الفصل الثامن عشر

160 16 6
                                    

كلبشات دموية
"خنجر مسموم"
ـــــــــــــــــــــــــــ

جلست فوق المقعد الوثير الموضوع في مواجهة شرفة غرفتها، تثني ساقيها أسفلها وهي تسند ذقنها فوق قبضتها، بنظرات شاردة وعينين منتفختين أخذت تنظر لنور السماء بالشمس الساطعة، تتأمل تحرك الأشجار أمام عينيها، تستمع لزقزقة العصافير في أذنيها، تشعر بتلك النسمات الصباحية التي دلفت لتداعب وجهها الشاحب جاعلة خصلات شعرها المقصوصة عن آخرها تتطاير فوق جبينها.

تذكرت صبا ما مرت به ليلة البارحة من ألم عصيب، عصي على قلبها أن تتحمله، وقفت أمام مرآتها تنظر في ملامحها المطموسة بالدموع، وجه شاحب وشفتان ذابلتان، عينان منطفئتان وجفنان محمرّان من كثرة البكاء وقلة النوم، ضاعت معالمها المعروفة وباتت مسخ بشع يصعب النظر إليه، شعرت بصدرها يتمزق ألمًا وكل ما فعلته ينعكس فوف وجهها بتوابع بشعة، يشعرها بالتقزز من نفسها المعطوبة وبالنفور من روحها الميتة.

استعادت صبا ذكرياتها في آخر سنتين من عمرها الصغير، تذكرت كل ما كانت تفعله، مدرستها التي كانت آخر ما تفكر فيه بيومها، ظهور طارق وأصدقائه في حياتها وانضمامها لتلك الصحبة التي ظنتها ملجأً من بيتها، ثم اندماجها معهم قلبًا وقالبًا بالتدريج لتصبح نسخةً مصغرةً منهم، كرهت حياتها ونفرت من أهلها، تمردت وعصت واهتاجت على معيشتها كلها، شعرت برغبتها في كسر كل القيود التي وُضعَت عليها من قِبل والديها، فقط لأنها ما تبقت لهما هي وشقيقها الكبير بعد موت ثلاثة من أشقائها الصغار، فازداد الخوف عليها وتزايدت معه الكلبشات التي قيدت حريتها.

ثم باتت تغوص معهم أكثر، خصوصًا معه هو الذي شغل تفكيرها منذ أول مرة قابلته بها، مالت إليه ميلًا خطيرًا وباتت ترسم أحلامًا لم تخرجها خارج حدود مخيلتها، فشخصيتها الجامدة والتي اتخذتها بعد موت توأم روحها كانت تمنعها من البوح أو الاعتراف بأي مشاعر بداخلها، حتى عرف هو كيف يتلاعب على أوتار أنوثتها الصغيرة المراهقة بحرفية ودهاء، وعرف كيف يحولها إلى فتاة تتلهفه كما كان يتلهفها بجوع مريض لإرضاء شهوته فجعلها طوع بنانه وإمرته، تحكّم في مشاعرها ليجعلها تتنازل ببطء عن كل ما تحلت به لتبدأ هي في مواصلة لعبته التي بدأها، فأكملتها بالسعي لإرضائه ونيل حبه المخادع بعينين معصوبتين.

هربت وسهرت وتعرّت، وتخطت حدودًا لم تتخيل يومًا أن تفكر فيها من الأساس، اصطدمت بالمصائب تباعًا والتي حذرتها بوضوح من اقتراب افتضاحها، لكن عنادها الأهوج وتوقها للتمرد أعمى عينيها عن شرارة التحذير الصغيرة التي تحولت فيما بعد لنار محرقة، فأمضت في ذلك الطريق الذي بدأ بجموح سافر، وانتهى بندم قاتل.

ولم تضع في حسبانها بأن لكل شخص قدرًا من الستر، وإن انبَتَّ ذلك المخزون فلن يفلح الندم بعدها، لم ترتدع وسرعت بالتجاوز حتى وجدت نفسها واقعةً في براثن ذئب لم يرحمها، لتقع فوق رأسها أكبر وأسوأ طامة وهي ترى من ظنت أنها تحبه في يوم ما، وقد سقط عنه قناع ودّه لتنكشف أنيابه الملطخة بلعابه السائل بجوع مريض.

كلبشات دموية (الجزء الثالث من همسات العشق)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن