Part 26 & 27

2.1K 65 1
                                    

الفصل السادس والعشرون

السؤال الأزلي الذي يحتار الجميع في إجابته
هل نحن مسيرون أم مخيرون؟
نحن مسيرون حتى مفترق الطرق ، مفترق يؤدي إلى طريقين ليس لهما ثالث
طريق الصلاح وطريق الضلال ، والاختيار لك
حياتك وأفعالك خلفك ، وتكملة الطريق أمامك يكمن خلفها النتيجة على كل ما فعلت وما مررت به
في تلك اللحظة أنت من تحدد ماذا تريد أن تكون نتيجتك



نعم كل إنسان خطاء
وكل خطاء مخيّر
إما يستمر في الخطأ ويسلك اليسار
أم يرتد لنفسه ويحول بكامل وعيه إلى اليمين

أكثر من نصف ساعة يقف أسفل بنايتها يتأمل شرفتها المضيئة ، يرى خيالها المار بين الحين والآخر من خلف الستار.
لا يعلم ما الذي أتى به إلى هنا؟
لا يعلم لماذا جاء لها بالأخص؟
منذ متى يأخذ أحدٌ هذا الحيز من تفكيره ومساحته؟
طوال سنوات عمره السبعة والعشرين.. حياته خالية فارغة سوداء ، ووحدته قاتلة!
لغة الصمت تسودها، والألم جاثم على أنقاض الفؤاد.
حتى الجسد أحسّ بالغربة ومرارة العيش.
في هذه اللحظة يشعر بالوجع يسكنه ، وذكريات الماضي تشغله تجعله يفعل ما لم يأتي على خاطره يومًا أن يقوم به.
رفع هاتفه ودق رقمها وانتظر يستمع للرنين الخافت حتى تُجيب فلم تفعل ، كرر الاتصال أكثر من مرة والنتيجة عدم الرد.. شعر بالغضب بدأ يتمكن منه فكيف تتجاهله بهذا الشكل؟
لا أحد يتصل بها برقم مجهول غيره ، وحذرها من قبل من ذلك التجاهل ، فقرر المحاولة لآخر مرة وإن لم تجب سيصعد لها وحينها تتحمل ردة فعله لكن الله أنقذها من براثين غضبه وأجابت :
-"ألو"
بحزم ونبرة لا تقبل مجالًا للنقاش والجدل هتف بها :
-"عشر دقايق والاقيكِ قدامي أنا تحت البيت ، لو تأخرتِ هطلعلك يا ياسمين"
وبدون كلمة أخرى أغلق الهاتف ووضعه أمامه خلف عجلة القيادة وانتظر يستند بمرفقه على حافة النافذة بجانبه ، يطرق بأنامله على العجلة دقات رتيبة يستند برأسه للخلف مغمضًا عينه للحظات حتى انتبه على صرير البوابة الحديدية تفتح فالتفت يراها تظهر من خلفها ببنطال أسود وكنزة بأنصاف أكمام صفراء ، تعقد خصلاتها السوداء في جديلة قصيرة موضوعة باستكانة على كتفها الأيمن.
واقفة تبحث بنظرها في الأرجاء عنه حتى وقعت عيناها عليه بداخل سيارته يرتدي الأسود بالكامل ، يغطي رأسه بقلنسوة كنزته زادت من هالة الغموض حوله لكن لم يؤثر بها.
ابتسم بمرح غريب عليه يميز علامات الغيظ وللغضب على ملامحها ، جسدها ينتفض من الانفعال وصدرها يرتفع وينخفض من فرط لهاثها الغاضب فكانت أشبه بأنثى تنين شرسة ستخرج نيران من فمها تحرقه بعد قليل ، خطت نحوه بغضب ففتح الباب بجانبه في لحظة اقترابها من السيارة فوقفت تقبض على الباب بشدة تناظره بشراسة خرجت في كلماتها من بين أسنانها :
-"أنت بتعمل إيه هنا وعاوز إيه؟"
-"اركبي"
لفظها مجردة ، وبنبرة هادئة سلسة كأنه يعرفها منذ زمن.. نظرت له بتعجب ، حاجباها معقودان وعيناها متسعتان تحاول استيعاب النبرة الآمرة التي لفظها بها ، فضغطت على شفتيها بقوة ونظراتها تقدح شذرًا وقالت بحدة من بين أسنانها :
-"مش هركب ، واتفضل أمشي من هنا وياريت تكون دي آخر مرة أتكرم وأشوف وش سعادتك عشان كده كتير"
كادت أن تلتفت وتذهب لكن ذراعه التفتت حول خصرها يجذبها للداخل فضُربت رأسها بحافة الباب صدرت عنها آنة متوجعة فوضع كفه على رأسها يدلكها بدون وعي منه حتى أنه لم يلتفت لها ، وأغلق الباب سريعًا إلكترونيًا ثم انطلق فجأة فارتد جسدها للخلف ملتصقة في الكرسي.
لملمت شتات نفسها والتفتت بجسدها إليه ينفر الغضب من كل ذرة فيه ، أنفها اشتد احمراره في عادة لديها عندما تغضب ، بضع خصلات فرت من جديلتها ، وهتفت بشراسة يشوبها الذهول مما يفعله :
-"بتعمل إيه وواخدني على فين؟
أنت أكيد اتجننت"
نظرة بجانب عينه بصمت كل ما لاقته منه ثم حال عينيه للطريق مرة أخرى دون حديث زادت من غضبها ، زمجرت بغضب وحاولت فتح الباب لكنها فشلت فضربت بقبضتها على قدمها صارخة :
-"وقف العربية دي دلوقتي حالًا يا كريم ونزلني ، أنا مش عاوزة أشوفك ولا عاوزاك تظهر في حياتي تاني"
صرخت فجأة وعيناها تتسع بصدمة ، جسدها يرتد للجانب حتى اصطدمت به عندما عكس اتجاه السيارة لليمين ودخل إلى طريق مليء بالأشجار العالية والأعشاب الخضراء مسافة لا بأس بها ثم توقف فجأة.
يقبض على عجلة المقود بقوة ، وتقبض هي على ذراعه بنفس القوة وأنفاسهما تتسابق في السرعة واللهث ، التقت الأعين ببعضهما في ذات اللحظة بمشاعر متناقضة.
ترسل له الذهول مما يفعله ، التساؤل عن المغزى وراء ظهوره في حياتها من الأساس وماذا يريد منها؟
الغضب من أسلوبه الجاف المرفوض بالنسبة لها!
كان في عالم آخر عما هي فيه ، يتأمل سحر حجرين الفحم وسط حليب عينيها بصمت ووجهه يبعد بضعة إنشات عنها..
لها مقلتين لو أنها نظرت بها إلى راهب قد صام لله وابتهل.. لأصبح مفتونًا بحبهما كأنه لم يصم لله يومًا ولم يُصلْ.
صمتت لغة الكلام مبتعدة ، تاركة لغة العيون تدور دُفة اللقاء ، عقدت حاجبيها عندما رأت التيه والاحتياج خلف جمود وغموض مقلتيه!
لا تعلم سببهما وخائفة من الغوص في بئره فتغرق ولا تستيطع إنقاذ نفسها ، سيكون الأوان قد فات.
قطع تواصل نظراتهما وهبط من السيارة فجأة يدور حولها واقفًا متخصرًا على مسافة منها يوليها ظهره ينظر في المساحة الخضراء التي لا حدود لها أمامه يتسائل بينه وبين نفسه ماذا تفعل معه؟
ماذا يريد منها ولماذا هي؟
فرك وجهه بانفعال لا يحبذ هذا الشعور ، يكره تصرفاته ، يكرهها لأنها تجبره على فعل ما لا يريد ، كل خطوة يحسب لها ألف حساب ، يفكر بها مرتين قبل القيام بها لتأتي تلغي تعقله وحسابته وتجعله يتصرف بمراهقة وعشوائية!
هبطت تتأمل المكان من حولها ، كوخ خشبي صغير يحيطه الأشجار من كل مكان ، يصل لمسامعها صوت غدير الماء من مكان ما كأنه جدول صغير قريب منهما!
المكان خطف أنفاسها ووقعت في عشقه ، لو وقت غير الوقت وشخص غير الشخص لما تركته أبدًا!
