الفصل الأول

497 15 6
                                    

كلبشات دموية
"حكاية صورة"
ــــــــــــــــــــــــــ

عمَّ الصمت أرجاء الشوارع المظلمة، إلا من نور ضعيف يبرق في السماء لينير الجو خاطفًا الأبصار، صواعق تتضارب في مظهر مهيب، أصوات الرعد تجلجل في السماء كصراخ شخص مُعذَّب يُجلَد بسوطٍ غليظ، ولم يكتفيا كلا من الرعد والبرق ليأتيا بمفردهما بل كان فيهما من الوفاء ما جعلهما لا ينسيان صديقهما المطر، الذي حضر ليكمل المشهد هيبةً وهو يضرب بسيوله ليشاركهما هذه الحرب الضارية.

اختفى كل البشر من الشوارع وغُلِّقت المحال، واختبأت الحيوانات في جحورها يسبحون الله خوفًا وترقبًا لقيام الساعة، لطالما انتظروها يوميًّا لا يغمض لهم جَفن إلا برؤية خيوط الشمس تفرد أذرعها في عنان السماء، معلنة بأن هناك يومًا آخر سيُعاش بهذا الكون الفسيح.

ورغم كل تلك الشراسة الجوية لم يهتم وهو يجلس بسيارته على قارعة الطريق، بجوار أحد الأرصفة، غير عابئ بتلك الزوابع التي تضرب سيارته مضيفة صوتًا غليظًا على غلظة الجو، ولماذا يهتم؟ والإعصار الذي ضربه وأطاح بقلبه شر إطاحة لهو أفظع وأعظم قسوةً من ذلك الطقس الذي بدا وكأنه يمازحه بتلك اللحظة، مد كفه الغليظة المليئة بالجروح المقرحة التي لطالما تجاهل معالجتها، يمسك بعلبة سجائره ليخرج إحداها من داخلها، قذفها بفمه وهو يرفع قداحته يشعلها ثم أخذ ينفث دخانها بلامبالاة ظاهرية، يرى المياة التي تغرق زجاج سيارته، والدخان المتصاعد من سيجاره، يشكلان لوحة رمادية باهتة لذكريات دُفِنَت بإحدى زوايا عقله النائية، ذلك العقل الذي يأبى أن ينسى، وذلك القلب الذي يأبى أن يرحمه ويمضي قدمًا.

حانت منه التفاته لدرج صغير بالسيارة، فتحه لينظر بداخله لما كان يجمعه كل تلك السنوات ومرر أصابعه فوقهم، شريط حريري أحمر اللون، حلق فضي، ومنديل نُقِش فوقه حروف اسمها واسمه بخيوط نُسِجت من نياط قلبه، التقط الشريط الأحمر وهو يرفعه أمام وجهه ثم قربه من أنفه يستنشقه مغمضًا عينيه بقوة، مازالت رائحة خصلاتها تقبع بهذا الشريط بعد كل هذا الوقت، تخيل رأسها بداخل حضنه تتمرمغ بصدره كما كانت تفعل دائمًا، وهو يدفن وجهه بخصلاتها يضمها إلى قلبه في حب لم يعشه إلا معها، حب نمى بقلبه منذ طفولته، نزل بأرضه وغرز بذوره ليترعرع معه.

مرر الشريط فوق شفتيه يستلذ الملمس، هذا الذي يذكره بملمسها الناعم الذي كان يغرق فيه، قبض فوق السيجار بقوة يمزقها بداخل كفه ولهيبها ينطفئ بين أصابعه، عيناه تزدادان قتامةً وقسوةً والألم يرتسم فوق ملامحه أيم ارتسام، لقد اُقتُلِعَت تلك البذور التي غرزاها سويًّا، وماتت تلك الشجرة التي نمت بزهورها وثمارها الطيبة، لتُخلفِّ وراءها أرضًا قاحلةً لم تعرف الحياة قط.

فتح عيناه وهو يعيد الشريط بمكانه ضاربًا باب الدرج بقوة، أعاد خصلاته الهائجة للخلف ومسح فوق وجهه ليستفيق، عليه أن بستفيق من تلك الثمالة التي باتت تمزقه كل ليل يمر عليه وعيناها لا تبارحان خياله، عليه أن يقتنع بأنها ذهبت مع الريح، ذهبت ولن تعود أبدًا.

كلبشات دموية (الجزء الثالث من همسات العشق)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن