{8}

6.9K 340 168
                                    













ساعات كـ الدهر مرت في إخماد ألسنة اللهب التي باتت كـ ثغر عملاق آكل بناء كاملاُ بنهم واحد, بذل رجال الإطفاء الأشداء جهدهم في حصرها و إحتوائها
إثر هذه الحادثة الشنيعة مات عشرون عاملاً, و أصيب ثلة منهم بحروق ما بين المتوسطة والطفيفة, كذلك البعض إنتهى به المطاف بالاختناق بسبب الدخان المرتكز بصدورهم
كان أمرأً مريعاً فـ إيفان لم يتخيل هذا العدد الرهيب قد لقي حتفه بكل برود, بسبب كونه قد أفسد صفقة تقدر ببضع مليارات, كأن أرواح البشر بالدرك الأسفل من الدنيا
جلس بصمت فوق غطاء سيارته, منظره العام بات فوضوياً لآنه قد قام بالمساعدة في إجلاء العمال بكل ما يملك من قوة, وكم آلمه قلبه و وهو يستمع فيها لآنينهم الموجوع
مسح العرق عن جبينه المتسخ بـ رماد الحريق بينما يرجع شعره للوراء بتنهيدة عميقة مليئة بالحسرة و الضيق
قميصه الأسود قد تمزقت أزراره سامحة لصدره بالبروز, فـ كشف عن ندب حرق قديم إرتسم بصدره كـ الوشم بعمق جلده الأبيض
هذا الندب كلما شاهده أو تحسسه بأنامله, تجوله بباله تلك الذكريات الخالدة بمكنوناته, لن تضمحل مهما حاول مراراً و تكراراً فهي متشبثة كـ الدم و واقعية كـ الموت
بالفعل قام بمد يده يمرر أصابعه الثخينة عبر نتوءاته يتأمل الفراغ بروح خاوية, في كل يوم يشعر أنه يبهت و يخبوا رويداً رويدا
بينما هو على حاله الكئيبة جالت تلك الذكريات كـ غطاء أسود جثم اللحظة بثوان

~

صبي صغير بعمر التاسعة, يركض وسط النيران المتهيجة, يلوذ ذعراً من شبقها الوحشي
صاح منادياً بحنجرة محتقنة فيما تتقلب أعينه بهلع باحث
-أمي!, أبي, أين أنتما...الجو ساخن ...أنا اختنق
تجمعت تلك الدموع خوفاً من المصير الهائم حوله, و من وحدته بهذا القصر الشاسع و ناره الجائعة
باتت أقدامه المتخاذلة تركض بـ ممر الردهة للطابق الثاني فيما لسانه الصغير المتذبذب ينادي على منبع أمانه
فجأة تداعى السقف من شدة الحرارة المنبثقة, وحينما حاول تجنبها احتك طرفه بصدره بقوة دفعته للصراخ آلماً
لم يلبث أن إشتعل قميصه كذلك, صار يحاول إطفاء الحريق بهلع هستيري فيما يصيح باكياً من الحرارة التي ألهبت جلد بدنه
امتدت يد نحوه تجرده بسرعة من قميصه لكي لا يحترق الطفل مع القميص التي تشبثت به النار حقداً
أزاحت القميص عنه ترميه جانباً, بينما تمكنت من ترك بصمة لاسعة وسط جلد صدره بشكل مفزع
بات إيفان ينتحب بألم لا يوصف, غير قادر على إحتمال هذا الشعور المميت
تحدث وسط دموعه الغزيرة يتشبث بمن أنقذه برعشة
-أمي, أين إختفيتِ؟, لقد كنتُ خائفاً لوحدي, إنني أتألم بشدة, هذا مؤلم أماه
كانت والدته جاثية على ركبتها أمامه بوجهها الدامي و شعرها الاشعث, فيما تعابيرها الحزينة تتأمل حال صغيرها المأساوية
ضمته بقوة تبكي لـ آلمه الصارخ, و تبكي حاله الذي لا ذنب له فيها
همست بحنان تداري الغصة المتهيجة بحنجرتها
-أنا أسفة يا صغيري على تركك لوحدك, لكنني لن أسمح بأن تموت محترقاً كقطعة خشب, أمكَ ستخرجك من هذا المكان مهما كان الثمن, يجب أن تعيش لتقرر مستقبلكْ بنفسكْ
تحدثت والآخر يحشر نفسه داخل حضنها كما لو كان يدرك بأنها اللحظات الأخيرة التي سيشعر فيها بهذا الدفئ الحاني
أحس بحرارة دموعها المتناثرة على قفا عنقه, المكان الذي لطالما حشرت والدته أنفها فيه لتداعبه بلطف بينما يضحك باستمتاع يستشعر دغدغتها العذبة
نهضت فجأة تجذبه من يده ثم ركضت به على طول الممر بسرعة جنونية, فلم يلبث بأن أخذ السقف ينهار و يتناثر بكل مكان منذراً بالخطر
أسرعت الخطى تجره خلفها بلا إكتراث لكونه بالكاد يجاري ركضها بقدمه الصغيرة المترنحة و قلبه ينبض ذعراً و هلعاً
هتف باضطراب
-أمي أرجوكِ, سأسقط لا تسرعي..
قالها بلهاث شديد, لكن والدته لم ترد بل أكملت الهرولة حتى توقفت أخيراً أمام النافذة بنهاية الممر
قبل أن تستوعب وصولها تلتفت لإيفان حتى تداعى ثبات السقف و تساقط أعمدته فوق رؤوسهم بنيرانها الجانحة الهوجاء
بحركة سريعة إلتقطت جسد إيفان الصغير ثم ما لبثت أن رمته من فورها عبر النافذة الزجاجية
ليرتطم جسده بعشب الحديقة, أما هي فـ تلاشت كلياً أسفل الشظايا و الأعمدة الحمراء لتتحول لـ رماد تذروه الرياح
أصيب أيفان بنزيف حاد بسبب زجاج النافذة الذي تحطم بجسده, بقي متمدداً بإرهاق غير واعي يتطلع لقصرهم بشحوب
كان شعلة من لهب حامي الوطيس, لم يترك أثر لآي جثمان ليتم دفنها
همس بصوت ضعيف مشتت
-أمي...أبي...لا تتركاني رجاءً...إني خائف...
أغلق جفنيه بوهن مغشياً عليه, فـ كان آخر ما شاهدته مقلتيه هو تلاشي عالمه الصغير لـ رُفات هائم

"روايـة الصِـراع"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن