{34}

5.1K 250 229
                                    











- Bradford Psychiatric Hospital -



في احدى الغرف الهادئة بل ذلك الجناح الخاص حيث كتب على باب الغرفة "رافاييل أرنالدو"
كان قد استلقى على سريره الكبير بوجه يكسوه الشحوب و الإرهاق, بزوج أعين قد فقدت بريقها النابض بالحياة
أسفل عينيه طغى سواد مريع فيما لحيته قد نمت راسمة خطوطها الكثيفة حول ذقنه الحاد
اما شفته الصامته لم تنطق بحرف منذ تلك المأساة, كل ليلة يلوم نفسه على موت شقيقته و لكونه لم يتواجد بقربها لحمايتها
يصحوا كل مساء بذعر و جبين يقطر عرقاً على صوت صراخها وهي تستنجده بهلع عبر كوابيس طغت على فوج أحلامه
و لا تنتهي تلك الأضغاث إلا و هي تصرخ بوجهه بشكلها الدامي قائلة له بكراهية
-كله بسببك أنت يا رافاييل, لن اسامحك ابداً, لقد حرمتني من لحظات جميلة أكون فيها أماً لطفلتي, حرمتني من إشباع بصري برؤيتها تكبر بين أحضاني, اكرهك يا راف أكرهك
جافاه النوم و الراحه حيث بات كل هوسه أنه سبب موت اخته, محاولات الطبيب لإخراجه من تأنيب الضمير بائت بالفشل الذريع
طرق الباب فجأة مشتت إياه من هواجسه حيث دخل الطبيب المسؤول عن حالته يحمل بين يديه ملفه الشخصي و الذي أخذ يقلب فيه باهتمام
كشر رافاييل و جعد تعابيره حينما لمح الطبيب ثم اشاح بوجهه بعيداً بضيق فهو يكره الأطباء كرهاً شديدً و يتقزز منهم عندما يقتربون منه برائحتهم النافثة
تنهد الطبيب بانزعاج اتضح من تقاطيعه فما كان يحتويه التقرير لم يكن مرضي بالنسبة إليه, قام بإنزال نظارته الطبيه متطلعاً لذلك الرجل الصامت
هتف يحدثه بنبرة معاتبة
-هذا ليس جيداً بتاتاً يا سيد رافاييل, لا يوجد أي تقدم في حالتك, حاول على الأقل أن تستجيب للعلاج لكي نساعدك في العودة لوضعك
لم يعره الأخر أي مبالاة و فضل البقاء صامتاً ينظر للنافذة التي تتوسط غرفته الكبيرة
إنتاب الطبيب خيبة أمل من عناده حيث قام بمناداة الممرضة المساعدة لتحضر الأدوية حتى يتناولها و إن كان بالقوة
سمع رافاييل ما تفوه به و أحس بالامتعاض الشديد منه فما لبث أن تحولت نظراته لنظرات شرسة كأنه سيتهور في أي لحظة و يقوم تهشيم وجه الطبيب

في ذلك الوقت و بالتحديد عند مدخل الإستقبال حيث وصلت الفتاتان برفقة إيان الذي كان يحمل ايميلي الصغيرة
سرعان ما طلب من كلوديا حملها لكي يتجه هو لموظفة الإستقبال
قال للممرضة بلطف
-مرحبا, لو سمحتِ أرغب بزيارة رافاييل ارنالدو
هزت الممرضة رأسها طوعاً و قامت بالضغط على بعض الأزرار بشاشة الحاسوب أمامها
بعدها رفعت نظرها نحوه لتقول بابتسامة
-نعم يمكنك الزيارة, تجده بغرفته و يبدو أن الطبيب مات موجود معه
استنكر تواجد الطبيب برفقة رافاييل فأحس ببعض القلق بدأ يجتاح صدره
شكر ممرضة الاستقبال ثم عاد للفتاتين و قال بهدوء
-هيا بنا, يبدو أنه وقت الفحص الدوري لحالته أيضاً
اومأت كلوديا بتفهم و كاترين التي توترت و قلقت من وجود الطبيب معه و تمنت ألا تكون حالته قد انتكست
اتجهو جميعاً لغرفته التي تقع بالطابق الثاني و بمجرد ما أن اقتربو من واجهة الباب
حتى تعالت أصوات صراخ و تكسير من الداخل, كأن معركة محتدمة تجري بالغرفة مما جعل إيان و الفتيات يفزعون
هتف ايان سريعاً مظهراً الجدية
-إنتظروا حتى أتفقد الحاصل, لا تدخلوا إلى أن اطلب منكما أنا ذلك, إيميلي تخاف من الصراخ أبقيها بعيدة
هزت كلوديا رأسها باضطراب بينما تربت على ظهر الطفلة
-حسنا لكن لا تتأخر علينا رجاءً, فنحن نشعر بالقلق الشديد
أكدت كاترين على كلامها وهي تفرك يديها بتوتر و خوف بعد أن سمعت الصراخ و التحطيم
اكتفى برسم ابتسامة خافتة متصلبة ثم بعدها استدار و دخل غرفة رافاييل التي ما أن دخلها حتى وجدها مقلوبة رأساً على عقلب
إنتبه لـ الممرضة و الطبيب الممددين على الأرض, بينما الأدوية و الأغراض مرمية هنا و هناك و السرير منكب على جانبه
شعر بالفزع من حالة الغرفة و لم يجد أثراً لرافاييل عبر الدمار, مما جال بعقله ان المافيا ربما قد وصلو له و اخذوه
ارتعش جسده من تلك الفكرة التي توجسته و أفقدته حتى القدرة على الحركة !
هنا جاء صوت رافاييل من خلفه قائلاً بخشونة قاتمة
-اوه أهلاً بـ صديقي إيان, هل أتيت لتزورني ؟, هه يـا للطافة
هذه هي المرة الأولى التي ينطق فيها رافاييل منذ شهرين, ما لبث أن استدار الأخر ناحيته سريعاً بلهفة و سعادة حيث لمح أنه كان عاري الصدر فقط يرتدي بنطاله
وجهه و شعره مبلل بالماء مما جعلة يخمن أنه قد إغتسل بثيابه لكي يخمد إهتياجه
صاح ايان بدهشه وهو يتأمله متفحصاً
-راف هل أنت بخير ؟ ما الذي فعلته بحق الجحيم!
رفع كتفيه بعدم اهتمام ثم تقدم بإتجاه السرير و قام بتعديله ليجلس عليه ببرود
-هذا الطبيب الوغد يظن أن بمقدوره إجباري على أخذ الدواء, اللعنة عليه انا لست بـ مجنون, لهذا قد لقنته درس لا ينساه هو و ممرضته التافهة
إزدرى ايان لعابه بتوتر و نظر للطبيب مات الذي قد وقف بآلم ثم يشتم بغضب ويتمتم بقهر
-هذا الرجل فاقد لصوابه بحق, آه لا لا بل إنه مجرم, لن أعالجه البتة و ليذهب لجهنم هو و جنونه
تطاير الشرر من أعين رافاييل الذي ما لبث أن انقض عليه كـ الوحش الهائج, لكن ايان كان أسرع في إمساكه و منعه من ارتكاب جريمة بالطبيب
صرخ وهو يمسك رافاييل الهائج بقوة
-أخرج من الغرفة بسرعة أنت و الممرضة, لن أقدر على منعه طويلاً دكتور مات, هيا تحرك
ارتعب الطبيب لآن يدرك بأن رافاييل لن يقوم بتوفيره قط و خاصة أنه قد جرب قبضته الفولاذية قبل قليل, جذب الممرضة المتألمة و ساعدها على الوقوف ثم خرجا من الغرفة دون تفكير وهو يسندها
ترك إيان ورك رافاييل و الذي ما أن شعر بأنه تحرر حتى وجه لكمة قوية لوجه إيان جعلته يسقط أرضاً بفم مضرج بالدم
بات صدره يعلو و يهبط بحدة بسبب غضبه العارم, و صوت انفاسه الثائرة كانت مسموعة لآيان الذي أخذ يتلمس وجهه و شفته بألم مريع
زفر رافاييل بحنق ثم عاد ليجلس على السرير وهو يضم رأسه بين كفيه يضغط عليه بقوة كـ من يرغب بتهشيمه كلياً
نهض الآخر عن الأرض حيث أحس بأن عظامه قد تحطمت لأن أرضيه الغرفة من الرخام الصلب
مسح الدم بكف يده بينما هتف بهمس هادئ
-هل هدأت الأن يا راف ؟, أم أنك مازلت تريد ضرب شيء اخر؟!
لم يرد عليه و خيم الصمت عليهما كـ غمام كثيف إلا من صوت أنفاسهما المتضاربة
فجأة قطع رافاييل هذا الهدوء الذي استمر لفترة من الزمن قائلاً بضياع
-اريد الخروج من هنا ايان, أخرجني حالاً فأنا لست معتل العقل
قطب حاجبيه بإستنكار ثم اتجه ليجلس بجانبه بهدوء
قال بتجهم ممتعض
-لحظة لحظة من قال أنك معتل, راف أنت هنا لأنك تحتاج لآن تعيد ضبط نفسك, ليس لكونك تعاني من خلل بدماغك
ابتسم الأخر بسخرية حيث سرعان ما تحولت لسلسة من الضحكات العالية من حديث ايان
قال بضيق بعد أن توقف عن الضحك فجأة لينظر مباشرة لآعين رفيقه
-تقول أنني لست مختل؟, وجودي هنا بحد ذاته جنون ايان, لكنه أرحم من العودة لمنزلي حيث أتذكر ما حصل فيها و أجن أكثر
كان إيان ينظر له بأسى حيث رغب بأن يغير له مزاجه المتعكر, لهذا ربت على كتفه قائلاً بابتسامة مرحة
-يا رجل أنظر للجانب المشرق, إسمع لقد احضرت ايميلي لزيارتك, جئت بها لتزور خالها العنيد و الذي قد أوسع الطبيب ضرباً مبرحاً
إنشدت حواس الأخر إليه ليهتف سريعاً بعدم تصديق
-حقاً!, ايميلي هنا ؟, ااه رباااه
غمز ايان بخفه ثم نهض ناحية الباب الذي ما لبث أن قام بفتحه ليقول للفتاتين بسخرية طفيفة
-هيا تفضلا, لكن أعتذر مقدماً, قائد الإنتربول كان هائجاً كـا الثور و قلب موازين الغرفة
قطب رافاييل حاجبيه ممتعضاً مما قاله, في حين أنه استنكر من الأساس لمن كان يوجه حديثه
قهقهت كلوديا و كاترين على تعليق إيان الظريف, قامتا بالدخول للغرفة و ما أن مرا عبر العتبة فقط حتى التقت أبصاهما بتلك الزوج من الياقوت الأخضر
كانت حائرة و ضائعة كلياً, بل كان شكله مختلفاً عن أخر مرة لمحاه فيها و كم إنتابهما الألم و الحزن على تلك التعابير الخاوية
بلعت الفتاتين لعابهما بتوتر بينما كانت أعين رافاييل تحملق فيهما بعمق ولم تزح مطلقاً حتى وقع نظره على ايميلي التي تحملها كلوديا على كتفها بعناية
أحس بموجة مشاعر جياشة و متضاربة من اشتياق و حرمان حينما شاهد إبنة أخته التي بات عمرها شهرين و بضعة أسابيع
انتفض واقفاً من فوره ليتقدم مسرع الخطوات لحيث تقف كلوديا حاملة روح و قلب هارلين التي تركتها خلفها
إبتسم محياه لا شعورياً ثم مد يده ليتناول الطفلة التي أخذت تحدق به باستنكار فهي لا تعرف من يكون هذا الرجل بالنسبة لها
خافت كلوديا أن تبكي إيميلي منه, بل و ذعرت أكثر إذا امتنعت عن اعطائها إياه فيثور عليها كـ المجنون
لهذا استسلمت و قامت بإعطائه ايميلي و التي بمجرد أن حملها حتى أطلقت أنين يدل على انزعاجها و انها على وشك البكاء
لكن رافاييل لم يبالي قط بل قام بضمها لصدره بحنان ثم أخذ يشتم عنقها و رائحتها باشتياق كبير
دمعت عيناه وهو يقوم بدفن وجهه بين ثنايا نحرها الصغير و همس بصوت مهزوز
-آه لكم اشتقت لهذه الرائحة الجميلة, أشعر أنه قد مر دهر على كل ذلك و ليس شهرين, رباه إيميلي خالكِ سيفقد عقله و أنتِ علاجي الوحيد
أخذ يقبلها بحب و عاطفة مكبوتة فـ كان المنظر فعلاً مؤثر لإيان و كلوديا و كاترين مما جعل الفتاتين تبكيان من شدة التحسس
اما ايان اكتفى برسم ابتسامة رزينة يعبر فيها عن مدى سعادته لإستجابة رافاييل اخيراً بعد كل تلك الفترة
حمحم بعدها ليقول بهدوء يمرر بصره بالواقفين
-سأذهب لجلب بعض الطعام, مؤكد أن رافاييل جائع و لم يتناول شيئاً
هتفت كلوديا وهي تمسح دموعها سريعاً
-سأتي معك لمساعدتك, كاترين ابقي أنتِ هنا مع رافاييل و ايميلي
شهقت الأخرى بإعتراض حيث كادت أن تمتنع كلياً لكن كلوديا همست لها
-لقد قلتِ بأن هناك ما تودين اخباره به, ربما هذا يساعده في استعادة رباطة جأشه, أعتمد عليكِ يا كات
ربتت على شعرها برقه تحفزها ثم خرجت بعدها مع ايان لجلب الطعام
شعرت كاترين فجأة بتوتر فضيع و رجفة غير طبيعية, فهي لم يسبق أن جلست مع رجل لوحدهما و بغرفة مغلقة
هذا يجعلها تشعر بعدم الراحة والاضطراب, لكن ما يجعل حالها أفضل هو معرفتها بأخلاق رافاييل ولكن هو يعتبر الأن غير متوازن و هش فـ ربما ينقض عليها كـا الوحش دون وعي
أزاحت تلك الأفكار سريعاً بغيظ, فلقد أحست بمدى سذاجتها بأن تظن السوء بأكثر رجل كان يحبه والدها !
بلعت لعابها بهدوء ثم رفعت نظرها بحذر ناحية رافاييل الذي ظل يداعب طفلته بحب و إبتسامة جذابة ارتسمت على محياه, كأن الحياة عادت تتدفق عبر شرايينه
افترشت بسمة على شكله و فرحت بأن حالة تحسن بعد رؤيته لطفلة أخته المتوفاة رغم أنه حرفياً الطفلة تـكاد تنفجر بالبكاء بتلك التجعيدة الحلوة على محياها الصغير
عاد الأخر ليجلس على السرير و ايميلي بحضنه, تطلع بعدها ناحية كاترين بخفة و التي لم تنتبه أنها كانت شاردة بوجهه بإمعان و أنه يحملق بها
قطب حاجبيه و ابتسم ببلاهة ليقول بسخرية
-هل شكلي مخيف لتلك الدرجة ؟, فأنا لم أهذب ذقني منذ شهرين, مؤكد أصبح شكلي مريعاً الآن
تنبهت لـ نبرته الساخرة تقوم بخفض نظراتها بحرج و هي تلوم نفسها على غبائها
وضحت بهدوء وهي تتحاشى التطلع إليه
-المعذره لم اقصد هذا, لكن شردت في شكلكْ أنت و ايميلي, منظركما معاً لطيف حقاُ
لم يتوقع صراحتها هذه فـشعر بنوع من الحرج و التوتر لهذا أزاح بصره سريعاً عنها ليشغل نفسه بايميلي التي ترفض لمساته تعبس شفتها
قال بهمس مسموع وهو مسترسل في مداعبة طفلته
-شكراً لكِ
اكتفى بقول هذه الكلمتين ثم صمت بينما هي ابتسمت بهدوء, فجأة و بدون وعي منها وجدت ذاتها تتقدم نحوه ثم إتخذت مجلساً على الكرسي القريب منه و المقابل له
عدلت من نفسها لتأخذ نفس عميق تستجمع فيها شجاعة كافية لتقول له ما اتت من اجله
نظرت نحوه بأعين عسلية تهتف بجدية
-سيد رافاييل, في الحقيقة هناك ما اريد قوله لك و اتمنى منك أن تنصت للنهاية, و عندها أريدك أن تقرر بشأن ما ستسمعه مني!
استنكر بشدة بأن يكون هناك حديث جدي بينهما خاصة أنه لم يرها سوا مرتين او ثلاث على الأكثر, فلم تكن علاقتهما بذاك القرب مطلقاً
شعر بالفضول يعتريه مما ستقوله, لهذا اجابها باهتمام فيما يمدد ايميلي على السرير
-حسنا قولي ما لديكِ, انا استمع
قضمت شفتها السفلى بتردد لكن سرعان ما نظرت لقزحيته مباشرة مستطردة
-سأخبرك بشيء قاله لي والدي قبل موته بأسبوع, و هو اليوم الذي كان يكتب فيه خطاب توصية بأن تكون قائد الإنتربول من بعد تقاعده, رغم أنك صغير بالسن على رتبة كهذه
أنشدت حواسه باهتمام كبير يعدل من جلسته, منصتاً لها بكل جوارحه بينما هي أخذت تعود بذاكرتها للوراء قرابة السنة و بضعة أشهر



"روايـة الصِـراع"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن