه؟ أمال أنا جايبكم ليه؟؟"
جاء رجل آخر محاولًا تخليص زميله من رب عملهم "توفيق بيه فوق يا باشا وحالته مش كويسة"
تركت يداه عنق الحارس الذي بدأ يسعل بشدة، ونظر للآخر بغضب قبل أن يرفس قصبة رجله بقوة كاد يكسرها، وتركه متألمًا، وصعد لأبيه يقطع بكل خطوة ثلاثة أو أربعة سلالم
دخل فوجد توفيق يهذي بكلمات غير مفهومة بينما يرتعش جسده من الخوف، تأمله لثوانٍ لا يدري ماذا يفعل به الآن
وأخيرًا نطق وهو يجز أسنانه "لما أنت جبان كده، عامل فيها روميو ليه؟"
سأله توفيق بخوف "ايه اللي حصل؟ ماتت؟ أنا قتلتها؟"
ابتسم حمزة ساخرًا "ايه؟ خايف؟"
نظر توفيق بأعين زائغة، بينما توحشت نظرات حمزة، وسأله بجدية مخيفة "قولي بقا ايه اللي حصل بالضبط؟"
********************
فتحت سمر عينيها بعد بعض الوقت، وسرعان ما أغلقتهما مجددًا متحاشية الضوء الذي سطع فيهما، سمعت حولها همهمات؛ ففتحهما مجددا ببطء
أبصرت ملك جالسة بجوار سريرها تتطلع إليها، لحظات ظنت أنها تحلم وهي تتأمل وجه ملك التي هبت واقفة، فتطلعت إليها سمر بأمل اختفى سريعًا حين ألقت ملك بنفسها في حضن زوجها الجديد وليس هي!
وأدركت كم هي ساذجة لتنخدع في كل مرة! فملك لن تضيع الفرصة بالطبع للتقرب منه والتأثير فيه
أشاحت بوجهها للجهة الأخرى وهي تعض شفتها تكتم أهة مريرة كادت تفلت من بينهما، وسمحت لعبرة وحيدة مثلها بالانسياب من بين جفنيها وهي تطبقهما بألم
هنأتها ليليان بسخرية "حمدالله ع السلامة يا سوبر هيرو"
لم تبالي بها سمر، وأخذت شهيقًا طويلًا؛ فتوجعت، ثم أطلقت زفيرًا ببطء تحاول استعادة صبرها بلا مبالاة
تحدث حسين بحنان "حمدالله ع سلامتك يا بنتي ربنا يقومك بالسلامة ويطمنا عليكِ"
غمغمت سمر "الله يسلمك"
طرقات على الباب، سُمِحَ بعدها للطبيب بالدخول ليطمئن عليها، ألقي بضع تعليمات، ثم أخبرهم بتواجد ضابط بالخارج يود التحدث مع المصابة
دب الخوف في قلب ملك وهي تتبادل النظرات مع سمر، ففهمت سمر أنه حتى في هذا الموقف لا تريدها ملك أن تخبر أحدًا شيئًا
فأشاحت بنظرها عن ملك التي اضطرت للخروج عند دخول الضابط، وقد قررت إخبار الضابط بكل شيء عنادًا بملك ليس إلا
خرج الجميع وقد تملك القلق من ملك، وحين رأت شابًّا يحمل باقة كبيرة من الورود اتجه ناحيتهم يسأل عن غرفة سمر، أشارت إليها بلهفة، وفتحت له الباب بسرعة ليدخل بينما تمد هي عنقها محاولة معرفة ما يدور في الداخل
دخل الشاب و سلم الورد لسمر وخرج ، وأغلق الباب أمام وجه ملك
التقطت سمر البطاقة التي تحمل كلمات غامضة:
"يا وردة مكانها في البستان، أتمنى لك السلام
ليس كل ما في القلب يُحكى، فبعض الصمت أجمل
لا تكتمل سعادة الإنسان إلا عندما تعود روحه إلى العالم الآخر"
H.Z.
رجفة قوية سرت بقلبها، وهي تمرر عينيها على توقيعه الذي ذيل البطاقة بعد كلمات يعرف أنه لن يترجمها سواها، تبدو للوهلة الأولى عبارات متفرقة وبلا معنى، ولكنها تقرأها جيدًا
العبارة الأولى يخبرها أنه "يتمنى لها أن تعيش بهدوء أو سلام"
والثانية "وهذا لن يتحقق إلا إن التزمت الصمت"
والثالثة "وإلا فالموت هو منجاها الوحيد من براثنه"
واسمه الذي ذيل البطاقة وحده، تدرك جيدًا أنه تهديد لها ولأمها ولكل من حولها
أفاقها الضابط من دوامتها مستفسرًا "فيه حاجة يا آنسة سمر؟"
ابتلعت ريقها متظاهرة بالثبات وهي تجيب بهدوء "لأ مفيش حاجة"
تابع الضابط "طب يلا نكمل، قولتيلي بقا شوفتِ اللي ضرب على مدام ملك النار؟"
راوغته سمر بالإجابة "ملك؟ مين اللي قال لحضرتك أنه كان قاصدها أصلًا؟"
أجابها الضابط "البشمهندس معاذ قال إنك لما شوفتِ المجرم ناديتِ على مدام ملك"
نفت سمر بهدوء "أيوة ده الطبيعي في حالتي إني أقلق عليها هي لما ألاقي مسدس متصوب ناحيتها، إنما أنا معرفش القاتل كان يقصد مين بالضبط"
ضيق الضابط عينيه بريبة، وسألها "قصدك إنك مشوفتيهوش؟"
تابعت سمر كذبتها بإحكام "لا شوفته بس معرفش هو مين"
مط شفتيه بعدم اقتناع، ثم سألها "يعني لو شوفتيه تعرفيه؟"
أنكرت سمر "لا الدنيا كانت ضلمة وملامحه مكانتش باينة"
حاصرها سائلًا بشك "أمال شوفتِ المسدس ازاي والدنيا ضلمة؟"
أجابته بتوتر "قصدى يعني إنه.. كان ملثم"
ضيق الضابط عينيه، وسألها "يعني الدنيا كانت ضلمة ولا هو اللي كان ملثم؟"
أجابت بثقة مصطنعة "الاتنين"
استنكر الضابط "ازاي يعني؟"
أصرت على إجابتها بثقة "زي ما حضرتك سمعت الدنيا كانت ضلمة وهو ملثم، وأنا مشوفتش إلا المسدس متوجه ناحية ملك و.. أونكل حسين"
أخذ نفسًا بنفاد صبر، وأبلغها بقلة حيلة "طب أنا هسيبك ترتاحي شوية ولو افتكرتِ حاجة تانية يا ريت تبلغيني فورًا"
********************
انتظرت ملك بالخارج كمن يتقلب على جمر، وبمجرد خروج الضابط دخلت متلهفة تسأل بخفوت قبل دخول أحد "ها عملتِ ايه؟"
لم ترد سمر، وأشاحت بنظرها مما أشعل غضب ملك؛ فأمسكتها من ذراعها المصاب تضغط عليه "بت أنتِ اتعدلي وانطقي قولتِ ايه؟"
تحملت سمر ألم ذراعها تأبى أن تظهر ألمها، وزأرت بها كأسد جريح "ابعدي عني"
دخل حسين ومعاذ على صوتها، وسأل حسين "فيه ايه مالكم؟"
اعتذرت ملك باصطناع "أنا أسفة يا بنتي مكنش قصدي حقك عليا"
ثم التفتت تجيب حسين "أصلي كنت بحاول أساعدها تنام خبطت ذراعها بالغلط"
وهنا انتهت قوة تحملها، هل هذا كل ما يهم أمها الآن، ما قالته للضابط ومظهرها أمام زوجها!!!
ألا تهتم لها أبدا؟؟
أومأ حسين متفهمًا "حصل خير، حمد الله ع سلامتك مرة تانية"
ثم التفت لملك يسألها "هتروحي معانا ولا ايه؟"
نفت ملك "لأ طبعًا مش هقدر أسيب بنتي لوحد..."
