مقدمة

64.2K 708 19
                                    


جالسا أمام حاسوبه بهدوء يحاول اتمام برنامجه الجديد، امتدت يده لتأخذ فنجان قهوته الذي لا يكاد يفارقه، ثم قطب لمرارتها بعد احتساء رشفة منها .. الا أنه كان يحبها هكذا.. مرة وبدون سكر ..
فجأة رن هاتفه بجانبه بازعاج .. "تبا ! هذا وقتك الآن ؟ ثم من وضع هذه الرنة الغبية به؟ " ولم يتعب نفسه بالسؤال؟ .. لا بد أنها أخته الصغيرة العزيزة .. "حسنا يا أماني ..حسابي معك سيكون عسيرا "
ما ان نظر الى اسم المتصل حتى أجاب فورا " أهلا .. بأستاذي  علي"
" مرحبا يا مهدي .. كيف حالك؟"
"بخير .. الحمد لله ! شرف لي أن تتصل بي "
" بل الشرف لي .. أن يكون نابغة مثلك كان طالبا عندي يوما ما ! أريد منك خدمة .. هل أستطيع؟"
"طبعا ! أكيد "
" دائما ما أذكرك لطلبتي وأشيد بذكائك وانجازاتك .. وهم الآن متشوقون جدا لرؤيتك .. هل تستطيع أن تأتي لحصتي غدا صباحا؟ "
ألقى نظرة سريعة على ساعة يده .. ثم توجه نظره الى مذكرته المفتوحة أمامه .. " نعم أكيد يا أستاذ .. وان هذا لشرف كبير لي !"
"جميل جدا ، أسعدني جوابك .. نلتقي غدا اذا؟ في الكلية ؟ "
"نعم ! سأكون هناك .. طبعا"
" شكرا لك .. أنا أعلم أنك الآن مهندس بارع في مجال المعلوميات .. وستكون مشغولا .. "
"لا لا أبدا، كل وقتي لك .. ولا داع لشكري فهذا واجبي .."
"حسنا .. الى غد "
"نعم الى غد .. ان شاء الله "
أنهى مكالمته .. ثم وضع هاتفه على مكتبه .. وتنهد بهدوء ..  لازال يتوتر كلما تكلم مع أحد مدرسيه ..
"غدا صباحا اذن، جيد .. " ثم نظر الى هاتفه بتفكير مرة أخرى ..
"والآن حان وقتك يا أماني "
خرج من غرفته يزفر بغيض .. "أمي .. أين هي أماني؟ .. أنت يا أماني .. أجيبيني !"
أطل رأس صغير من جانب باب الغرفة المقابلة له .. "نعم ؟ "
نظر لها بتقطيبة " أنت من غير رنة هاتفي مجددا .. أليس كذلك؟ "
نظرت له ببرائة بعينيها الواسعتين " أنا ؟ " ثم أطلقت ضحكتها الصبيانية وهي تركض الى المطبخ لتختبئ بأمها " طبعا .. ومن غيري ؟ "
لحق بها غاضبا .. فوجد أمه أمامه .. نظر اليها بعتاب وغيض "أمي ! "
قالت له والدته بحزم " دعها وشأنها يا مهدي .. انها طفلة صغيرة .. لا تقس عليها "
نظر لوالدته : " أمي بربك؟! هذه صغيرة؟ أكاد أجزم أنها تعرف أمورا لا أعلمها أنا .. تفسدينها بدلالك هذا .. " ثم التفت  اليها .. " لن تفلتي مني هذه المرة اذا كررتها .. وحتى أمي حينها لن تشفع لكِ عندي .. غبية !"
أخرجت له لسانها وهي تختبئ وراء والدتها "أفزعتني "
توجه الى غرفته غاضبا يتمتم بحنق .."ستعلمين معنى الفزع حين لا تكون والدتي بجانبك ".
كان مهدي شابا وسيما ملتزما منعزلا  يواجه مشكلة في التعامل مع الجنس اللطيف .. حتى أخته الصغيرة .. لا يكاد يطيقها هي وأفعالها ..
كان سريع الغضب الا أنه يجيد التحكم في غضبه وأعصابه وقوي السيطرة على نفسه .. ربما يسمى متشددا قليلا عند البعض .. فهو لا يصافح البنات .. ولا حتى يكلمهن .. الا قليلا جدا ! جل اهتمامه منصب في اتمام مشروعه .. وكذا تأمين مستقبله .. والباقي كل سيأتي بأوانه ..
فكرته على الزواج .. تقليدية .. سيتزوج فتاة تختارها والدته .. وتعجبه هو .. على دين ، بسيطة الشخصية .. واذا كانت منعدمتها فيكون أحسن .. فهو لا يطيق الجدال .. وخصوصا مع فتاة !
******

كانت تنام بعمق حين رن المنبه بجانبها بإزعاج، ..
"يا إلهي .. ليس الآن " ، امتدت يدها لتطفأه فلم تصل ... "أسكت .. لطفا! خمس دقائق فقط"
لم يستجب المنبه لتوسلها ، وبقي يرن بجانبها باصرار ..
فتحت عينيها بكسل، تنظر بكره للمنبه.. "أريد أن أعرف من التافه الذي اخترع المنبه، تبا له ..!"
تداعى صوت آذان الفجر الى مسامعها .. "رباه ، الفجر .. ليس الآن "
ابعدت عنها الملائة بقهر ..تكاد أن تبكي "أكره الاستيقاض باكرا "
طرق باب غرفتها بلطف .. ثم سمعت صوت أخيها من ورائه "ملك ! هل استيقضت؟ لقد أذن الفجر .. "
أجابت بحنق .. "نعم أنا مستيقظة .. دعني وشأني الآن !"
فتح الباب .. وأطل وجهه بابتسامة "صباح الخير، ابتسمي، انه يوم رائع .. "
نظرت اليه بملل " أنس .. لا تبدأ الآن، محاضراتك الغبية ألقها على البنات اللواتي يصطففن لسماعها .. أنا لا تهمني .. هه! من يبتسم في الصباح !"
سخر بابتسامة :" أنت محقة .. فلو كنت فتاة، لاستمعت لي .. هذا لو ! أما أنت .. "
شيئ ما اصدم بوجهه .. أغمض عينه بغيض ..ثم فتحهما ليلقي نظرة على الوسادة الملقاة على الأرض والتي قبل قليل كانت على وجهه "أنا المخطئ لأنني أضيع وقتي معك .. "
أغلق الباب ورائه وانصرف .. "اوه الحمد لله .. سأرجع لأنام قليلا .. "
"مللللك ! "
" أنا آتية .. "
*******
وقف مهدي أمام المرآة وهو يضع آخر اللمسات قبل أن يخرج .. لقد تأنق بشكل خاص .. فهو اليوم سيكون محط أنظار الكثير .. بنظرة رضى نظر الى نفسه "جيد !"
توجه نحو والدته ليقبل يدها .. "ادعي لي يا أمي "
ابتسمت له برضى "فتح الله لك أبواب رزقه وتوفيقه يا بني .. وجمعك بالفتاة التي ستكون مناسبة لك "
نظر لها بابتسام :"آمين يا أمي .. رغم أنني لست مستعجلا بالنسبة للفتاة هه!" ..
وقف أمام باب الكلية .. ينظر اليها .. ذكريات كثيرة تداهمه فجأة .. أول يوم له هنا .. أيام الامتحانات .. وجلوسه الطويل في المكتبة .. التي كانت احدى أماكنه المفضلة .. تنهد برضى وقد علت ابتسامته محياه .. ثم دخل.
نظرة لا مبالاة .. يراقب بها كل شيئ .. ولا شيئ .. الطلبة كالجراد .. والبنات هه .. منهن الكثير .. وكعادته .. كلما لمح فتاة أدار بصره .. وكلما سمع صوت أخرى ابتعد.
بابتسامة نظر الى أستاذه ..
"هذا أنت يا مهدي؟ لقد كبرت ما شاء الله وصرت رجلا مكتملا الآن .. حتى أنك أطول مني "
أحنى رأسه خجلا "شكرا يا أستاذ!"
"تعال معي .."
دخلا الى القاعة وكانت مليئة بالطلبة .. فعم السكون المكان ليتاح لهم سماع الأستاذ ..
"هذا مهدي .. الذي كنت أحدثكم عنه كثيرا ! طالبي المميز وابني النجيب .. هو الآن مهندس .. وبارع في مجاله ، اليوم ستكون الحصة حصته .. هو أستاذكم .. اسألوه أو ليسألكم هو .. أنا سأراقب فقط! "
نظر الى أستاذه بامتنان على اطرائه "هذا لطف منك أستاذ .. شكرا "
ثم بنظرة واثقة .. وابتسامة التفت الى الجموع التي أمامه ..

لأنكِ ليحيث تعيش القصص. اكتشف الآن