26

5K 210 118
                                    

-بعد مرور ٤ أعوام-
مرت الأيام ثقيلة على قلب سَيف، في سجنه المكون من غرفة واحدة ما يشوف فيها ضوء الشمس الا كل اسبوع مرة، هو اللي حكم نفسه بالسجن الانفرادي كَنوع من العقاب لنفسه على الأذى اللي تسبب فيه لمحبوبة قلبه رَهف، و طفله اللي مات قبل يشوف النور، و لنفسه العاصية كارهة السعادة؛ كلما شافته يقترب من نهايته السعيدة تراوغه على الشر وتدمره، و آهخ يا وجع قلبه وطوال الأربع سنوات شهرياً يوصله إشعار من المحكمة بخصوص قضية الطلاق بينه و بين رهف، لكنه يتجاهلها كلها ولا يوقع او يتعاون مع المحاميين، سعود في كل موعد زيارة يجي يطلب مقابلة سَيف لكن سَيف رفض كل المقابلات قطعياً؛ و رغم رفضه استمر سعود بزيارته وينتظر لساعات لين ينتهي وقت المُقابلة بدون شوفت سَيف وينصرف.. لكن سعود ما فقد الأمل وكان يرسل لِـ سيف رسايل بشكل دوري يخبره فيها عن أحواله ويستفسر عن أحوال سَيف، ويتجاهل طاري رهف و كأنها موصيته ما يطريها قدامه..
حرمته حتى من انه يسمع صوتها او يقرأ أسمها في رسالة عابرة، هو بنفسه انصدم كيف مُرهفة قلبه تحولت لصخرة قاسية..
لكنه يعذرها ولا يلومها، مين تقبل تكمل حياتها مع قنبلة موقوتة؟ شخص مُضطرب ونوبات الغضب تعميه لدرجة انه مستعد يقتل اللي قدامه ومحد يقدر يوقفه او يردعه..
مشى مع العسكري بين العنابر وصولاً لمبنى الادارة في السجن، دخل على مدير السجن اللي ابتسم لشوفته: سَيف بن شاهين
جلس سَيف بتكلف: كيف حالك؟
رفع المدير حاجبه: انا بخير، أنت اللي مفروض أسألك كيف حالك؟ وشنو شعورك و اليوم يوم حريتك وأخيراً؟
تنهد سيف يناظر الساحة الداخلية للسجن من دريشة غرفة المدير وأشعة الشمس اللي تغطيها الغيوم في يوم شتوي بارد، منظر غريب من سنوات ما شافه ولا إعتاد عليه، رجع يناظر المدير بوجه خالي من التعابير: شعوري "اللاشيء" لأن الشيء الوحيد اللي ابيه ما ينتظرني برا..
هز رأسه المدير بتفهم: ماعليه، اطلع شوف حياتك و لا تنسى إنك طلعت بترخيص مشروط بسبب حسن سيرتك و سلوكك في السنوات الأربعة الماضية، أنت تحت المراقبة يا سيف أي غلطة تغلطها راح ترجعك للسجن وبشكل اسوء من قبل!
هز رأسه سَيف ووقع الأوراق اللازمة بكل هدوء، و سلموه بوكس فيه أغراضه اللي دخل فيها قبل ٤ سنوات، ساعته جواله سماعاته محفظته وثوبه اللي كان متلطخ بدم رهف، غمض عيونه بوجع و الذكرى تنعاد في باله و صوت صرختها وهي تحاول توقفه وتمنعه لكن غضبه أعمى عيونه..
طلع من بوابة السجن و أخذ نفس عميق، يناظر الغيوم بالسماء متلبدة ونسمات الهواء الباردة تحاصره من كل الجهات؛ ابتسم بخفة لأن كل شيء حوله يذكره باللي أسرت قلبه و راحت..
مشى على أقدامه لين وقف مدير السجن و عرض عليه يوصله، السجن في منطق نائية و سَيف محد يعرف بخبر ترخيصه ولهالسبب محد استقبله، هو تعمد يخفي الخبر عن الكل، ألتزم الصمت من سنوات طويلة و كمل على هالحال..
وصل قدام بيته، انقبض قلبه لما شاف الحديقة اندثرت والإهمال كان واضح على البيت، اخر مرة كانوا هو و رهف هنا يخططون كيف يسكرون المسبح لما يكبر البيبي عشان ما يطيح فيه، ويخططون لمكان مخصص للألعاب، كانوا يبنون أحلام كثيرة لمستقبلهم سوا وكل هذا ضاع في ثواني، كل شيء يوجعه بهالبيت الاشجار اليابسة و أوراقها المتناثرة باللون البني على الأرض، سيارته و سيارة رهف غطاهم الغبار، العشب تحول لمساحة صحراوية، تنهد و راح يمشي للبيت ودخل للصالة، يتأمل كل ركن وكل زاوية لهم فيها ذكرى ويسمع صدى صوتها يداهمه من كل صوب، جلس على الكنبة و مد يده على الطاولة ينفض الغبار و شاف كاميرتها و صورهم الأخيرة اللي صوروها سوا، ضحكتها لما سرق قُبلة من ثغرها الحاني و يده اللي تلامس بطنها بنعومة وكأنه يحاول يحمي طفله، لكنه هو اللي تسبب في وفاته قبل ما يشوف نور هالدنيا..
تنهد و صعد للغرفة يبدل ملابسة، تأمل نفسه في المرايا يشوف شعره الكيرلي اللي كانت تحبه ما بقى منه شيء، حَلقه على الواحد، و رغم نحافة وجهه و هالاته اللي ارتسمت تحت عينه تظلل أهدابه الحادة و لمعة عينه اللي انطفت، إلا إنه حافظ على لياقته وكان يتدرب في المنفردة لوحده كل يوم يقسى على نفسه، ازدادت اكتافه عرض وقامته طول...
لبس ثوب شتوي مع غترته القطرية المُعتاد، تأمل نفسه بهدوء بدون تعابير و طلع من البيت، حسب اللي سمعه أن غيث استغل غيابه وسيطر على الشركة لكن حصته محفوظة رغم إن سمعته طاحت بين المستثمرين لكن محد يقدر يلمس حصته بوجود سعود اللي اخذ الوكالة وكمل شغل سيف، و بنفس الوقت سمع ان غادة صارت تدير الجمعية الخيرية بعد ما سلمتها لها رهف؛ الحقيقة اللي ازعجته ان رهف قفلت موقعها وتركت شغلها وكل شيء وراها و سافرت محد يعرف عنها شيء، لكن الأهم من هذا كله فرحته لما سعود بلغه في وحدة من الرسايل انه تزوج جُمان بنت ابو ضاري و جا له ولد سماه سَيف، يومها رفرف قلبه من الفرحة لأن سعود وأخيراً شاف حياته و استقر، ما سمع شيء عن عيلة مبارك القاضي وهالشيء يحزنه لأنه فقد وجود عيلة كانت تحبه و تغليه..
قرر يترك كل مشاعره على جنب و يروح يزور سعود، بما إن سعود تزوج توقع انه اكيد انتقل من الشقة و سكن بالفيلا اللي كانت قريبة في نفس منطقة بيت سَيف يفصل بينهم مشوار دقايق بالسيارة، لكنه قرر يروح هذي المسافة مشي بما ان الجو منعش مع أذان المغرب، دخل لمسجد المنطق يصلي و بعدها طلع يكمل طريقه وكان يمشي لوحده في الشوارع وتشغله الأفكار والمشاعر و الحنين للماضي، لو ما صار اللي صار كان الحين هو عايش سعيد مع رهف و بين أطفاله اللي يقدر يخمن انهم ٢ و الثالث بالطريق، ولدين و بنت و رهف تشتكي له من ازعاجهم وقلة نومها بسببهم..
وصل قدام بيت سعود يشوف أنواره مُضاءة بالكامل وفي عدد من السيارات بالخارج وباب البيت والمجلس مشرع على مصرعيه، وفي ضجة و اصوات يسمعها من حديقة الفيلا أصوات أطفال وكبار و صغار..
عقد حاجبه يفكر شنو نوع المناسبة اللي بتكون عند سعود، وقف بمكانه متردد يروح يقابل سعود ولا الوقت مو مناسب؟
وقف دقايق بمكانه لين ما شاف مجموعة أطفال يطلعون من المجلس يركضون، بنتين وولدين ما تعدت اعمارهم خمس سنوات، سمع صوت وحدة تنادي "مباااارك تعال" ابتسم بخفة من طاري مبارك و فهم غ هذا ولد راكان، مبارك بن راكان..
وقفوا الاطفال لما شافوا سَيف واقف قدام البيت يتأملهم بإبتسامة عذبة، تراجع مبارك الصغير خطوة ورا بينما ركضت البنت متجهة لِـ سيف تسأله بلكنة غير مفهومة: أنت منو؟
نزل سَيف لمستواها: اقولج انا منو لو علمتيني عن اسمج!
قرب مبارك الصغير يدفع سيف للخلف ويسحب يد البنت يأنبها: رهف بابا يقول ما نتكلم مع الناس!
ارتخت ملامح سَيف، رهف سمية محبوبته و بنت راكان واخت مبارك، ياه يا رهف هالاسم اللي تشفق يسمعه من ثلاث سنوات لكنه انحرم منه، أبتسم سيف بدون شعور: انتي رهف؟
ابتسمت رهف الصغيرة: انا رهف أبوي راكان
بهالاثناء تقدم الطفل الثالث وهو يسحب البنت الأخيرة معاه، أشرت رهف على البنت: هذي ريم بنت عمو
عقد حاجبه سيف يشوف ريم اللي واضح انها بنت ريّان
هنا تقدم الطفل الثالث يتكلم باللغة الانجليزية: ايتها الحمقاء اصمتي لا تخبرينه اسرارنا!!
ناظره سَيف و انخطف قلبه، طفل بالثالثة أو الرابعة من عمره ينطق حروفه بشكل غير مفهوم عيونه سوداء كاحلة و رموشه كثيفة وملامحه آية في الجمال، شعره بُني فاتح مجعد و أنفه محمر من البرد
انقبض قلب سَيف لما التقت عينه بعيونه: أنت منو؟
تلقفت رهف الصغيرة: هذا امريكي ما يعرف يتكلم عربي
عقد حاجبه سيف: والله؟
هزت رأسها: أسمه آسر...
سكنت ملامح سيف بهدوء و حط يده على كتف آسر و ابتسم له آسر بخفة و لمعت عين سَيف يكلمه بالانجليزي يحاول يأكد الشكوك اللي بداخله: هل والدك هنا؟
رفع أكتافه آسر: مامي تقول بإنه ذهب لمكان بعيد ولن يعود...
"آسر مامي وينك!!!!!!!"
كان صوتها، صوت رهف اللي تشفق يسمعه من سنوات، حَس الدنيا تدور فيه لما الأطفال كلهم راحوا يركضون لها "عميمه!"
بينما آسر ظل ثابت بمكانه ألتفت لها بهدوء..
رهف اللي مَدت نظرها من باب الحديقة تشوف آسر واقف قدام شخص يركع على ركبته قدامه يحاول يوصل لمستوى آسر الصغير، ما كان واضح لها الوجه لكنها خافت، راحت لهم تركض وقلبها ينبض بخوف
أردفت بغضب: ماما اخبرتك ان لا تتحدث مع الغرباء...
وقف سَيف على حيله وتصنمت هي بمكانها، هذا الوجه اللي فقدته من سنوات و ظَنت انها ماراح تشوفه، نبض قلبها بخوف وهي تشوفه مع آسر نزلت عيونها على آسر اللي يناظر سيف بهدوء، بدون شعور ركضت له تاخذه بحضنها تبوسه وتشم ريحته، وتصد عن سَيف وكأنها ما شافته ولا عرفته، صَدت وهربت هي وولدها من قدامه اللي كان واقف مصدوم يشوفها تسرع بخطواتها وتبتعد عنه، دخلت معاها الاطفال بسرعة وسكرت باب الحديقة خلفها بإحكام و راحت تركض وشايلة آسر بحضنها دخلت للصالة مفجوعة وجهها شاحب..
وقفت ريم على حيلها: بسم الله عليج شفيج؟ آسر فيه شي؟
تقدمت شهد تاخذ آسر من حضن رهف اللي بدأت تبكي وتهل دموعها ويدها ترجف: شفته يمه، سَيف برا !!!!
انصدموا جميع وتقدمت أريج تمسكها: بسم الله عليج شكله يتهيأ لج مو هو بالسجن...
كملت جُمان: لو طلع كان اكيد سعود عنده خبر....
صرخت رهف: اقولكم شفته ما يتهيأ لي كان واقف مع آسر..
جُمان وقفت بذهول وراحت تتصل على سعود تبلغه باللي صار، سعود اللي فَز من مكانه و راح يركض يطلع من المجلس يشوف سَيف واقف قدام بيته وبينه وبينهم عبرة شارع، ابتسم سعود و انشرح صدره و ركض له: العضيد!!!!
تقدم وحضن سَيف اللي واقف بجمود يناظره بصدمة، يشوف راكان و ريان يطلعون من المجلس وعلى وجههم علامة استفهام، وجوهم قلبت صفراء لكنهم تقدموا يسلمون عليه ويتحمدون له بالسلامة ويستفسرون عن اسباب خروجه، لكن سَيف ما جاوبهم كان هادي يناظرهم يتكلمون معاه ويتسائلون وهو عقله مع اللي أخذت الطفل من قدامه و راحت تدخل للبيت، هربت وكأنها خايفة منه و تخاف من انه يكشفها..
نَطق سيف بهدوء وألتفت على سعود: آسر، ولدي؟
سكت سعود بارتباك و كمل سيف: بس قلتوا لي إنها اجهضته بسببي في ذيك الليلة يا سعود!!
قاطعه سعود: حياك للمجلس ليه واقف وانا اخوك!
نفض سيف رأسه: عيشتوني بكذبة يا سعود ليه!!!!
نطق راكان بحدة: لأن أختي و جنينها وصلوا للموت بسببك، انقذت حملها بصعوبة وثاني يوم اخذوها لغرفة التحقيق وهي مُنهكة عشان تقنعك تتكلم وتريحها وترتاح
رفع صوته بدر: و هذا عذر؟ ولدي ينخلق على الدنيا وانا اخر من يعلم؟ بأي حق انتوا تقررون عني و عنها!!!
رفع حاجبه راكان بحدة: رهف هي اللي أتخذت قرار تطلعك من حياتها للأبد واحنا كلنا احترمنا قرارها..
رَد عليه سَيف بنفس الحدة: مهما يصير بيني و بين زوجتي هذا ما ينفي حقيقة أني ابو الطفل ومن حقي أعرف بوجوده، اصلاً كيف سجلته في النفوس و اخذت جوازه بدون علمي؟
تنهد ريّان: ولدته في امريكا و اخذ الجواز الامريكي، ما يهمهم أنت من بوجود أمه و انت تعرف هالشي..
هنا كانت صدمة سيف أكبر و أشد، اخذته لآخر الدنيا وطلعت له جواز ثاني بدون حضوره هو كَـ أب او علمه، وثيقة الزواج تكفي لهالمهمة وكانت ناوية تخبي الحقيقة عنه عمر كامل..
سعود قرب يربت على كتفه: سَيف تعال نتفاهم داخل واقفين بالشارع والناس يناظروننا ما صارت، حياك معانا..
ناظره سيف نظرة عتاب، كيف يخبي عنه هالحقيقة اللي كان ممكن تغير حياته البائسة اللي عاشها بالسجن، دخلوا لمجلس سعود وما كان فيه الا عيلة ابو ضاري وعياله الاثنين، وقف ابو ضاري على حيله يرحب في سَيف ويتحمد له بالسلامة، والعزيمة بمناسبة رجوع رهف من امريكا بتقعد أسبوع..
سيف لحد الآن مو مستوعب خروجه من السجن، ولا هو مستوعب وجوده في بيت سعود و انه شاف رهف و ولده بنفس الوقت؛ ولده اللي ما كان يعرف بوجوده حتى..
أردف سيف بحدة: سعود أخذ لي درب، بشوفها!
مسك ذراعه سعود يهديه: ما أظن انها تقبل...
قاطعه سَيف بغضب: تقبل او ترفض ما يهمني، بشوفها والحين ما انتظر ولا دقيقة زيادة لأنكم استغفلتوني ٤ سنين!!
تنهد سعود يناظر راكان و ريّان اللي مو عاجبهم وجود سَيف مو كرهاً فيه لكن لأنهم يعرفون حالة رهف بالسنوات الأربع كيف كانت منهارة وتحاول توقف على رجولها لوحدها بصعوبة، صارت الأم و الأب وأخذت المسؤولية كاملة بدون مساعدة أحد، لوحدها في الغربة مع ولدها و آلامها وذكرياتها الموجعة..
طلع سعود من المجلس و معاه سَيف، قلطه على المشب في الطرف الثاني من الفيلا و جلس سَيف بمكانه يهز رجوله بتوتر و غضب، أخذ نفس طويل شهيق ثم زفير حاول يرتب كلامه و أفكاره لما يشوفها لكنه يعرف بمجرد شوفتها بينسى كل شيء..
'
رهف اللي تأكدت أن آسر نام بهدوء بغرفة سَيف بن سعود طلعت من الغرفة لما طلب سعود يشوفها، وهي عارفة إن سيف وراه، شافت وجهه مقلوب و أردفت: كنت تعرف؟
هز رأسه بالنفي: لا، سَيف من ٤ سنين منعني من زيارته ولا يرد على الرسايل، ما كنت أعرف انهم رخصوه..
عقدت حاجبها: و أنت أول شخص قرر يزوره بعد حريته، على الأقل يحبك ويغليك، زين والله طلع عنده قلب و أحساس
قرب يمسك كفوفها: أنتي قطعتي كل طُرق التواصل معاه، ما تركتي خطوط للرجعة لكن ترا سَيف و آسر من حقهم...
قاطعته رهف: مو من حقه، ولا ابيه يدخل حياة آسر يا سعود! شلون أرجع أثق فيه، هو اللي قطع لي مليون وعد و وعد ولا وفى فيهم، دمر حياته و حياتي وكنت على وشك أخسر جنيني بسبب طيشه و تهوره و نوبات غضبه اللي تحوله لوحش!!
غمض عيونه سعود بقهر: تدرين انه سوا هالشي عشان يحميج
ابتسمت بسخرية: مو هذي الحماية اللي طلبتها منه!
قرر سعود انه ما يناقشها بوجهة نظره بتصرفها: سَيف ينتظرج في المشب، مو ناوي يتحرك لين يتكلم معاج شخصياً
تكتفت رهف: وانا مابي اتكلم معاه ولا اشوفه، قوله يتوكل الله يسهل طريقه خلاص يا سعود انتهينا...
قاطعها سعود بنفاذ صبر: مرت ٤ سنوات يا رهف واحنا كلنا مستغفلينه بموضوع آسر، تبيني أكسر قلبه و جناحه و اقوله يفارق؟ اذا انتي اختي فَـ سَيف رفيج عمري و عضيدي ما ارضا عليه الأذية اكثر ولا ارضا انج تلوين ذراعه في ولده!!!
رفعت صوتها رهف: انا ألوي ذراعه؟ انا مابيه يقرب مني انا و ولدي بس، ليه ما تفهم اني ما عاد اثق فيه ووجوده يقلق راحتي
عقد حاجبه سعود: اطلعي قولي هالكلام في وجهه لو تبين!
انتفضت رهف بغضب: أي أقوله في وجهه ولا علي من أحد
ابتعدت عن سعود نزلت للصالة تحت أنظار الجميع تطرق بكعبها بغضب على الرخام و كلهم فَزوا، من سنين ما شافوها بهذا الكم الهائل من الغضب تمشي وتحرق الأرض من تحتها..
وصلت للمشب و أخذت نفس عميق قبل تدخل تحاول تهدي نبضات قلبها الصاخبة، رفع رأسه سَيف لما حاصرته ريحة عطرها من قبل ما تدخل، دخلت و التقت عينها بعينه، صَدت عنه ووقفت بعيد وهو جالس قبالها: شنو تبي؟
تنهد سَيف، ما توقع لقاءهم الأول بعد ٤ سنوات يكون بهالشكل وبهالسؤال تحديداً "شنو تبي؟" تسأله سؤال هي تعرف جوابه، يبيها هي وما يبي غيرها، ٤ سنوات حاولت تمشي أمور الطلاق او الخلع لكن سَيف تمسك فيها بشكل اناني..
يشوفها تَصد بعيونها عنه وتوقف بعيد عنه متكتفة لابسة عبايتها و الشال يغطي شعرها، وكأنه غريب عنها! هي تعاقبه بأكثر شي يحبه فيها؛ تحرمه من عيونها شبيهة العسل وتحرق قلبه أكثر، و رغم كل مشاعر الشوق واللهفة اللي نَمت بداخله سنين طويلة وهو يتخيل لقاهم كيف، كل هذي المشاعر تلاشت لما تذكر حقيقة انها استغفلته، وقف على حيله يمشي بخطواته لها وهي واقفة بمكانها تحاول تثبت وتظهر اللامبالاة، وقف مُقابل لها و ابتسم بسخرية: ليه تتحاشين النظر في عيني؟ تخافين من تأنيب الضمير يا رهف؟
رجعت خطوة للخلف تبتعد عنه: وليه يأنبني ضميري!
عقد حاجبه بخيبة أمل: شلون طاوعج قلبج تخبين ضناي عني؟ ولدي يا رهف قريب يصك الأربع سنين وانا مادري عنه!
ميلت ثغرها بإبتسامة جانبية: ولدك؟ آسر ولدي انا..
غمض عيونه بتعب ونفاذ صبر: لا تجننيني رهف، ليه؟ مهما صار بيني و بينج، صديتي عني وما حاولتي تفهميني عطيتج الحق كله قلت معاها حق ما كنت لها حضن آمن و أربكت راحتها، سافرتي سنين ولا فكرتي حتى ترسلين لي رسالة و عذرتج، كنت ألوم نفسي طول الوقت وبعمري ما حطيت اللوم عليج باللي صار كله لأني انا المتسبب في معاناتنا و دمار زواجنا..
خنقته العبرة و سكت ثواني يداري دموعه و الغصة اللي وقفت بين قلبه و ضلوعه، ناظر عيونها: انا السبب في كل شيء، لكن يحق لي أعرف عن ولدي، ابني! قطعة من روحي! شلون طاوعج قلبج تسوين هالشيء فيه هو، أدري اني اخر همج لكن آسر؟ مو من حقه يعرف أبوه ويعرف الحقيقة، ليه حرمتيه مني!
أمتلأت محاجرها دموع وابتسمت بوجع: حرمته منك؟ ليه أنت كنت موجود و انا حرمته منك مثلاً؟ ناسي انك كنت بالسجن؟ حكموا عليك ٦ سنوات و قابلة للزيادة لأنك باختصار تمشي ورا غضبك ويتحكم فيك ويوديك في ستين داهية...
فاض الشعور و خنقتها العبرة ماقدرت تكمل كلامها و انهمرت دموعها و هلت مزونها، شعرت بالغضب من دموعها العاصية اللي وضحت ضعفها قدامه و تقدمت تضرب صدره بكل قوتها وقهرها اللي حبسته بداخل صدرها سنين: أنت ما تستاهل تكون أب، ما ابي اشوفك بحياة آسر تعلقه فيك و توجعه بعد فترة بغيابك! ما أبيك تقرب من ولدي وتلعب بنفسيته...
كان سيف واقف بجمود قدامها مثل جَبل ما يهزه ريح، ضرباتها كالعادة ما تألمه كثر ما انها تألم كفوفها، مسك كفوفها الحمراء يحاول يوقفها: رهف يكفي...
سحبت كفوفها من قبضته ونطقت بقهر: تصدق؟ كان معاك حَق، أنت شخص ما ينفع تكون أب ولا تعرف الأبوة، اصلاً ما ينفع تكون زوج او انسان حتى تخيل؟ ضيعت وقتي أحاول أصلحك استنزفت طاقتي و مشاعري و عمري عليك..
غمض عيونه: والله؟
هزت رأسها: أكرهك، بحياتي ما كرهت شخص كثر كرهي لك
فتح عيونه يشوفها تناظره بحقد، ابتسم بوجع: حتى كرهج لي يعتبر شعور، وانا راضي تكنين لي أي نوع من أنواع الشعور!
صَدت عنه تغطي وجهها بنفاذ صبر: أنت مو صاحي!!!!
هز رأسه يأكد كلامها ونطق بنبرة هادية: آسر ولدي، و يحق لي أشوفه و اقعد معاه وأخذه متى ما أبي، و انتي زوجتي بالنهاية مردج لِـ بيتي و لي على ذمتي...
ضحكت بين دموعها: تحلم تشوف ظفره و ظفري..
قرب يمسح دموعها: لا تبكين هالعيون مرة ثانية، و لا تنسين أن أحلامي كلها أحققها لو طال الزمن ولا قصر!
نفس جملته اللي ذكرها لها قبل سنوات طويلة، قبل ما يجبرها على الزواج منه، بعيونه نفس النظرة و نفس البرود والنبرة، اللي اختلف هو مشاعرهم، مشاعر شوق و عتاب و نفور و هجران..
دفء كفه اللي حَط على خدها يذوب جدرانها الجليدية، سرت قشعريرة بكامل جسدها من فَرط شعورها المتناقض وابتعدت عنه بعنف تضرب كفه اللي يلامس خدها، و صَدت تطلع من المشب تتركه واقف وحيد يتأمل خطواتها المُثقلة..
غمض عيونه بوجع و يده على رأسه، طلع من بيت سعود يبتعد عن هذا كله ويعطي نفسه فرصة يهضم اللي صار، بداخله فَرح لأن ولده و ضناه حَي ما مات، وبنفس الوقت بداخله غضب و عتاب للكل، و أولهم سعود كيف يخبي عنه هالحقيقة..
سمع صوت سعود يناديه: سَيف انتظر لحظة!!
وقف سَيف خطواته و استدار: في شي ثاني استغفلتني فيه؟
مَد سعود كفه يربت على كتف سَيف: كنت ناوي اعلمك في كل زيارة زرتك إياها، لكنك كنت ترفض..
ضحك سيف بسخرية: هذا مو عذر يا سعود
نبرة العتاب اثقلت كاهل سعود: كنت أبي أقولك وجهاً لوجه، ادري مو عذر لكن رهف أختي بعد و قعدت بين نارين!
ناظر سَيف عيون سعود: يوم اني خشيت عنك موضوع ابوك سلطان الخاطر أيام بس! زعلت و صديت عني أسابيع، و أنت استغفلتني في ولدي يا سعود ضنّاي! مو يوم ولا يومين استغفلتوني كلكم أربع سنين وانا عايش في ذيك الزنزانة أقسى على نفسي و أتعذب ويلي من فقداني لأول فرحتي، و ويلي من فراق حبيبة عيني، و ويلي من سجني و الوحدة اللي عشتها..
نزل عيونه سعود على الأرض و أبتسم سَيف: بس أقول لك مشكور يا بو سيف، يا عضيدي، يا صديق عمري ما قصرت..
صَد سَيف يعطي سعود ظهره و يمشي خطواته متوجه لِـ بيته، بيته اللي صار موحش أكثر من قبل، جلس في الصالة بوسط الظلام هو ووحدته و همومه اللي يسمع صداها يرن في أذنه، رمى غترته على جنب وسند رأسه على الكنبة بتعب وغمض عيونه يتذكر نظراتها و كلامها و السّم اللي تبثه عيونها، لو كانت النظرات تقتل كان مداه سَيف طريح من عيونها..
"أنت ما تستاهل تكون أب.."
"مابي اشوفك بحياة آسر.."
"أنت شخص ما تعرف الابوة.."
"ضيعت وقتي احاول اصلحك.."
" أكرهك..."
انهمرت دموعه بصمت تبلل وجنتيه وهو يستعيد بذكرياته كل حرف كل كلمة نطقتها رهف، كل نظرة عتاب و قسوة، يا ترى كم من وجع عاشت لوحدها بدونه لين وصلت لهالمرحلة من القسوة؟ بعد الرقة و الحُب والحنية صار الصَد و التجريح عنوانها، وتغلبت الغزالة و هزمت الفهد في قسوتها..
***
قلبي اللي لواه مْن الصواديف لاوي
جرّحته الليالي و الحظوظ الرديّه
و الله أنّي بوسط الناس كنّي خلاوي
من يلوم المفارق عقب فرقا خويّه
أشهد ان المفارق من عظيم البلاوي
مير هذا نصيبك يالعيون الشقيّه
أتجلّد و أقول أنّي على البعد قاوي
و الله أعلم بقلبٍ فيه الأشواق حيّه
كيف راحت يابو تركي حياتي شقاوي
وين درب السعاده و الحياة الهنيّه
ليت لأهل الهوى و الحب قاضي دعاوي
كان أداعي عيون اللي فراقه خطيّه
***

لا بأس يالقلب الشجاعحيث تعيش القصص. اكتشف الآن