الفصل الثاني عشر
لا تنظر إلى الأوراق التي تغير لونها وبهتت حروفها
تاهت سطورها بين الألم واليأس
سنكتشف أن هذه السطور ليست أجمل ما كتبت
انتبه إلى من وضع سطورك في عينيه
ومن ألقى بها عرض الحائط
لم تكن هذه السطور مجرد كلام عابر
لكنها مشاعر قلب عاش أحرفها
ونبض إنسان حملها واكتوى بنارها ألمًا
جالسة تنهي بعض الأمور المتعلقة بمقالها القادم ، تسلط الضوء فيه على قضية فساد جديدة.
"قضية سقوط العقارات"
السبب
يدور حول شركات ومصانع المقاولات الفاسدة التي لا تهتم بصلاحية وصحة مواد البناء التي تنتجها..
فيكون المنتج فاسد لا يصلح للاستعمال!
ثم ينهدم البناء بعد فترة قصيرة من نشأته والبعض الآخر ينهدم قبل أن يتم الانتهاء منه من الأساس!
وبين مهندسين وعاملين منعدمي الضمير ، لا يتقنون عملهم وكل ما يهمهم المال فقط.
يتهاونون في أرواح البشر والعاملين من أجل بضعة ورقات تسمى أموال متناسين أمانتهم وضميرهم تأكله شياطين أنفسهم!
والضحية!
أناس أبرياء تزهق أرواحهم وتدفن تحت الأنقاض وكأنهم لا يسوون شيئًا.
أُسر كل أمانيهم أن يحيطهم منزل يتجمعون في كنفه!
عروسان في بداية طريقهما يبحثان عن عش زوجية لتبدأ حياتهما سويًا.
شاب مغترب جاء يبحث عن لقمة عيشه أو يكمل دراسته!
ليكون الناتج نهاية حياة وزهق الروح!!
أما التعويض!
حفنة من المال ترسل لمن بقى من أهليهم على قيد الحياة!
كأنها ستعوضهم من فقدوهم من ذويهم..
ستثلج نار قلوبهم..
سواء على أب ترك عائلته بلا حول ولا قوة.
أو طفل اختطف من حضن أمه وأبيه.
أو أم رحلت من بين أسرتها.
أو طفلة وفتاة في عمر الزواج انتهت حياتها فجأة!
ويظل مسلسل الفساد مستمر إلى هذه اللحظة دون رقيب.
ليكون السؤال هنا.. من الجاني الحقيقي؟
من عليه أن يُحاسَب و من يُحاسِب؟"
خطت بقلمها آخر أحرف في مقالها قبل أن تدلف به إلى رئيس التحرير ليعطي موافقته على النشر.
دقت الباب ، فسمعته يأذن لها بالدخول..
دخلت وعلى وجهها ابتسامة وقالت بنبرة حماس :
-"صباح الخير يا ريس"
حياها بابتسامة عذبة :
-"صباح النور يا هدير"
حدجها بنظرة ضيقة وتأمل غامض قبل أن يقول :
-"فيه ابتسامة ونبرة حماس ، يبقى هتوريني المقال الجديد"
ضحكت بحماس تمد يدها بمقالها إليه ، فأخذه منها يردد :
-"هاتي يا ستي ، ربنا يستر المرة دي"
وقفت تراقبه يقرأ ما كتبته ، لاحظت تغير تعبيرات وجهه من الصدمة إلى الضيق ثم إلى الغضب ، فعضت على شفتها السفلى ، وحكت مؤخرة رأسها تشيح بوجهها في الجانب الآخر ، تستعد إلى موجة من الغضب ستحل عليها الآن.
وبالفعل وجدته يضرب المكتب بقبضتيه بقوة عادت على أثرها خطوة للخلف بعد انتفاضة جسدها ، يهب واقفًا يصرخ بها :
-"يا نهار أسود يا هدير ، أنتِ ناوية تتحبسي صح؟"
أجابته بحيرة عاقدة حاجبيها بتعجب تنظر له قائلة :
-"ليه يا فندم؟
إيه الغلط في اللي كتبته؟"
دار حول مكتبه يقف أمامها يهز رأسه بيأس منها وتابع :
-"هدير أنتِ عارفة المرة دي بتخبطي في مين؟
مستوعبة الفكرة!!
المرات اللي فاتت كنا بنكشف رجال أعمال ، لكن المرة دي أنتِ هتودي نفسك في داهية"
التفتت غاضبة لما تسمعه منه ، وهتفت بحدة غير مقصودة قائلة :
-"واحنا من امتى بنخاف من حد؟
من امتى وإحنا بنتهاون في كشف أي فساد حتى لو كان مين؟
لو أنا هروح في داهية تبقى أهون من اللي بيتعرض ليه الناس دي ، وغيرهم اللي عايش في رعب مستني الموت في أي لحظة ويسأل امتى البيت يقع بيه؟"
ضرب بكفه الممسكة بورقة المقال بعنف على سطح مكتبه وعلى صوته بنبرة صارمة يشوبها القلق مما تتقدم عليه يجيبها:
-"وأنتِ مالك؟
فيه ناس دورهم يعالجوا المشاكل دي ، أنتِ دورك تسلطي الضوء بس مش تخبطي في الكل وتودي نفسك في داهية"
حكت جبهتها بتوتر وغضب ، تذم شفتيها بتفكير واضعة يدها الأخرى في خصرها ، ثم قالت :
-"ما أنا معملتش حاجة غير إني سلطت الضوء ، ولا المفروض اطبطب!
طب بلاش دول ، الناس اللي عايشة في عشوائيات وعشش ، حياة غير آدمية بالمرة ، دول ملهمش الحق أنهم يعيشوا على الأقل في بيت يحميهم!
مش كل يوم والتاني يقوموا على حريقة أو خناقة يروح فيها ناس ملهاش أي ذنب"
أشاحت بيدها وقد تناست أنها تتحدث مع رئيسها :
-"والناس اللي عايشة في قرى ونجوع في الصعيد وفي مصر كلها ، من غير لا ميا ولا كهربا ولا رعاية صحية ، نتجاهلهم بردو عشان نسكت ومنروحش في داهية؟
ودول حقهم هيجي ازاي؟"
مسح على وجهه بنفاذ صبر يحاول شرح الموقف لها ، يعلم أنه يستطيع أن يرفض المقال بسهولة ، لها معزة خاصة لديه ، فهي معه منذ أن كانت الجريدة مغمورة ولم تظهر إلى النور ، وبفضلها هي وأصدقائها بعد الله أصبحت أهم جريدة في مصر ، ولهذا يخاف عليها بشدة فهي مثل ابنته.
ألتفت لها بهدوء وقال :
-"يا هدير افهمي ، أنا مش ضد المقال.. بالعكس أنا معاكِ في كل كلمة فيه ، بس خايف من العواقب
مقالك نزل قبله مقالات كتير في المواضيع دي ، وفعلًا بيحصل إصلاحات مش هننكر ، لكن أنا خايف عليكِ
مش عاوز تطلع زي قضية رأفت وفي الآخر طلع منها زي الشعرة من العجين"
ضحكت بسخرية تدور حول نفسها وتقول :
-"مقالي موجه لأصحاب المقاولات الفاسدة ، المهندسين اللي مفيش عندهم ضمير ، لعدم وجود رقابة.. فاللي المفروض يخاف من العواقب هما مش إحنا"
نظرت له رافعة رأسها بشموخ ونظرات مصرة على موقفها هتفت :
-"أنا لو هقدم استقالتي بعد المقال معنديش مانع ، لكن مش هغير فيه حرف ولا هتنازل عنه"
أكملت تقول بنبرة ثقة :
-"صدقني يا فندم لو وافقت تنشره تبقى ضجة كبيرة ، على الأقل نفتح الملف قدام الكل ونمنع بيوت كتير ممكن تقع وأرواح كتير تروح ، على الأقل الناس دي تحس إن فيه حد مهتم لأمرها"
راقبها من وراء نظارته ، ثم تهدلت أكتافه بيأس ينظر اليها ثم قال بلا حول :
-"أمري لله هوافق على نشره ، بس صدقيني لو حصل أي مشاكل ليكِ من وراه همنع أي مقالات زي دي تاني ، ومش بس كده هنزلك قسم الفن"
عقدت حاجبيها باستنكار وتمتمت :
-"فن!!
بقى دي أخرتها يا هدير.. من صحفية كبيرة في عالم الفساد لصحفية تجري ورا ده وده عشان تشوفي فيلمه؟"
-"بتقولي حاجة يا هدير؟"
هتف بها عامر فانتفضت مكانها ، ثم قالت تهم بالهروب إلى الخارج :
-"لا يا فندم ولا حاجة ، إن شاء الله مفيش مشاكل هتحصل"
★★★★★
تغار المرأة فتبكي
لكن يغار الرجل فيصمت
فغيرة المرأة اشتعال
وغيرة الرجل انطفاء !
ارتدى رامز ملابس رياضية وحذاء رياضي وقرر الذهاب الى النادي ، يمارس بعض الرياضة ويرى أسماء ، اشتاق لها كثيرًا منذ اليوم الذي جمعهما في منزلها..
أخذ سيارته وذهب حتى وصل إلى هناك ، هبط منها يحمل حقيبته على ظهره ، يسير بخطوات رزينة واثقة خطفت أنظار الفتيات من حوله ، و تقدم من ملعب كرة السلة لعلمه أنها هناك.
وجدها تجري برشاقة وخفة في تلك الملابس الرياضية المكونة من بنطال أزرق و كنزة بيضاء.
طالعها بابتسامة ووله حتى احتدت نظراته عندما وقعت على ذلك المسمى "عمر" يتطلع إليها بإعجاب.
أراد أن يدق عنقه أو يفقأ عينيه حتى لا تقع نظراته على صغيرته.. رآها تشير له عندما لمحته جالس في المدرجات ، فأشار لها أنه سيهبط إليها.
رآها تتقدم منه بابتسامة خطفت لبه مرسومة على شفتيها إلى أن وصلت إليه وهتفت :
-"إيه ده؟
أنت هنا من امتى؟"
-"لسه واصل من عشر دقايق بس.. خلصتِ ولا لسه؟"
-"أيوه خلصت وكنت هروح أفطر"
-"طب يلا أنا كمان مفطرتش"
ولكن قبل أن يذهبا وجدت من ينادي عليها ، فالتفتت ترى عمر يتقدم نحوها وقال :
-"المرة الجاية مفيش تدريب لأني مسافر"
أومأت برأسها تقول :
-"تمام يا كابتن ، أنا...."
وقبل أن تكمل وجدت رامز يقاطعها متقدمًا أمامها بطريقة دفاعية يقول له بسخرية :
-"تسلم يا كوتش ، بس يا ترى روحت لكل واحد في الفريق وبلغته الخبر ده؟"
اتسعت عيناها بذهول من نبرته ونظرت له بدهشة ، بينما قال عمر والارتباك ظهر في صوته :
-"لا بس أنسة أسماء كانت ماشية ومش هتسمعني قولت ألحقها"
حك رامز دقنه ينظر لأسفل وقال :
-"تمام يا كوتش ، عن أذنك إحنا بقى"
جذبها من كفها خلفه وسار بغضب بعيدًا عن هذا اللزج كما يسميه ، ولكن أسماء توقفت تجذب يدها من قبضته تصيح به بغضب :
-"إيه اللي أنت عملته ده؟
أنت كلمته بالطريقة دي ليه؟"
استدار لها وعينيه تطلع شرارات الغضب والغيرة وقال من بين أسنانه :
-"يا ترى الاهتمام ده لكل الفريق ولا ليكِ أنتِ بس؟"
-"أنت تقصد إيه؟"
-"أقصد أن الكابتن بيلمح لحاجة أكبر ، وإنك بالنسبة ليه مش مجرد واحدة في الفريق"
اتسعت حدقتيها بذهول وفغرت فاها لما يلمح إليه ، وصرخت به :
-"أنت إيه اللي بتقوله ده؟
جبت الكلام ده منين؟"
اقترب منها مشيحًا بيده في جميع الأنحاء بانفعال قائلًا :
-"نظراته ، اهتمامه ، كلامه المتزوق.. كل حاجة واضحة زي الشمس"
ضيقت عينيها تطلع إليه.. تري أهذه غيرة ؟
إن كانت هكذا فعليها أن تتأكد وتستغل الفرصة.
عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت باستفزاز وحاجب مرتفع :
-"ولو.. إيه العيب في عمر؟
إنسان كويس ومحترم ، يعني لو زي ما أنت بتلمح يبقى غرضه ارتباط مش صحوبية"
اشتعلت عينيه بغضب جم لمجرد فكرة أنها من الممكن أن تكون لغيره ، فلم يشعر بنفسه وهو قابض على كتفيها يغرز أصابعه في لحمها ، ينظر لها نظرات ذئب هائج وهتف من بين أسنانه :
-"انسي يا أسماء ، مش هيحصل اللي في بالك"
-"ليه؟"
سألته بنفس النظرة :
(لأني بحبك)
صاح بها مقربًا إياها منه ، أنفاسه تلفح صفحة وجهها ، صرخ بما يخبئه في صدره طوال الوقت ، عندما علم أنها من الممكن أن تضيع منه وتكون لغيره.. فقرر التخلي عن لعبته معها والإفصاح لها عما يشعر به.
نظرت له بصدمة ، فقد كانت تشعر بحبه وتعلم أنها لجأت إلى استفزازه كي يعترف وترى ردة فعله ، ولكن وقع الكلمة علي أذنها لم تكن تتوقعه إطلاقًا.
نسيت ألم أصابعه على كتفها وظلت تطلع إليه تستشف عشقه الظاهر في عينيه.
قرأ في عينيها التساؤل عما نطق به ، فأسند جبهته إليها وأردف:
-"أيوه بحبك ، من يوم ما شوفتك داخلة ملهوفة على أخوكِ في المستشفى ، شوفت قدامي ملاك صغير خطفتني من أول نظرة..
رقتك وطيبتك ، خوفك وارتباكك ، زعلك وتكشيرتك لما تحتاجي حاجة ويرفضوا يجيبوها ، عنيكِ اللي دوبتني ، وضحكتك اللي بتخطفني"
دقق النظر في عينيها بحنان يتشرب صدمتها وذهولها من اعترافه المفاجئ ، توسع عينيها وثقل أنفاسها فأكمل :
-"من يوم ما شوفتك وأنا حاسس إنك مسئولة مني ، أنا بعشق كل تفصيلة منك يا أسماء"
رويدًا تسارعت أنفاسها وازدادت ضربات قلبها أضعاف لكلماته تلك ، تشعر أنها ليست على الأرض وأنها محلقة.
لم تشعر بقدميها ، فلولا كفيه الممسكان بذراعيها لخارت قواها وسقطت.
سمعته يتابع :
-"تتجوزيني؟"
كفى ، لن أتحمل كل تلك المشاعر والكلمات دفعة واحدة.
همست في نفسها تنظر له بذهول.. ولكنها تذكرت تلاعبه بأعصابها ، وتظاهره بحب أخرى ، واستفزازه لها.
قررت الانتقام فتراجعت خطوتين الي الخلف ، تعقد ذراعيها أمامها ونظرت اليه بغرور قائلة :
-"بقى طول الفترة اللي فاتت دي بتشتغلني ، وتقولي بحب واحدة تانية"
حك مؤخرة رأسه بحرج وقال :
-"أنا آسف ، بس والله ما حبيت ولا هحب غيرك"
وضعت يد على خصرها واليد الأخرى حكت بها ذقنها وتظاهرت بالتفكير ، ثم قالت تتحرك من أمامه :
-"هفكر وأرد عليك"
تطلع في أثرها بذهول يتمتم بحاجبين معقودين :
-"تفكري؟"
ثم ابتسم يقول لنفسه ويسرع كي يلحق بها :
-"شكلك هتتعبيني معاكِ يا بنت السيوفي..
بس وماله كله يهون"
★★★★★
تقع الصدمات ويختلف معها وقعها علينا
تختلف باختلاف الشخص الذي تأتي منه
نقابلها بذهول
بصمت
بعدم تصديق
وأحيانًا لامبالاة
فماذا إن أتت من أقرب الأقربين وأتى معها حقائق أكثر صدمة!؟
بعد خروج هدير من مكتب رئيس التحرير..
زفرت بقوة وراحة بعد المشاحنة التي قامت بالداخل والتي من المؤكد أن الجميع استمع لها.
كادت أن تتجه إلى مكتبها فتفاجأت بزميلها "محمد" يظهر أمامها من حيث لا تدري ، جعلتها تعود بظهرها للخلف ، تضع يدها فوق صدرها من فزعها ، فسمعته يهتف :
-"عندي ليكِ خبر بمليــون جنيه"
انتفخت أوداجها من الغيظ تضغط على أسنانها بقوة ، وهتفت بوجهه في غضب من ذلك الاسلوب :
-"أنت مش هتبطل تخضنا كل شوية؟
هتموت حد فينا مرة حرام عليك"
صمتت تلتقط أنفاسها بروية ، ثم نظرت له مرة أخرى قائلة بسخط :
-"ثم أنت من امتى بتجيب أخبار عدلة يا محمد!"
-"اسمعيني بس.. امبارح قبضوا على أكبر شحنة مخدرات دخلت البلد ، والمتورط فيها رجل أعمال كبير جدًا بس لسه منعرفش هو مين"
اتسعت عيناها من الدهشة ، وصفقت بيدها تهتف به بسعادة :
-"أنت بتتكلم جد؟
ده يبقى خبر الموسم"
لتكمل في نفسها :
-"يا سلام لو يطلع اللي في بالي ، تبقى ضربة معلم بصحيح"
كادت أن تتحدث فوجدت هاتفها يرن برقم مجهول ، لتجيب بجدية ممزوجة بحذر :
-"ألو أيوه مين؟"
جاءها صوت رجولي يتحدث برسمية :
-"الأستاذة هدير سالم؟"
-"أيوه أنا هدير ، مين حضرتك؟"
-"معاكي الرائد حازم من مباحث أمن الدولة ، ممكن حضرتك تشرفينا عشر دقايق؟"
اندهشت من المتصل وانتابها القلق ، فهذه أول مرة يتم استدعائها إلى ذلك المكان.. لكنها وافقت على وعد أن تكون هناك بأسرع وقت.
ذهبت إلى مقر أمن الدولة ، ودلفت في ثقة عكس ما يعتمرها من قلق.. ثم وصلت إلى مكتب الرائد حازم ، وأخبرت الحارس أن يعلمه أنها قد حضرت على الموعد ، ليخرج بعد لحظات سامحًا لها بالدخول.
دخلت الى المكتب وقالت بتحية :
-"صباح الخير يا فندم"
بادلها حازم التحية يشير لها بالجلوس :
-"صباح النور أستاذة هدير ، اتفضلي استريحي ، تشربي إيه؟"
-"متشكرة يا فندم ، بس أنا مستغربة أنا هنا ليه؟"
تحدث حازم برسمية شديدة وقال :
-"حضرتك أكيد سمعتي عن شحنة المخدرات اللي تم القبض عليها امبارح ، صح؟"
أومأت برأسها مؤكدة :
-"أنا فعلًا لسه عارفة بالخبر قبل اتصال حضرتك ، بس اعذرني أنا بردو مفهمتش!"
-"المتهم فيها رجل أعمال كبير في البلد ، وده اللي أنتِ هنا عشانه"
عقدت حاجبيها بدهشة وتساؤل ترجمته كلماتها :
-"يعني إيه!"
أجابها حازم يمد بده يرن الجرس ليأتي الحارس من الخارج :
-"هتعرفي دلوقتي كل حاجة"
ليلتفت إلى الشخص أمامه ويقول :
-"دخلي المتهم"
كل ذلك وقلبها يحدثها بشيء سيء سيحدث ، لينتشلها من تفكيرها صوت فتح الباب وظهور الشخص التي لم يكن يخطر على بالها حتى في أسوء أحلامها ، لتنتفض شاهقة بصدمة تضع يدها فوق فمها من هول من رأته أمامها..
لا شخص يقول لي أن كل هذا كذب!
هو من المستحيل أن يفعل ذلك؟
وقفت أمامه ومعالم الصدمة بادية على وجهها ، من اتساع عينيها وتشنج جسدها، وتضع كفيها على فمها تمنع صرخة عالية تكاد تخرج منها..
همست بصوت مكتوم ، وعيناها مصوبة نحوه :
-"بابا!
لا لا مش ممكن ، مستحيــــل"
سقطت مغشيًا عليها من هول الصدمة ، فضلت أن تستسلم للظلام بدلًا من تراه في هذه الحالة ، فضلت السقوط في الإغماء عوضًا عن مواجهة الأمر!
وبعد قليل...
ممددة على الأريكة ، و رأسها موضوع على قدم أحدهم يحاول إفاقتها ، رمشت بعينيها عدة مرات لتعتاد على الإضاءة ، لتصطدم عيناها بأعين زرقاء تعرفها جيدًا ، جعلتها تنتفض من مكانها كمن لدغها عقرب.
هتفت بدهشة من وجوده ولما يحدث حولها :
-"مازن!"
استدارت لتجد والدها يجلس وعلامات القلق عليها بادية على وجهه ، يمسك بكفه بين راحتيه ، و جانبه يجلس حازم.. لتهمس بتساؤل تضع رأسها بين كفيها :
-"إيه اللي بيحصل حد يفهمني؟"
أجابها مازن بهدوء يحيطها بذراعيه وكفه يمسد ظهرها يبثها الهدوء :
-"اهدي يا هدير وأنتِ تعرفي كل حاجة"
صمتت تنظر له بخواء ، ليجذبها صوت والدها الحنون :
-"أنا هحكي لك كل حاجة..
أنتِ عارفة أن كريم كان السبب في المشكلة اللي الشركة تعرضت ليها و باتفاق مع السكرتيرة مش كده؟"
أومأت في صمت ، ليتابع :
-"بعد ما خرجت من المستشفى ، وروحت على الشركة عشان ألاقي حل ، كانت مازن من قبلها عرض عليا عرض شراكة ، اتصلت بيهم وفعلًا تاني يوم لاقيت مازن في زيارة ليا للشركة وعرض إنه يشتري نص أسهم الشركة ويبقى شريكي ، وفاجئني بعرض جوازه منك.. ملقتش فرصة أحسن من دي بصراحة ليكِ وإنه الشخص المناسب بس رفضت لو هيبقى جوازك قدام الشراكة دي..
وبعدها بيومين تفاجئت بزيارة كريم ليا ومعاه أوراق عليها توقيعي تثبت إني شريك معاه في الصفقة اللي جاية الخاصة بشركته ، كانت السكرتيرة بردو أخدته عليها من غير ما أعرف.. وهددني بيكِ أنتِ ومامتك وكمان بالسجن لو خلفت بالصفقة دي"
كانت تطالعه بذهول لما تسمعه ، تتسع حدقتيها موازاة مع كلماته وأنفاسها تتسارع بعنفوان ، ليزداد كرهها وسخطها ناحية كريم.. تنهد مكملًا :
-"قبل حفلة الخطوبة أنا روحت لمازن الشركة ، وأنا اللي وافقت وطلبت منه أن الجواز يبقى بسرعة ، وحكيت ليه عن تهديد كريم ليكِ ....."
انتفضت واقفة تقاطعه صارخة بذهول :
-"وأنا من امتى كان كريم يمثل ليا تهديد يا بابا؟
من امتى وأنا بخاف منه عشان تبيعني بالطريقة دي؟"
كاد أن يجيبها ، لكن جاء صوت مازن من خلفها قائلًا بقوة ممسكًا برسغها وقد اكتفى منها ومن جنانها ، ليعاود إجلاسها مرة أخرى :
-"يبيعك إيه وجنان إيه اللي بتتكلمي عنه؟
فكرة كتب الكتاب فكرتي أنا ، مفيش إلا الطريقة دي عشان أحميكِ بيها ، أبوكِ ملهوش أي ذنب في أي حاجة"
لتقاطعه هادرة بنبرة مختنقة :
-"وهو أي حد عاوز يحمي شخص يقوم يتجوزه؟"
كان يضغط على مرفقها بقوة يجيبها من بين أسنانه وحدقتيه تهتاج من فرط السيطرة على نفسه حتى لا يدق رأسها الغبي :
-"لا مش أي حد ، عارفة ليه؟
لأن مفيش إلا هدير واحدة ومازن واحد!
أنتِ متعرفيش إن كريم يعتبر الدراع اليمين لأكبر عصابة في روسيا ، بتّاجر في كل حاجة.. سلاح ، مخدرات ، أعضاء بشرية ، آثار ، مواد فاسدة ، كل اللي تتخيليه..
كريم مش سهل زي ما أنتِ فاهمة يا هدير ، ومش كلمتين منك اللي هيخوفوه"
رمشت بأهدابها عدة مرات تستوعب ما يقوله لها عن كريم الجديد الذي كُشف أمامها الآن ، لكن ما زال هناك كثير من الأسئلة في رأسها تريد إجابتها على الفور..
لكن قاطع تفكيرها صوت حازم يقول برسمية :
-"مازن بيه قالنا على كل حاجة من الأول بجانب والدك ، يعني إحنا كنا في الصورة من أول لحظة ، لحد ما جه معاد الصفقة اللي والدك قالنا عليه في وقت سابق ، بس كان لازم يتم القبض عليه عشان كريم ميحسش بأي حاجة غلط ، وكمان ده هيشتته ويخليه يغلط"
تساءلت بخفوت :
-"طب لما أنتم عارفين إنه السبب في كل حاجة ، ليه مقبضتوش عليه؟"
جاءها صوت والدها هذه المرة :
-''لأن مفيش أي دليل عليه للأسف ، حتى الورق اللي كان بيهددني بيه عليه إمضاء مدير أعماله مش هو"
أغمضت عيناها بشدة ، قبل أن تسأل :
-"طب... موقف بابا دلوقتي إيه؟"
-"والدك هيخرج عادي جدًا بكفالة ، خروجه مصلحة لكريم لأنه دلوقتي أكيد خايف أنه يتجاب سيرته ، مجرد التحقيق معاه يعمله مشكلة هناك في روسيا ، وبالتأكيد هيتصل بوالدك تاني"
أومأت بخفوت ، تفرك جبهتها من الصداع الذي حل عليها ، ليقول مازن الذي كان يلاحظ التعب البادي على ملامحها ممسكًا بكفها :
-"طب إحنا هنخرج لحد ما الاجراءات تخلص ، هدير أعصابها محتاجة ترتاح"
خرج من المكتب فقابله المحامي الذي عينه للدفاع عن والدها فأمره أن يبقى معه حتى تتم جميع إجراءات خروجه ، ثم التفت مكملًا سيره وهي تسير خلفه شاردة في كل ما حدث وما سمعت ، فتح لها باب السيارة وساعدها على الصعود يجلس بجانبها وينطلق في صمت ، حتى وصل فيلا جديدة تراها للمرة الأولى.
دلفا سويًا ، واستدار ينظر إليها بعدما أغلق الباب ، فوجدها تبكي!
هل مكتوب عليها كلما انفرد بها تحزن؟
تنفس بعمق يهز رأسه بيأس اقترب منها كاد أن يضمها إليه ، حتى بادرته بدفعه في صدره ، اعقبتها صرخة ألم مصحوبة بتشنج جسدها واهتزازه بانتفاضة :
-"متلمسنيش كلكم شبه بعض ، أنت و كريم.
كريم إنسان ، لا ده حيوان.. اللي بيجري جواه ده قلة أصل وحقارة مش دم ، مليان شر ومش مكفيه اللي عمله فيا زمان ، لا جاي يكمل"
ثم نظرت له نظرات نارية مهلكة وتابعت مشهرة سبابتها في وجهه باتهام :
-"وأنت !!
متصدقش نفسك بالكلمتين بتوعك أنك هتحميني يا مازن ، أنت كأن الموضوع جه على هواك ، كان ممكن تحله ده لو عايز من غير كل اللي حصل ، بس أنت ......"
لم تستطع أن تكمل حيث كتم فمها براحته بعدما قطع المسافة بينهم في خطوتين ، ينظر لها بسخط وغيظ وحدقتيه تتسع بحدة ، يقول من بين أسنانه هامسًا أمام وجهها :
-''إياكِ.. شوفي إياكِ تقارني بينه وبيني يا هدير!
أنا فعلًا كان ممكن أحل الموضوع من غير ما أتجوزك ، بس أنتِ مش واخدة بالك من حاجة..
زي ما قولت لك كريم مش سهل ، له ألف سكة وسكة ممكن يأذيكِ بيها.. ده غير أني طلبت أتجوزك وأنا لسه معرفش حاجة عن تهديده ، وباباكِ رفض العرض وقال إنك استحالة تكوني صفقة ، يعني أبوكِ مباعكيش!"
طالعته بدهشة ولم تحد بعينيها عن نظراته القوية ، تهمس متسائلة بعدما أزاح كفه عنها :
-"واشمعنا أنا؟
ليه عملت كده؟"
-"لأني كنت مكانك!"
صرخ بها بأعلى صوته يتركها ويعود للخلف ، جعلت عينيها تتسع بتساؤل وحاجبيها ينعقدان بتعجب وعدم فهم ، طالعت أنفاسه اللاهثة ومحاولاته للهدوء والعودة لبروده المعتاد لكنها فتحت باب لم يكن على استعداد لفتحه أمامها الآن..
الحيرة بين الصمت والكلام بسبب ماضي عاث به الزمن
حيرة تلفح ذاتك أمام شخص أخطأت في حقه
فإذا تكلمت خسرته
وإذا صمت اهتزت صورتك بداخله
وتبقى في حيرة بداخلك
لكنك مدرك أن الصمت صدأ يغشى النفس
والكلام هو الذي يصقل النفس ويخلصها من أحزانها
ليقول ونظراته تحدق في نقطة ما في الفراغ وما مضى يركض أمامه كشريط سنيمائي هامسًا :
-"أبويا كان مكان أبوكِ ، دخل في صفقة مشبوهة رأفت السبب فيها ، ومن وقتها بقى واحد منهم غصب عنه ، ولما وقع في إيده أوراق تودي رأفت في ستين داهية.. قتلوه!"
رفع أنظاره إليها بجمود مكملًا :
-"قتلوه على سريره ، قدام عيني ، كان عندي عشر سنين ، طالع من الحمام لاقيت راجل طويل مخبي وشه وبينط من البلكونة ، وبابا على السرير مضروب بالنار في دماغه.."
شهقة من خلفه انتشلته من ماضييه ، ينظر لها بغموض فوجدها غارقة في دموعها ، تكمم فمها براحتها وسمع همستها تتساءل :
-"إيه اللي حصل يا مازن؟"
نظر لها بأعين سوداء ، يعود بذاكرته إلى ما يحاول إخفاءه منذ سنوات ، تنفس بعمق وبدأ يسرد :
-"أبويا عز الدين السيوفي ، هو اللي أسس الشركة لحد ما بقت أكبر شركة في مصر للعمارة ، طلب منه رأفت الشراكة وبابا وافق ، مرة بعد مرة اكتشف أن أسلوبه ومشيه مشكوك فيه ، والأكبر أنه متورط في صفقة مشبوهة لدخول مواد فاسدة للبلد ، وأنه واحد من أكبر عصابة مسئولة عن التجارة دي.. ولما عرفوا إنه كشفهم قرروا يصفوه في قلب بيته وعلى إيد شريكه"
فرك وجهه بكفيه بقوة يحاول السيطرة على غضبه وأفكاره :
-"كنت مع بابا في الليلة دي ، كان عندي عشر سنين ، دخلت أجيب علاجه من الصيدلية اللي في الحمام ولما خرجت لاقيت واحد واقف بضهره لابس أسود في أسود وقتله"
ليتابع وقد غشت غمامة من الدموع سيطر عليها بسرعة وكأن شيء لم يحدث :
-"من يومها وأنا أقسمت أني هرجع حق أبويا وبأي طريقة ، بقيت أحارب رأفت من ورا الستار ، خليت الكل بمجرد ما يسمع اسم مازن السيوفي يترعب.. حتى اسمي لما يتقال وسطيهم يتعمل له حساب ويرجعوا يفكروا ألف مرة..
المعلومات اللي وصلت ليكِ عن رأفت كانت عن طريقي أنا ، منكرش اني استغليت كرهك و محاربتك لصالحي"
جلست على الدرج الداخلي خلفها ، لم تتحمل ساقيها الوقوف أكثر ، كل ما سمعته وما تسمعه يفوق احتمالها..
كفى أخبارًا وصدمات إلى الآن.!!
لم تعد تتحمل تشعر أنها ستسقط في أي لحظة.
شعرت به يرفع وجهها إليه ، لتدفق النظر في ملامحه تكاد تقسم أنها وجدت دموع في عينيه لكنه سيطر عليها ، غلفها بنظراته وقال هامسًا :
-"منكرش أنك في البداية كنتِ تحدي بالنسبة لي ، محدش كان يقدر يرفع عينه في عيني تيجي بنت أقصر مني مش واصلة لكتفي تعتبرني هوا"
نظرت له شذرًا لسخريته من قامتها عاقدة حاجبيها بسخط، جعلته يبتسم وأكمل :
-"ولما باباكِ حكى لي ، شوفت فيكِ مازن الصغير ، خوفت عليكِ تعيشي اللي عاشه ، كانت أفضل طريقة جوازنا وأكبر دليل لما كريم جه الحفلة"
قربها منه متعمقًا أكثر في عسليّ عينيها ، وجهه شديد القرب منها ، يمسح بإبهامه الدمعات العالقة بأهدابها محاولًا تهدئة شهقاتها المتقاطعة ، يهمس أمام شفتيها :
-"عاوزك تفهمي حاجة واحدة بس ، أنك مراتي ومهما حصل مش هتخلى عنك أبدًا ولا حد يقدر يقرب لك"
ختم حديثه بقبلة طويلة على جبهتها ، تلاها عناق طويل ، أبسط ما يقال عنه أنه مثال لمعنى الأمان والاحتواء.
ابتعدت قليلًا عن أحضانه لكنه لم يفلتها من بين ذراعيه ، مسحت دموعها بأناملها الطويلة تقول بصوت هامس :
-"مازن أنا قلقانة"
شدد من احتواءه لها وهمس مثلها يبثها الاطمئنان :
-"مش متعود عليكِ ضعيفة ، حمايتك أنا متكفل بيها ووالدك مش هيحصل ليه أي حاجة اطمني"
لتهمس دون وعي منها وبتلقائية شديدة :
-"وأنا واثقة فيك"
ثلاثة كلمات كانت كفيلة أن يزرعها بأحضانها ، يخبرها أن هذا موطنها ، كما وجد موطنه وطفولته معها.
وبعد مدة كانت برفقة والدها في سيارته ، قابعة في أحضانه تتأكد أنه بجوارها ، وفي عينيها بريق شديد الاصرار والتوعد ممن كان السبب في الأمر.
أنت تقرأ
الحب سبق صحفي " مكتملة "
Romanceهي :- أنا فتاة عشت لـ نفسي , لـ حريتي , أعيش في مملكتي , ارفض القيود , أحب الحياة, أعشق الحرية , ولكني لن أنسى أني شرقية , ابنة رجل الرجال , وأخت فرسان , وحبيبة رجل ليس ككل الرجال .... أنا امرأة لا أنحنى إلا في صلاتي .. و لا أصمت إلا عندما ينعدم كلا...