ناظرت ساعتها، الساعة ٨:٠٠ مساءاً والسكرتيرة استأذنت وطلعت بعد خروج موضي، اما هي قعدت تخلص بعض الأشغال والمقالات اللي لازم تصدرها في الجريدة نهاية الأسبوع، رتبت كل شيء وطلعت تقفل باب المكتب وتضغط كلمة السر وتتأكد من نظام الأمن والحماية..
نزلت تحت وطلبت أوبر يوصلها للبيت بما انها جات مع راكان وسيارتها في القصر وما تبي تكلم سيف او اي سايق في القصر عشان يرجعها، لكنها انصدمت لما شافت سَيف يسفط سيارته قدام المبنى وينزل يمشي بخطوات مُثقلة وتعابير وجه ما تبشر بالخير، قرب ووقف قدامها: رهف
ناظرته بطرف عينها: اقدر ارجع البيت بروحي ترا!
يطالع عيونها العاصية المتمردة، كيف يصارحها؟ كيف يواجهها بالكلام اللي بصدره؟ وكيف يصدمها بهاللحظة..
حست رهف ان بعيونه كلام و انقبض قلبها نغزها، الشعور المُثقل اللي طلعت فيه من بيت أهلها العصر رجع عاودها الحين وهي تشوف عيون سيف غارقة بنظرة حزن وانكسار وتعاطف، الخوف سكن صدرها تقدمت تمسك ذراعه بعيون تترجاه ينفي اللي في بالها ونبرة مترددة: سيف صاير شي؟ اهلي فيهم شي؟ لا تخرعني قول!!!
ماقدر يكتمها بقلبه أكثر، نَكس غترته على أكتافه يعلن خبر حزين، قرب يبوس رأسها وبنبرة مليانة كل حزن الكون يحاول يواسيها: لله ما أخذ و لله ما أعطى، البقية في حياتج..
حست الدنيا تدور فيها وكأن اللحظة اللي تعيشها الآن غير حقيقية، تمسكت بذراع سيف بكل قوتها وسرعت كفوفه تسند ظهرها وتقومها لا تطيح، رفعت عيونها تناظره تتمنى يكذب قوله او يبرر او يفسر، تحرك ثغرها بسؤال واحد: من؟
اكلها الحزن قبل تعرف من، تركت أهلها قبل ساعات قليلة كلهم بخير في البيت، راكان بعد ما وصلها تطمنت انه رجع للبيت بسلامة لما شافت صوره مع شهد! مو قادرة تخمن ولا تبي تخمينها يطلع صح، تبي سَيف يكذب اللي قاله
غمض عيونه سيف بألم ماهو قادر يصارحها، كيف يوصل لها الخبر بدون ما يكسرها، تمالك أعصابه وحط عينه بعيونها الحايرة و نطق بنبرة حنونة: اللواء مبارك عطاج عمره..
غطت فمها بصدمة وانهمرت دموعها بدون شعور، ورفعت يدها بكل قوتها تصفع سيف كف من قوته حست بألم في كفوفها، نطقت بعدم تصديق: لا تكذب!!!!
كان الكف قوي ومؤلم بالنسبة لِـ رهف، لكن سيف ما همه الكف ولا تألم منه، هو قلبه يوجعه عليها، اخذها بحضنه يحاول يهديه: اذكري الله يا رهف
دفعته بعيد عنها: ماصدق! ابي اروح أشوفه، سيف لا تختبر صبري بأهلي ما اتحمل!! بروح لهم الحين مافيهم الا العافية
رجعت تناظره و بصوت باكي: تكفى سَيف!!
قرب يمسك كفوفها: باخذج له، تودعينه..
راحت تمشي مع سيف بعدم تصديق، وكأن الدنيا صفعتها كف قوي تذكرها بأنها يتيمة، يتيمة من ٢٥ سنة و يتيمة اليوم..
كان طريقهم للمستشفى حزين، رهف من صدمتها ما نطقت ولا حرف حتى سيل دموعها توقف، كانت هادية بشكل مُخيف و سيف طول الطريق عينه عليها يتفقدها..
وصلوا المستشفى ونزلت هي تسبقه تجر خطواتها بتثاقل، ألم كاحلها زاد من ثقل الطريق و طوله، سرع بخطواته سيف يوقف جنبها ويسندها تتكئ عليه وتخفف الضغط على كاحلها المُصاب، وصلوا لقسم ثلاجة الموتى وشافت كل أهلها موجودين، امها واخوانها و شهد و عيلة عمها مجيد؛ أدركت إن الموقف حقيقي ماهو كابوس ولا تخيلات ولا أوهام..
التقت عيونها بعيون ريم الباكية، ريم المكاحيل اللي كان الحُب والفرح يزين محاجرها بوجود مبارك، اليوم غرقت أهدابها بفيضان حزنها المُفرط، كانت ريم مفجوعة وجهها شاحب، راحت لها رهف بخطوات سريعة تحضنها: يمه..
تعالت شهقات ريم: راح وهو ساجد يا رهف، طال في سجوده وانا اللي ظنيته خاشع ما دريت روحه قابلت باريها..
صدح صوت بكاهم في الممر بأكمله، سيف واقف جنب راكان وريان يسندهم ويناظر رهف اللي انهارت في نوبة بكاء مع أمها، تحاول تهدي نفسها لكن مو قادرة واللي فجعهم اكثر حقيقة انه كان مريض ويعاني لوحده بدون ما يخبرهم بأي شيء، رغم مرضه وتعبه وقف شامخ ما انحنى رأسه إلا في السجود، لآخر أنفاسه يعاند المرض ويكابر عليه عشان ما يكون مصدر عبء او حزن لعيلته..
دخلت رهف مع اخوانها وامها تشوفه وتودعه للمرة الاخيرة، للمرة الأخيرة تشوف الوجه البشوش الحنون، كان وجهه منور ومبتسم وكأنه ملاك، قربت تطبع قبلة إمتنان وحُب وتقدير على جبينه، أبوها اللي رباها ولا بخل عليها بعاطفته أبد، ما تخيلت في يوم انها تفارقه بهالشكل وبدون سابق إنذار، كيف تعيش الدنيا من دونه؟ كيف تصبر يمر يوم بدون ما تسمع صوته؟ يا وجع قلبها و يا ثقل الشعور، ماقدرت تطيل النظر فيه اكثر حست بالاختناق وكأن جدران الغرفة كلها تضيق عليها، حطت يدها على قلبها بألم وطلعت من الغرفة تجر خطواتها بثقل شافت شهد واقفة ومنهارة تبكي بحضن عمها، ألتفت تناظر سيف يتأملها بخوف و ترقب، حست الدنيا أظلمت بعينها و مدت ايدينها تحاول توصل لِـ سيف لكنها طاحت وارتطم جسدها الضعيف بالأرض بقوة قبل ما يوصلها سيف وينتشلها، حست يكفوفه تضرب وجهها بخفة وتسمع صوته وكأنها طايحة في بئر عميق ماله قاع "رهف حبيبتي، شوفوا الدكتور بسرعة!!!!.." حست بحرارة دموعها على خدها ومن بعدها غابت عن الدنيا، شالها سيف بحضنه يمشي مع الممرضة ويدخلها لغرفة الفحص، قرب منها والقلق ساكن قلبه خايف عليها، طبع قُبلة على جبينها و ابتعد مع دخول الدكتورة اللي طلبت منه ينتظر بالخارج وطلع بخطوات مُثقلة يوقف ينتظرها..
طلعت الدكتورة بعد مدة، فَز سيف و راح يمشي لها يحاول يخفي خوفه وقلقه لكنه واضح: طمنيني دكتورة؟
ناظرت الأوراق اللي بين ايديها: مجرد هبوط بسبب الصدمة، لازم تراعونها هالفترة بشكل خاص، و عظم الله اجركم..
ابتعدت الدكتورة عن طريقه وخلفها الممرضة يتركون رهف بالغرفة لوحدها نايمة على السرير، دخل سيف بهدوء للغرفة يتأمل جسدها المُنهك في وسط البياض والمُغذي معلق في يسارها، جلس على طرف السرير يمسك كفها ويبوسها، هو مَر بهذا الضياع لما توفى أبوه قبل ١٥ سنة يعرف الشعور، يفهم وجعها و حاس فيها، هو اللي انهار وأغمى عليه وصحى بعد مدة ما يدري هي ايام ولا ساعات وكانت امه عند رأسه تلومه، ما صدقت ولا حرف و حطت اللوم كله عليه؛ وهو اللي كان ينتظر منها حضن دافي بس تهديه وتطمنه انها معاه، لكنها زادت جروحه وكسرت جناحه برفضها التام؛ بهذيك الليلة ما عادت أصايل أم سَيف.. وهو الحين يدري ان رهف لما تصحى تحتاج تشوف حد جنبها يحضنها ويسندها ويوقف معاها، راح يسوي مع رهف اللي عجزوا أهله سنين انهم يسوونه له..
جلس عند رأسها ساعات ما رف له جفن ولا تحرك من مكانه، يخاف لما تقوم ما تلقى أحد عندها وينكسر قلبها.. فَز قلبه لما شافها تفتح عيونها المنتفخة من شدة البكي ومحاجرها تلونت باللون الأحمر تناظر السقف بهدوء ثم حولت نظرها على سيف اللي جالس يواجهها على جانبها الأيسر، لما التقت عينها بعينه تذكرت كل شي صار الليلة، خنقتها العبرة ميلت ثغرها وانحنى بزعل حاولت تكتم عبرتها لكنها ما قدرت تتحمل اكثر لما اخذها سيف بحضنه يداريها وانفجرت بالبكاء بحضنه كانت متمسكة فيه بكل قوتها وكأنه طوق نجاتها الوحيدة من هذا الغرق والحزن المُميت، دفنت رأسها بحضنه وكان سيف بصوته الهادي يطلق عبارات المواساة يحاول يهديها، بالنهاية هدأت في حضنه الدافي وبين ذراعيه حاصرها بحنية كاملة، حنية هو بذات نفسه مصدوم إنه طلع منه هذا كله من وين كل هالحنيّة والعاطفة؟ كيف يصب عطفه و حنانه عليها بدون شعور منه؟ وكأنها تنتقي أفضل وأجمل صفاته وتبروزها وتحطها في إطار موّرد ومُزهر، يتعرف على نسخة جديدة من نفسه معاها..
أخذها وطلعوا من المستشفى قريب للفجر وطلبت منه يوصلها لبيت العزاء، بيت اللواء مبارك بن حمد القاضي، كان الوقت متأخر لكن كل أنوار البيت مضاءة دليل على ان ولا شخص في البيت نام او غفت له عين.. دخل سيف للبيت يسفط سيارته بجانب سيارة راكان، رهف جالسة جنبه تمد نظرها للبيت والحديقة وماعندها الجرأة تنزل، كل شبر في هالبيت يحمل ذكرى لها مع مبارك، من نعومة أظافرها لين اول خطوات مشتها في هالحديقة بمساعدة مبارك، اول مرة تعلمت تسوق السيكل و طاحت اكثر من ٢٠ مرة لكن مبارك في كل مرة يشجعها، كم مرة كان مسافر ووقفت هي تنتظر رجوعه عند الباب، وكم ركضة ركضتها صوبه تحضنه، وكم ضحكة وكم كلمة وكم دمعة مسحها، ألتفت عليها سيف يشوفها تكابر على دموعها وتحاول تكتم بكاها قد ما تقدر، لازم تكون قوية عشان أمها اللي فقدت زوج و رفيق درب، و عشان اخونها ينتظرون مواساة في وفاة أبوهم و عزوتهم، رغم ان قلبها يتقطع هي مضطرة تكون قوية قدامهم وتسندهم، كَـ بنت و كَـ أخت كبيرة، شهقت نفس طويل و زفرت معاه كل مشاعرها المُثقلة، طالعت سيف تستمد منه القوة ثم نزلت من السيارة معاه، هي توجهت للبيت داخل تروح لأمها، وهو دخل للمقلط مع أخوانها راكان و ريان وعيال عبدالمجيد..
أنت تقرأ
لا بأس يالقلب الشجاع
Romanceأه لو تدرين لا عوّد العاشق حزين يمشي على جفن و جبين لا باس يا القلب الشجاع ضاع الأمل مالك عذر من لمسة عيوني الشعاع زندي انثنى رمحي أنكسر و قلتي عسى جفنك عساه ما يحترق حاولت ما أغمض عيوني و نفترق..