الفصل التاسع عشر
ما زالت الجراح في قلبي تنزف
حتى كادت تتعفن من كثرة الدماء!
جراح أبكتني حتى جفّت دمعاتي
فأطفأت رغبتي في كل شيء .
مرت بضعة أيام على الحادثة التي تعرضت لها ، لم تخرج من غرفته بل لم يسمح لها بالخروج من الأساس خوفًا عليها حتى تتعافى جسديًا على الأقل .
هيأ لها الجو المناسب كي تتحسن ، ساير رغبتها في كل شيء تريده حتى في عدم رغبتها بالطعام إلى أن تخبره بنفسها أنها جائعة وهو عالم في قرارة نفسه أنها تأكل فقط حتى لا يجبرها .
جالسة تضم جسدها بذراعيها ترتدي كنزة زرقاء خفيفة بأكمام طويلة ورقبة عالية حتى تخفي كدماتهما ، على الرغم من قربهم من الشفاء لكن مازال أثرهم موجود يذكرها بما مرت به ، ترفع خصلاتها كذيل حصان للأعلى يهبط حتى وصل لمنتصف ظهرها ، تنهدت بعمق تمسد ذراعيها تغمض عينيها مستقبلة النسمة الربيعية التي لفحت وجهها كقبلة حنونة طبعتها الرياح على وجنتها لتواسيها .
أغمضت تريد الانفراد بتلك اللحظة ولا يوجد معها أحد ، مكان هادئ.. نسمات الربيع ترافقها.. لا ضغوط ، لا أشخاص ، لا عمل ، لا شيء على الإطلاق.. لكن كيف السبيل؟!
مرت عدة دقائق عليها مغمضة العين حتى انتفضت على يد وضعت فوق كتفها فشهقت قافزة من موضعها تضع يدها على قلبها من الذعر ، تنظر لذلك الشخص فكان مازن الذي اضطرب لذعرها واقترب يكور وجهها بين كفيه ممسدًا على وجنتيها باطمئنان
-" متخافيش ده أنا!"
رويدًا رويدًا لاحظ عودة الدماء إلى وجهها من جديد ، والهدوء ينتشر على ملامحها الرقيقة فابتسم وعاد خطوة للخلف يعطيها مساحتها تستعيد اتزانها بالكامل
-" مزهقتيش من جو الأوضة الممل ده؟"
التردد تسلل إلى نظراتها ، يدها بدأت تفركها أمامها فأكمل بأسلوب مرح يمد يده إلى كفها يحتضنه ويحيط كتفيها بالذراع الآخر
-" تعالي ننزل ، نادر تحت وحابب يطمن عليكِ وكمان نفضي الأوضة للشغالين ينظفوها ويجددوا هواها"
سارت معه بتيه ولم تتحدث بشيء ، فكان هذا بمحل إنجاز كبير له أنها لم ترفض كالأيام السابقة ، كانت ترفض بشدة الخروج ، التحدث مع أحد ومقابلة من يريد الاطمئنان عليها سوى منار .
هبطا للأسفل حيث نادر و أسماء في انتظارهما بغرفة المعيشة والذي نهض مجرد أن رآها فاقترب منها مبتسمًا
-" الحمد لله على السلامة يا دودو ، طمنيني عليكِ"
وقبل أن يصل إليها عادت خطوة للخلف منكمشة في أحضان مازن ، تلتصق بظهرها على صدره محاوِلة رسم ابتسامة صغيرة على ثغرها وخرج صوتها متردد
-" الحمد لله يا نادر أنت عامل إيه؟"
عقد حاجبيه وتغضن جبينه بتعجب من حركتها كأنها خائفة منه!!
منذ متى تشعر بهذا القلق البادي على وجهها نحوه؟!
هاجس بداخله يخبره أن الموضوع أكبر مما أخبره به مازن هذا اليوم!!
توترها.. خوفها.. قلقها.. انكماشها بتلك الطريقة كأنها تحتمي به يقلقه عليها أكثر من ذي قبل!!
تلاقت أنظاره بأنظار مازن الذي أومأ له أن يتفهم ما تفعله ويتعامل كأن شيء لم يحدث فلا يظهر أي دهشة.
ابتسم لها ورفع حاجبه ينظر بمكر
-" الحمد لله قررتِ تحني علينا وتخرجي تشوفينا.. نقيم الأعراس والاحتفالات بقى"
انحنى نحوها يغمز لها هامسًا
-" أبوس دماغك ترجعي عشان منار مستغلة عدم وجودك ومستقوية عليا المفترية"
ابتسمت له برقة على ذكر علاقته بصديقتها التي لم تتركها طوال الأيام الماضية إلا على ميعاد النوم ، تملأ وقتها بالأحاديث في أي شيء ، تكسر صمتها بمواقفها مع نادر وأنها بالفعل تستغل عدم وجودها في أخذ حقها منه لأنها دائمًا تقف في صفه.
قادها مازن للداخل وجلست بجانب أسماء التي استقبلتها بسعادة تفتح لها ذراعيها تحتضنها
-" أخيرًا لقد هرمنا لهذه اللحظة"
جلس نادر بالكرسي المجاور لها وكاد مازن أن يتجه إلى كرسي آخر لكنها تمسكت بكفه بقوة تنظر له بلهفة كأنه سيختفي ، تبتلع ريقها بصعوبة هامسة
-" رايح فين؟"
ربت على ظاهر كفها بحنان وأشار لكرسي آخر
-" هقعد هناك مش رايح في حتة"
رمشت عدة مرات والتفتت يمينًا ويسارًا ثم أخلت له مكان بجانبها على الأريكة وانزاحت بجانب أسماء أكثر مشيرة لجانبها
-" تعالى أقعد هنا"
تبادلت أسماء النظرات مع نادر الذي كان يتابع ردود فعلها بصمت وغموض ، يستند بمرفقه على يد الكرسي يحك ذقنه بأنامله.. كاد مازن أن يجلس لكن صدح هاتفه معلنًا اتصال من رامز فاستأذن ليجيب فخرج من الغرفة تشيحه بنظراتها إلى أن انتشلها من شرودها صوت نادر
-" هدير.. أنا عارف إن الفترة اللي فاتت كانت صعبة ، بس هدير اللي أعرفها واللي ربيتها مفيش حاجة تقدر تكسرها ، لكن اللي قدامي واحدة ضعيفة أي نفخة هوا توقعها.. فيه إيه؟
أنتِ عمرك ما كنتِ كده؟"
لاحظ اضطراب جلستها ، تفرك كفيها بتوتر ، تشتت نظراتها في الأرجاء دون النظر إليه كأنها تهرب من نظراته ، تعلم أن شخصيته الصارمة ما تتمكن منه في هذه اللحظة..
بمجرد النظر له سيعلم أن بها شيء.. وهو بالأخص لو علم ما حدث لن يتوانى عن قتل كريم.
يا الله كم تتمناها لكن دون خسارة أحد من أحبابها!!
كادت أن تنهض قائلة
-" معلش يا نادر حاسة إني تعبانة ومحتاجة أنام"
أمسكها من رسغها بقوة يمنعها من النهوض مثبتًا إياها في مكانها ، فانتفضت من مجرد لمسته لها وشعر بذلك بوضوح فهتف بصرامة
-" بصيلي"
لم تلتفت له ووضعت تركيزها بأكمله في فك كفها من معتقل قبضته فصدح صوته بصرامة أكبر
-" هدير بقولك بصيلي"
سكنت حركتها فجأة وتسارعت أنفاسها بصوت مسموع ثم رفعت أنظارها ببطء إليه كأنها كانت مغيبة وعادت للواقع بقوة ، ضمتها أسماء بحنان
-" بالراحة يا نادر مش كده ، هي لسه تعبانة وأول مرة تخرج تقابل حد راعي ده"
تنفس بخفوت يبث الهدوء لنفسه قبل أن يعيد نظراته إلى تلك التائهة الباحثة عن بر أمان
-" هدير أنا نادر.. بصيلي وفوقي أنا أخوكِ وصديقك اللي عمره ما يضرك بالعكس أنا هجيب لك اللي يفكر بس يضرك تحت رجلك"
الدموع تلألأت في مقلتيها ، ارتعشت شفتها السفلى تضغط عليها تمنع شهقة بكاء تتصارع في صدرها على الخروج ، مشاعر متضاربة تكتنفها بين الحنين لوجودها بين رفقاء دربها والهروب إلى انعزالها وعدم التعامل مع أحد!
بين اشتياقها لشخصها القديم القوي والاستسلام للضعف الذي أصبح يعيث فيها كمن وجد أرض خصبة فقرر تثبيت جذوره بها مستغلًا ترحيبها وإعطاءها ملكيته لتلك الأرض!!
بين رغبتها في أن تتقوى بأصدقائها وفعلهم أي شيء لصالحها وبين الركض والاختباء خلف مازن الوحيد الذي تشعر بالأمان معه!!
أغمضت عينها وأخفت وجهها بين كفيها مستندة بمفرقيها على قدمها وتركت لدموعها العنان ، فتنهد نادر بيأس يهز رأسه للجانبين باعتراض قائلًا
-" طب لو العياط هو الحل هقولك عيطي لحد ما تتعبي ، بس دلوقتي حضرتك بتعيطي ليه؟"
لم تجبه بل ظلت على حالها ، فزفر بعنف واشتعل الغيظ في حدقتيه الرمادية من ضعفها الذي يراه للمرة الأولى!!
اعتادها قوية ، دربها على الشجاعة وعدم الانكسار حتى لو كانت في أشد المواقف رهبة ، لكن من أمامه ليست هدير التي زجّت بكريم إلى السجن منذ خمس سنوات عندما خانها وهمّ بمحاولة الاعتداء عليها!!
كيف لموقف كالذي حدث منذ أيام أن يحولها لكتلة اليأس والضعف الماثلة أمامه؟!
هتف بها بكل ما يعتمره من غضب وحقد تجاه السبب لحالتها
-" بطلي عياط وكلميني زي ما بكلمك"
انتفضت في موضعها على صرخته ورمشت عدة مرات من بين دموعها وصدرها يعلو ويهبط جراء أنفاسها المتقطعة ، عاقدة حاجبيها بدهشة فهذه المرة الثالثة في عشرة دقائق التي يصرخ بها بهذا الشكل!!
فهتفت به بانفعال يرى طبعها وشراسها قد عادا لها في تلك اللحظة
-" أنت مش شايف أنك من ساعة ما قعدت وأنت عمال تزعق ليا وبس؟!
مالك يا نادر فيه إيه؟"
شعور انتصار ، وابتسامة ماكرة لاحت في عينه لم تفطن هي لها ، نجح في إخراج ردة فعل نحوه غير الخوف والهروب.. أخته لم تقبل يومًا بصراخ أحد عليها وها قد بدأت تعود .
ظل على هيئته الغاضبة ونهض يجذب نظارته الشمسية ومفاتيح سيارته من فوق الطاولة ، ثم رفع هاتفه ينظر لها من علوه قائلًا بنبرة لا تحمل جدلًا
-" اسمعيني كويس.. الفترة اللي فاتت كلنا كنا ماشيين على هواكِ وكل اللي عوزاه بنعمله عشان نساعدك تخرجي من اللي أنتِ فيه..
دلوقتي دورك عشان تساعدي نفسك ، لو ملكيش دور ومعندكيش استعداد تعدي المرحلة دي يبقى كل اللي بنعمله وهنعمله ولا ليه لازمة..
ساعدي هدير يا هدير"
رعشة لفحتها ونبضة قوية ضربت قلبها تعلن عن تأثر بكلماته الصارمة التي انطلقت كالسهم يعلم طريقه جيدًا وقد أصابه ، طالعته بتيه فقابلها بثبات وقوة مكملًا
-" قدامك تلت أسابيع وتكوني رجعتِ هدير اللي أعرفها"
هنا ناظرته أسماء بدهشة متسائلة
-" اشمعنا تلت أسابيع؟"
-" ميعاد المؤتمر بتاع شركة العجمي اللي هي مسئولة عن تغطيته"
انتفضت من مجلسها تهز رأسها برفض عنيف ، تتحرك بتوتر حول نفسها تفرك جبينها تارة ، ويدها تارة ، ثم هتفت وهي تجتازه للخارج
-" لا لا مش هحضر مؤتمرات ، رئيس التحرير يشوف حد غيري يغطيه أنا لا"
لتسمعه يهتف من خلفها بإصرار وقوة
-" محدش هيحضر ويغطي المؤتمر غيرك يا هدير ، والكلام منتهي"
لم تتوقف ولم ترد عليه بل ركضت للأعلى حتى أنها لم تلتفت لمناداة مازن لها عندما كان قد أنهى مكالمته مع رامز وكاد أن يدلف إليهم ، فوجدها تخرج راكضة ومعالم الغضب والتوتر تلوح على وجهها ، فاضطرب قلبه لم قد حدث بالداخل؟
رأى نادر يخرج خلفها بهدوء وملامح مسترخية مبتسمة ليناظره بحاجب مرتفع مندهش أكثر وازداد تساؤله عما حدث ، فاقترب منه قائلًا
-" فيه إيه اللي حصل؟
خارجة متعصبة ليه لدرجة أنها مردتش عليا؟
أنت عملت ليها إيه؟"
-" ولا حاجة.. زعقت لها"
قالها ببرود وسلام نفسي رافعًا كتفيه بلامبالاة يقوس شفتيه لأسفل بعبوس مصطنع ، فاتسعت عيني مازن بتعجب من طريقته تلك ، يثير حنقه الابتسامة الباردة وهو يخبره أنه صرخ بها ، فعقد حاجبيه ناظرًا لأسفل يعيد الكلمة لنفسه
-" زعقت لها!!"
ثم رفع أنظاره إليها بتساؤل متعجب
-" ليه؟"
تنهد الآخر بقوة
-" عشان تفوق ، هدير لو معندهاش الإرادة إنها تقوم وتتعافى ، يبقى كل اللي بتعمله معاها مش هيجيب نتيجة"
زم مازن شفتيه بتفكير يومئ برأسه موافقًا عما يقوله ثم قال
-" معاك حق بس مش عارف أعمل إيه تاني؟
أنا سايبها تهدى الأول"
اقترب منه نادر يضع يده على كتفه يشد عليه بقوة ، ونظر له بإصرار
-" هدير المرة دي محتاجة دكتور نفسي ، محتاجة حد غريب تحكي معاه عن كل اللي مرت بيه ، حد يواجهها بالحقيقة ويقولها على الطريق.. ودي مهمتك تخليها توافق لأنها أكيد هترفض الفكرة"
-"دكتور نفسي!!"
همس بدهشة واستنكار ليومئ له الآخر بتأكيد قبل أن يربت على كتفه
-" أيوه ده الحل الأسلم والأسرع.. أنا عارف إن فيه حاجة كبيرة حصلت غير اللي أنت حكيته ، بس أنا هحترم رغبتك أنها تكون بينك وبينها بس طالما في مصلحتها..
المهم أنا عرفت أن كريم بيحضر لصفقة كبيرة ، إيه هي ومع مين لسه معرفش ، بس اللي متأكد منه أنه مش هيستخدم اسمه فيها عشان عارف إنك هتقف ليه فيها"
تحولت ملامح مازن إلى الشراسة والحقد ، نظراته أصبحت سوداء يضغط على أسنانه حتى سُمع صوت اصطكاكهما فعاد نادر للخلف بطريقة كوميدية لا تتماشى مع الموقف وهتف بنبرة خوف مصطنع يرفع يده أمامه ليهدأ
-" هتتحول ولا إيه؟!"
طالعه الآخر بشراسة فأومأ بسرعة قائلًا
-" طب اهدى.. المهم أنا هتواصل مع رامز وأشوف الحكاية دي وأول ما نوصل لحاجة هنبلغك"
اقترب منه تلمع عينيه ببريق عنيف يهمس من بين أسنانه فخرج صوته كالخارج من عمق بئر حالك
-" أنا ميهمنيش صفقاته يا نادر ، أنا قولت لك عاوزه تحت رجلي"
-" أنت مالك بقيت شبه رجالة المافيا كده ليه!!
أطمن هجيبهولك فكر أنت بس هتقنع هدير ازاي؟"
انتهى من جملته وحيّاه قبل أن يذهب .
صعد مازن إليها يطمئن عليها ويرى ماذا حدث أثار غضبها بهذا الشكل؟!
دلف إلى غرفته يدور برأسه في الأنحاء باحثًا عنها فرآها تقف أمام الشرفة توليه ظهرها تستند بكتفها على حافة الباب تهز قدمها بتوتر وشرارات الغضب تنبعث منها حتى شعر بها ، ناداها حتى تنتبه له فلاحظ تيبس جسدها للحظات قبل أن تلتفت بعنف جعل شعرها يدور حول عنقها ويستكين على الكتف الآخر ، مكتفة ذراعيها أمامها في حركة دفاعية ، وجهها محتقن بدماء الغضب وعيناها حمراء بشدة ، لا يعلم هل يسب نادر أم يشكره!!
اقترب منها خطوة وتوقف عندما هتفت بشراسة
-" مش هرجع الشغل ، مش عاوزة أشوف حد وخصوصًا المستفز نادر ده ، مش هحضر مؤتمرات حتى لو هيبوظ"
اتسعت عينه بدهشة وكتم ضحكاته بقوة حتى لا تغضب أكثر ، واقترب منها بتروي يمد كفيه يمسد عضديها بحنان
-" طب اهدي وتعالي نقعد عاوز أتكلم معاكِ"
قادها للأريكة فأجلسها وجلس على الطاولة أمامها يضم كفيّها بين كفيّه يربت عليهما بهدوء حتى عادت أنفاسها هادئة ، وعاد بياض وجنتيها وانتشرت الدماء في جسدها من جديد ، بركتي العسل خاصتها تألقتا بوضوح .
-" هحكي لك كذا حاجة وعاوز تركزي معايا فيهم"
رفعت نظراتها إليه بجبين متغضن وأومأت له بسلاسة فابتسم لها قائلًا
-" أنا أول مرة شوفتك فيها أول حاجة لفتت نظري لمعة الثقة اللي في عينك ، ثقة مش سهل ألاقيها في أي حد.. استحوذتِ على تفكيري يوم ما طلبت منك تسافري معايا ورفضتِ ومحمد اللي سافر معايا"
صامتة تستمع له وتلك اللحظات تُعاد في عقلها كشريط سينمائي فلاحت ابتسامة طفيفة لا تكاد تظهر لكنه رآها فأكمل
-"يوم حفلة جوز خالتك مكنتش قاصد أعملك حاجة بس كان عندي فضول أعرف ردة فعلك لو قربت منك وزي ما توقعت..
قوية ، واثقة ، مبتخافش ، وفي نفس الوقت رقيقة ومرحة وطيبة"
نهض فجأة فناظرته بدهشة ، جذبها برفق من رسغها لتقف ودفعها برفق أمام المرآة ثم وقف خلفها واضعًا كفيه على كتفها يضغط عليهما برفق ، نظراتهما تلاقت متسائلة من جهتها وثابتة من جهته .
هبط إلى أذنها هامسًا
-" بصي لهدير دي واحكمي ، بصي في عينك و اوصفي ليا النظرات دي إيه؟"
ابتلعت ريقها بصعوبة ورمشت بتوتر ، أخفضت نظراتها بضغط على كتفها أكثر لترفعها من جديد فطالعها بقوة
-"دي مش هدير اللي عرفتها ، مش دي هدير اللي سجنت كريم من خمس سنين علشان حاول ..."
صمت لا يريد التفوه بتلك الكلمة ونيران الغضب والغيرة تشتعل بقلبه من مجرد التفكير في هذا الأمر ، أدارها يحيط وجنتيها بكفيه فأمسكت بساعديه هامسة بتردد
-" عاوزة أرجع بس مش عارفة ، فيه حاجة انكسرت جوايا.. أصعب حاجة أنك تشوف طفل يتقتل قدامك يا مازن"
دلكّ وجنتيها بإبهاميه وأسند جبهته فوق جبهتها تلفح أنفاسه صفحات وجهها ولم يقطع نظراته عن عينها
-"الحل موجود بس محتاج شوية شجاعة وقوة منك"
رأى اللهفة في حدقتيها فابتسم لأن هذه إشارة اطمئنان فقال بنبرة ثابتة
-"نتابع مع دكتور نفسي"
للحظات لم تفقه ما قاله لكن سرعان ما اتسعت عيناها وانتفضت بين يده بقوة وعلامات الرفض بدأت تلوح على وجهها فضمها إليه بسرعة يحيط خصرها بذراع ويتخلل خصلاتها باليد الأخرى وهمس
-"قبل ما تاخدي أي رد فعل اسمعيني ، أنتِ مش مريضة ، ولو فكرتِ في كده هكسر دماغك الغبي ده..
بس أوقات بنحتاج شخص غريب عننا نخرج له كل اللي في قلبنا وكل اللي بنحس بيه لأنه مش هينافقنا ولا يجاملنا ، أنا بعمل اللي أقدر عليه بس مهما حصل هفضل في صفك حتى لو غلطتِ"
أسندت رأسها على كتفه وأنفاسها تخرج بعمق ، تحدق في الفراغ وكلماته تحوم في عقلها تقلبها بين القبول والرفض..
عقلها يرفض فكرة الطبيب فهي ليست مريضة هي فقط تمر بأزمة ستأخذ وقتها وستعود من جديد ، لكن صوت آخر تشعر به يضحك ساخرًا من تفكيرها!!
أغمضت عينها بقوة تخرس الصوت وكادت أن تنصت لصوت عقلها لكن قاطعها صوت مازن مكملًا
-"كلنا هنفضل جمبك بس البداية لازم تبقى منك أنتِ ، لو مش عشان نفسك يبقى اللي حواليكِ.. أهلك ، أصحابك ، شغلك ، حلمك"
أخرجها من أحضانه ممسكًا بذقنها يرفعه نحوه ينظر لها بحب وحنان جارف هامسًا
-"عشاني.. عشان تديني القوة أكمل وأجيب ليكِ حقك"
عضت على شفتها السفلية بتوتر كعادتها فأثارته بها وجعلته يبتلع لغابه بصعوبة لكنه ضغط على عينيه بقوة يطرد الأفكار الماكرة عن عقله في هذا الوقت لا يريدها أن تنفر منه فلن تتقبل أي لمسة في حالتها .
نظر لها تدلك جبينها بتفكير ، ترفع كفيها تعيد خصلاتها الشاردة من مشبك شعرها.. تفكر أن للجميع عليها حق أن تحاول من أجلهم !!
الفترة الماضية كانوا يفعلون كل شيء بوسعهم حتى ترتاح ، تقبلوا عدم رغبتها في محادثة أحد.. رفضها لمقابلتهم.. تمردها على لمساتهم وانتفاضتها من مجرد قربهم .
القدر كان مصاحبًا لها وتأخرت عودة أسرتها من الخارج وكأنها إشارة من القدير حتى تفيق كي لا تعود والدتها وتراها بتلك الحالة فتحزن أكثر!!
رفعت وجهها إليه تنفخ الهواء من رئتيها بقوة وأومأت بتردد هامسة بتقطع
-"موافقة ، هحاول هحاول"
ابتسم لها بسعادة فجذب وجهها بين يديه واضعًا شفتيه أعلى رأسها يقبلها بقوة قبلة طويلة مُحبة ثم أسند جبهته على خاصتها فأكملت
-"بس عوزاك معايا"
-"ومين قالك إني هسيبك!!"
تأملت ابتسامته الحنونة ، نظراته الفخورة المشجعة علمت منها أنها اتخذت قرارها الصحيح ، مُخرِسة صوت عقلها الرافض تقنع نفسها أنها بحاجة إليه ، وأنه ليس كل من يذهب لطبيب نفسي مريض.
بادلته الابتسامة بمثيلتها وقالت
-"هنزل تحت.. عاوزة أشوف ماما"
أومأ لها بتشجيع وابتسامة فكادت أن تجتازه لكنها توقفت فجأة جعلته يعقد حاجبيه و رفع حاجبه بتعجب من اقترابها وضِيق عينها التي تسمرت نظراتها على ذقنه جعلته يرفع أنامله يتفحص إن كان به شيء!!
رفعت إبهامها تحركه عليه يمينًا ويسارًا عدة مرات ونظراتها تتحرك بينه وبين عينيه المندهشة المتسائلة والتي توسعت عندما سمع جملتها
-" أول مرة الاحظ طابع الحسن على دقنك!!
ليه مقولتليش إنه عندك طابع حسن؟!"
صمت يطالعها وكأنها نبت لها قرون ، أو على رأسه الطير.. وما لبس أن تصاعدت ضحكاته حتى أضحت غمازتي وجهه مع طابع حسنه ظاهرين بقوة لرؤى العين جعلت عيناها تتسع بانبهار وكأنها تستكشفه من جديد .
رفع إبهامه يمسح دموعه التي سقطت من أثر ضحكاته وأحاط خصرها يقربها منه بحنان قائلًا وكأنه يحادث طفلة لا يعلم ماذا يحدث معها اليوم!!
-" يعني عوزاني أجي أقولك بصي يا هدير أنا عندي طابع الحسن في دقني !!"
مطت شفتها السفلى وتغضن جبينها بعبوس من سخريته عليها هامسة
-" أول مرة آخد بالي منه ، كنت عاوزة يبقى ليا طابع حسن"
تعالت ضحكاته أكثر من تعبيرها ورفع إبهامه يدلك شفتيها يلغي هذا العبوس وضرب جبهته بجبهتها برفق ثم انحنى إلى أذنها هامسًا بخبث
-"معندكيش طابع حسن ، لكن عندك إمكانيات تانية تخلي الواحد يتجنن يغنوكِ عن أي طوابع في الدنيا"
احتقنت وجنتيها بدماء الخجل ، واحتبست أنفاسها في صدرها للحظات فضربته بمرفقها في بطنه جعلته يعود خطوة للخلف ضاحكًا ، فتقدمت نحو الباب ترغي وتزبد مع نفسها
-"قليل الأدب عمرك ما هتتغير أبدًا مفيش فايدة"
فهتف لها بوقاحة وخبث أكبر يثير خجلها أكثر وأكثر
-"الاحترام مش بيجيب عيال يا دودو"
توقفت عند الباب ممسكة بمقبضه بعد أن فتحته ، شهقتها المذهولة من وقاحته وصلته ونظرت له بعينين متسعتين باندهاش ثم ضغطت على أسنانها بقوة وغيظ قبل أن تخرج صافقة الباب بقوة خلفها تسبه بكل ما تعرفه من الشتائم .
قابلتها أسماء على الدرج تحدث نفسها وتسب شقيقها لدرجة أنها لم تلحظها ولم تلتفت لها ، طالعتها بدهشة ورفعت كتفيها بلامبالاة من جنانها هذا ، رأت أخيها يخرج من غرفته ينظر في هاتفه كمن يراسل شخصًا يبدو عليه علامات الحيرة والتفكير ، فاقتربت منه حتى انتبه لها فأحاطها بذراعه بحنان مقبلًا جانب رأسها ،
جعلتها تبتسم له قائلة
-"مالك متحير كده ليه؟
وهدير نازلة بتكلم نفسها ليه؟"
ضحك عندما تذكر غضبها الخجول ومسد ذراعها بكفه يهز رأسه بلا شيء
-"متاخديش في بالك ، بقولك أنتِ وراكِ حاجة؟"
عقدت حاجبيها بتركيز ومطت شفتيها للأمام تهز رأسها بنفي ، فأومأ لها قائلًا
-"طب هطلب منك طلب حبيبتي.. عاوزك تروحي الشركة في مكتبي هتلاقي رامز سايب ليا ملف مع ياسمين هاتيه منها لأنه لازم أمضي عليه النهاردة ورامز مش هيقدر يجي بسبب اجتماع مهم"
أومأت له مبتسمة
-"عنيا حاضر ، هغير هدومي وأروح أجيبه"
ربت على رأسها بحنان واتجهت لغرفتها حتى تبدل ثيابها وتذهب.
★★★★★★
من أخبرك أن النساء تهدأ وتصرف النظر عن شيئًا أرادته فهو مغفل!!
فهن ولو اختفوا ولم تعد ترى منهن شيء ، فما هي إلا استراحة محارب يشحن طاقته ليعود بقوة!!
غبي من يعطيهن الأمان ويتناسى قوله تعالى " إن كيدهن عظيم"
باب سيارة فُتح وظهر من خلفه ساقين عاريتين يزينهما حذاء باللون الذهبي ذو كعب رفيع عالٍ لفتت أنظار الحارسين على بوابة الشركة ، استندا على الأرض فظهرت من خلف الباب بعد أن أغلقته برداء أحمر ضيق يظهر مفاتن جسدها بوضوح يصل حتى ركبتيها ، بفتحة صدر مثلثية وحمالتين عرضيتين.. خصلاتها السوداء تهبط بتموجات إلى ما بعد كتفها تحمل حقيبتها الذهبية في يدها وتتقدم إلى الداخل مجتازة الحارسين اللذان نظرا لبعضهما بخبث ونظرات ماكرة على كتلة الأنوثة المتحركة أمامهما .
دلفت وصدى كعبها يلفت أنظار من حولها حتى وصلت للطابق الأعلى القابع به مكتب رامز ، فهي تعلم بعدم وجود مازن في الشركة ، وقفت أمام سكرتيرته تخبرها أن تعطيه خبرًا بمجيئها ، غابت للحظات بالداخل وخرجت تطلب منها الدلوف .
يجلس مضطجعًا يستند بمرفقيه على حافتي الكرسي يعود بظهره للخلف يشد جسده يشبك أنامله جعلت قميصه الأبيض يشتد على جذعه البرونزي الذي ظهر من أسفل فتحتي أول أزراره .
وجدها تدلف إليه متمايلة بغنج تهز وركيها لليمين واليسار جعلته يرفع حاجبه بخبث وابتسامة ساخرة لاحت على شفتيه استطاع السيطرة عليها وهو ينهض لتحيتها.. مدت كفها له بدلال وصوتها الذي يثير الغثيان لديه
-"ازيك يا رامز .. أخبارك إيه؟"
-"الحمد لله يا نادين.. اتفضلي"
جلست تضع ساق فوق الأخرى تغوص في مقعدها براحة تضع أناملها أسفل ذقنها مبتسمة
-"عارفة إن مازن مش موجود ، بس أنا محتاجة أناقش ملف من ملفات الصفقة اللي بينا لأن معادها خلاص قرب"
مد ذراعه على المكتب يتلاعب بقلمه الذهبي ، ويحك ذقنه باليد الأخرى مجيبًا
-"قوي قوي يا نادين ، أي ملف بالضبط اللي حابة تراجعيه؟"
انحنت لحقيبتها مخرجة علبة سجائرها تخرج واحدة تشعلها مستنشقة دخانها و تزفره للأعلى ، ثم أسندت يدها الحاملة للسيجار على حافة الكرسي .
هيئتها جعلته لم يتمالك نفسه من قهقهة طفيفة يهز رأسه بيأس من غرورها الذي يثير رغبة عارمة بداخله في كسره ، وسمعها تقول
-"ملف الشحن من المينا طالما الصفقة هتيجي بحري"
طالعها بحاجب مرتفع ينظر لها بأعين ناعسة ضيقة طالما أثارت ريبتها ، فرامز الوحيد الذي يثير قلقها ، نظراته حتى الآن لم تستطع قراءتها وعقله لم تستطع الوصول للُبّه.
أومأ لها ورفع سماعة هاتفه يخبر سكرتيرته أن تأتيه بهذا الملف ، وبعد دقائق كانا قد بدآ النقاش بينهما عما تريد معرفته وتعديله.
فجأة وجدها تنهض من مقعدها مقتربة منه ، تستند بكفها على حافة المكتب تنحني بجانبه حتى كادت رأسيهما أن تلتصق ، وأشارت له لبند في الملف تريد تعديله قائلة بنبرة أشبه للهمس
-"البند ده بيقول أن الصفقة تتشحن في عربيات من شركتكم وبعد كده الشحن على المخازن عندي ، فليه متكفلش أنا بالشحن مباشر من المينا على المخازن وأتكفل بالجمارك مش مشكلة"
استند بظهره إليه الكرسي ممسكًا بحافته ويستند بمرفقه الآخر على حافة المكتب واضعًا أنامله يحك أسفل فمه ، يستدير به في مواجهتها يناظرها بحاجب مرتفع ونظرات غامضة فكادت أن تتحدث لكن أختل توازنها فجأة وتلعثمت في وقفتها في إنذار لسقوط مؤكد ، وكانت نتاج السقطة شهقة عالية ، جلوس على قدميه ، والتصاق الجسدين بقوة.
ذراعيها يعانقان لعنقه ووجها دُفن في عنقه ، وكفيه أحاطا خصرها بتلقائية ناتجة عن اضطراب من الموقف
" أوووتش سوري يا رامز الظاهر إن كعب جزمتي أتكسر "
تمسكت بعنقه بيد وانحنت بجسدها ترفع قدمها تحرك كعبها الذي خُلع بيدها ، فكاد أن يزيحها لينهض لكن أوقفه ذلك الصوت الذي تعرف عليه من الوهلة الأولى فأغمض عينيه بقهر
-"أوووه وهتمشي ازاي؟!
رجل أه ورجل لا!!"
التفتا الاثنان إلى الباب الذي لم يشعرا بفتحه وظهور أسماء منه ممسكة بمقبضه والأخرى تحمل حقيبتها تهز قدمها بغضب هزات رتيبة تطالعهما ببرود .
وصلت منذ قليل إلى الشركة وتقابلت مع ياسمين التي كانت في انتظارها بعد مكالمتها مع مازن يخبرها بمجيء أخته ، كادت أن تذهب بعد أن حصلت على الملف وقد قررت ألا تراه وتظل مستمرة في غضبها منه كما الأيام الماضية ، فبعد صراخه عليها لم يكلف خاطره ويتصل بها ليطمئن عليها لمدة يومين ، إلى أن أتى لرؤية مازن بعد أن طلب منه المجيء .
تذكرت عندما كان يقف واضعًا يديه في جيب بنطاله ينظر لنقطة ما أسفل قدمه ، ثم رفع نظره عندما فتحت له الباب ليخفق قلبه لرؤيتها ويطالعها بنظرات مشتاقة تعج بالحنان والحب قابلته بأخرى معاتبة حزينة تخفي خلفها اشتياق .
لاحظت مبادرته في الحديث تلوح في عينيه فسبقته توليه ظهرها تفسح له الطريق ثم أشارت نحو باب المكتب قائلة
-"اتفضل يا رامز ، مازن جوا في مكتبه"
أرادت الصعود لكن يده التي جذبت مرفقها أوقفتها ، فاستدارت له تقلب عينها ضاغطة على شفتيها بقوة تنظر له بجمود وصمت ، لكن عينها دائمًا ما تفضحها وتخبره عما يعيث بداخلها من عتاب واشتياق ورغبة في الاطمئنان .
ابتسم بحنان وعشق وانحنى أمام وجهها هامسًا
-"أنا آسف ، مكنتش أقصد أزعق ليكِ ، بس حالتي وقتها متحملتش أي حاجة وعصبيتي خرجت فيكِ"
تلألأت الدموع في مقلتيها فأربكت قلبه الذي لا يتحمل حزنها وقالت بصوت مكتوم
-"علشان كده غبت يومين.. مش بترد على اتصالاتي ، ولولا إن مازن طلبك تيجي مكنتش هتبقى واقف هنا دلوقتي"
هز رأسه نافيًا وعينيه تبثها اعتذارًا عما فعله بسبب غباءه ، ففتح فمه ليتحدث لكنها لم تعطه الفرصة والتفتت تصعد الدرج بشموخ يليق بها هاتفة
-"على العموم محصلش حاجة يا رامز ، متشغلش بالك"
وضع يده في خصره والأخرى يشد بها على خصلاته يعيدها للخلف بعنف ، يزم شفتيه بتفكير ناظرًا إلى أثرها أمامه وهمس لنفسه
-"زعلتها وارتحت؟!
أهي هتطلع عليك طبع السيوفي.. بس على مين؟
ماشي يا أسماء"
ومنذ ذلك الحين اتخذت معه سبيل البرود.. تتعامل معه بحدود ورسمية ، الحديث باقتضاب ، لم تستقبل مكالماته إلا على هاتف المنزل.
واليوم أرادت الاستمرار في عقابها لكنها توقفت عندما جذبها حديث أحد الموظفين عن وجود نادين هنا ووصفه لهيئتها التي تكشف أكثر مما تستر.. فاقتربت من إحدى الموظفات تسألها عن مدة وجودها هنا فأخبرتها أنها حضرت منذ نصف ساعة.
وقفت تفكر أن مازن ليس هنا ، ووجودها يعني أنها الآن برفقة رامز!!
نسيت غضبها ، نسيت قسمها بالعقاب ، نسيت رسميتها وبرودها معه وسيطرت غيرة الأنثى على ما هو ملكها فقط خاصًة وإن اقتربت منه أنثى أخرى كنادين!!
لم تنتظر سكرتيرته بل لم تلتفت لها من الأساس وفتحت الباب ليقابلها هذا المظهر.. جالسة على قدمه تخبره أن كعب حذائها قد كُسر فلم تتمالك نفسها وهتفت بجملتها!
ابتسامة ماكرة لاحت على شفتي نادين التي وقفت تستند على حافتي المكتب أخفتها بنبرتها المتفاجئة بتصنع
-"أسماء؟
أنتِ هنا من امتى؟"
دارت حول المكتب تتقدم منها بتريث وبطء قائلة
-"أوعي تكوني فهمتِ غلط!!
كل الحكاية إن كعب جزمتي أتكسر وكنت هقع بس رامز لحقني"
ضرب على جبهته هذا الذي يتابع ما يحدث من مجلسه باستمتاع ، لكن كلما تحدثت نادين كلما زادت الأمر سوءًا وهذا سيجعل صغيرته تستشيط غضبًا سيُصَب على رأسه هو فقط .
لاحظ ابتسامة أسماء الغامضة والتي اقتربت منها بعد أن وضعت حقيبتها والملف على الطاولة ونظرت إلى الحذاء المكسور ، فربتت على كتفها بنوع من العنف وقالت بنبرة ساخرة
-"لا معلش يا روحي.. ما هو أنتِ اللي غلطانة بردو ، لو كنا قعدنا مكانا زي الناس المحترمين مكنش كعب جزمتك أتكسر"
اتسعت عيني نادين من أسلوبها وهتفت باستنكار
-"نعم!!"
صدح صوت أسماء بقوة وثبات وقد سيطرت غيرتها وغضبها عليها وربتت على ظهرها دافعة إياها للأمام نحو حقيبتها هامسة لها
-"التصرفات الرخيصة بتاعتك دي يا نادين مكانها مش هنا"
وقفت بجانب رامز تمسك ظهر الكرسي بيد ، والأخرى تخصرت بها في حركة دفاعية عما هو لها سرقت لب الجالس بغرور طاووسي كأنه هارون الرشيد معطيًا لأنثاه مقاليد الدفاع عن ممتلكاتها ، لتهتف بها
-"يلا يا قلبي شنطتك وورقك وعلى بيتك ، بدل ما ينكسر الكعب التاني والمرة دي فعلًا هيبقى تصرفي مش متحضر"
اغتاظت نادين بقوة من الهجوم الشرس منها فهي لم تتخيلها هكذا ، عاهدتها دائمًا هادئة ، رقيقة ، عاقلة.. لكنها نسيت أنها ابنة عز الدين السيوفي أخت مازن ، ودماءهم الشرسة تجري بعروقها فهتفت
-"رامز أنت ساكت على الإهانة اللي بتتوجه لي دي؟!"
أغمض عينيه بلامبالاة يمط شفتيه السفلى محاذاة مع رفع كتفيه بقلة حيلة ، لتهتف أسماء بقوة
-"أنا اللي بكلمك ولما تحبي تتكلمي كلميني أنا ، وقسمًا بالله يا نادين لو ما بطلتِ أسلوبك اللي شبهك ده وخرجتِ دلوقتي حالًا لأنفذ اللي قولت عليه وفي نص الشركة"
لم تتحمل أكثر وجذبت حقيبتها بعنف ثم التفتت تخرج متعرجة من كعبها المكسور ، وما أن خرجت وصفعت الباب خلفها حتى كاد رامز أن يتحدث لكن انحناء أسماء نحوه جاذبة إياه من ياقة قميصه واضعة اليد الأخرى في خصرها وهمست بحدة وغيظ به
-"وأنت يا أستاذ اللي استحليتها ، لو الموقف ده أتكرر تاني أتحمل اللي يحصل ليك ساعتها"
اقتربت برأسه منها حتى كادت أنفيهما أن يتلامسها وهمس باستمتاع وقلب منتشي من غيرتها
-"هتعملي إيه؟
هتقولي لمازن؟"
طالعته بحاجب مرتفع وملامح شر ارتسمت في عينيها
-"ليه مش مالية عينك؟
لو طولت أتاويك زي مطاريد الصعيد هعملها يا رامز"
صمتت تاركة ياقته تقلبها في يدها ثم ابتسمت بسخرية قبل أن تعاود النظر له بعد أن استقامت في وقفتها
-"وابقى ولع في القميص ده ، عشان روچ الست هانم طبع عليه"
دارت حول المكتب ترفع حقيبتها وملفها ناظرة إليه بغضب وتهديد ، ثم التفتت لتخرج تاركة إياه يكاد يغص في حلقه من شدة ضحكاته من شراستها وحبه الذي وإن كان يملأ قلبه قبل ساعة من الآن ، فبعد فعلتها وصل عشقها بقلبه عنان السماء .
★★★★★★
إذا رأيت نيوب الليث بارزًة
فلا تظنن أن الليث يبتسمُ
بعد مدة في إحدى الشقق الفارهة كانت نادين جالسة بجانب كريم تكاد تنفجر من الغضب ، واقفة تضرب كفيها ببعضهما ترتدي فستان نوم لا يكاد يخفي شيئًا ، تعيد خصلاتها للخلف بغضب هاتفة من بين أسنانها
-"بقى أنا أسماء تتعامل معايا كده!!
أول مرة تبقى كده على طول هادية ورقيقة"
ابتسم ابتسامة جانبية بسخرية يرفع سيجارته التي بين سبابته والوسطى يستنشقها بعمق ثم نفث دخانها لأعلى
-"شكلك أنتِ اللي نسيتِ أنها أخت مازن.. على العموم قولت لك مش هتستفيدي حاجة من رامز"
نظرت تتأمله جالسًا بجانبها عاري الجذع ، فبعد لقائها به في شركته ، وعلم بنواياها وأنها تسير معه في نفس الطريق ونفس الأفكار ، تقربا كثيرًا من بعضهما ، حتى اختفت الحدود بينهما.
ابتسمت بسخرية ودارت بجسدها إليه تستند بمرفقها على ظهر الأريكة تمشط خصلاته بأناملها ، وشفتاها تتلوي بطريقة ماكرة خبيثة
-"تقدر تقولي وحضرتك استفدت إيه من اللي عملته في هدير؟
لا منك سبتها ولا منك أذيتها"
ناظرها بغضب فهضت تضع يدها في خصرها والأخرى تعبث بخصلاتها وتحولت نبرتها الى الغضب والحقد
-" حظها حلو ، دايمًا بتفلت من أي مشكلة معرفش ليه؟"
ثم التفتت إليه تكتف ذراعيها
-"والله ما عارفة عاجبكم فيها إيه؟! "
أسند ظهره إلى الخلف ، يرفع ذراعه فاردًا إياه على ظهر الأريكة ، واستند بذراعه الآخر إلى حافتها ، ينظر لها بأعين ضيقة يتفحصها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها ، وشبح ابتسامة على جانب فكه، ثم عاد برأسه إلى الخلف يتنهد بقوة
-" إيه اللي عاجبني فيها؟!
هدير مفيهاش غلطة ، بغض النظر عن الشكل فهي جمالها مفيش عليه تعليق ، لكن عليها ذكاء ، وشخصية قوية جدًا ، شدوني من أول ما شوفتها"
نهض فجأة وبدأ يدور حولها وهي واقفة تستمع إليه بذهول وكره وأكمل
-"الوحيدة اللي بجد اللي مهما عملت مش هقدر أضرها ، أخوفها أه لكن ضرر لا"
ضحكت بسخرية وعلو تنظر له بجانب عينها
-"مش هتقدر تأذيها!
ولما كنت هتغتصبها ده تسميه إيه حضرتك؟"
وقف أمامها يشرف عليها من أعلاه يغمز بخبث
-" مجرد قرصة ودن ، أخوفها لكن أذيها.. لا
عارفة ليه ؟!
لأنها أنضف واحدة شوفتها ، الوحيدة اللي حبتني بجد بس أنا بغبائي ضيعتها "
كتفت ذراعيها أمامها تنظر له بسخرية وشفتيها مذمومة باستهانة وهمست
-"وهو اللي بيحب حد ، يودي أبوه في داهية لدرجة أنه كان هيعلن إفلاسه؟
يعتدي عليه؟
ولا بيبقي عايز يقتله؟"
ضحك كريم بصوت عالٍ يعود بجزعه للخلف ، وأكمل دورانه حولها من جديد وأعلن
-"أومال إيه هو الحب يا نادين هانم؟
متقوليش أنتِ ومازن!!
بذكائك كده.. تفتكري أن مازن يقبل يتجوز واحدة تعتبر الدراع اليمين لأكبر رئيس عصابة في روسيا؟"
صدمت وتوسعت عيناها تستمع لكلماته!!
كيف علم أنها مشتركة في تلك العصابة؟
من يكون هذا الشخص؟
ابتسم لصدمتها وحيرتها التي لاحت على وجهها ووقف خلفها يرفع أنامله يحركهم على ذراعيها العاريين لأعلى وأسفل وانحنى إلى أذنه هامسًا بمكر
-"تفتكري واحد زي مازن كل شغلته ينتقم يقرب منك ويتجوزك ليه؟"
التفتت له برأسها تلهث بقوة وعيناها تجحظان بشدة حتى كادت أن تخرج من محجرها لتتسع ابتسامته ويحيط خصرها يلصق ظهرها بصدره ورفع ظاهر يده يتلمس وجنتها ويحرك أرنبة أنفه على الوجنة الأخرى
-"أنتِ كارت مكشوف عند مازن من زمان بس بغبائك كان بيستخدمك عشان توصلي معلومات غلط لجورج ، ولما ملقاش منك فايدة طلقك.. يعني طلاقه ليكِ مكنش بسبب جوازه من هدير"
مازن يعلم بأمرها منذ الوهلة الأولى!!
كانت تظن أنها تستخدمه وتستطيع التلاعب به لتفطن بالأخير أنها ما كانت إلا عروس ماريونيت يحركها كما يشاء!!
كل ذلك الوقت تظن أن هدير السبب في ابتعاده عنها لتكتشف أنه يخطط لذلك قبل أن يراها؟!
وذلك الواقف خلفها كيف علم بكل هذا؟!
ابتلعت ريقها ببطء وهمست بصوت يكاد يسمع
-" أنت مين؟
وعرفت كل ده ازاي؟ "
هبط علي أذنها حتى لمسها بشفتيه وهمس بتريث
-" كريم رأفت منصور ، تقدري تعتبريني الجندي المجهول في روسيا.. أو اللهو الخفي لجورج اللي محدش يعرف عنه حاجة"
ازدادت صدمتها أكثر وأكثر عندما سمعت بهويته..
كانت تعرف بلقبه لكن اسمه لا ، لا يرحم .
لا.. بل هو أقسى و أسوء من جورج نفسه ، لم يعرف أحد عنه أي شيء ، لا اسم ، لا شكل ، لا معلومات عنه نهائيًا ، لتصطدم في النهاية أن من تشاركت معه ضد مازن ما كان إلا هذا الشخص!!
هزت رأسها بسخرية من حالها وقهقهت بقوة تعض على شفتها السفلى ، ثم انحنت تخرج سيجارًا من علبته وشرعت في تدخينها تجلس مكانه على الأريكة.. ثم قالت مشيرة
-"يعني أنا ده كله ، قاعدة مع الدماغ التانية لجورج ، حلو قوي بس مين قالك أن مازن ميعرفش عنك حاجة؟
اللي يخليه يعرف عني هيعرف عنك "
انحنى عليها ينظر لها بقوة
-"فعلا هو ده.. مازن كاشفك من أول لحظة يا نادين ، من أول ما جيتِ على روسيا وطلبتِ تقابلي خالك عشان تدخلي في اللعبة ، أما بحكاية عارف عني ولا لا فـ ده شيء أكيد"
تبادلت معه نظرات الغضب والحقد ، تهمس بفحيح أفعى
-"وعرف منين؟"
- "متستهونيش بذكاء مازن ، ده عامل زي الشوكة في ضهر جورج ، يوم ما يخلص منه هيعرف أنه خلاص محدش يقدر يقف قدامه"
جلس القرفصاء أمامها ينظر لها بغموض
-"دلوقتي عايز منك خدمة صغيرة خالص ، وأنا عارف أنك تقدري عليها ، بس استخدمي ذكائك!"
نظرت له بتساؤل ودهشة
-"خدمة إيه ؟!"
أخذ منها السيجارة يضعها في فمه ينفث دخانها في وجهها بابتسامة ذئب
-" هقولك.. الصفقة اللي بينك وبين مازن ، عاوزك تتصلي برامز وتقولي له كل حاجة تبقى زي ما هي الشحن عليهم هما"
عقدت حاجبيها وهزت رأسها بعدم فهم متسائلة
-"مش فاهمة إيه اللي في دماغك"
استنشق سيجارته ونهض يوليها ظهره يقف أمام الشرفة يرفع ذراعيه أعلى رأسه مستندًا به على حافة بابها
-"اطرق الحديد وهو ساخن. صناديق الشحنة هتتبدل بصفقتي اللي هتوصل قبلها بنص ساعة ، وأنا اتفقت مع بتوع الجمارك بدل ما يحطوا صناديق الشحنة اللي طلبوها يعبوا صناديقي"
نهضت تقف خلفه مكتفة ذراعيها
-"مخدرات؟!
عشان تبقى زي اللي قبلها مش كده؟
والمرة دي محدش هيروح فيها غيري؟"
نظر لها بسخرية بجانب عينه ولم يلتفت لها وقذف عُقب سيجارته من الشرفة قائلًا من بين دخانها الذي يخرج من فمه
-"مين قال إنها مخدرات؟
نفس مواد البنا اللي طالبها من نفس الشركة ونفس تاريخ الإنتاج ، بس فاسدة.. مواد فاسدة يا روحي ، هتبعتي مدير أعمالك المسئول عن التسليم وأنتِ ساعتها هتكوني في حضن خالك جورج قبلها بساعة"
اتسعت عينها بقوة من تفكيره الشيطاني الذي ينبعث منه ، فاقتربت منه عاقدة حاجبيها
-"وأنت هتستفاد إيه من كل ده؟!
حتى لو عملت كده مازن يقدر يخرج منها وممكن يكشفها"
التفت لها يستند بظهره على الحائط مكتفًا ذراعه يبتسم بغموض
-"العيار اللي ميصبش بيدوّش ، حتى لو محصلوش حاجة سمعته تتهز في السوق، قبل كده شراكته مع أبويا واللي قدر يخرج منها ، والمرة دي زيها هيخلي الناس تفكر ليه ميكنش هو فاسد فعلًا"
هزت رأسها بعدم تصديق من تفكيره اللامحدود ، حقًا فهي تقف أمام من لا يرحم ، شيطان متجسد في هيئة بشر!!
وبعد قليل هبط من الشقة مرتديًا قميصه الأسود وبنطال من الجينز الأزرق ، واضعًا نظارته السوداء وصعد إلى سيارته ليذهب ، خلفه سيارة حراسه على بعد عدة أمتار منه حتى لا يلفت الأنظار إليه ، فهو يحتاج للاختفاء في ذلك الوقت حتى يضرب ضربته الكبرى.
وقف بعد لحظات أمام محطة وقود كبيرة يملأ خزان سيارته ودلف للداخل يحضر لنفسه مشروبًا ساخنًا حتى ينتهي العامل من تعبئتها.. خرج بعد عدة دقائق فوجد سيارة واقفة أمام سيارته وأخرى خلفه تمنعه من التحرك ، تمكن الغيظ منه فهذا ليس الوقت المناسب على الإطلاق لتأخره ، وضع كوبه على سقف سيارته وتخصر يلتفت برأسه في الأنحاء يبحث عن مالكها ، هتف في العامل الواقف خلفه
-"مين صاحب العربية دي؟
وازاي يقف بالشكل ده؟"
هز الرجل رأسه بعدم معرفة فعضّ على شفتيه بشراسة وهتف
-"شوف لي مين الغبي اللي راكن عربيته بالمنظر ده خليه يجي يحركها عشان أعرف أخرج"
كاد الرجل أن يتحرك لكن صوت أنثوي أتى من خلفه يهتف بحدة
-"إيه ده مين ده اللي غبي؟"
كم يكره قيادة النساء للسيارات!!
لم يخطئ عندما نعتها بالغبية ، فلو كان رجلًا لما توقف هنا من الأساس!!
التفت لها ينظر لها بسخرية فوجدها فتاة طويلة القامة يصل شعرها البني إلى ما بعد كتفيها ، أعين لوزية يعلوها حاجبان مرسومان بدقة ، أنف مستقيم مرتفع ، وثغر يحمل شفتين مكتنزتين ورديتين.
ترتدي بنطال قماشي أبيض ، يعلوه كنزة حريرية باللون الزيتوني العاكس للون حدقتيها .
مال برأسه يشملها بنظراته من أسفل لأعلى ، حتى وصل لوجهها المليء بالغيظ من نعته لها بالغباء.. استقام يشد جسده لأعلى ينظر لها بكبرياء
-"الغبي اللي راكن عربيته بالطريقة دي وحاجز على اللي وراه أنه يتحرك.. فلو حضرتك صاحبة العربية دي يؤسفني أقولك أنك أنتِ الغبي ده"
غضبت.. لا!!
صرخت به من وقاحته.. لا!!
سبّته كما سبّها.. أيضًا لا!!
كل ما تلقاه منها نظرة ساخرة شملته بها وابتسامة جانبية باستهانة قبل أن تعطيه ظهرها وتسير نحو سيارتها بهدوء هاتفة
-"أظن لو حضرتك صبرت شوية وخليت أسلوبك محترم وعندك ذوق كان زمان كل واحد متحرك وماشي"
رفع حاجبه بدهشة من هدوئها ، استفزه تصرفها بشدة وأراد الرد عليها لكنه ولأول مرة لا يجد ما يقوله .
سار نحو سيارته يفتحها وكاد أن يدلف إليها لكنها وقفت خلف سيارتها بعد أن فتحت الباب هتفت له تجذب أنظاره
-"أنت.."
نظر لها بتساؤل وغيظ فأشارت له بيدها التي تحمل مفاتيح سيارتها
-"أنا هخليني محترمة ومش هرد ليك الشتيمة اللي أنت قولتها ، والأحسن ليك تتعلم الصبر والذوق"
ألقت جملتها ودلفت لسيارتها تديرها وتنطلق تاركة إياه ينظر في أثرها بذهول وكل أمنيته الآن أن يمسك عنقها بين يده ، دلف إلى سيارته بعد أن حفظ رقم سيارتها .
رفع هاتفه يتصل بأحدهم وانتظر قليلًا إلى أن جاءه الرد فقال بدون مقدمات بعد أن أملاه الرقم
-" عشر دقايق وتجيب ليا اسم صاحبة العربية دي"
وأنهى دون أدنى كلمة أخرى ، ثم أدار سيارته وانطلق بأقصى سرعة مخلفًا صرير عالٍ إلى أن صدح هاتفه معلنًا عن وصول رسالة بالاسم والسن والعنوان .
" ياسمين محمود الوكيل
تبلغ من العمر خمسة وعشرون عامًا"
أغلقه وقذفه على الكرسي جانبه يضغط على عجلة القيادة بيد والأخرى يحك بها أسفل فمه يميل بجسده للجانب ينظر من النافذة ولسانه يهمس الاسم
-"ياسمين الوكيل"
★★★★★
أنيقة بطريقة ملفتة جذابة
خجولة أحيانًا وتدخل إلى القلب بسلاسة
مزعجة جدًا أمام اختلاطها وهادئة أمام من تحب ..
تخفي خلف هذا الإزعاج عناد غريب يسيطر عليها في كثير من الأوقات
لكني أحبها.. أحب عنادها ، هدوءها ، وإزعاجها .
دار في عقله كل هذا وهو يحيل نظراته بين الطريق والجالسة بجانبه في ردائها البسيط المكون من كنزة حمراء بأكمام طويلة تعلو بنطال رمادي ذا مربعات كبيرة متداخلة ، تاركة لشعرها العنان يهبط على ظهرها وحقيبتها الصغيرة الرمادية قابعة في أحضانها ، تتلاعب بأصابعها الطويلة بتوتر ، تنظر من النافذة تراقب حركة السيارات بجانبها وهي في طريقها الآن إلى الطبيب النفسي الذي اقترحه مازن عليها .
تشعر بنبضاتها تتسارع بين أضلعها من التوتر والخوف كالمقبلة على اختبار في الجامعة ، تزفر بين الحين والآخر تبث الهدوء لنفسها إلى أن شعرت بكفه يتسلل إلى كفها يشبك أنامله معها ثم رفعه إلى شفتيه مقبلًا ظاهره بحنان أنهاها بضغطة طفيفة عليها ثم وضعها على قدمه ولم يفلته.. أعطته ابتسامة ممتنة ومطمئنة أنها مستعدة لما تقبل عليه طالما هو معها.
توقف أمام مبنى أنيق يطغي عليه اللون السماوي يبث الراحة في النفس ، ذو ثلاثة طوابق فقط أغلبه من الزجاج.. أخرجها من تأملها فتح الباب ومد مازن كفه إليها حتى تخرج ، تنفست بقوة ثم وضعت كفها في راحته وخرجت.
كان في انتظارهما رجلًا يبدو أنه على مشارف الستين من عمره ، تمكن الشيب من غزو مساحة كبيرة من رأسه لكن على الرغم من كل هذا يمتلك جسد رياضي مشدود كالشباب ، يقف بابتسامة وقورة تشع ودّ ، فحيّاه مازن بحفاوة وأحاط خصرها يقربها منه برفق يعرفها عليه
-"ده الدكتور حسن ، أكبر دكتور في علم النفس والسيكولوجي.. ودي هدير مراتي يا دكتور"
مد كفه إليها بود وابتسامة هادئة يمتص بها توترها وتيبس جسدها
-"طبعًا مين ميعرفش صحفية كبيرة زيها ، أنا من أشد المعجبين بمقالاتها وشجاعتها في اللي بتكتبه"
على الرغم من السعادة والفخر اللذان غمرا قلبها من إطرائه تلجلجت نظراتها وانكمش جسدها للخلف وعينها مثبتة على كفه الممدود لها ، فابتلعت ريقها ببطء وخرج صوتها متوتر
-"متشكرة جدًا لحضرتك"
قادهما معه إلى مكتبه ، فلاحظت الجو الهادئ الذي يطغي على المكان ، يكاد ينعدم من الأشخاص إلا من بضعة ممرضات يظهرن بين الحين والآخر ، أذنها التقطت موسيقى هادئة تنبعث من مكان ما تعطي إحساسًا بالراحة..
حتى رائحة المكان مختلفة !!
عادًة يكون رائحة هذه الأماكن أدوية أو مطهرات ، لكن تلك الرائحة تشبه بتلات الورد أو الياسمين تشع هدوء جميل..
تعجبت من عدم وجود مرضى!!
طبيب مشهور مثله لابد أن تعج عيادته بالكثير!!
لاحظ انعقاد حاجبيها وعلامات الحيرة والتفكير على وجهها ، توتر جسدها الذي يشع برودة ، ملامحها البادية أكثر من هذا المكان فابتسم لها وهو يفتح الباب
-"اللي تحبي تسألي عنه اسألي من غير تردد"
ابتلعت ريقها ببطء وطالعته بصمت وعضت على شفتيها بنوع من الضيق من ملاحظته لها ، وبالرغم من ذلك سألت
-"مستغربة بس من الهدوء ، يعني دكتور مشهور زي حضرتك أكيد له مرضى كتير"
أومأ لها بتأكيد لكنه قال
-"عندك حق ، بس النهاردة استثناء لأنك هنا ، فأنا لغيت كل ارتباطاتي عشان نآخد راحتها ، وعلى فكرة مش مرضى.. دول ناس عندهم كبت وعاوزين حد يسمعهم وأنا بحاول أقدم الدور ده"
هزت رأسها بتفهم وابتسمت بخفوت ، فأشار لها بالدخول لكنها ترددت ولم تتحرك ، تمسك بحقيبتها بشدة تحيل نظرها بينهما بتوتر أثار حفيظة الطبيب وقلق مازن الذي زفر براحة عندما قالت
-"هو ينفع مازن يحضر معايا!!"
ضحك الطبيب بمرح وأشار لها بموافقة
-"طبعًا ينفع.. اتفضل يا باش مهندس"
دلفت خلفها مازن يضع يده على ظهرها يدفعها برفق ، تأملت الغرفة بإضاءتها المريحة ، وألوانها السماوية الهادئة ، مكتب كبير ومكتبة واسعة تضم كتب كثيرة ، أريكتين عريضتين باللون الأبيض وشيزلونج ذهبي موضوع بجانب الشرفة الزجاجية.
أحضر لها كأس من العصير بعدما وضع به قرص من المهدئ يساعدها على الاسترخاء ثم قدمه لها.
شربته بتوتر وما هي إلا دقائق حتى شاهدها تضع كأسها بعد أن شربته و مفعول المهدئ يسري على جسدها ، فهمس لمازن بعد أن اقترب منه يشرح له الوضع وكيفية تداركه
-"مازن عاوزك أيًا كان رد فعلها تحاول تتحكم في أعصابك أكنك مش موجود ، وجودك عشان يطمنها وأكيد فيه حاجات لأول مرة هتسمعها النهاردة.. فمن فضلك حاول تبقى هادي"
أومأ له بموافقة وجلس على الكرسي أمام المكتب في المقابل منهما.
جلس الطبيب بجانبها على الأريكة ممسكًا بدفتر صغير وقلم ونظر لها مبتسمًا
-"بصي يا ستي أنتِ هنا عشان تحكي كل اللي أنتِ عوزاه ، حتى لو حاجات تافهة ونفسك تحكيها أنا هنا علشان أسمعك"
نظرت خلفه إلى الشي لونج بحاجبين معقودين ثم طالعته بتساؤل
-"هو أنا مش المفروض أقعد هناك!!"
ضحك بمرح وهز رأسه بالنفي
-"لا مش المفروض ، المكان اللي ترتاحي فيه اقعدي فيه ، حتى لو عاوزة تتمشي ، تقفي ، تقعدي على الأرض براحتك.. المهم تخرجي كل اللي في قلبك"
عادت بجسدها للخلف تستند برأسها على ظهر الأريكة ، تضع وسادة على قدمها تمد ذراعيها عليها وأغمضت عينها للحظات انتظرها الطبيب في صبر حتى بدأت بالحديث
-"أوقات كتير بيبقى الظاهر صورة بنحاول نرسمها علشان نخفي بيها حاجات كتير ، طبعًا اللي يشوفني من وأنا صغيرة البنت الشيك ، اللي ليها عربية خاصة توديها المدرسة وتجيبها ، باباها صاحب شركات سياحة كبيرة ، عايشة في فيلا واسعة وفلوس كتير يقول مش محتاجة حاجة"
فتحت عينها تنظر في السقف بشرود ، نظراتها تملأها البرود وملامحها جامدة خالية من المشاعر إلا من مشاعر الألم والوجع
-"بس أنا كنت محتاجة.. كنت محتاجة حنية ووجود فعلي للأب ، بابا كان موجود بالاسم بس لكن مكنش له دور في حياتي بالعكس ، مكنش مصدر تشجيع بس كان مصدر إحباط!!
المشكلة كنت بعد موقف والتاني لما يحصل معايا موقف يفرح أجري عليه مبيهتمش.. ولو موقف احتياج يقولي روحي لماما"
ابتسمت بسخرية ورفعت رأسها تنظر إلى كفيها تتلاعب بأصابعها ، لم تشعر به كأب في حياتها!!
لم تجد ما يشفع له عندها!!
هزت رأسها للجانبين تنفض الأفكار عن عقلها ، لا تريد استكمال الحديث في هذا الأمر.. تستنكر فكرة معرفة مازن بعقدتها ونقطة ضعفها!!
رفعت نظرها له فوجدته يدون شيئًا ما في دفتره الصغير ، عقدت حاجبيها باستنكار ونهضت بانتفاضة تجذب حقيبتها وتتجه نحو مازن الذي نهض متعجبًا من ردة فعلها ، فاستدار لها الطبيب بهدوء يستند بمرفقه على حافة الكرسي يراقب ردة فعلها.. هتفت لزوجها بغضب
-"مازن أنا عاوزة أمشي"
أمسكها من ساعديها يقربها منه برفق ، واقترب الطبيب منها يسألها
-"إيه اللي حصل يا هدير؟
لو فيه حاجة ضايقتك قولي"
التفتت له بعنف وتعابير وجهها توحي بالشراسة والرفض لأسلوبه الذي يتبعه معها وهتفت من بين أسنانها
-"اللي حصل إنك بتعاملني على إني مريضة.. أنا مش مريضة ولو كنت وافقت أجي هنا فده بس علشان اللي حوليا ، لكن أنا مش مريضة.. مش مريضة"
ابتسم لها وأغلق دفتره ووضعه على مكتبه ، وحرك كفيه أمامها يبث لها الطمأنينة والسلام ، يبدو أن بدايته معها كانت خاطئة فهي حالة خاصة
-"ومين قال إنك مريضة؟
كل الحكاية إني بكتب نقط كمراجع ليا علشان أقدر أساير وأتناقش معاكِ ، وطالما أنتِ رافضة ده خلاص يا ستي بلاها كتابة خالص"
صدرها يعلو ويهبط من فرط انفعالها ، فأشار لها لمجلسها من جديد قائلًا
-"ممكن ترتاحي ونكمل"
نظرت له بتوتر والتفتت تنظر لمازن الذي شجعها بنظراته ، فتنهدت بعمق وعادت لمجلسها من جديد تهز قدمها بتوتر ، تعض على شفتها حتى ازداد حمرتها فسمعته يقول
-"هدير ، أنتِ مش مريضة ومتحطيش الفكرة دي في دماغك.. أنتِ هنا علشان تخرجي اللي مضايقك واللي كتماه ، مجرد الكلام والفضفضة أول طريق الراحة"
شعور بالأمان والراحة يتسلل إليها برفق ، جسدها عاد للاسترخاء مرة أخرى واحمرار وجهها يخفت حتى عاد بياض بشرتها من جديد.. فسألها
-"هدير.. مفيش أب ملهوش دور ، يمكن كونه رجل أعمال كبير وراه مسئوليات كانت السبب في شوية إهمال من ناحية أسرته ، بس أكيد كان بيعوض ده"
ضحكت بسخرية ورفعت كفيها على وجهها تفركه ، تهز رأسها للجانبين باستهزاء ثم نظرت له بحاجبين معقودين
-"تعويض!!
كل حياته شغل ، سفر ، صفقات ، اجتماعات يعني كنت بشوفه صدفة لدرجة إني مبقتش أسأل عليه!!
على عكس ماما لما تختفي خمس دقايق ببقى هتجنن ، هي أهم واحدة في حياتي وأكتر واحدة ساعدتني"
صمتت قليلًا وعيناها متسمرة على أصابعها كأنها تستدعي كافة ذكرياتها التي احتفظت بها في عقلها الباطن إلى أن ظنت أنها نسيتها ، فقال الطبيب بمرح
-"بس أنتِ كنتِ شجاعة وبقيتِ صحفية كبيرة ومشهورة"
ضحكتها الساخرة التي صدرت منه أثارت حفيظته ، فضيق عينيه مدققًا النظر لها ينتظر ردها ، فاستندت بمرفقيها على الوسادة تستند برأسها على كفها والآخر تضعه على وجنتها الأخرى
-"تعرف إني دخلت إعلام بس عشان أعارضه.. مكنش موافق أدخلها وكان عاوزني أدخل هندسة علشان شكله العام طبعًا ، تخيل معرفش إني قدمت فيها غير لما آخر سنة أولى وصلت لي جايزة الطالب المثالي وهو اللي استلمها"
ابتسمت باستهزاء وهزت رأسها بيأس ترفع يدها تعيد خصلاتها للخلف ونظرت في الفراغ كأنها تشاهد المشهد أمامها يتجسد..
تذكرت عندما كانت تجلس بغرفتها تذاكر محاضراتها وتحضّر أبحاثها المطلوبة منها في الجامعة إلى أن انتفضت على صفع عنيف لبوابة الفيلا الداخلية عقبها صراخ والدها باسمها بعنف اندهشت له
-"هـــدير انزلي هنا"
ركضت لأسفل بقلب وجل وعقلها يؤرجها بين أفكار عديدة عن سبب غضبه إلى أن وقفت أمامه بجانب والدتها التي هرولت من الداخل على صرخته ، وما كادت أن تسأله عن سبب غضبه حتى فاجأها بصفعته القوية جعلت جسدها يرتد للخلف ووجهها دار للجانب الآخر وصرخة والدتها المذهولة من فعلته والتي أحاطتها بقوة حتى لا تسقط
-"أنت تجننت يا سالم بتمد إيدك عليها"
صدمة اجتاحتها فهذه المرة الأولى التي تمتد فيها يد والدها بالضرب لا تعلم سببه إلى أن هتف
-"عملتِ اللي في دماغك يا هدير ودخلتِ إعلام؟!
عارضتِ رغبتي وأمري ونفذتِ اللي أنا رافضه؟!
ولو مكنش الجواب ده جه من الكلية مكنتش هعرف مش كده؟"
رفعت وجهها إليه بعنف أزاح خصلاتها للخلف بأعين جاحظة وفم مفتوح بدهشة وخيط من الدماء يهبط ببطء منه ، وصدمة حديثه فاقت صدمة صفعته لها!!
سنتها الأولى بالجامعة أوشكت على الانتهاء وهو لا يعلم ماذا تدرس؟!
أكل هذا يظن أنها تدرس الهندسة وليس الصحافة؟!
ضحكة عالية صدرت منها وإبهامها يمسح الدماء عن فمها ثم رفعت كفيها تعيد خصلاتها للخلف مقتربة منه حتى وقفت أمامه هامسة بسخرية
-"ده هو أنت كل ده متعرفش بنتك في أي كلية؟!
سنة كاملة متعرفش أنا بدرس إيه يا... يا بابا؟!"
التفتت لوالدتها واقتربت منها تشير له بكفها وتعابير الدهشة تلوح على وجهها تخبرها
-"بابا مش عارف أنا قدمت في كلية إيه يا ماما ، وزي ما بيقول لو الجواب ده موصلوش مكنش هيعرف ، ولو مكنش موجود كان هيفضل مش عارف بنته بتدرس إيه يا ماما"
-"هدير"
صرخ بها سالم بحدة وغضب لتكف عما تتفوه به فالتفتت له بحدة تشهر سبابته في وجهه لأول مرة وأعين حمراء تقدح شذرًا وحرقة منه ، وفي تلك اللحظة لم تره والدها بل شخص غريب عنها
-"كفاية.. كفاية زعيق.. كفاية صريخ كفاي.. كفاية!!
أنت بتعاتب وتزعق على إيه؟
قولي تعرف عني إيه علشان تتعصب كده لما عرفت إني قدمت في إعلام ها؟!
تقدر تجاوبني وتقولي أنا بحب إيه.. بكره إيه.. آخر مرة تعبت فيها امتى.. الأكل اللي بتعب منه إيه هو؟"
-"هدير حبيبتي كفاية ...."
هتفت سهام من خلفها ببكاء وقد علمت أن ما كانت تخاف منه سيحدث الآن لكنها لم تلتفت لها وظلت تحدق بوالدها الذي يطالعها بجمود
-"مش هتعرف تجاوب عارف ليه؟!
عشان ولا مرة كلفت خاطرك تعرف حاجة منهم ، حياتك كلها شغل وصفقات وسفر وفلوس ، والبيت أولوية أخيرة بالنسبة لك ، زي الفندق تقضي وقت لطيف وتمشي.. وفي الآخر إيه مش هامك اللي أنا عوزاه وحابة أدرسه أكتر من منظرك قدام الناس"
جذبها بعنف من مرفقها يضغط على أسنانه بقوة وهتف بشراسة يخفي بها ألمه من الحقيقة التي تعريها ابنته أمامه أنه لم يكن يومًا أب لها
-"احترمي نفسك واعرفي إن اللي بتتكلمي معاه ده أبوكِ مش حد غريب ، واللي أقول عليه يتنفذ أنتِ سامعة"
أفلتت ذراعها من قبضته في عنف ووقفت أمامه بشموخ وعناد اكتسبته منه وهتفت بقوة
-"بالنسبة لي مفيش فرق بينك وبين الغريب"
رفع قبضته ليهوى على وجهها بصفعة أخرى لكنه تمالك نفسه على آخر لحظة لتطالعه بابتسامة سخرية لا تتماشى مع الدموع في عينها ، ثم أولته ظهرها وسارت نحو الدرج
-"المرة دي آسفة اللي أنت عاوزة مش هيحصل ، حتى اللي جاي لو هيتعارض مع حاجة أنا حباه ومش هتضر حضرتك مش هعملها.. دراستي هكملها ، ومجال شغلها هدخله وياريت حضرتك تتقبل ده عشان معنديش غيره"
استفاقت من الذكرى ناظرة إلى الطبيب بابتسامة ، والتفتت إلى الجالس يستمع لها ضاغطًا على قبضته حتى يسيطر على انفعالاته ولا يتحرك من مكانه جاذبًا إياها إلى أحضانه لكنه ابتسم لها بتشجيع يرسل لها نظرات عاشقة دافئة حفزتها على إخراج كل ما في جعبتها.
-"منكرش في الأول كنت بحاول أتمرد على اللي يقوله بس بعد كده مبقاش يهمني ، ركزت بس في دراستي وشغلي وإني أكبر ، مهتمتش برأي حد غير ماما ومنار ونادر"
-"مين منار ونادر؟"
سألها حسن بهدوء لتلوح على ثغرها ابتسامة دافئة وأجابت
-"دول عوض ربنا عن السند اللي ملقتوش ، اللي كانوا معايا من المدرسة على الرغم إن نادر أكبر مننا بتلت سنين بس كان أكتر من أخ ، اللي كانوا معايا وقت ما وقعت ، الحاجة الوحيدة اللي ندمانة عليها معاهم إني مسمعتش كلامهم لما قلقوا من وجود كريم..."
انتفضت للحظة وارتعش جسدها لمجرد ذكر اسمه جعلت قلب ذلك المستمع أمامها يهبط في قدمه ، الآن يعلم أنه الجزء الأصعب لها والقاسي له ، كلماتها ستجلده قبل جلدها ، وما سيسمعه منها حتى ولو سمعه من قبل سيكون صعب عليه.
ارتعشت يدها التي تبعد خصلاتها عن جبهتها ، دارت بحدقتيها في المكان بتوتر وارتباك ، تعض على أناملها بقوة تكبح زمام انفعالاتها من تذكره.. لاحظ حسن كل هذا فنهض من مجلسه قائلًا
-"أنا بقول نكتفي بده النهاردة ، وهستنى منك زيارة بعد بكرة"
أومأت له بلهفة كأنها وجدت فرصتها للهرب من الحديث عنه.. تعلم أنه حتمًا ستأتي بذكره فهي هنا لهذا الأمر لكن الآن صعب عليها للغاية.
انحنت تأخذ حقيبتها واتجهت نحو مازن الذي أحاطها بذراعيه بابتسامة مقبلًا رأسها بحنو ، ونظرت إلى الطبيب قائلة
-"مش عاوزة مهدئات تعبت منها ، عاوزة أبدأ أعيش طبيعي من غير أدوية"
ابتسم لها بفخر من شجاعتها وضمها مازن أكثر يساندها في القرار ، فقال بمرح
-"مش هكتبلك على مهدئات ، لكن عاوز منك زيارة يوم آه ويوم لا.. وساعة جري كل يوم الصبح مع تغذية كويسة"
أومأت له بموافقة وانتهت الجلسة الأولى ، لم تتحمل الحديث أكثر منها ، ولم تتحمل تدفق كل تلك الأحداث على عقلها.
هبطت من السيارة بعدما وصل بها إلى المنزل وصعدت إلى الغرفة مباشرة تلقي بجسدها على الفراش بانهماك وتعب.
صعد بعدها ببضعة دقائق فأغمضت عينها تتظاهر بالنوم لا تريد المواجهة معه ولا مع أحد فابتسم لها وطفولتها .
مال ينزع حذائها برفق يرفع الغطاء يدثرها جيدًا ، انحنى على وجنتها يقبلها ثم أخذ ثيابه وأغلق الضوء وخرج.
مر يوم وجاء ميعاد الجلسة الثانية!!
أكثر راحة
أكثر هدوءً
أكثر استرخاءً
توترها ، ترددها ، ارتباكها ، تيبس جسدها وحذرها منه ومن المكان بدأوا يتلاشوا رويدًا رويدًا .
برفقتها مازن في تلك الجلسة أيضًا ، فلم يحن بعد أن تحضر منفردة.
تجلس على الشيز لونج كآخر مرة ، فمازحها حسن
-"شكلك حبتيه"
ابتسمت بهدوء ولم تجبه ، فجلس أمامها قائلًا
-"قولي لي يا هدير بقا عرفتِ الباش مهندس ازاي؟"
رفعت ساقيها إلى صدرها تحيطها بذراعيها كأنها تحمي نفسها واستندت بذقنها على ركبتيها تنظر لمازن الذي يجلس بالمقابل لها يستند بساعديه على قدمه يحني جسده للأمام مغمضًا عينه يومئ برأسه لها أنه معها ولا تخاف.
ابتسمت له بامتنان وشرعت تكمل
-"بابا كان دايمًا يقولي الصحافة دي هتوديكِ في داهية ، خصوصًا بعد المقال اللي نزلته عن فساد رأفت منصور واللي بسببه قابلت مازن"
تنفست بعمق ولم تقطع تواصلها البصري معه
-"في البداية كنت شيفاه مش أكتر من مجرد واحد غروره مسيطر عليه ، خصوصًا لما حط جوازي منه شرط لمساعدة بابا إنه ينقذه من الإفلاس"
ابتسم للذكرى وأحنى رأسه لأسفل متذكرًا زيارته لوالدها وإلقاءه لطلبه والذي لاقاه بالرفض ليأتيه والدها بعدها بأيام يخبره بأمر كريم وموافقته على زواجه من ابنته لحمايتها ، انتبهت حواسه إلى سؤال الطبيب الذي طالما كان يراوده لمرات عديدة عندما أخبرته أنه فاجأها بحضور المأذون لعقد القران وليست مجرد خطبة
-"بس واحدة بشخصيتك وقفتِ قدام باباكِ في كل قراراته على حياتك ، أظن مكنش هيفرق معاكِ لو رفضتِ الجوازة دي وقدام الكل.. إيه خلاكِ توافقي؟"
هل ستبوح بسرها الآن؟
هل ستبوح بسبب قبولها هذا الزواج؟
تلاقت أنظارها مع زوجها ترى اللهفة لسماع إجابتها!!
تحفز جسده لما ستقوله ، فابتسمت لها قائلة
-"إحساس قالي مرفضش.. حسيت بصوت يقولي هتندمي لو موافقتيش!!
رغبة التحدي اللي جوايا خلتني أوافق بسبب حاجتين ملهمش علاقة ببعض ، إما أثبت ليه إن جوازه مني غلطة واللي عمله مكنش ينفع..
والتانية بتقولي إن جوه الشخصية دي شخصية تانية محدش يعرف عنها حاجة ، ومامته أكدت ليا تاني حاجة"
عقد حاجبيه بدهشة وتعجب من ذكرها لوالدته وتذكر حينما أخذتها يوم الخطبة لتتحدث معها ، فسألها الطبيب عن دور والدته معها فبدأت في إخباره.
شردت في اليوم الذي عُقد فيه قرانها على مازن ، عندما كادت أن تصرخ رافضة لهذه الزيجة وما يحدث ، ضاربة بكل شيء عرض الحائط ، حتى وضعت ميرفت كفها على كتفها ، آخدة إياها للتحدث معها.
جلستا سويًا في غرفة المكتب التابعة لوالدها ، نظرت لها بحنان وتأمل لحالتها التي تحاول بشتى الطرق أن تصل لأقصى درجات ضبط النفس حتى لا تخرج من هنا وتطرد جميع من في الخارج"
تنهدت ميرفت وربتت على كفها تضغط عليه برفق وبدأت في سرد ما تريد قوله
-" تعرفي يا هدير.. عز الدين أبو مازن الله يرحمه كان راجل شديد ، حازم ، قاسي.. عرقه الصعيدي كان غلاب ، كان له هيبة ورهبة في أي مكان بيروح فيه..
أول مرة شوفته كان شاب طويل ضخم يمكن أطول وأعرض من مازن بكتير ، نظرته كانت مليانة ثقة تخليكِ تخافي.. وقتها خوفت واستخبيت ورا بابا ، وفضلت مستخبية في مكتبي لحد ما مشي "
تنهدت مبتسمة للذكرى وأكملت
-"وفي يوم بابا طلب مني أوصل ملف صفقة مهمة لشركته لأني وقتها كنت بشتغل معاه في الشركة"
ألقت نظرة على هدير التي تستمع لها باهتمام استطاعت أن تجذبه لها بعد أن هدأت من فرط غضبها وتابعت
-"لما وصلت لمكتبه لاقيته نازل بهدلة في السكرتيرة بتاعته والبنت يا عيني كانت حرفيًا هتعيط ، مقدرتش أمسك نفسي من اللي بسمعه ، والبنت واقفة خلاص دمعتها نزلت..
دخلت المكتب بعصبية واتهمته أنه معندوش رحمة ، وأنه قاسي ، وأنه مش بيحترم مشاعر أي حد"
ضحكت بقوة تعيد رأسها للخلف لتبتسم الأخرى لها تتذكر اندفاعها بنفس الطريقة لمكتب مازن قبل عدة أيام
-" ورميت ليه الملف على المكتب وخرجت بعصبية ، وهو وقف مذهول من ردة فعلي وكلامي.. عمر ما حد وقف قدامه بالشكل ده ، وبعدها بشهر لاقيت بابا داخل عليا يقولي أنه طالب إيدي وعايز يتجوزني"
ضغطت بيدها على كف هدير وناظرتها بقوة
-"ردة فعلي كانت زي ردة فعلك بالظبط ، ثورت وغضبت ورفضت كمان.. بس في الآخر الجوازة تمت.. لكن اكتشفت عز غير اللي كنت أعرفه ، حنين ، مفيش أطيب من قلبه ، غيور ، مليان حب وأمان فوق الوصف..
مازن زي أبوه!
كان مفيش حد يغلبه في خفة الدم ، والطيبة ، لكن موت أبوه غدر قَلَب حاله 180 درجة"
اتسعت عيني هدير بفزع تكتم شهقة كادت أن تخرج مما سمعت!!
والده قُتل؟!
كيف ولماذا ؟!
تنهدت ميرفت ومسحت دمعة هبطت من عينيها ، تربت علي كتفها وهمست
-" أنا مش هقولك أنك أنتِ اللي هتغيري ابني ولا كلام القصص ده ، بس أنا شوفت فيكِ نفسي ، وشوفت قوة تقدر تكسر القسوة اللي مازن حط نفسه فيها ، ولو فاكرة أنك لما تخرجي ترفضي اللي قاله ، كده كل حاجة انتهت وخلاص تبقي غلطانة لسببين"
عقدت هدير حاجبيها بتساؤل فتابعت والدته
-" الأول.. مازن استحالة يسكت ، بالعكس أنتِ بتخليه يعند أكثر
والتاني.. أنك متعودتيش تبقي ضعيفة"
ثم صمتت تنظر لعين هدير بحزم وقوة ، التقطت المعني الكامن في حديثها ونظراتها.. شعرت بقوة رهيبة اجتاحتها ، فابتسمت لها بتفهم وخرجت معها إلى مكان وقوف مازن ، ووافقت على عقد القران.
انتهت من سردها لحديث والدته معها وطالعته بابتسامة عندما ناظرها بذهول أنها كانت تعلم بمقتل والده منذ حينها ، دهشة من حديثها مع والدته والتحالف المبطن ، فعاد برأسه للخلف وجسده يهتز بضحكة مكتومة على عقل وتفكير النساء.
عقلهن يا ولدي معادلة رياضية صعبة الحل ، تحتاج لنظريات فيثاغورث وعقلية إقليدس لتبدأ في فك شفراتهن..
وبالأخير تحتاج عون الله يقويك على إكمال الطريق.
ابتسمت على ردة فعله وفكرت..
الحب ليس كلمات ، ليس مجرد بضعة أحرف تخرج منا للتعبير عما يجيش بداخلنا..
الحب شعور بالأمان ، بالثقة قبل كل شيء .
من الممكن مجرد نظرة ترسل لي ما يغني عن جميع كلمات العشق في الكون..
هو مراسلة بين روحين وليس جسدين ، وهذا ما تشعره معه .
مالت برأسها على ذراعيها ونظرت لحسن تكمل
-"وطلع السبب التاني هو الصح ، لاقيت فيه الأمان والثقة اللي أنا مفتقداهم ، لاقيت السند اللي ممكن أهرب ليه وقت ضعفي وعارفة إنه هيقويني"
أومأ لها بابتسامة ومال بجسده أمامها ينظر لها بثبات فنظرت له بصمت
-"ومين كريم؟"
انتفضت من مكانها تبتلع لعابها بصعوبة ، ثم نهضت من مكانها فارتبك مازن في جلسته وكاد أن ينهض لكن إشارة الطبيب له بالتماسك والسيطرة على ردود فعله جعلته يعاود الجلوس مرة أخرى يقبض على حافتي الكرسي بقبضته حتى ابيضت مفاصله.
رفعت كفيها تعيد خصلاتها للخلف مشبكة أناملها خلف عنقها وظلت تتحرك جيئًة وذهابًا أمامهما وارتعاش شفتيها ظاهر بشكل جليّ ، لسانها الناطق باسمه هتف
-"كريم.. كريم.. كريم!!
واحد ، لا لا لا شيطان!!
بردو لا ده ملوش وصف ، بس ذكي لا عبقري.. قدر يدخل ليا من الباب الوحيد المخلوع في قلبي وهو الحب ، مع إنه مش أول راجل يحاول يتقرب منه بس عرف كويس يفرض وجوده ونجح"
صمتت قليلًا تغمض عينها بقوة حتى احتقن وجهها بدماء الندم ، ثم بدأت تسرد عليه أمر خيانته لها ومحاولة الاعتداء عليها في شقته وما فعلته به بعدها.. كيف أمضت الخمس سنوات بعد انفصالها عنه في بناء حصون قلبها والتدقيق بشدة في من يريد التقرب منها.
خمس سنوات لم يساعدها أحد غير والدتها وأصدقائها!
ألقت بجسدها جالسة على الشيز لونج تستند بمرفقيها على قدمها تدفن وجهها بين كفيها تتنفس بقوة وصعوبة فأعطاها وقتها يدون النقاط الهامة عن حالتها كما يراها ثم نهض يحمل كوب من الماء يناوله لها وجلس على الكرسي بجانبها .
-"إيه هو اللي حصل؟"
سألها بهدوء فترددت وأخفت وجهها بين ذراعيها تهز جسدها بحركات رتيبة للأمام والخلف وذكرى ذلك اليوم تتدفق في عقلها كالحمم
ظهر وجهها يغلب عليه الاحمرار وعيونها كالدماء من أثر البكاء والدموع تهبط على وجنتها ، تسمرت نظراتها بقوة في الفراغ وشعرت المكان حولها فارغ..
صوت طلقات نيران.. سقوط جسد الصغير مدرجًا في دمائه.. صفعته لها.. ولمساته الماجنة تشعر بها كألسنة النيران تجلدها.. صراخها باسم مازن إلى أن سقطت مغشيًا عليها.
كل هذا تشعر به يدور في فلكها كحلقات حلزونية حول رأسها ، فرفعت كفيها تغطي أذنها بقوة تضغط على عينها بقسوة تهز رأسها بجنون ولسانها يردد
-"لا لا لا كفاية.. مازن ، مازن"
انتفض من مكانه بعنف حتى سقط الكرسي على الأرض وهرول نحوها يجلس بجانبها واضعًا يده على كفيها يرفعهما وكور وجهه بين يده يجبرها على النظر إليها هاتفًا بها بثبات
-"هدير بصيلي.. فتحي عينك وبصيلي أنا جمبك ، كل ده وهم يا روحي فتحي عيونك"
رويدًا رويدًا تسلل صوته ودفء حضوره إليها ، هدأت حركة جسدها وفتحت جفنيها بهدوء تطالعه بتيه فجذبها إلى أحضانه يمسد ظهرها بحنان يهمس لها بوجوده.
طالعها الطبيب بهدوء متوقع ردة فعلها ، استند بساعديه على قدمه فهمست بصوت متردد تنظر له من أحضان مازن كأنها لا تشعر بشيء
-"الحكاية كلها بدأت لما قابلت مصطفى أنا ومنار قاعد بيعيط ولما سألناه عرفنا إنه من ضمن أطفال كتير بيستخدموهم تجار المخدرات علشان يوزعوا القرف ده"
-"عمالة الأطفال!!"
قالها باعتيادية وكأنه أمر طبيعي فأومأت برأسها دون رفعها وأكملت
-"مش هنكر وأقول إني وقتها مكنتش بفكر في الموضوع إنه قضية جديدة وسبق صحفي جديد أبدأ فيه ، بس نادر ومنار منعوني علشان الخطر ، وقتها اتحول الموضوع جوايا من مجرد شغل لأني أنقذ الطفل ده من إيدهم ، حسيت إني متعلقة بيه لدرجة كبيرة"
شعرت بدوار يلوح برأسها فأغمضت عينها ودفعت نفسها بأحضان مازن أكثر حتى يهدأ ، وأكملت تحكي له ما حدث في هذا اليوم المشئوم بداية من اتصال مصطفى لها وتفاجئها من وجود كريم.. توترت عندما تذكرت لمساته ومحاولة اعتدائه عليها لكنها تنفست بقوة
-" حاول.. حاول يلمسني ، حاول يعيد اللي معرفش يعمله من خمس سنين في شقته بس اتصال مازن وقتها وقفه.. هو اللي أنقذني من تحت إيده"
يستمع لها بهدوء ، وضع يده على المشكلة وهي تلاقي الذكرى القديمة بفعلته تلك أصابها بصدمة نتج عنه الضعف والخوف.
نظر لها يزيح نظارته الطبية عن أنفه وقال بجدية
-"ردة فعلك دي يا هدير مش رد فعل عن اللي حصل اليوم ده ، دي رد فعل متأخرة عن الحادثة القديمة.. كان لازم تاخدي موقف مع نفس تضعفي وقتها لكن أنتِ فضلتِ تكتمي كل حاجة جواكِ وتمارسي حياتك طبيعي ، ولما اتكرر الأمر بنفس الطريقة ومن نفس الشخص رد فعل عقلك الباطن كان أقوى منك وفضّل إنه يتحرر من سجنه"
تنفست ببطء تستمع له بصمت ، استقامت من أحضان مازن تعطي كافة انتباهها لحديثه.
فأكمل
-"دلوقتي هنكتفي بـده النهاردة وهستناكِ في معادنا بعد بكرة.."
انتهت الجلسة الثانية وتوالت الجلسات على مدار الأسبوعين ، حتى بدأت تعود إلى شخصيتها القديمة.. هدير المرحة ، العنادية لكن مع بعض التحفظ والحذر الذي سيأخذ بعض الوقت كي تتخلص منه.
وطوال الوقت لم يتركها مازن لحظة ، حضر معها كافة جلساتها كي تشعر بالأمان ، سيطر على انفعالاته وغضبه عندما كان يستمع لها ، لم يتحدث مع في أي شيء تاركًا الحرية لها حتى تأتي من نفسها وتتحدث.
حينها شعرت أنها وصلت إلى أعلى درجات الحب والثقة في قلبها إليه!!
أصيبت بدوار الحب واحتلها العشق فتاهت في بحور الهوى!!
فقدت من قاموس لغتها كل الكلمات ، واندثرت من قاموس العشق تهديه أرق المشاعر وأجملها!!
جالس في مكتبه يراجع أحد الملفات ، أمامه فنجان قهوته يرتشف منه بعد الحين والآخر يصب كافة انتباهه على ما يقرأه.
دقات خافتة على الباب يأذن صاحبها بالدخول فأمره به دون أن يرفع نظره عن الأوراق ، سمع غلقه فرفع نظره يرى الزائر فوجدها هدير واقفة أمامه ترتدي بنطال أخضر يحدد وركيها يهبط باتساع طفيف حتى حافة الحذاء الرياضي الأبيض التي ترتديه ، تعلوه كنزة بيضاء تصل لمنتصف وركيها يزينها حزام أبيض يحيط خصرها يلتقي طرفاه برابطة على هيئة فراشة.. تجمع طرفي خصلاتها بمشبك في منتصف رأسها تاركة إياه يهبط على ظهرها .
طالعها بانبهار وإعجاب لهيئتها البسيطة الجميلة ، لكن ليس هذا ما جذب انتباهه بل البريق اللامع الذي عاد لعسليتها ذكّرها بأول مرة رآها بها في الجريدة.
نهض من خلف مكتبه يقترب منها وزرقتيه تتأملاها بعشق جارف ، ها هي تعود إليه كما عاهدها!!
مد كفيه إليها يتناول كفيها مقبلًا إياهما بحب ، وابتسم لها بحبور قائلًا
-"إيه القمر اللي هلّ عليا ده؟"
ابتسمت له بخجل ووجنتيها تنتشر بهما الاحمرار ، فأحاط خصرها يقربها منه هامسًا
-"الجميل لابس شيك كده ورايح على فين؟"
رفعت عينها له تتأمله بحب جارف ، ترفع كفيها تضعهما على صدره تحركهما لأعلى عند كتفيه وأسفل على قلبه في حركة أججت المشاعر بداخله وجعلت عينه تغيم بعاطفة جمّة وهو يستمع لها
-"جه الوقت اللي أساعد فيه نفسي يا مازن ، أنت عملت كل اللي تقدر عليه ودلوقتي دوري.. أنا مش هشكرك أنا عاوزة أقولك حاجة تانية"
حفزها بنظراته فبللت شفتيها بلسانها وتنفست عدة مرات تستدعي الشجاعة لقول ما تريد.. رفعت نظراتها لعينه فالتقطت عقدة حاجبيه القلقة فرفعت إبهامها تدلك جبهته وهبطت بأناملها على وجنته تلمسها بحب إلى أن وصلت لطابع حسنه الذي جذب عقلها وهمست
-"أنا بحبك"
ابتسمت على ملامحه عندما اتسعت عيناه بعدم استيعاب لما تفوهت به ، ثم تحولت من دهشة إلى العشق وعدم التصديق!!
تحبه!!
هتفت بحبه!!
بحث في نظراتها عن أي نظرة امتنان أو شكر يكون هو ما دفعها لقولها لكن ما لقاه هو الحب.. الحب فقط!!
تسارعت أنفاسه ومشاعره التي حاول السيطرة عليها هي الآن ما تسيطر عليه ، رفع كفيه يكور وجهها يستند بجبهته على جبهتها ، يدلك وجنتيه بإبهاميه وخرج صوته أجش من فرط مشاعره
-"بتحبيني!!
أخيرًا يا هدير.. أخيرًا"
وضعت كفها على قلبه تحركه فوقه كمن تربت عليه ، ورفعت ذراعها الآخر تحيط عنقه تتلاعب بنهاية خصلاته
-"أنت متستاهلش إلا الحب يا مازن.. تستاهل كل حاجة حلوة في الدنيا ، ولو لاقيت معنى تاني غير بحبك يبقى اللي بحس بيه ومش هيكفيك حقك بردو"
قبلة!!
تلاقي الشفتين بحرارة هو كل ما استطاع الرد به على كلمتها!!
كانت كقطعة السكر في الفم بعد وجبة حارة لوقت طويل!!
كلمة كالبلسم الرطب على جرح نازف لفترة حتى يأس من شفائه!!
لم يجد رد غير انحناءه ملتقطًا شفتيها بعشق فاض به ورقة متناهية!!
شعر بانتفاضة جسدها عند لمسته لها لكنها لم تنفر.. لم تبتعد.. بل تمسكت به!!
لم تبادله لكن يكفيه تمسكها وعدم هروبها من بين يديه.
فصل نفسه عنها يستند بجبهته على خاصتها يتأمل وجهها الذي تحول لونه للاحمرار ، مغمضة العينين ، تتمسك بمقدمة ملابسه بقوة لكن ابتسامتها على وجهها طمأنت قلبه.
-"أنا مش بحبك.. أنا بقيت مش متخيل حياتي من غيرك"
فتحت عينها تنظر له بحب ، وابتسامتها ترتسم بخجل ثم ابتعدت للخلف خطوة تلملم شتات نفسها وتقول
-"طب عاوزة أروح الجريدة"
-"الجريدة!!
ليه؟"
سألها بدهشة فهو لا يظن أنها الآن على استعداد للذهاب إلى العمل ، لكنها قالت
-"المؤتمر بكرة.. ولازم اجتمع مع نادر ومنار علشان أحضر ليه كويس"
كم مفاجأة سيسمعها منها اليوم؟!
تعترف بحبه.. والآن تخبره أنها على استعداد لمباشرة عملها وحضور المؤتمر!!
اقترب منها يضع كفيها على عضدها وهمس أمام وجهها
-"لو مش هتقدري تحضريه خلاص مش لازم"
-"لا لازم.. عندي فضول أعرف مين الشريك الثاني لمجموعة العجمي"
رفع حاجبه بتلاعب وكتم ابتسامة مستمتعة بصعوبة ، يريد الغد أن يأتي حتى يرى ردة فعلها عندما تراه .
وافق على حضورها المؤتمر ، لكنها لم تذهب إلى الجريدة بل أخبر نادر بإحضار منار والإتيان إلى منزله ليجتمعوا هنا.
حان الوقت
وبدأ اليوم والحركة في الفندق الكبير القابع في القاهرة ، الذي يضم في قاعة مؤتمراته تحضيرات المؤتمر الصحفي العالمي.
القاعة مليئة بالحضور.. كبار رجال أعمال والاقتصاد عرب وأجانب وسيدات المجتمع ، سياسيون وفنانون موجودون هنا.
عدد كبير من الصحفيين حاضر أيضًا .
وفي الطاولة الأولى يجلس أكرم العجمي وزوجته ، أخته آمال وزوجها معتز الذي يساند صديقه في هذا اليوم ، وأنوار زوجة عبد العزيز التي أتت ليس فقط أنها تعمل في الشركة بل لمساندة زوجها أيضًا.
وعلى الطاولة الجانبية لهما يجلس والدها ووالدتها ضمن كبار رجال الأعمال ، ترافقهم ميرفت وأسماء!!
عرفها على كل هؤلاء نادر الذي يقف بجانبها ، يشير برأسه إلى من تريد معرفة هويته.
جلس الجميع في مكانه وكانت طاولات الصحفيين في الجانب الأيسر من القاعة ، والجانب الأيمن لكبار الضيوف.
انتابها التساؤل والحيرة من عدم رؤية مازن ورامز هنا!!
بل لم تراه منذ الصباح كأنه اختفى!!
جلست بجانب منار التي توسطتها هي ونادر.
ظهر على المنصة المكونة من ثمانية مقاعد عبد العزيز العجمي برفقة أخيه محمد ، خلفهما آسر السعيد ومالك العمار!!
تأهبت لرؤية الشريك الخفي الذي تظن أن الجميع لا يعلم عنه شيئًا ، لكن سقوط هاتفها جعلها تنحني لتلتقفه ، فوجدت أن حذائها مفكوك .
زفرت بغيظ مما يعتريها ومدت أناملها تعيد إحكام ربطه من جديد ، وصوت عبد العزيز العجمي يصل لها بوضوح
-"أولًا أهلًا وسهلًا بكل الحضور من رجال الأعمال والسياسيين والفنانين وكذلك الصحفيين..
ثانيًا أنا بعبر عن امتناني بالشراكة والصداقة دي ، الكل عارف اسم مازن السيوفي في البلد اسم كبير جدًا له مكانته الكبيرة والمهمة ، ومكسب لأي حد ينول شراكته"
تيبست أناملها على حذائها ، عقدت حاجبيها بعدم استيعاب لما سمعته وتوسعت عيناها عندما التقطت أذنها اسم مازن!!
استقامت فجأة وبعنف جعل خصلاتها تغطي منتصف وجهها تنظر بصدمة إلى المنصة فوجدته يجلس في المنتصف على يمينه عبد العزيز وعلى يساره رامز!!
هو الشريك الخفي في الصفقة!!
ولم يخبرها بشيء رغم أنه يعلم بحثها عن الطرف الآخر وفضولها نحوه!!
أعطاه عبد العزيز الكلمة فصدح هاتفه
-"طبعًا أحب أشكر كل الحضور ، وأشكر الباش مهندس عبد العزيز على كلامه.. بالعكس شراكة العجمي هي مكسب وبمثابة سد ومصدر قوة لأي حد ، وأتمنى فعلًا تكون بداية كبيرة للشركتين"
سقطت عينه على طاولتها يراها جالسة بقميصها الأسود وبنطالها الأبيض ، تستند بظهرها إلى كرسيها ، ممسكة بقلمها تدق به بحركات رتيبة على الطاولة تناظره بنظرات شرسة مغتاظة.
غمز لها بخفوت وابتسامة جانبية تلوح على ثغره ، فطالعته بحاجب مرتفع وقلب عينها بغيظ .
نظرت لنادر الذي يتحدث مع منار في الأسئلة التي من الممكن أن يطرحوها لتميل نحوه مزيحة منار إلى الخلف
-"أنت كنت عارف إن هو الشريك التاني في الصفقة دي؟"
طالعها بجانب عينه يكتم ضحكاته حتى لا يثار جنونها أكثر ولم يجب لشروع عبد العزيز في الحديث مرة أخرى يشرح تفاصيل تلك الشراكة وما سيقدموه.
بدأوا باستقبال أسئلة الصحفيين والإجابة عنها إلى أن رفعت يدها للسماح لها بالسؤال.
مسكت الميكرفون وتحفزت في جلستها وعينها لم تهبط عن زوجها الذي ينظر لها بحب.. الآن سيرى الجانب الآخر من زوجته!!
سيرى الصحفية المشهورة التي أفحمت العديد من رجال الأعمال بأسئلتها!!
-"هدير سالم صحفية عن جريدة الخبر"
ابتسم عبد العزيز برسمية لها قائلًا
-"غانية عن التعريف طبعًا"
-"متشكرة جدًا
سؤالي لحضراتكم.. طبعًا الشراكة مكسب كبير ومصدر قوة لأي حد ، بس أي حد منكم سواء لعيلة العجمي أو لعيلة السيوفي مع احترامي للجميع
إيه وجع الاستفادة للناس العادية؟!
يعني شراكة بالحجم ده إيه وجه النفع اللي هيعود على المواطن العادي"
ابتسم مالك وآسر ورامز على ذكائها!!
محمد رفع حاجبه بإعجاب من سؤالها!!
عبد العزيز تبادل النظرات مع مازن الذي اتسعت ابتسامته وها قد كشرت زوجته عن أنيابها الصحفية.
مال مازن نحو الميكرفون وهم بالإجابة
-"من ضمن المشاريع اللي هنعملها سلسلة مساكن وأحياء للناس اللي عايشة في عشوائيات ونجوع.. كمان مركز تجاري كبير أسعاره في متناول المواطن العادي.. وده أول مشروع هنبدأ فيه"
ابتسمت بفخر له ظهر جليًّا في عينها وقالت
-"أتمنى النجاح ليكم"
تم إمضاء العقود على مرأى ومسمع من الجميع ليتم الإعلان عن إتمام الشراكة الكبرى في المنطقة والتي بمشاريعها ستغير مسار الاقتصاد بصورة واضحة.
هبط الجميع من المنصة ينتشرون بين رجال الأعمال وإجراء اللقاءات الصحفية ، ليستأذن مازن من عبد العزيز قليلًا واقترب من زوجته التي تقف بمنتصف نادر ومنار تكتف ذراعيها بغيظ ، فابتسم لها وقال
-"مش هتعملي معايا لقاء ولا إيه؟"
اقتربت منه تشهر كفيها أمام وجهه رغبًة في خنقه لكنها قبضت على كفيها وأشاحت وجهها عنه قليلًا قبل أن تهتف بحدة من بين أسنانها
-"ليه مقولتليش؟؟
على الأقل كنت جيت بحاجة مناسبة بدل القميص والبنطلون اللي أنا لبساهم دول ، يعني شوف مرات عبد العزيز وعيلته لابسين إيه!!
حتى مامتك وأختك!!"
زفرت بغيظ وأشارت له بالذهاب
-"اتفضل روح بقا لضيوفك وأنا النهاردة مش مراتك انساني النهاردة خالص"
كادت أن تذهب من أمامه لكنه جذبها من خصرها حتى التصق جانبها بصدره فتوسعت عينها بصدمة ضحك عليها باستمتاع ، ثم قادها معه نحو طاولة العجمي التي اجتمع أفرادها مع أفراد عائلته ، فانتبه الجميع إليه.
ابتسمت بارتباك وبداخلها تسبّه بكل ما تعرفه من قاموس الشتائم ، فأشار لها قائلًا بفخر
-"هدير سالم الخطاب ، بنت رجل الأعمال سالم منير الخطاب.. ومراتي"
دهشة اجتاحت عبد العزيز أن يكون متزوجًا من تلك الصحفية الكبيرة ، فابتسم برحابة وأشار لها برأسه للتحية
-"أهلًا وسهلًا أستاذة هدير ، شرف كبير نقابل حضرتك.."
بادلته الابتسامة والتحية بمثيلتها
-"الشرف ليه يا عبد العزيز بيه"
أشار للفتاة التي تقف بجانبه
-"أنوار السعيد.. مراتي"
-"عرفاها طبعًا.. أهلًا وسهلًا"
تبادلا السلام بالأيدي وابتسامة مرحبة ، فهتفت غرام بسؤال فضولي
-"غريبة أنك تبقي مرات مازن السيوفي وآسفة يعني لابسة كاجوال"
نظرت لتلك الفاتنة ذات الخصلات الشقراء والوجه الجميل وابتسمت لها بهدوء بعد أن رمقت مازن بغيظ
-"أنا هنا بصفتي صحفية يا قمر ، فلازم أفصل بين شغلي وبين حياتي الشخصية حتى لو كان جوزي صاحب الشغل"
بادلتها غرام الابتسامة بمثلها وتبادلا الكلمات المرحة.. إلى أن انتهى اليوم على اتفاق من الجميع لحضور عشاء بعد انتهاء المؤتمر.
أنت تقرأ
الحب سبق صحفي " مكتملة "
Romanceهي :- أنا فتاة عشت لـ نفسي , لـ حريتي , أعيش في مملكتي , ارفض القيود , أحب الحياة, أعشق الحرية , ولكني لن أنسى أني شرقية , ابنة رجل الرجال , وأخت فرسان , وحبيبة رجل ليس ككل الرجال .... أنا امرأة لا أنحنى إلا في صلاتي .. و لا أصمت إلا عندما ينعدم كلا...