قاطعتها سمر بحزم "مفيش داعي يا ملك، أنا كلمت صباح هتبات معايا، وبعد إذنك بقا عايزة أنام، واطمني يا ملك كله تمام"
قالت عباراتها الأخيرة لتفهم ملك أنها لم تقل شيئًا، وخرجوا جميعا، أما هي عضت شفتيها تحاول السيطرة على رغبة البكاء التي تهاجمها، وارتجافة شفتيها، ولكن لم تستطع حبس عبراتها أكثر من ذلك؛ فتسلل بعضها من عينيها منسابًا بجمود
********************
ذهب معاذ يجري حوارًا مع الضابط يستفسر منه عما قالته سمر وعما توصل إليه، بينما انتظر حسين وملك بالخارج
أتت صباح مهرولة تسأل عن سمر، فأشارت ملك إليها، فجلست تلتقط أنفاسها قبل أن تدخل، ثم بتردد تعلم أنها لن تحصل على ما تريد ولكنها أرادت المحاولة "ست ملك، أنا عارفة إن الظروف مش سامحة دلوقتى بس يعني.. الست سمر كانت وعدتني بمبلغ كده نعمل بيه عملية جوزي"
نظرت لها ملك بتحذير من خلف حسين لكي تصمت، أخفضت صباح عينيها بانكسار قبل أن يرد حسين مسرعًا "ولا يهمك بكرة يكون عندك اللي أنتِ عاوزاه وزيادة"
انحنت على يده تقبلها، وتدعو له بالصحة والستر، وهو سحب يده بسرعة، وربت على ظهرها بشفقة
********************
في اليوم التالي كانوا يجلسون على طاولة الفطور بينما تتحدث ملك مع سمر على الهاتف، أنهت المكالمة وأخبرتهم "قالت مفيش داعي نروح وإنها خلاص هتخرج"
اعترض حسين "وده ينفع برده تخرج لوحدها خالص!"
تنهدت ملك، وقالت بتعب "والله غلبت معاها مش راضية تريحني أبدا، دماغها أنشف من الحجر الصوان، قولتلها هبعتلك السواق"
اعترض حسين مجددًا "لأ مينفعش الكلام ده، ع الأقل معاذ يروح يخرجها"
تدخل معاذ "أمرك يا سحس"
وتدخلت ليليان "وأنا ممكن أروح معاه"
********************
جلست ليليان بجانبه في السيارة وهي متحمسة، حاولت فتح الحديث "أتمنى إننا مش معطلينك عن حاجة"
رد معاذ دون أن ينظر "لا أبدا"
ابتسمت تشكره "متشكرة جدا تعبناك معانا"
أجاب باقتضاب "ده واجبي"
بدا لها باردًا كأبطال الروايات التى تقرؤها، وهذا ما جعل قلبها يتحمس بشدة؛ فابتسمت بخجل!
وصلا، فأخبرها أن تسبقه بينما يتمم هو إجراءات الخروج
دخلت ليليان لأختها بملل، لمحتها سمر بطرف عينها، وتابعت إغلاق أزرار قميصها بيد واحدة بلا اهتمام
أخبرتها ليليان "معاذ جه معايا تحت زمانه طالع"
ردت بلا مبالاة "أها"
وأكملت ما تفعله بهدوء حتى سمعتا طرقات على الباب، فاضطربت وسرت رعشة بجسدها حين تعرفت على طرقاته المميزة التي طالما سمعتها
لم ينتظر هو إجابة، ودخل مباشرة وهو يخطو خطوات متناغمة، خطوة.. فأخرى، وقلبها يرتجف أكثر مع كل خطوة، ولكنها تظاهرت بالعكس، وحافظت على ملامح وجهها شامخة في مواجهته، حتى اقترب منها
حيته ليليان "ازيك يا أبيه"
تجاهلها حمزة آمرًا "ليليان سيبينا لوحدنا شوية"**انتهى الفصل
مستنية رأيكم يا قمرات♥️
أنت تقرأ
أضواء في آخر النفق للكاتبة ندى محمد "ندفة نوش"
Romanceهي قضت عمرها في بحر الحياة، تتألم، و تخوض المغامرات الواحدة تلو الاخرى، وتركب الأخطار، تتلاطمها الأمواج بين الشرق للغرب، لا تعرف مستقرًا، ولا ترسو على شاطئ أما هو كان صقر متوجًا في السماء، يرى الأرض من مسافة بعيدة، ولا يهبط إليها إلا كلمح البصر، وي...