وصله صوتها الساخر من خلفه بعيد كل البعد عن الغضب الذي رآه في عينها منذ لحظات ، بهدوء لا يمس لصراخها الهادر به :
-"والله لو أعرف إنك جايبني أتفرج عليك بتتأمل الماء والخضرة والوجه الحسن في مكان زي ده مكنتش رديت ولا نزلت من أصله"
استدار لها بنصف جسد يناظرها بحاجب مرتفع وملامح صامتة ، فاقتربت منه بدلال عفوي حال نظراته إلى أخرى عبثية حتى وقفت أمامه تبتسم بغيظ :
-"فلو الباش مهندس خلص وصلة التأمل بتاعته يتكرم ويرجعني علشان أنا ورايا حاجات أهم أعملها"
نظر لها من أعلاه يجيبها :
-"مش هرجعك ، هتيجي معايا"
هزت رأسها بعدم استيعاب تقربها منه قليلًا تضيق بين عينها :
-"هاجي معاك فين بالظبط!"
اقترب منها لأقصى درجة حتى كاد يلتصق بها ، يهبط برأسه دون أن يلمسها لكن أنفاسه الساخنة أحاطتها فشعرت كأنها تقبع في أحضانه يضمها بقسوة :
-"نبعد ، نسيب كل حاجة ورانا لأسبوع ، ناخد هدنة من كل حاجة ونسافر لوحدنا وأوعدك هرجعك تاني"
رفعت حاجبها بسخرية مكتفة ذراعيها أمام صدرها تميل برأسها للجانب قليلًا تنظر له بصمت قبل أن تبتسم :
-"والله!
نسافر لوحدنا ونبعد!"
أشاحت بيدها في الهواء وحدثت نفسها بصوت عالٍ :
-"أنا باين عليا وقعت مع واحد مجنون وأنا معنديش استعداد اتجنن"
التفتت تبتعد من أمامه فجذبها من مرفقها هاتفًا بحزم ونظراته تجبرها على التوقف والصمت :
-"أنا مخلصتش كلامي ، واللي بقوله مش اقتراح أنا بقولك اللي هيحصل"
نظرت لعينيه بذهول لهذا الجنان المتجسد أمامها في هيئة رجل ، تهز رأسها بعدم استيعاب لكينونته!
أفلتت يدها بعنف من قبضته وعادت خطوة للخلف تشير بعلامة الجنون على رأسها تهتف بشراسة :
-"أنت مجنون ، والله مجنون!
ممكن تقولي أنت مين علشان أعمل اللي بتقولي عليه ده؟
أنت ظهرت في حياته فجأة ، حاوطتني بالإجبار من غير ما أعرف أنت مين وعاوز مني إيه؟
الأربع مواقف اللي جمعتنا مش مبشرين أبدًا ويخلوني أجري بعيد عنك لحد ما اختفي"
صمتت تتخصر بيد والأخرى تدلك جبهتها حتى تهدأ ، تحاول تهدئة سرعة أنفاسها فتركها تخرج ما بداخلها مستمعًا لها بصبر ، يريد أن يعرف كيف تراه؟
شعورها تجاهه!
رفعت نظراتها فشعر أن عيناها بحر به الناس تغرق ، وأهدابها كالسهام تطلق التساؤلات والحديث نحوه قبل لسانها ، ثم نطقت فجأة بشكل مباشر :
-"أنت مين وعاوز مني إيه؟"
-"أنا نفسي مش عارف أنا عاوز منك إيه؟"
يقر لنفسه قبل منها بالإجابة فهو حقًا لا يجد له تفسير!
وضع يديه في كفي بنطاله ، ينظر لموضع قدمه يرسم خطوطًا ودوائر وهمية على العشب يحاول تجميع كلماته من صندوق عقله ، لكن لأول مرة يشعر أن عقله يتنحى جانبًا تاركًا لقلبه تولي زمام الأمور وترتيب الكلمات التي نطقها لسانه فخرجت جدية ، صادقة لأول مرة :
-"معرفش ليه أنتِ بالذات!
كل الحكاية حسيت إني محتاح أجيلك وأقعد معاكِ ، أتكلم معاكِ أنتِ..
أنا عارف إنك مش كرهاني ، يمكن مواقفنا تخليكِ غضبانة ، متعصبة ، تخافي ممكن لكن مش هأذيكِ يا ياسمين ، أنا عاوز بس أرتاح"
لا تفهمه ، تشعر بصدقه لكن لا تفهمه!
هل المواقف البسيطة التي جمعتهم دافع لاقترابهما بهذا الشكل الذي يتحدث به؟
أن يشعر بالراحة في وجودها ، يختارها من بين الجميع؟
تسائلت بخفوت :
-"اشمعنا أنا؟"
لحظات صمت ونظرات كفيلة بكل شيء ، يفكر بماذا يخبرها؟
أيخبرها أن وجعه عصيّ الفهم حتى على نفسه ، فأغلق عليه داخله كغصة في الحلق يتجرعها كل لحظة ، هذه الوحدة بعينها كيف سيشرحها لها؟
هو رجل ينحر عنقه بيده قبل أن يظهر ضعفه أمام أحد خاصةً لو كان امرأة!
لكنه رغمًا عن كل شيء قال :
-"علشان زي ما قولتِ متعرفنيش ، متعرفيش كريم الحقيقي واللي أنا نفسي معرفوش!
اللي قدامك واحد عاش من غير أهل ، أمه ماتت في صغره وأبوه وجوده زي عدمه.. واحد عاش طول عمره صايع بمعنى الكلمة"
مع كل كلمة كان يقترب منها ببطء وعيناه لم تفارقها ، حتى وقف أمامها يرفع كفيه يمسك عضديها برفق أثار حيرته ، لم يلمس أنثى من قبل برقة ، فالنساء بالنسبة له متعة ، إناء يفرغ به شهوته بقسوة ، أو طريق للوصول لهدف ما.
لكن هي.. ليست أيًا منهما ، ولا يعلم تصنيف لها!
قربها منه أكثر يهمس بنبرة غريبة تقسم أنها شعرت برجاء بعدم الاحباط والرفض :
-"أنتِ الوحيدة اللي مكرهتنيش ، مفيش منك نفور من ناحيتي.. مواقفنا بتخليكِ تغضبي ، تبعدي ، تخافي لكن أنا متأكد أن مفيش كره.
أنا عاوز أعرف كريم الحقيقي معاكِ"
تشعر بشعور الوحدة الذي يتملك منه وتقرأه جليًا في عينه ، وكأن هذا الشعور عميق وبشكل دائم.
أشبه بالموت البطيء يصيب روح الإنسان ، ويشعره بعدم الراحة الدائم.
صوتان يصدحان بداخلها الأول يشجعها على الاقتراب لمعرفته حقًا ، مساعدته على الانتشال من الحفرة السوداء التي يقبع بها بكامل إرادته ، والآخر يخرس الأول يخبرها أن تهرب ، تبتعد ، تختفي ، هذا الشخص خطر وقربه نار إذا لمست الهشيم أحرقته حتى الرماد!
كادت أن تستجيب للثاني وكأنه قرأ رفضها وترددها في حركة حدقتيها المتوترة ، تيبس جسدها وتأهبه للابتعاد فاشتد إمساكه بها حتى لا تفلت وقطع حبال أفكارها من السيطرة عليها :
-"أسبوع واحد بس ، مش هأذيكِ بأي حاجة بس عاوز أبعد وعاوزك معايا ، وبعده هرجعك ولو عوزاني أبعد هبعد"
يحاول إقناعها وامتصاص الخوف والتردد من داخلها لكن بداخله يقسم أنه لن يفلتها مطلقًا حتى لو حاربها نفسها ، لن يؤذيها وأيضا لن يتركها تبتعد..
-"ارفضي.. ابتعدي.. اثبتي على موقفك
لا تخضعي فهو خطر
لا تجعلي عاطفتك تسيطر عليكِ"
عقلها يصرخ بها كمسجون من خلف قضبان سجنه ، لكن لسانها نطق بما أصابه بالذهول والخرس :
-"موافقة"
★★★★★
أن يؤذيك عدوك ويفعل الأفاعيل حتى تسقط هذا أمر طبيعي
لكن تصيبك الصدمة والتيه عندما يحدث شيئًا بعيدًا عن المألوف!
عندما يكون منقذك هو عدوك ذاته فتقع في فوهة الحيرة والتساؤل عن مغزى فعلته!
التوجس وعدم الثقة هو كل ما يتملك منك وقتها!

هذا كان شعورهم بعد ما حدث والمشكلة التي تعرضوا لها.
يجلسون بمكتب مازن بعد أن تم الإفراج عن رامز الذي يجلس ممسكًا بهاتفه يقرأ رسالة كريم التي لم يمل منها!
كلماته حُفرت في رأسه ، لكن ملامحه جامدة ، نظراته غامضة أصابت مازن ونادر بالتوجس يتبادلان النظرات المحتارة مما حدث!
استند مازن للخلف يدلك رأسه من الصداع الذي عصف به وصدحت نبرته يفكر بصوت عالٍ :
-"اللي أنا متأكد منه هو إنه ورا المشكلة اللي حصلت دي ، لكن إيه يخليه يتراجع ويجيب بتوع الجمارك يعترفوا ويخسر كل تخطيطه؟"
تلاعب نادر بأنامله على سطح المكتب يضم شفتيه بتفكير يحاول الوصول إلى حل ، فقال يشارك مازن صوت عقله :
-"مش عارف بس اللي زي كريم ده مبيعملش حاجة غير وهو مخطط ليها كويس ، يعني إنه يتخلى عن تخطيط شهور بالسهولة دي يبقى بيخطط لحاجة أكبر"
-"أنا عارف"
كان هذا صوت رامز الجالس على الأريكة في نهاية الغرفة ، فنظر الاثنان له بصمت ينتظران بقية حديثه ، فقذف الهاتف على الطاولة أمامه مشبكًا أنامله يستند بساعديه على قدمه ومال بجسده للأمام في جلسته ، ثم ابتسم بسخرية تناقض الشراسة في نظراته :
-"عاوز يركبني جميلة ، من الأخ الصغير لأخوه الكبير ، عاوز يوصلي فكرة إن روحي في إيده وأتقبل فكرة أننا أخوات وبكده يبقى قطع الحبل وكسر اللي بيني وبين مازن.. بس ده بُعده"
كاد مازن أن يتحدث لكن نهوضه أوقفه يقول :
-"سيبكم من اللي عمله الأهم أنه في مصر وقريب جدًا مننا.. ومحدش هيوصلنا ليه غير البلوة اللي اسمها نادين"
نظر لمازن بغموض من أعلاه ممسكًا بمقبض الباب بعد أن فتحه :
-"ودي سيبهالي أنا"
خرج ولم ينتظر حديث أحد تاركًا إياهم ينظرون في أثره بصمت وذهول ، خوف من حالته الهادئة تلك فلم يتوقعوا تصرفه ليقول نادر :
-"هدوءه ميطمنش"
استند مازن على سطح مكتبه يحك ذقنه قليلًا ثم قال بغموض :
-"ومين قالك إنه هادي ، ده جواه غضب لو خرج لا أنا ولا أنت هنعرف نسيطر عليه"
********
عندما تبدأ في عينيك آلاف المرايا بالكلام
ينتهي كل كلام
وأراني صامتًا في حضرة العشق
ومن في حضرة العشق يجاوب؟
فإذا شاهدتني منخطف اللون، غريب النظرات
فأحبيني كما كنتِ
بعنف وجنون
واعصِري قلبي كالتفاحة الحمراء حتى تقتليني
وعلى الدنيا السلام!

في اليوم الثاني..
جالسًا على مقدمة طاولة اجتماعه الذي بدأ منذ ثلاث ساعات من الآن ومازال مستمرًا
ينظر إلى هاتفه من الحين للآخر ينتظر اتصال من التي ستفقده صوابه في القريب العاجل ، فهو هاتفها قبل اجتماعه أكثر من مرة ليعطيه رنين ولكنها لم تجب ، ومنذ قليل أعاد مهاتفتها ليجده خارج نطاق التغطية..
لا يعلم ماذا يفعل بها؟
أيقتلها حتى تكف عن التصرفات التي ستذهب بعقله؟
فأكثر من مرة طلب منها أن تكف عن عادتها في عدم الانتباه لهاتفها.
زفر بقوة من ذلك الاجتماع الملل الذي لا يعلم متى سينتهي؟
همس في نفسه يرفع رأسه لأعلى يغمض عينه :
-"فينك يا رامز كنت تنجدني من الملل ده؟"
حاول مزاولة النقاش والانتباه للعمل لكنه لم يستطع الانتظار أكثر فصدع صوته عاليًا ، يستند إلى ظهر كرسيه:
-"خلاص يا جماعة كفاية كده النهاردة.. نكمل وقت تاني لأن ورايا ميعاد مهم دلوقتي"
خرج من شركته يرفع الهاتف إلى أذنيه يتصل بوالدته التي أجابته قائلة :
-"أيوه يا مازن.. ازيك يا حبيبي"
-"الحمد لله يا ماما.. قولي لي هدير رجعت من الجريدة ولا لسه؟"
عقدت حاجبيها وقد أنتابها الدهشة وقالت :
-"لا يا مازن لسه مرجعتش ، بس كانت بتقول أن فيه تقرير مهم هتناقشه النهاردة مع رئيس الجريدة"
ذم شفتيه يأمر السائق بالتوجه إلى مقر عملها وأجاب والدته :
-"ماشي يا ماما هكلمك تاني.. مع السلامة"
أغلق معها نحدثًا نفسه بغيظ :
-"أنا هعلمك يا هدير تليفونك متسيبهوش من إيدك"
وصل إلى الجريدة ليترجل من السيارة ويأمر حراسه بالانتظار ، رأى سيارة الحراسة التي أمرها بعدم ترك زوجته لحمايتها واقفة فعلم أنها مازالت بمكتبها ، دخل بهيبته جعلت العيون كلها تتعلق به وخصوصا الفتيات واللاتي أغلبهن يسبون هدير أنها تزوجته وأضاعت عليهم فرصتهن في لفت انتباهه على الأقل.
كانت تقف برفقة محمد تستند بيد على حافة السلم في الدور الثاني والأخرى على خصرها تنظر في الورق بيده تناقشه به بكامل تركيزها ولم تنتبه لذلك الذي رصدها بعينه منذ أن دلف من الباب ، لكن محمد كان أول من انتبه له ليزدرد ريقه هامسًا لها وعينيه تتابع خطواته المقتربة من الدرج :
-"إنسان الغاب وصل.. أقصد جوزك جه"
عقدت حاجبيها ولم تفهم مقصده من البداية ، لكنها تابعت نظراته للأسفل فوجدت مازن يصعد إليها ، رفعت حاجبيها بدهشة من وجوده هنا وكانت عينيها تتسع مع كل خطوة يقترب بها منها تتأمل ملامحه التي لا تنم عن الخير ، ليصلها همس محمد من خلفها يقول :
-"شكله مفطرش بملامحه دي وفطاره هيبقى عليكِ.. اهربِ أحسن"
نظرت له باضطراب وتوتر وصدرها يعلو ويهبط من أنفاسها السريعة ، فبالفعل ملامحه لا تبشر بخير ولا تعلم السبب؟
فهي ودعته في الصباح وكان سعيدًا.. ترى ما الذي حدث؟
ابتلعت ريقها بصعوبة ومالت برأسها للخلف تهمس لصديقها بتوجس :
-"تفتكر هيقتلني ولاهيعمل فيا إيه؟"
ذم شفتيه وهز رأسه بطريقة درامية ينظر لأسفل مغمضًا عينيه وقال :
-"لأ أنا متأكد.. دي مش ملامح بني آدمين"
لم تجبه لأن مازن كان قد وصل إليها ، فظهرت ابتسامة مضطربة على شفتيها تستقبله مرحبة به :
-"حبيبي أهلًا وسهلًا.. إيه المفاجأة دي!"
أمسكها من مرفقها يجذبها اتجاه مكتبها ولم ينتبه بالأساس إلى محمد الذي تشاغل بالنظر في الورق وأولاهم ظهره ليسمع صوت الباب ينغلق ، فضم قبضتيه يشيح بهم أمام عينيه بسعادة قائلًا لنفسه :
-"الحمد لله مشافنيش أنا إيدي لسه بتوجعني من ساعة ما سلمت عليه"
ثم نظر باتجاه باب مكتب هدير المنغلق فهمس بأسى مصطنع :
-"يا صغيرة على الهم يا لوزة.. الله يعينك على طويل الناب"
في الداخل كانت تقف أمامه يرمقها بغموض وصمت ، فسعلت قليلًا قبل أن تقترب منه وتضع يدها على مرفقيه قائلة :
-"مالك يا مازن شكلك متعصب ليه
فيه حاجة حصلت ضايقتك؟"
تنفس بقوة وانحنى برأسه لمستوى طولها بالنسبة لها وقال بهدوء ، يبتسم ابتسامة تعلم جيدًا أنه يوجد كارثة خلفها :
-"فين موبايلك يا روح مازن؟"
عقدت حاجبيها بتوتر والتفتت تنظر لمكتبها تبحث عنه ، فتناولت حقيبتها الملقاة على الكرسي تأخذ منها هاتفها وتوجهت إليه مرة أخرى تفتحه لتتفاجأ بعدد المرات التي هاتفها بها!
اتسعت عيناها بصدمة ، ونظرت إليها ترى نفس نظرة الغموض التي تكرهها ، فضغطت على شفتها الشفلية بأسنانها بقوة وتوتر وهمست في نفسها :
-"يانهار مش فايت ، كل دي إتصالات وأنا مشوفتهاش
طلاقي هيحصل قريب"
ابتلعت لعابها بصعوبة وحاولت الابتسام لكنها فشلت فقررت الإستعانة بدلالها ، فاقتربت منه ممسكة بياقة قميصه الأسمر تتلاعب بالزر العلوي وهمست :
-"طبعًا لو قولتلك والله ما كان معايا التليفون هتصدقني صح!
بس بجد انشغلت في المقال وممسكتش التليفون خالص طول اليوم إلا دلوقتي"
يعشقها عندما تتعامل كالأطفال كي تخرج نفسها من العقاب فتستخدم دلالها على والدها!
ولكن هذه المرة لن ينصاع له ، لابد من تعليمها أن تلك الأشياء الصغيرة تثير القلق بقوة في صدره في ظل ما يمرون به.
أمسك بكفيها يديرها يجلسها على الكرسي خلفها وينحني أمامها يراقب اتساع عينيها بتوتر واحمرار وجنتيها الذي بدأ ينتشر في وجهها بأكمله ، وهمس بشراسة أمام وجهها :
-"كام مرة قولتلك موبايلك ميفارقكيش يا هدير ها؟
قولي لي مين فيه قلب للرعب ده وأنتِ عارفة إن الظروف متتحملش خالص القلق؟"
بللت شفتيها بطرف لسانها تحاول الحديث ، تعلم أنه على حق لكنها مجرد أن تنشغل في العمل تنسى كل شيء..
تراقبه بطرف عينيها قبل أن ترفع عينيها له تستمع لأمره :
-"بصي لي وجاوبيني"
أخيرًا خرج صوتها تحك فروة رأسها تذم شفتيها للجانب قائلة :
-"ماشي أنت معاك حق أنا غلطت ومستعدة للعقاب"
ثم أسدلت ذراعيها على قدميها بيأس وأكملت :
-"بس مكنش قصدي أقلقك والله"
كانت يتأملها بانتشادة ستفقده الباقي من صوابه ، فجذبها من كفها تقف أمامه محيطًا خصرها بذراع ، وتخلل خصلاتها بأصابعه بعد أن خلصها من القلم اللعين الذي تجمعهم به أعلى رأسها ، فأسند جبهته إلى خاصتها وهمس بأنفاس ألهبت وجنتيها :
-"هتجننيني معاكِ والله العظيم .. من ناحية لما بشوف تليفونك مقفول بترعب وأفتكر حصلك حاجة خصوصًا!
وناحية تانية بين إيديا ومش عارف أتلم عليكِ بسبب اللي بيحصل ، وأنتِ ما شاء الله ولا حاسة بيا ولا بعذابي.. طب قوليلي أعمل فيكِ إيه؟"
احاطت عنقه بذراع والآخر أحاطت به خصره.. يا الله هي تعشق هذا الرجل؟
تعشق الحنان الذي يخرج من عينيه يخصها به وحدها.
وتعشق النظرة التي يودع به حبه كله.
ابتسمت تجذب رقبته إليها في حركة فاجئته لتتحول لصدمة وهو يشعر بشفتيها التي تلامست مع شفتيه برقة وخجل شديد منها ، ليفيق سريعًا من ذهوله يحول الرقة إلى قوة وشوق وشغف يبعثه من داخله إليها وأصابعه تعبث بخصلاتها بحركات دائرية ، وشفتيه تتحرك على خاصتها صعودًا وهبوطًا ممتصًا رحيقها اللاذع.. حتى تركها عندما شعر بحاجتها للهواء.
تمسكت بكتفيه بقوة حتى تستطيع أن تلملم شتات نفسها من المشاعر تنحني برأسها لأسفل ، حتى ابتسمت قائلة له وهي مازالت على وضعها :
-"متعملش فيا حاجة غير أنك تفضل جمبي متسبنيش.. أنا من غيرك هبقى ضايعة ومش هحس بأمان"
رفعت نظرها أخيرًا إليه لتصدمها النظرة المليئة بالمشاعر التي تحول لون عينيه الأزرق إلى الأزرق الشديد يشوبه خطوط صغيرة للغاية باللون الأسود والملازمة لعقدة حاجبيه وجبهته ، فرفعت كفيها تمسد جبهته تفك عقدتها قبل أن تمسد على وجنته بابتسامة تكمل :
-"مش هسامحك لو بعدت عني بعد ما علقتني بيك.. أنا كنت كرهت الحب وأنت خلتني آمن بيه تاني"
شعرت بشدة قبضتيه على خصرها ، فقشعر بدنها لتلك القوة ونظرت له بحيرة من قوته على جسدها ، فهزت رأسها بتساؤل حتى وجدته يهبط لأذنها يهمس بخفوت بصوت بعيد :
-"عمري ما هبعد عنك ، ولا هسمح ليكِ إنك تبعدي"
ابتسمت برقة وحب له وكادت أن تتحدث لكن دوار بسيط لفحها ، فتمسكت بقوة أكبر على كتفه مغمضة عينيها تتنفس بعمق تحاول إيصال الأكسجين إلى رأسها ليتوقف الدوار ، فأصابه القلق مما انتابها واسندها حتى تجلس هاتفًا بلهفة :
-"هدير مالك أنتِ كويسة؟"
أومأت بتعب وربتت على وجنته بحنان تحاول طمأنته قائلة :
-"أنا كويسة يمكن علشان مفطرتش علشان كده دوخت"
تذكر أن الأمر تكرر معها الأيام الماضية كثيرًا وكانت تخبره أنه إرهاق وعدم راحة ، ضيق عينيه بغموض ونظر في التقويم على مكتبها يتذكر تاريخ اليوم ثم أعاد النظر لها يبتسم بغموض ورأسه يفكر في أمر ما!
جذب حقيبتها واسندها لتقف ثم دفعها برفق ليخرجا سويًا قائلًا بتقرير :
-"تعالي نرجع البيت ، مش هتقدري تكملي كده"
أكبح كل محاولاتها كي يثني رأيه ويتركها ، وبالأخير تجلس بجانبه في السيارة تستند برأسها على كتفه يحيطها بذراعيه داخل أحضانه يأمل أن ما يفكر به صحيح.
وصلا إلى المنزل وتركها تصعد تبدل ثيابها ، وذهب إلى الخادمة يهمس لها بشيء ما أتت به ثم صعد خلفها بدقائق وجدها تمشط شعرها بعد ارتدائها منامة زرقاء تحدد تفاصيلها ، استدارت له تسأله عن تأخره فاقترب منها يناولها ما بيده فنظرت بتعجب له تقرأ هويته قبل أن تتسع عيناها بدهشة هامسة :
-"اختبار حمل!!"
جذبها من خصرها برفق يهبط على أذنها هامسًا بخبث وجرأة أن معادها الشهري قد تأخر ، وقد ازداد الدوار وعدم تقبلها للطعام الفترة الأخيرة فشهقت من وقاحته تضربه في كتفه وقد احتقنت وجنتيها بالدماء هاتفة بخجل :
-"والله أنت قليل الأدب ، أنت بتحسب لي يا مازن؟"
ضحك بقوة ودفعها برفق نحو المرحاض حتى تستخدمه :
-"وفيها إيه لما أخد بالي من كل حاجة تخصك؟"
أدارها بين يديه يلمس وجنتيها بحنان هامسًا بصوت أجش راجٍ :
-"يارب يكون اللي بتمناه صح يا هدير ، نفسي في طفل منك"
ابتسمت بعشق وقبلت وجنته قبل أن تختفي لدقائق خلف الباب.. كانت دقائق يشتد بهما الأمل واقتراب السعادة والدعاء حتى خرجت دامعة العينين ، مرتعشة الكفين الممسكة بالاختبار تتأمل ما تراه ثم رفعت نظراتها إليه توميء له بسعادة وفرح :
-"أنا حامل.. أنت شعورك صح أنا حامل"
لم تشعر بنفسها إلا وهي محمولة بين ذراعيه في الهواء يضمها بداخله بقوة حتى شعرت بالألم الطفيف لكن سعادتهما طغت عليه تسمعه يهمس في تجويف عنقها بسعادة وعشق :
-"الحمد لله"









الفصل السابع والعشرون

المرأة في عالم الرجل حكاية تشبه رشفة من القهوة
البعض يحب حلاوتها
والبعض الآخر لمرارتها!
وغيرهم يتظاهرون بالحيرة ليركن في النهاية أوسطها!
وبالرغم من هذا كله البعد عنها مصيبة.. والقرب منها إدمان.
وفي قاموسه المرأة أداة لنزواته ، وعاء لتفريغ شهوته ما أن ينتهي لا يلتفت إليها.

الحب.. كلمة مكونة من حرفين ليس لها معنى عنده بل تثير سخريته وضحكاته!
حتى أتت وقلبت موازين حياته ، غيّرت قوانين دستوره الثابت طوال سنوات عمره دون أي تدخل منها!
رحّال في دروب الحياة يعيش كما يحب ويفعل ما يريد بدون قواعد ولا حدود ، لتظهر في طريقه كنبع ماء بارد ترطب رحلته المتعبة!
وللعجب كانت من تبادر بالهرب ليقطع طريقها ويعيدها إلى حدود دولته.
هو الحاكم الآمر في مملكته وإن كانت تسير بقوانينها دون إرادة منه ، لكن طالما دخلتها فلن تخرج سوى بإرادته!

أنين طفيف وزمجرة خافتة تشبه قطة تتلوى في بداية استيقاظها بدلال ، تفرك عينها بقبضتها الصغيرة وهي تستقيم جالسة على الفراش ثم رفعت أنامل يدها اليمنى تعيد غرتها الشاردة على جبهتها ويدها الأخرى تضعها على ثغرها المتثاوب.
تشعر بتيبس عضلاتها من طيلة الوقت الذي استغرقته في النوم فتلوت في جلستها تحاول انعاش نفسها واستفاقتها.
دارت برأسها تتأمل المكان من حولها عاقدة حاجبيها بتعجب من تغير شكل الغرفة الموجودة فيها ، آخر ما تتذكره الكوخ وسط الأرض الزراعية عندما دخلته تتفحصه ثم أعطاها كوب من العصير تشربه وبعدها لم تشعر إلا بجسدها يتثاقل ورغبة النوم تجذبها بقوة حتى سقطت تلبيها بعمق.
لكن تلك لم تكن نفسها الغرفة التي دخلتها!
حكت جبهتها ونظراتها زائغة في الفراغ تحاول تذكر ماذا حدث؟
اقنعت ذاتها أنه ربما نقلها إلى غرفة أخرى فذلك هو التفسير الوحيد!
خاب ظنها عندما لاحت نسمة رياح قوية حركت الستار الموجود أمام الشرفة وصوت هدير شلال ما يصلها بقوة!
اتسعت حدقتيها وتجعدت جبهتها بصدمة قبل أن تزيح الغطاء بقوة عن جسدها وانتفضت واقفة تهرول نحو الشرفة ليصفعها المشهد أمامها..!
على يمينها غابة واسعة مليئة بالأشجار الشاهقة ممتدة على مرمى بصرها يغطيها الثلوج كما تغطي قمة الجبل الشامخ خلفها.. ويسارها شلال ينهمر من ذلك التل العالي على جدول يسير بالأسفل على الصخور!
رفعت رأسها تتطلع للسماء المليئة بالغيوم تخفي أشعة الشمس خلفها فينتشر اللون الرمادي حولها.
هذه ليست أجواء مصر!
مناخها لم يكن أبدًا هكذا!
انتفضت خطوة للخلف وقد لكمتها حقيقة أنها خارج حدود بلدها!
اختطفها!
كيف حدث هذا لا تفهم؟
ظلت تعود للخلف ونظراتها تحوم بجنون للخارج والمكان حولها حتى اصطدمت بالباب ففتحته وهرولت للخارج ، سارت في الممر الصغير حتى وجدت درج خشبي يشرف على باقي المنزل.
تمسكت بحافته تتطلع حولها لتجد أن المنزل بأكمله محاط بزجاج شفاف ينقل المشهد بالخارج للجالس بالداخل ، رأت أريكتين أمامهما طاولة زجاجية صغيرة ، وتلفاز يأخذ مساحة كبيرة من الحائط أمامهما ، وبركن صغير مدفأة حطب مشتعلة.
حالت بنظرها لليسار وجدت مطبخ على النظام الأمريكي مفتوح على باقي المنزل وهو بالداخل يوليها ظهره يُحرك مقلاة الطعام بسلاسة على اللهب وشفاهه تتحرك كأنه يتحدث مع شخص ما!
كزت على أسنانها بشراسة وانتشر الاشتعال في حدقتيها ضاغطة على الحافة بقوة حتى كانت مفاصلها أن تنكسر ، ثم التفتت تهبط إليه باندفاع.

مندمج في تقليب شرائح اللحم ، مستمر في حديثه غير واعٍ إلى القنبلة الموقوتة التي تتقدم نحوه إلا عندما اصطدمت ركبتها بالطاولة الصغيرة زحزحتها قليلًا عن موضعها.
أغلق اللهب ووقف يناظرها بحاجب مرتفع وبسمة جانبية مستمتعة ، يعلم ردة فعلها التي توشك على الظهور وسيكون هو ضحيتها لا محالة!
يقسم أنه يشعر بذرات الغضب والشراسة تلتف فوق رأسها وستُصب فوق رأسه فليتأهب.
نظرات الانفعال الملتهبة الصادرة من مقلتيها لو كانت تحرق لكان في عداد الموتى الآن وستقف تشاهده بتشفي.
كلما اقتربت اتضح صوت تنفسها العالي من فرط ثورتها ، حمحم قليلًا يجلي حنجرته وصاح بنبرة مرحة يمتص غضبها:
-"إيه الكسل ده
كل ده نوم!"
مجنون إن ظن أنها ستجيبه هادئةً!
ملعون إن تأمل أنها ستبدي رد فعل كما يتوقعها!
بسرعة بديهة انخفض بجسده في أقل من ثانية يتحاشى السكريّة التي قذفته بها لتصطدم بالحائط خلفه فتتهشم لفُتات ويتناثر السكر على الطاولة الرخامية وكتفيه.
نفض الحبيبات عن ثيابه السوداء وقهقهة عالية مرحة صدحت منه هاتفًا من بينها :
"صباح النور يا روحي"-
كلما تحدث يزيد الأمر سوءً ، فها هي تكاد النيران تخرج من أذنها ورأسها من شدة الغضب فالتفتت تبحث عن شيء ما حتى وجدت غايتها.. سكين جذبها لمعة نصله أسفل ضوء المطبخ فالتقطته وبداخلها يقسم أنها ستقتله بدم بارد.
اقتربت منه هاتفة بغيظ :
"ده أنا اللي هتطلع روحك ، ممكن تقولي أنا فين؟"
رفع حاجبيه باستمتاع وقد تركها تفعل ما تشاء ، فلتلعب الصغيرة كما تريد لكن النتيجة ستكون لصالحه.. دار برأسه بدهشة مصطنعة يجيبها ببراءة :
-"أنتِ معايا ، مش اتفقنا نقضي فترة إجازة مع بعض!"
ضغطت على أسنانها بقوة ورغبة خنقه تتمكن منها بشدة ، فدفعته على غفلة ليتقهقر للخلف حتى اصطدم بالطاولة الرخامية تحت دهشته الحقيقية ، كاد أن يعتدل فوضعت نصل السكين على رقبته وبقبضتها الأخرى أمسكت بتلابيب ثيابه.
وجهها يبعد عن وجهه بضعة إنشات..
فجذبه بريق مقلتيها الأسود من شدة الانفعال ، اللون الأحمر انتشر في وجنتيها البيضاء وخصلاتها تغطي نصف وجهها.
همست بحدة من بين أسنانها وبصوت دلّ على نفاذ صبرها :
"رد عليا كويس يا كريم وقولي أنت جايبني فين؟"-
"روسيا"-
اتساع عينها مع رفع حاجبيها وتوقف أنفاسها للحظات كان رد فعلها على كلمته.
اقتربت برأسها منه تسأل بحذر وقبضتها تشتد على صدره تضغط عليه وقد تلبسها شياطين الجن بأكملهم :
"وجيت روسيا إزاي يا كريم؟"-
مال برأسه عليها ولم يأبه لضغط السكين على رقبته هامسًا بلامبالاة وهدوء :
"بالطيارة"-
جزء من الثانية تتحرك فيه يدها نحو اليمين وستصعد روحه إلى بارئها وتتخلص منه ، لن تستطيع وصف شعور الراحة والهدوء حينها!
لاحظ توسع فتحتي أنفها وتنفسها السريع الغاضب!
البروز الطفيف لعظمتي فكها بسبب شدة ضغطها على أسنانها بغيظ!
هتفت بكامل غيظها :
-"أنت بأي حق تعمل كده؟
بأي حق تخطفني وتجيبني هنا بدون علمي؟"
حال الصمت بينهما للحظات يتأملان بعضهما بمشاعر متباينة.. أسئلتها هو نفسه لا يعلم إجابتها ولا تفسيرها!
معها حق لماذا جاء بها إلى هنا؟
يقنع ذاته أنها وافقت فما أهمية المكان بالنسبة لها؟
لم تتلقَ إجابة وفي ذلك الوقت لا تستطيع تحديد مشاعرها جيدًا.. غضب أم ثورة!؟
سخرية أم غيظ!؟
كل ما تعرفه أنها إن لم تذهب من أمامه فلن تكون مسئولة عن أي ردة فعل تصدر منها.
ذمت شفتيها بشدة ورفعت السكين عن عنقه تضعه بعنف على الطاولة خلفه ثم ابتعدت عنه بضعة خطوات ، وألقت نظرة أسفل قدمها قبل أن ترفع رأسها له تعيد غرتها خلف أذنها وقالت :
-"هو أنا بسأل مين أساسًا؟
متوقعة إيه منك يعني؟
بضيع وقتي في كلام ملوش أي لازمة ، اتفضل دلوقتي حالًا ترجعني مصر"
ثم رفعت سبابتها إليه تهزها بتهديد وتخصرت باليد الأخرى مع رفعة حاجبها الأيسر ونظرات التصميم في عينها :
"ولو شوفتك في حياتي تاني يا كريم هسجنك أو أقتلك"-
رفعت حاجبيها بتعجب عندما رأت الابتسامة ترسم خطًا مستقيمًا على شفتيه وهمسه الساخر وصل لمسامعها واضعًا يده في جيب بنطاله الأسود يشد جسده في وقفته حتى برزت عضلات جسده أسفل قميصه ويده الأخرى فوق قلبه بدرامية :
-"جرحتِ قلبي بكلامك يا ياسمينة!
بعد ده كله تقتليني؟"
"ده أقل واجب"-
أجابته بسخرية وعينيها تحيد لأعلى ، تهز رأسها بلا فائدة وخطت خطواتها للخلف عازمة أمرها على الابتعاد من أمامه ، لكن ولسوء حظها تعثرت قدميها أسفلها وسقطت.. بدلًا من أن تسقط على الأرض السيراميكية ، سقطت بين يديه واصطدم ظهرها بصدره الذي لا يختلف عن صلابتها في شيء.
تلقفها بين يديه بابتسامة فهد حصل على غزالة بين براثنه ، سيكون غبيًا في كتب الرجال إن لم ينتهز الفرصة!
أحاطها بذراعيه ودفن أنفه في عنقها يستنشقه في حركة بدت لها تلقائية ولم تنتبه له في ظل صدمتها من تعثرها ، تستند بكفيها فوق ساعديه ، فرفع شفتيه لأذنها هامسًا بنبرة متريثة وأنفاس ثقيلة :
-"تعرفي..!"
انتبهت له كافة حواسها ونظرت بجانب عينيها ، فعمق نظراته داخل حدقتيها حتى كاد يرى انعكاس وجهه فيهما وهمس :
-"ليه أنتِ بالذات مش عارف؟
كل اللي أعرفه إن الزمان والمكان مش مهمين طالما المبدأ موجود وأنتِ وافقتِ تديني الفرصة ونكون سوا ، وأنا وعدتك مش هأذيكِ مش هقدر"
شعر بتصلب جسدها بين يديه ، وتشدد كفيها فوق ذراعيه ولم يرَ عينيها التي ابتعدت بها عن مرمى نظراته وتوسعت بصدمة من جملته ، فحاولت دفعه قائلة بصوت متقطع من انفعالاتها بسبب التصاقه وكأنها انتبهت الآن أنها قابعة في أحضانه :
-"ابعد يا كريم ، كل كلامك ده خليه ليك أنا عاوزة أرجع مصر دلوقتي"
أدارها بين ذراعيه مشددًا واحدًا حول خصرها ، وثبت رأسها أمام وجهه بكف يده الأخرى لتتوقف أنفاسها للحظة أمام نظراته ، فانتشرت نظراته على وجهها وعقد حاجبيه قائلًا :
-"رجوع مصر مش هيحصل غير لما انا أقرر ، حاولي تتأقلمي على الوضع لأن المدة ممكن تطول.. علشان نقدر نتعايش سوا"
اقترب أكثر منها فأصبحت تتنفس أنفاسه الحارة..
فابتلعت ريقها بتوتر لكن نظراتها ثابتة قوية بطريقة أعجبته فهمس بتلاعب محبب بلكنة روسية بارعة :
-"عناقك كالخطيئة المشروعة!
فكيف لكِ أن تكوني بكل هذا الجحود لتمنعيني من فعلها؟"
فهمته جيدًا لتبتسم ساخرة من طريقته عندما يود أن يتواقح يغير لكنته وكأنه يجملّها!
دفعته للخلف بعنفوان يتركها بمليء إرادته مبتسمًا يعُض على شفتيه السفلية بمكر وتسلية يرفع حاجبه ويميل برأسه للجانب يتأهب لسماعها عندما وجدها تكاد تهم بالحديث ، لكنها تنفست بعمق وأزاحت خصلاتها للخلف بعنف ترمقه بغموض من أعلى لأسفل وقد أقسم بداخله أنها تخطط لشيء!
لم تجبه ولم تنبس بنبت شفة لتتركه وتتجه نحو الدرج بهدوء وتمهل أجبرت نفسها على التحلي به.
★★★★★
أن تفقد أباك معناه أنك تخسر الجدار الذي تستند إليه ويجعلك في مهب ريح قد لا ترحم من هم أمثالك..
تفقد السماء التي تجود بنبع الحب والحنان..
تفقد المَظلة التي تحميك من الشرور وتجعلك وحيداً في مُواجهة العالم..
فقدانه ليس معناه اليتم فقط ، بل يعرف من يتعامل معك أنك وحيدًا أمامه وربما أمام طموحه ومطامعه.
تشعر أن الدنيا تطيح بك شرقًا وغربًا تقذفك بعنف ، تشعر أنها تتضاحك بشدة أنك لن تستطيع مجابهتها فتتيقن أنك على شفا حفرة من اليأس والاستسلام.
ومن وسط الظلام قبس من نور يتهادى من بعيد ينير حياتك الكاحلة
إشارة من الله أنه يراك ويسمعك..
أخذ منك سندك لكنك لم تفقد سنده هو

جالسة بجوار والدته في الحديقة تستمتعان بشرب القهوة في يوم مشمس يسري دفئه في المكان ، ينغمسان في الحديث وعيناها تتابع الاثنان اللذان نسيا العالم من حولهما وانغمسا في لعب الكرة!
تضحك وهي ترى مصطفى يزفر بنزق عندما يتمكن منه التعب من فشله في قطع الكرة من براثن مازن ليشيح بيده في الهواء بغيظ فيرق قلبه ويعطيها له.
ابتسمت بحنان وسعادة عندما وصل غضب الصغير إلى آخره فحمل الكرة وركض بها هاتفًا بحنق أنه سيلعب بمفرده بما أن الكبير لا يراعي كونه صغيرًا قصيرًا لا يقدر على مجابهته ، فيركض مازن خلفه يحمله بخفة ويدور به وضحكاتهما تتعالى حولهما تنشر السعادة بالمكان.
انتبهت لوالدته التي قالت ترفع كوبها ترتشف القليل منه وعيناها عليهما بابتسامة حنونة :
-"مصطفى من ساعة ما جه وتحسي إن السعادة جت معاه والفضل ده كله يرجع ليكي ، رجعتي لي ابني من تاني"
أحاطت هدير ذراعها تضمه إلى أحضانها وابتسمت قائلة تتطلع إليهما :
-"مين قالك أنه كان مهاجر يا ماما؟
مازن مفقدش أي جزء من شخصيته ، اللي يشوف تعامله مع أسماء ومعاكي تعرفي أنه مليان حنان الدنيا"
تطلعت لها تضم نفسها إليها أكثر وقالت :
-"فاكرة كلامك ليا يوم كتب الكتاب ، إن كل ده بسبب موت باباه -الله يرحمه-"
تنهدت ميرفت بحنين وشوق لزوجها وترحمت بخفوت عليه ثم ربتت على رأسها بحب :
-"مازن هيبقى أب حنين ، واللي متأكدة منه أنكم مش هتظلموا مصطفى"
وضعت هدير كفها على بطنها الحاملة لنطفة لم تُكمل الثلاثة أشهر بداخلها لكن السعادة التي تشعر بها لا توصف ، وعيناها متعلقة بزوجها النائم على العشب يضع كفه أسفل رأسه وذراعه الآخر يضم به الصغير لأحضانه يتحدثان بخفوت لا يصلهما وقالت :
-"مصطفى ابني الأول ، والطفل اللي جاي هيبقى أخوه مش هفرق بينهم مهما حصل على قد ما أقدر ، وواثقة أن مازن هيعمل كده قبل مني"
ربتت الأخرى على قدمها بحنان هامسة بدعاء :
"ربنا يكمل حملك على خير يا حبيبتي"-
قابلت دعائها بابتسامة هادئة وقلبها يؤمّن خلفها ، ثم استقامت تقترب منهما تنحني نصف انحناءة مستندة على ركبتيها هاتفة بمرح :
-"لعبتوا وكسلتوا"
وجهت حديثها إلى الصغير :
"يلا حبيبي روح لدادة علشان تآخد حمام وتغير هدومك"-
استقام مستجيبًا لأمرها بطاعة وسعادة يقترب طابعًا قبلة على وجنتها ثم هرول إلى الداخل ينادي على المربية ، تتابعه ببسمة قبل أن تعاود النظر لذلك الذي استقام يقف خلفها ينحني قليلًا نحو أذنها يهمس بوقاحة :
"طب مصطفى دادة هتساعده ، أنا مين يساعدني؟"-
ضيقت عينها والتفتت له متخصرة تناظره برفعة حاجب محببة لتقول بخبث تتلاعب بمقدمة ملابسه ترسم خطوط واهية على كنزته الرمادية :
-"يا سلام.. هيكون مين يعني اللي له الحق يساعدك"
ابتسم بخفة ومال برأسه عليها يغمز لها بمكر وحدثه يخبره أنها تشاكسه كالعادة :
"تفتكري مين؟"-
ربتت على صدره ورأى نظرة التلاعب في حدقتيها :
-"جهز فوطتك واستنى دورك بعد مصطفى ، دادة نفسها اللي كانت بتجهزك وأنت صغير"
ضحك بقوة حتى دمعت عيناه ليحيط خصرها مقربًا إياها منه تشاركه الضحك ، ولم يستطع قول شيئًا سوى طباعة قبلة حنونة فوق خصلاتها تقبلتها مغمضة العين تدس نفسها في أحضانه أكثر.
خضع لها في الحب من بعد عزته..
وكل محب لمحبوبه خاضعٌ.
★★★★★
الغضب.. ريح تهب فتُطفئ سراج العقل
يشل التفكير ويجعلك تتصرف بعشوائية
فتكون فرصة وقوعك في الأخطاء كبيرة
وحينها ستفقد حقك بالكامل

واقفة أمام الشرفة تكتف ذراعيها تقبض على كميّها حتى كادت أظافرها أن تخرقها من غيظها ، تهز قدمها بقوة وعقلها يفكر مما أوقعها حظها فيه!
لملمت خصلاتها بمشبك أعلى رأسها وظلت تدور حول نفسها تفكر حتى تصل لحل!
لكن كيف ستجده وهي برفقته؟
بل وإن وجدته كيف ستنفذه وقد أغلق في وجهها كافة السبل؟
منزل منعزل وسط غابة واسعة وأشجار وشلالات ، توجد في دولة تقع في النصف الآخر من الكرة الأرضية بعيدًا عن وطنها ، بيتها ، عائلتها!
حتى لو تمركزت عائلتها في "أسرة مازن" فقط لكنه يظل العائلة التي عرفتها دومًا!
انتفضت في وقفتها حتى تذكرت مازن وقد لاح بداخلها شعاع من الأمل أنه سيجدها لكنه انطفئ بيأس وتهدلت أكتافها عندما تذكرت أنه أعطاها إجازة طويلة بعد مشكلة رامز خاصةً أنه مرّ الكثير لم ترتاح فيه!
امتعضت وتغضن جبينها تسب نفسها.. أكان من الضروري أخذ إجازة في هذا الوقت؟
منذ متى تشتكي من العمل؟
لتشارك ذلك القابع بالأسفل في سبابها تلعنه وتلعن الساعة التي رأته فيها!
لم تنتبه لمن فتح الباب ودلف يتأمل حيرتها وقلة حيلتها باستمتاع ، يقر في نفسه أن هذه الأيام لن تكون كشاكلة الذين مضوا ، يشعر أنه سيكون شخصًا مختلفًا معها هو نفسه سيتعرف عليه لأول مرة!
لينتظر ويرى ماذا ستفعل به تلك اللوزية!؟
اقترب منها بخفة يضرب على كتفها مرتين بسبابته ، فانتفضت تبتعد عنه خطوتين باضطراب قبل أن تستوعب وجوده لتهتف به :
"أفندم عايز إيه؟"-
قطع الخطوتين في واحدة حتى كاد يلتصق بها فلم تتحرك من مكانها ولم تظهر أي توتر بل وقفت تناظره بقوة أعجبته فهمس أمام وجهها :
-"هتفضلي متعصبة كده كتير!
أنا معنديش أي مانع بالعكس وشك الأحمر ، وعيونك اللي بتلمع ، جسمك اللي بيتنفض من نفسك السريع.. كل دول بيخلوني...."
قطع حديثه ضاغطًا على شفته السفلى بخبث وإيحاء بتخيلات منحرفة اتسعت لها عينها بقوة والتفتت تبحث عن أي شيء تدق به عنقه.
قرأ رغبتها فأحاط خصرها على غفلةٍ منها يثبتها بين ذراعه لتنصدم من فعلته وكادت أن تصرخ به معنفة لكنه وضع سبابته على فمها يضغط بقوة كي لا تتحدث ، فرأت نظراته تحتد ، ملامحه العابثة تحولت للجدية وقال بنبرة لا جدال فيها :
-"حاولي تهدي عشان محدش هيتعب غيرك من الغضب والعصبية دي ، بكل الأحوال هنفضل مع بعض مفيش خروج من هنا"
تسارعت دقات قلبها تردد صداها في صدره ، وارتفعت وتيرة أنفاسها تستمع للهاتف الذي صدح بعقلها أن هناك معنى آخر خلف كلماته لا يقتصر على تلك الإجازة الذي طلبها!
يسخر منها أنه حذرها ألا تسير مع طياره وتهرب وها هي عالقة بين براثينه كالفأر في المصيدة!
هربت الكلمات من جوفها وظلت تنظر له بدهشة ولاح التوتر بداخلها من ضمته ، تركها قبل أن تقوم بدفعه وقال يوليها ظهره :
"يلا علشان تاكلي"-
"مش عاوزة أكل"-
هتفت بها بغيظ تشيح بوجهها عنه ، ليقف يحك أسفل شفتيه بصمت ثم استدار لها يراقب وقفتها الطفولية.. متخصرة تهز قدمها بتوتر مشيحة بوجهها للجانب.
رفع كتفيه بلامبالاة واقترب منها منحنيًا أمامها جعلها تعقد حاجبيها بدهشة قبل أن تصرخ شاهقة عندما استقام حاملًا إياها فوق كتفه ملقيًا رأسها للخلف ودار مرة أخرى يخرج هابطًا لأسفل.
يصفّر براحة غير عابئ لصراخها أن يتركها ، ولا ضربات قبضتيها الصغيرة على ظهره.
*******
الحب جحيم يُطاق ، والحياة بدونه نعيم لا يُطاق!
جملة قرأتها منذ فترة حينها ابتسمت ساخرة ، لكنها الآن تُجزم أنها كانت غبية عندما لم تفطن لعشقه طوال هذه السنوات!
تعترف الآن بقيمة الحب ، أنه خيط رفيع يربط أنسجة الساعات ويضم ستائر الليل ، يسكن موجات الشمس ليجمع نبضاتهما ويشعر قلبها بما يمر به حتى لو لم يكن أمام عينها!

تقف بجوار أمه في المزرعة تراقب الحديقة التي انتهى تزيينها للتو ، طاولة كبيرة مستطيلة وفروع ضوء ملونة معلقة بغصون الأشجار تهبط بسلاسة.. البلونات البيضاء والسوداء والزرقاء أُلقيت في المسبح وعُلقت بأعمدة حول الطاولة.
التفتت إلى والدته تضم كتفيها وتضع رأسها على خاصتها قائلة :
"كده كل حاجة بقت تمام يا ماما"-
ربتت على ساعدها بسعادة وامتنان :
-"نادر هيفرح قوي بالمفاجأة دي ، هو تعب قوي الفترة اللي فاتت"
شددت من ضمها وعينها تراقب مصطفى يتقافز بسعادة حول صندوق أرنبها الصغير يلاعبه ويلقي له بقطع الجزر.
دلفوا للداخل فانضمت والدته إلى سهام وميرفت وناهد يتناولون القهوة ، ودلفت منار إلى المطبخ حيث أسماء وهدير المتوليتان عمل الطعام والعصائر ، فشرعت تبدأ في تجهيز الحلوى البارعة فيها.
ابتسمت أسماء بسعادة تقف بجانبها :
-"نادر محظوظ بيكي يا بنتي والله ، والنهاردة هيفرح جدًا بالحفلة دي"
بادلتها الابتسامة بأخرى حالمة والتمعت بندقيتها :
-"أنا اللي محظوظة بيه يا أسماء.. نادر زي القمر اللي جه نور حياتي"
صدح صوت هدير الجالسة خلف الطاولة تقطع الخضراوات بصوت شجّي متلاعب بخبث تغني :
-"ياما القمر ع الباب ، نور قناديله
يما أرد الباب ولا أنادي له
أنادي له يما.. أما"
اتسعت نظرات منار بدهشة ممزوجة بخجل لتصيح بها بغيظ :
-"هدير.."
رفعت الأخيرة نظراتها التي اتسعت كالجرو الصغير ببراءة لكنها تستطيع قراءة المكر فيهما بوضوح :
"الله بغني يا منار"-
لم تلتفت لصراخها وأمسكت ببندورة تقطعها وتكمل غنائها تنظر لها من أسفل أهدابها بابتسامة تخفيها بالكاد:
-"يما القمر سهران مسكين بقى له زمان
عينه على بيتنا باين عليه عطشان
وحد م الجيران  وصف له قلتنا
أسقيه ينولنا ثواب ولا أرد الباب
يماا.. أما"
قذفتها منار بالقفاز الذي جذبته من يدي أسماء التي لم تستطع السيطرة على ضحكاتها تهز رأسها بيأس من مشاكستهما التي لا نهاية لها.
مر الكثير من الوقت حلّ فيه الليل وأضيئت الحديقة
الطاولة رُصت بكافة الأطعمة والفتيات تقفن بجانب بعضهما ينتظرن حضورهم ، ولما لبس أن انتبه الجميع لسيارتين دلفتا من البوابة ، واحدة هبط منها نادر والأخرى مازن ورامز يقتربون منهن كلٌ عينيه تتعلق بحبيبتها.
مازن قبّل جبين زوجته
رامز احتضن أسماء مقبلًا وجنتها
ونادر رفع كفي منار مقبلًا ظاهرهما بحب ، والتف حوله يتأمل الروعة المحيطة به ، يعلم بأمر العزيمة لكن لمسة خطيبته على الحديقة جعلتها فائقة الجمال.
نظر لها بحب هامسًا :
"أنتِ اللي عملتِ كل ده؟"-
أومأت بسعادة وحماس فشبك أنامله معها يرفع كفها يقبل باطنه بحنان ولم يقطع التواصل البصري معها ، فابتسمت بخجل وأسدلت أهدابها بخجل جعل الدم يتصاعد لوجنتيها ، ضحك بخفة عليها وكاد أن يتحدث فصدح صوت رامز المرح الذي جلس بين زوجته ومازن :
-"مش وقته يا نادر ، مش وقت حب يا حبيبي ده وقت أكل"
تناول الجميع العشاء وسط الضحكات والسعادة ، مشاكسة هدير لهما وإثارة غيظ منار يدافع عنها نادر أن تنتبه لزوجها وطعامها ولا تقترب من خطيبته.
بعد الطعام دلفت منار للداخل ، وفجأة عمّ الظلام في الأرجاء فتعالت الهمهمات عن السبب إلا هدير التي تعلم ما تنتويه صديقتها.
كاد نادر أن يتحرك يرى ما الأمر لكنه تسمر عندما وجدها تقترب منه حاملة كعكة كبيرة تحيطها الشموع والشرارات بابتسامة جميلة عاشقة ، وتصاعد التصفيق من خلفه وصوتهم بغناء أغنية عيد الميلاد بسعادة.
وقفت أمامه تشاركهم بصوتها وعيناها لم تهبط من عليه ، تبثه حبها وعشقها بنظرات أبلغ من كم الكلمات التي يمكن إخراجها من أحرف الأبجدية.
رفعت الكعكة أمامه فرأى صورته تتوسطها وقالت بهمس عندما صمت الجميع والتفوا حولهما :
"اتمنى أمنية قبل ما تطفي الشمع"-
ابتسم لها واقترب برأسه منها وبصوت مليء بالعشق الذي فاض بقلبه ودون خجل أفصح عما يتمناه :
"أمنيتي من الدنيا دي أنتِ وبس"-

الحب سبق صحفي " مكتملة "حيث تعيش القصص. اكتشف الآن