أنا بخير

23.9K 529 295
                                    

كان الجو باردا ممطرا، إلا أن أنس كان يحس بالحرارة حتى أنه يكاد يحترق، ألقى بنفسه خارجا يزفر بغيض يشد على قبضته "كيف يفعل هذا؟ "
لم يعرف كيف وصل للشركة التي يعمل بها مهدي، دفع بابا الجناح بعنف جعل منار تنتفض، التفتت لتجد أمامها أنس، إلا أنه ليس أنس اللطيف ذو الإبتسامة الذي تعرفه ، كان أنسا آخر غاضبا يبدو كأنه لا يرى شيئا، "هل ذاك الوغد هنا؟ "
جاء صوته باردا مخيفا، نظرت له بتسائل "لم أفهم !"
"سأرى بنفسي .. " همت بالكلام إلا أنه تجاهلها يفتح باب المكتب أمامه بشدة.
كان مهدي جالسا على كرسيه يراجع بضع أوراق بين يديه، حين رفع عينيه ليرى من أين تأتي هذه الضجة.
لم يمهله أنس كثيرا من الوقت ليدرك ما الذي يجري، لأنه تقدم نحوه مسرعا ليحكم قبضته على ياقته ينتشله من كرسيه ثم سدد لكمة عنيفة لوجهه جعلته يترنح قبل أن يستعيد توازنه، بقي مشدوها للحظات ثم وضع يده على فكه ينظر لأنس ..
"ما الذي يجري؟ أنس !" كانت منار مشدوهة تقف بينهما لا تدري ما الذي يحصل،
"لا شيئ يخصكِ" رد مهدي بصوت كالفحيح، "اخرجي حالا"
"أنس! " إلتفتت تنظر لأنس برجاء إلا أنه لم يعرها انتباها، تقدم مجددا نحو مهدي ممسكا بياقته "ماذا تظن نفسك؟ "
"أنس أبعد يديك عني لأنني لا أريد العراك معك !"
"هه فعلا؟ حسنا " ترك أنس مهدي لكن ما إن ابتعد عنه قليلا حتى عاد إليه مسددا لكمة أخرى لفك مهدي حتى سال الدم من جانب فمه، "ما رأيك الآن؟"
مسح مهدي الدم عن فمه، "لست سيئا" زفر أنس ساخرا "ليس سيئا أليس كذلك .. "
فقد أنس السيطرة على أعصابه، كل ما كان يراه الآن هو ألم ملك وانتفاضها بين ذراعيه، توجه نحو مهدي يفرغ به كل الغضب الذي يجتاحه، لم يكن يعلم بالضبط أين يضرب ولا ماذا يفعل .. كل ما كان يجول بخاطره "ستدفع الثمن "
لم يستفق من سكرة غضبه إلا عندما أحس بقوة تجره مما هو فيه، حين التفت حوله وجد أن واحدا من أمن الشركة قد أحاط خصره بذراعيه يجذبه من فوق مهدي ..
دفع عنه الرجل، بينما وقف مهدي هو الآخر ينفض الغبار عن قميصه، تقدم نحوه أنس مهددا بسبابته "الأمر لم ينته هنا، إذا رأيتك تمر حتى بجانب مكان فيه أختي حينها سترى ما أنا قادر على فعله "
ندت ابتسامة ساخرة على وجه مهدي وهو يشير لرجل الأمن بأن يبتعد عن أنس "أنا لم أبد أية ردة فعل هذه المرة، لأنني أظن انني لو كنت مكانك كنت لأفعل مثلك، ولكن تأكد أنه إن تكرر هذا الأمر مرة أخرى صدقني لن أكون بمثل هذا الهدوء .. "
"سنرى .. " قالها أنس وهو يمشي خارجا ينفض عن ثيابه ماعلق بها، إلا أن غضبه لم يهدأ بعد، مازال ذاك الوجع يتفاقم بداخله كلما تذكر أنه كان أحمق كفاية ليوافق على زواج أخته من رجل لا يعرفه أبدا، كيف تسبب هو نفسه بجرح أغلى إنسان على قلبه؟!
كان يغمض عينيه بين الفينة والأخرى يحاول إبعاد آخر صورة له عن والديه وهما جثة هامدة .. حين نودي عليه ليتعرف على الجثتين، لقد كان الألم عظيما حينها، يشابه ما يمر به الآن .. كان قد أقسم بجانبهما أن يهتم بملك ويحميها ويقوم بدورهما حتى لا تحس بأي نقص أبدا، كان ممزقا بين ألمه على ملك وأسفه لوالديه.
بعد مدة عاد للبيت منكها، أمضى وقتا طويلا يحاول اجتياز موجة الغضب التي اعترته، هو لا يريد لملك أن تراه غاضبا لأنه يعلم كم يبدو مخيفا حينها، "ملك "
نادى بإسمها وهو يلقي بالمفاتيح من بين يديه، "ملك .. " " ارتفع صوته أكثر إلا أنها لا تجيب، نبض قلبه بعنف وهو يركض في أرجاء المنزل يبحث عنها، إلا انه هدأ قليلا حين وجدها نائمة متوسدة ذراعيها على مكتبها، اقترب منها ببطئ يبدو التعب جليا على محياها وعينيها الجميلتين مغمضتين بإنهاك .. بقي يتأملها لفترة قبل أن ينحني ليقبل جبهتها ثم يمد يده يرتب بها بضع خصلات من شعرها .. منظرها الهادئ هذا يبعث السكينة بروحه، هو يكفيه من كل هذه الدنيا أن تكون هي بخير فقط.
فتحت ملك عيناها ببطئ، هي لا تعلم منذ متى وهي نائمة ولا كيف نامت، ولا أين هي حتى .. التفتت بهلع نحوها حين أتاها صوت أنس "كيف حال جميلتي النائمة الآن ؟"
همست بتعب "آه أنس، أين ذهبت مسرعا ؟ انتظرتك طويلا وخفت أن يصيبك مكروه " ابتسم وهو يفتح ذراعيه "أنا هنا الآن بخير، وبعد قليل سأكون أفضل "
نظرت له مستفهمة، فأشار نحو حقيبتي سفر كان يجرهما بكلتا يديه نحوها " سنسافر " عقدت حاجبيها بعدم فهم "كيف؟"
ضحك وهو يقترب منها "صباح الخير يا روحي، أنا أعلم أن غبائك يكون أكبر عندما تستفيقين من النوم، الأمر لا يحتاج لكثير من التفسير، سنسافر بسيارتي والآن .. ليس لمدة طويلة فقط أسبوع".
                       *************
بعد أسبوع، كان أنس يقود سيارته بهدوء الى جانبه ملك، يلقي عليها بين الحين والآخر نظرات قلقة .. "هل أنتِ متأكدة من أنكِ تريدين العودة؟ نستطيع أن نبقى مدة أطول "
تنهدت ملك بملل "أنا بخير يا أنس ألا ترى أنك تبالغ كثيرا؟ إنها ليست نهاية العالم، وأنا أؤكد لك أن لا نية لدي أبدا بالإنتحار " التفت إليها بغضب فوجدها تنظر له وقد أخرجت له لسانها مستمتعة بإغضابه، "غبية "
أحنت رأسها قليلا تنظر ليديها وهي تبتسم ثم إلتفتت إليه " أنا بخير صدقا يا أنس، الأمر لم يكن يستحق .. أتعلم؟ بهذه الفترة التي أمضيتها معك بعيدة فكرت فيها كثيرا، وأدركت كم كنت مخطئة "
أدارت وجهها بإتجاه النافذة تراقب الطريق التي تمضي مسرعة ثم أكملت " كنت مخطئة بأنني أعطيت للزواج قيمة أكبر مما يستحق، وربما فعلة مهدي هذه هي ما جعلتني أدرك ما الذي كنت أفعله، أنا فقط كنت سعيدة جدا لأنني أحببت وسأتزوج الرجل الذي أحبه وكان ذلك كافيا لي بكل هذه الدنيا، لم أكن لأفكر أبعد من ذلك، كنت سأتزوج وسيكون ذاك أقصى هدف لي .. إلا أنه ليس صحيحا، هذه الحياة ليست عبارة عن زواج فقط، هذه الحياة هي دراستي، عملي، الأحلام التي كنت أبنيها وأنا صغيرة، مخططات أسعى لتحقيقها، صديقاتي .. " صمتت قليلا ثم أكملت " وأنت يا أخي، أنت عائلتي، وأنا سعيدة جدا بما لدي الآن .. ما حدث كان جيدا لي، كانت صفعة قوية لأستفيق من حلمي الوردي الذي دفنت نفسي به، صدقني فقط هذه التجربة جعلتني أحس كأنني فجأة أصبحت ناضجة أكثر وقادرة على مواجهة المشاكل والتعامل معها وتجاوزها وليس الركض والإختباء وراءك بعد كل صعوبة تلاقيني .. أحس كأنني لم أعد هشة سهلة الكسر كما كنت، الآن سأتوقع جميع الإحتمالات، وسأرى نصف الكأس المملوء وأستشف العبر من كل أمر موجع ألم بي .. أنا بخير صدقا" ضحكت "الحياة تمضي مسرعة جدا كهذا الطريق الذي نمضي عليه الآن، لا شيئ يستحق أن نقف من أجله لأن هذه الحياة ستمضي ولن تنتظر أحدا" صمتت قليلا " يجب أن تمضي .. وهذا الألم مهما كان حادا سيهدئ، وهذه الدموع مهما انهمرت ستنتهي، وهذه السعادة إن غابت الآن فستعود إن لم يكن اليوم فغدا .. قليل من الصبر فقط هذا ما أؤمن به الآن " كانت عيناها قد امتلأت بالدموع وهي تتكلم فابتسمت "سبحان من جعلنا نحن النساء نستشف القوة من ضعفنا"
كان أنس ينصت لها بابتسامة تعلو محياه "أنا سعيد لأنكِ تجاوزت الأمر .. " وامتدت يده يجر بها خدها "كبرتِ هاه .. إلا أنكِ بالنسبة لي ستبقين دوما صغيرة "
دفعت يده بعيدا عنها "توقف عن هذا، انت لا تطاق لقد كنت جادة جدا، وأنا لست صغيرة "ضحك بعمق "ألستِ كذلك؟" عقدت حاجبيها وهي تضرب على كتفه "انتبه لطريقك "
                        ***************
كانت ملك تسير في طريقها شاردة بعد أن خرجت من الكلية حين سمعت صوتا مألوفا ينادي بإسمها "ملك "
إلتفتت نحوه لتجد مهدي واقفا أمامها، نظرت له لبرهة "نعم؟"
أجابته برسمية بينما بقي هو ينظر لها بعينيه المتعبتين ولحيته التي بدت أطول قليلا، هالة من الإنهاك تحيط بوجهه وحتى مظهره الواثق بدا لها الآن مهزوزا ..
"أين كنتِ طوال هذا الوقت؟ بحثت عنكِ طويلا "
ندت عنها إبتسامة ساخرة "حقا؟ وماذا كنت تريد مني؟ فحتى الهدايا التي أحظرتها لي يوم الخطبة بعثتها لك "
"أنستطيع أن نتحدث بمكان آخر؟ لدي ما أقوله لكِ"
"بأي صفة تقف انت الآن وتحدثني؟ وأنا ليس لدي أبدا ما أقوله لك"
همت بالذهاب فاستوقفها مجددا "إذن تستطيعين سماع ما أود قوله أنا، لن أطيل الكلام أنا أعدك"
ابتسمت تنظر له ببرود "لا أريد، واحذر من أن يراك أخي، لأنه لن يكون سعيدا بذلك "
ارتجف فكه بغضب "وهل يجب علي أن اخاف الآن؟"
ندت عنها ابتسامة وهي تشير إلى آثار لكمة بجانب فمه "في نظري، يجب عليك ذلك .. والآن تنح عن طريقي "
تنهد ثم أفسح لها المجال لتمضي "لم ينته هذا الأمر هنا يا ملك " وقفت دون أن تلتفت نحوه "نعم لأنه إنتهى منذ زمن"
                        ************
أتمنى أن ينال البارت إعجابكم وهذا الجزء تعويضا عن تأخيري كل هذه المدة في النشر 💝
شكرا لتعليقاتكم المشجعة، لا تبخلو علي أبدا بآرائكم وإقتراحاتكم .. 🌹

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: May 16, 2023 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

لأنكِ ليحيث تعيش القصص. اكتشف الآن