الفصل الرابع عشر: جزاءُ العدو.

72 7 1
                                    

انتصف القمر بديجور سماء الليل ذات النسيم البارد، السكون غلف أرجاء العاصمة والسكان غطوا في نومٍ عميق غير دارين بما يُحاك خلف ظهورهم بين النبلاء أو بين الأفراد الملكييين، وبين حثالة المجتمع في الشوارع والأزقة التي لا يجرؤ أحدٌ على دخولها، خاصة في أحدِ المنازل المهجورة بضواحي المدينة حيث نمت في أعماقه شتى أنواع الحشائش و الزرع، يشمخ فوق الإسمنت المتهالك الذي عفا عليه الزمن، تصطف حوله أشجار عارية تتربع فوقها أعشاش غربان تنعق بصوتها الحاد الذي يزيد من وحشة المكان، لكن الجوّ المرعب حوله لم يكن رادعًا لتقدم أحدِ البشرِ الذين فقدوا انسانيتهم منه، يقفُ أمامه واضعًا يديه في جوف جيوبه ويرمقُ المدخلَ بنظرةٍ فارغة تعكسُ سكون روحه، وبعد ثوانٍ قليلة للتأكدِ من العنوان تقدم لاقتحامِ المنزل متجنبًا الباب المكسور في خطاه ثم أخرج ولاعة وأشعل لهيبها حتى يتمكن من تبين الطرق إلى مبتغاه.

خطواته البطيئة كانت مقرونة بصوتِ صريرٍ مزعجٍ للأرضية الخشبية، فتأفف ساخطًا بينما يلمحُ كل الزوايا والأثاث المكسور وهو يتساءل في نفسه عن سببِ اختيار زملائه لهذا المكان للمكوث، تسللت إلى أهدابِ أنفه رائحةٌ مقرفة يعرفها جيدًا فأثير فضوله وانقاد إلى مصدرها حيث ما تبينه مطبخًا.. أو ما تبقى من المطبخ، في وسطهِ وُجدت كتلةُ لحمٍ متعفنة تسير الديدان والحشرات في سبيلها لنهشها ببطء حتى ما عاد شكلها واضحًا للعيان، لكن الرجل تمكن من معرفة هويتها فتمتم مضيقًا عينيه البندقيتين: "جثة كلب.. لم يكن هذا الشيء موجودًا هنا آخر مرة."

لم يطل الرجل البقاء أكثر من ذلك فقد تجاوز الجثة وإلى مبتغاه سعى حيث تربعَ بابٌ مكسور القفل يقودُ إلى أدراجٍ سفلية نحو القبو ومنه إنارة خافتة صفراء كانت قادمة، مضى في طريقه حتى وصلَّ للغرفة المنشودة حيث وَجد بها صبيًا داكن الشعر قرمزيّ العينين يجلس على مقعدٍ واضعًا قدمًا فوق ركبة الأخرى يسندُ وجنته على قبضته، ثيابه العلوية مرمية باهمال فيظهر صدره الصلب وبناء جسده الذي لا يدلّ على سنّه الذي لم يتجاوز السادسة عشر، فأكتافه العريضة وعضلات بطنه التي ما تزال في طريقها للنمو محدبة ومزينة بكدماتٍ وندوبٍ قديمة وحديثة، أكبرُها جرح طويل شق صدره بخطٍ مائل حيثُ كانتْ شابة تجلسُ القرفصاء بجانبه تغرزُ الابر وعلى شفيرٍ من انهاءِ عمليتها، بتركيزٍ تامٍ تخيطُ الجرح كما كانت تفعلُ دائمًا لمريضها الذي لم تعد آلامُ الخياطة تؤثر به أو توقظه من سراديب عقله.

ظلَّ الرجل الضيف واقفًا عند نهاية الدرج يراقب عملية الخياطة بملل وينتظر أن يتم الترحيب بحضوره، وبعدما أدركَ أن  وجوده غير مرئيٌ لا للفتى ولا للشابة سعل مرتين متعمدًا فيرتجف جسدُ الطبيبة وتطلق صرخة فزعة وهي تغرزُ دون وعي ابرتها في موضعٍ خاطئ وبشكلٍ أعمق صانعةً جرحًا جديدا فاقشعرَ جسدُ الجالس ودفعها عنه هاتفًا بغضب: "بربك حاذري!"

آليخاندريا - Alexanderiaحيث تعيش القصص. اكتشف الآن