الفصل الخامس والعشرون

163 13 7
                                    

كلبشات دموية
"الجلسة الأخيرة"
ــــــــــــــــــــــــــــــ

بوجه جامد ألقاها وعيناه لا تبرحان عينيها، تلكما العينين الصافيتين اللتين لاح فيهما الاستغراب، لم تختفِ ابتسامتها وصوتها الناعم يخرج بتساؤلها: بشار مين؟

ظل يحدق إليها بنظرات لم تفهمها، وشعر بتزاحم الحروف فوق شفتيه كما لو أنها في سباق وعر للخروج من جوفه، أراد أن يتقيأ كلماته، وشعر بالتشتيت وبالدنيا تدور أمام عينيه، يبتلع لعابه كما لو كان علقمًا، ويتنفس كما لو كان يسحب نارًا لا شهيقًا، حتى نطق بصوت لم يعرف أكان ردًّا على سؤالها أم سؤالًا لكلمته: اسم ابننا.

فغر فوها دهشة مأخوذة بكلمته، ظلت تنظر إليه ترمش بعينيها واحمرار قانٍ يزحف بخبث إلى وجنتيها، لتهمس مرددة الكلمة التي وقعت في نفسها وقعًا رنانًا: ابننا !

بماذا تفوّه بحق خالق السماء !
ماذا دهاه ليرمي بكلماته دون اعتبار أو حسبان؟ ماذا يحدث إليه في حضرتها إذ لا يدري بما يتفوه أو ماذا يقول، فقد يجد لسانه يبعثر الكلمات بعشوائية في كل حدب وصوب حتى يكتشف تلك الأخطاء الشنيعة التي يقع بها وتلك الذلات التي لا تُغتفر.
فقط لو يصمت فوه حابسًا لكلماته، لو يكتفي بالتحديق إليها فقط دون حديث لكان أهون عليه ولكانت مهمته أيسر من اليُسر.

تملكه الغضب من ذاته، متى أصبحت بذلك التسرع يا بشار؟ متى أصابتك الرعونة وباتت لعنةً تقودك إلى هاوية أشد خطورة من كل ما وقعت به مسبقا، لكن غضبه تلاشى وهو يرى عينيها تنخفضان إلى الحرف المرتاح فوق صدرها، تتلمسه بأصابعها الرقيقة وكأنها تلصقه بقلبها، وكأنها تلامس طفلًا بحق، قبل أن ترفع نظراتها المحبة إليه هامسة بصوتها الأخاذ: اسم جميل أوي يا فريد، متأكدة إننا لو جبنا طفل هيكون شبهك، هياخد طباعك وملامحك، وعيونك.

أتعبته، لقد أتعبته وأهلكته وكأنها على اتفاق هي والقدر على أن تنزع روحه من بين ضلوعه بقسوة لم يعد يتحملها، وكيف يخبرها بأن ذلك الصغير الذي تتمنى أن يكون مثله ليس سواه الذي يقف أمامها، كيف يهتف بها أن أنا بشار؟ أنا بشار !

كيف يخبرها عن أمنية اختبأت في زاوية بعيدة في فؤاده وهو أن يسمعها تناديه باسمه، يسمع حروفه الأربعة تنساب بنعومة من بين شفتيها بادئة بِباء البوح، منتهية بِراء الروح.

- يلا بينا.

كلمة نطق بها لم تدرِ بعدها ما حل، إذ ها هي تجلس بجانبه في سيارته يقودها قاطعًا الطرقات المظلمة كعينيه، الهادئة عكس ما يحدث بداخله، كانت تجلس وفستانها المنفوش قد مال ليلامسه وهو جالس في مكانه بنعومته الحريرية، احتضنت كفيها إلى صدرها وأصابعها ما زالت تتلاعب بحرف الباء المرتاح فوق قلبها، كانت تختلس النظرات إليه كل لحظة ترى انعكاس أضواء الشوارع الخافتة فوق ملاحه المتصلبة الجامدة جمودًا لا يزول وكأنه خُلق من الجليد.

كلبشات دموية (الجزء الثالث من همسات العشق)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن