{21}

4.6K 225 35
                                    










مرت الساعات كـدهر جثم على أنفاس المنتظرين, و ما هي إلا لحظات سكون هادئة و ناعمة حتى تحركت تلك الأجفان تكشف عن قزحيتين خضراوان مرهقتين
حدقت بسقف الغرفة الذي غلب عليه اللون الأبيض الناصع بفراغ هائم, كانت متعبة و ذابلة كما لو أنها خرجت من بين براثن معركة هوجاء أضحتها معتلية البدن و خاملة
حركت خرزتيها بالمكان بهدوء شاحب و ما لبث أن لمحت تونيو قد وقف بجسد مائل قرب سرير أطفال بلون وردي لطيف
حينما رآت أهداب السرير حتى تذكرت أنها بالفعل حضرت للمستشفى و قد أنجبت مولودتها المنتظرة
حركت شدقيها بثقل شاعرة بالجفاف يغزو حنجرتها
-آه تونيو!
أجهدت بهذه العبارة البسيطة مما جعلها تسعل بضع سعلات مختنقة فاستدار زوجها سريعاً إليها, هرع لمساعدتها على تجرع كأس الماء الموجود على المنضدة
بعدها جعلها تسترخي جالسة واضعاً خلف ظهرها وسادة طرية يريح عظامها بعد جهد الولادة
هتفت يحدثها بصوته الحنون مقبلاً ظهر كفها برقة
-الحمدالله على سلامتكِ يا حبيبتي, كيف تشعرين الأن؟
ردت عليه مبتسمة بهدوء
-أنا بخير, لكنني أشعر ببعض الإرهاق ليس إلا
تبسم بدوره ما أن سمعها تنطق بذلك, ثم قام بتقبيل جبينها برجولية, إنزاح بهدوء يعود لسرير الأطفال حيث حمل طفلته الرضيعة بين ذراعيه بحذر
سار ناحيتها بينما أخذ يلقي نظره بين الطفلة و زوجته التي بقيت تتأملهما بتوتر عصفت فيها مشاعر مكتسحة لا تعرف مصدرها
لكنها جثمت بعنف ما أن رأت تونيو يقبل وبيده يحمل ما أنتظرتها بلهفه طوال التسع أشهر المنصرمة
جلس بقربها يرفع طفلته النائمة ناحية والدتها المتخشبة
-هذه ماما يا صغيرتي, ماما قد إستيقظت أخيراً لتراكِ, هيا قولي مرحباً
هتف بذلك بنبرة مشبعة باللطف والحنان ثم مدها لهارلين كي تحملها و ما أن وقع بصرها عليها حتى شهقت بقلب ينبض سعادة
أغرقت جفنيها بالدموع غير مستوعبة أنها باتت ترى طفلتها, هذه الكائنة الصغيرة المندسة داخل غطائها تكون أميرتها
حملتها بأنامل مرتعشة بينما تساقطت دموعها كـ تيار جارف غير شاعرة به وهي تلمح صغيرتها نائمة بين أحضانها بسلام
شعور الأمومة الطاغي و العذب بات يتأجج روحها و كيانها
مررت أصابعها تتحسس يديها الصغيرة المنقبضة, خدها المتورد, ثغرها الصغير كـ حبة كرز و حتى شعرها الأسود الأملس
كانت تنتحب بسعادة و هي تستشعر ملمس طفلتها الطري و الجميل, بقي تونيو يراقبها بإبتسامة لأنه يدرك ماهية هذا الشعور الساحق
تكلمت بين تهيجات دموعها
-هذه الكائنة الصغيرة هي ابنتنا, أليس كذلك
أجابها بهدوء ناعم يمد يده ليزيح خصلات شعرها عن وجهها المبلل بالدموع ثم يرجعه للخلف برقة
-أجل حبيبتي, إنها ابنتنا التي انتظرناها بشوق, عائلتنا الي لطالما أثرنا الحصول عليها
مسدت باطن كفها الناعم ثم جذبتها لتقبلها بعمق تشتم عبيرها الأخاذ فباتت الطفلة تئن بصوتها الطفولي كـ قطة منزعجة
ضحك الإثنين على ردة فعلها حيث عادت لنومها استكنان لكونها جديدة على هذا العالم و تتحسس من أي حركة أو صوت
تذكرت هارلين في هذه اللحظة عائلتها التي فقدتها بوقت مبكر من عمرها حيث نسيت معهم كيف هو دفئها و أمانها
رغم وجود رافاييل معها معوضاً إياها ما فقدهاه كلاهما, إلا أنها كانت بالفعل تفتقد أشياء كثيرة لم يقدر أخاها على توفيرها
صحيح أنه أحبها بكل ذرة تنبض به, يهتم لأمرها و يسند عجزها أكثر من نفسه, لكن كان بالنهاية منطوي و لا يتحدث عن نفسه أو ما يؤلمه
دائماً يخفي أوجاعه و خيباته بقناع القوة والصلابة لحمايتها ومنع الأذى عن الولوج إليها طالما هو حي يرزق و روحه تنبض بالحياة
مع ذلك هناك فجوات بعمق الهاوية السحيقة بينه و بينه حتى و إن لم يقصد ذلك لكنه جعل تلك الفجوات تكبر شيئا فشيئا الى أن أصبحت مثل الثقب الأسود الضخم الذي يبتلع كل من يقترب منه
لهذا هارلين وجدت في تونيو كل شيء حلمت به كـ طفلة محرومة, الاخ و الزوج , الاب و الام , و الاهم العائلة
كلاهما عاش ذات الفقد و تمنيا ذات الأمنية اليتيمة, لهذا حلمهما أخيراً تحقق بقدوم أجمل طفلة لعالمهما الصغير
أخذت تتأمل ملامح طفلتها الساكنة بمهدها ثم همست بشكل مفاجئ
-إيميلي, سوف أقوم بتسميتها إيميلي, إنه يلائم وجهها الملائكي
حملقت نحو زوجها الجالس بجانبها و الذي أخذ يتابع كلامها باهتمام
-ما رأيك يا حبيبي, هل أعجبك؟
همهم مفكراً يدلك ذقنه بتقطيبة و سرعان ما دنى يقبل جبين طفلته المتكورة بحضن والدتها مجيباً
-معناه باللاتينية المتلهفة و التواقة, إنه اسم جميل و مبهر, أليس كذلك يا إيميلي
بات يخاطب طفلته بحب كاسح و حنان أبوي طاغي بينما يدها الصغيرة قد أطبقت على إصبعه بنعومة
افترشت إبتسامة رقيقة و هي تراقب هذا المنظر الفاتن بينهما
لكنها فجأة تذكرت تستطرد أمرأ بسرعة
-أين رافاييل؟, ألم يأتِ بعد !
انقبضت تعابير تونيو و توتر للنخاع من مباغتته بهذا السؤال الغير متوقع, لكن ما لبث أن تم إنقاذه من الكذب إثر دخول كلاً من إيان و سمارا
التي ما لبثت أن صاحت بفرح غامر حينما وقع بصرها على منظر الأم و طفلتها بين ذراعيها
هتفت بحبور تقترب بخطواتها المنتظمة ناحية السرير
-صغيرتي هارلين, الحمدالله على سلامتكِ, و هنيئاً لكِ بهذه الجميلة التي ستملئ بقية أماكِ بالسعادة والرخاء
قبلتها بلطف حيث قامت بعدها بتعليق بروش ألماسي باهر الشكل في ثياب إيميلي كـ هدية قدومها
شكرتها هارلين على الهدية الجميلة فكان رد الاخرى لبقاً لأقصى درجة
فجأة صاح إيان بانبهار يقرب وجهه من وجه الطفلة يتأملها بافتتان طاغي
-رباه يبدو أنني وقعت بالغرام, أي ملاك هبط إلينا, أريدها زوجتي المستقبلية منذ هذه اللحظة
كان غائص للنخاع في غياهب ملامح الطفلة الصغيرة يرمقها بحب عاصف, قهقهت هارلين ملء أشداقها مما صرح به وبالمثل فعلت سمارا التي جلست بهدوء على الكرسي المجاور
أما تونيو فقد شهق رعباً فيما هتف معترضاً بحدة
-لا تحلم مطلقاً بأن تمس طفلتي, فتاتي المدللة ستكون زوجة رجل أفضل منك, أيضاً أنت ستكون وقتها مجرد عجوز خرف, لن أدفن شبابها معك بسبب مسألة عشق تافهة
قطب إيان حاجبيه معلقاً بسخرية يرمقه من طرف بصره
-همم عجوز هاه!, لا تشغل بالك عزيزي الإيطالي لن أكون كبير عليها لدرجة مقززة, آه لحظة أم أنك تفضل وقوعها بغرام إيفان؟
ارتعد هلعاً و صرخ جنوناً غير راغب بسحر إيفان لانكاستر الغاوي أن يقترب من محيط طفلته كـ سائر النسوة
و موقفه هذا دفع الجميع للضحك باستمتاع بالأخص إيان الذي يدرك أنفاً سبب ردة فعل تونيو العنيفة حول ذلك, فـ جاذبية إيفان تخطت اللامعقول حتى بالنسبة له شخصياً

"روايـة الصِـراع"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن