part 5

2.7K 87 0
                                    

الفصل الخامس

مخطئون فيما قالوه عن الماضي
حتى إن تعلمت كيف تدفنه؟
ألا أنه دائمًا يجد طريق عودته
لا يمكننا الهرب من شبح وجوده
طالما لم نتخلص منه تمام الخلاص
سيأتي يوم ويلاحقنا حتى نضع حدًا له

-"أنت عرفت بحكاية الإفراج عن رأفت؟"
قالها رامز وهو يدلف المكتب عند مازن باندفاع ليطالعه الأخير بنظرات غامضة وإيماءة بسيطة يعيد نظره إلى أوراقه هامسًا :
-"أيوه"
جلس أمام مكتبه مستندًا عليه بمرفقه يحك جبهته بحيرة متسائلًا:
-"بس إزاي؟
ده متقدم فيه أوراق توديه في ستين داهية!"
لم يعلق على حديثه ولكنه تناول علبة سجائره يشعل إحداها قبل أن يقول مغيرًا مجرى الحديث :
-"سيبك من رأفت وخليك معايا.. أسمع اللي هقولك عليه ونفذه بالحرف الواحد"
انتبه لحديثه واستدار له يستمع ما يقوله بدقة ليفهم جيدًا ما عليه فعله.
★★★★★
هناك من يقضي وقته في التفكير بالعمل
وآخر يقضيه في كيفية الفوز بصفقة العمر
وأخرى تقضيه في البحث عن شيء تسعد به من تحبه
لكن هناك من تقضيه في البحث عن الموضة والأزياء لتغري الوسيم الثري!
فبعد تركها لأسماء ، قررت الذهاب إلى مازن لتراه خاصةً أنه في الفترة الماضية أهملها بشكل ملحوظ ، لم يعد يزورها ، ونادرًا ما أن يجيب على اتصالاتها.
دلفت إلى الشركة ونعل حذائها العالي يدوي جاذبًا أنظار الجميع إلى المشهد السخي وبالمجان ، ابتسامة ارتسمت على جانب ثغرها ونظرات الجميع تزيد من غرورها تهز خصلاتها للخلف بأنفة.
صعدت إلى مكتبه فوجدت سكرتيرته جالسة تؤدي عملها فقالت بنظرة استعلاء :
-"باشمهندس مازن موجود؟!"
رفعت ياسمين نظرها إليها بابتسامتها البشوشة التي توجهها للجميع أيًا كان :
-"أيوه موجود بس هو مشغول دلوقتي؟"
أعادت خصلة خلف أذنها قائلة :
-"قولي له نادين عاصم بره"
رفعت سماعة الهاتف وأخبرته بأنها تريد رؤيتها فسمح لها بالدخول.
وضع السماعة وذم شفتيه بتفكير أخبرها أكثر من مرة أن تقلل من زياراتها للشركة طالما لا يوجد بينهما عمل.. تحرك بالكرسي لكلا الاتجاهين هامساً في نفسه :
-"إما نشوف سبب الزيارة إيه يا ست نادين!"
دلفت إليه ليرفع نظره فوجدها ترتدي تنورة قصيرة للغاية وفوقها كنزة قصيرة بحمالات رفيعة تعتبر كجلد ثاني عليها مرتدية سترة سوداء تصل لحافة التنورة ، تضع كثير من مساحيق التجميل. جلست أمامه واضعة ساق فوق الأخرى قائلة بغنج ودلال :
-"أنا قولت أنت مبتسألش ولا بشوفك ، فقولت أجيلك أنا"
أسند ذراعه جانب كرسيه وذقنه إلى أصابعه ، ينظر لها بنصف عين بصمت قليلًا قبل أن يقول :
-"الفترة اللي فاتت كنت مشغول والوقت الفاضي برتاح فيه"
نهضت ببطء مغري وتقدمت منه حتى جلست أمامه على المكتب ثم جذبته من رابطة عنقه بتريث قائلة بإغراء تعض على شفتها السفلى :
-"بس أنت وحشتني خالص يا مازن"
غبي من يجد أمامه طبق من اللحم يقدم له بالمجان ويحول بنظره عنه وكأنه غير موجود
خاصةً لو كان شخص كمازن!
تفحصها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها بعيون عابثة ولسانه يتحرك على جانب شفتيه ، ثم وضع يده على خصرها يقربها منه وقام بتقبيلها فبادلته القبلة بخبرة ومهارة وبعد وقت قصير تركها فقالت تتلاعب بخصلاته :
-"تعرف أنا شوفت النهاردة أسماء في النادي ، بس الغريب إنها كانت مع الصحفية اللي اسمها هدير سالم"
انتبه للاسم مجرد أن نطقت به حتى التمع في ذهنه بريق عسلي يعرفه جيدًا طالعه منذ أن رآها ، لكنه فكر بدهشة
ما علاقة أخته بهدير؟!
ومنذ متى يتقابلان؟!
أخته لم تذكر أنها تعرفها خاصةً أنهما كانا بذكرها منذ أيام ؟
تُرى أهي تريد استغلالها من أجل مصلحتها وعملها أم هي مجرد صدفة؟
عاد من شروده ينظر لها رافعًا كتفيه بلامبالاة مصطنعة :
-"ممكن يكونوا أصحاب عادي"
لوت نادين شفتيها ثم رفعت كتفيها بلامبالاة وقالت :
-"ممكن.. بس حتى لو أصحاب أنا معرفش إزاي أسماء تعرف الأشكال دي؟!"
ناظرها بتساؤل لتجيب بوجه متجعد :
-"يعني شايفة نفسها ومغرورة معرفش على إيه؟
هي لا شكل ولا ذوق ولا حاجة خالص . لوكال قوي"
عقد حاجبيه وناظرها بسخرية يفكر من تتحدث عن الغرور وهي الغرور بحد ذاته!
ومن تلك التي لا شكل لها!
هدير!
يكفي البريق العسلي المشع من عينها!
عقد عقله مقارنة سريعة بين الاثنتين
نادين التي تسلك كافة الطرق وتستغل كل الفرص للاقتراب منه ، تسعد بلمسة من يده أو قبلة ، وصل بها الحال أن وافقت على الزواج منه في الخفاء فقط لتحظى بقربه!
والأخرى تخلق لنفسها طرقًا جديدة كي تهرب منه ليس خوفًا بل غضبًا واشمئزازًا لاحظه في نظراتها يوم الحفل!
من أعطته درسًا في الأخلاق بكلمات مبطنة وتلاعب بالعبارات لمجرد أنه لمسها!
شتان بين الاثنتين فلا مقارنة من الأساس!
فقال بعدم اهتمام مصطنع :
-"إيه اللي حصل عشان تقولي كده؟
أنتِ اتكلمتِ معاها؟"
سردت له ما حدث في النادي وحديثها معها ،  فرفع حاجبه يتخيل المشهد.. الاثنتان بمواجهة بعضهما!
بالتأكيد لن تمر على خير ولكنها ستكون ممتعة.
غرور نادين وبرود هدير!
ابتسم لمجرد الفكرة وقال :
-"طيب أنا ورايا اجتماع مهم دلوقتي روحي أنتِ وأنا هجيلك بالليل"
ابتسمت ابتسامة مغوية وأحاطت عنقه بذراعيها هامسة :
-"تمام هستناك بالليل يا قلبي متتأخرش"
ختمت جملتها بقبلة على جانب فكه ثم أخذت حقيبتها وذهبت ، ليظل يفكر من أين تعرف أخته هدير؟
فعزم أمره أن يعرف عند رؤيته لأسماء.
لم يعد إلى المنزل وقضى ليلته برفقة نادين ، لتهبط أسماء في الصباح تتناول الفطور مع والدتها ، فوجدتها جالسة بانتظارها ، قبلتها وجلست بجوارها بعد أن ألقت تحية الصباح عليها.. تناولا طعامهما ثم جلسوا لتناول القهوة في حديقة بيتهم.
بادرت أسماء بالقول يملأها الحماس ترتشف من فنجانها :
-"عارفة يا ماما قابلت مين امبارح في النادي؟"
تساءلت والدتها بانتباه :
-"مين؟"
-"هدير سالم الصحفية ، البنت اللي كنت حكيت ليكِ عنها من فترة وإنها رفضت تسيبني لوحدي يوم المعرض ووصلتني"
عقدت حاجبيها بتفكير تستعيد حديث ابنتها قبل أن تومئ برأسها قائلة :
-"أيوه فاكراها مش دي بنت سالم خطاب رجل الأعمال؟"
فهتفت بسعادة :
-"أيوه هي.. بجد بنت زي العسل جميلة جدًا ، مفيهاش خالص من كآبة الصحفيين ، حتى مازن طلع عارفها"
نظرت لها ميرفت ترفع إحدى حاجبيها ثم تساءلت بدهشة تضع فنجانها على الطاولة أمامها :
-"عارفها منين؟"
سردت لها الموقف الذي جمعه بهدير في الحفل وما فعلته.. طالعتها والدتها بصدمة ما إن انتهت قبل أن تشهق بعلو يتبعها ضحكات غير مصدقة :
-"هزأت أخوكِ؟
محدش يتجرأ يرفع عينه فيه ، تقوم تتطاول عليه بالطريقة دي؟"
استحالت ملامح أسماء إلى التبرم تذم شفتيها بعبوس ، ثم هتفت بغيظ :
-"بصراحة ابنك اللي غلطان"
رفعت كوبها ترتشف منه القليل تردف :
-"أنا لو مكانها هعمل كده وأكتر كمان"
فكرت ميرفت فيما سردته ابنتها.. كيف لفتاة أن تفعل هذا في مازن؟
والأدهى أنها تعرف ابنها لن يمرر ما حدث مرور الكرام..
وسالم ليس بالشخص الهين .. فدعت الله ألا يحدث شيء وأن ينسى الموقف.
أخرجها من شرودها صوت ابنتها التي نهضت تضع كوبها على الطاولة :
-"ماما أنا رايحة لمازن الشركة ؛ كان اتصل قال إنه عاوزني"
أومأت لها لتنهض وارتدت ملابسها ثم أخذت سيارتها وانطلقت إلى الشركة.
★★★★★
أخذت هدير إجازة من العمل ليومين فقررت أن تقضي اليوم مع والدتها و كريمة ، ارتدت كنزة بيتية مريحة رافعة شعرها لأعلى ثم هبطت لأسفل فوجدت والدها ووالدتها على مائدة الافطار.. لتدخل بمرحها المعتاد تجلس بجانب والدتها.
طالعها سالم مبتسمًا عندما رآها بهذا المرح :
-"حبيبة قلبي شكلها مبسوط النهاردة"
غمزت بعينها وقالت بمرح :
-"إيه يا بابا هو أنا كنت كئيبة ولا إيه؟
وبعدين أنا قررت آخد إجازة يومين أريح فيهم نفسي"
هتفت سهام بسعادة جمة لهذا القرار :
-"كويس قوي ، أهو ترتاحي من الإرهاق اللي كنتِ فيه"
نظر لها والدها بمرة أخرى لكن هذه المرة بجدية وقال :
-"أنتِ وصلتِ لمعلومات جديدة بخصوص رأفت منصور؟
عرفتِ إيه اللي حصل؟"
شردت في مكالمة كريم لها ذلك اليوم وتعجبت من عدم ظهوره منذ ذلك الحين.. متى ظهر ومن أين؟
كيف وصل لرقمها الخاص بالعائلة فقط؟
كانت في بداية إفاقتها من قصتهما سويًا حتى يأتي ويظهر مرة أخرى؟!
لن تسمح له بعد كل ما حدث وكل ما فعلته في حق نفسها أن يدمر ما اجتزته في سبيل أن ترتاح.
انتشلها من تفكيرها صوت والدها يناديها يحثها على الحديث عندما لاحظ شرودها :
-"لا يا بابا مفيش ، النيابة برأته"
نظر لها والدها بتفكير ولكنه لم يعلق ، فنهض بعد أن أنهى إفطاره وذهب إلى شركته.
جلست مع والدتها التي بدت متوترة فنظرت لها بجانب عينها بدهشة من حركتها لتقول :
-"فيه إيه يا ماما.. متوترة ليه؟"
صمتت قليلًا قبل أن تغمز لها تميل عليها تلكزها بخفة في كتفها :
-"حسي الصحفي يقول إن في حاجة وكبيرة كمان يا سهام"
تأوهت بشدة بعد أن لكمتها خلف رأسها فنظرت لها بغيظ تحك مكان اللكمة فنظرت لها أمها بشذر قائلة :
-"احترمِ نفسك يا بنت أنا أمك ، خليكِ جد شوية"
سعلت والتفتت إليها تُثني ساقيها أسفلها متصنعة الجدية :
-"بقينا جد أهو.. إيه بقى يا سوسو اللي موترك؟"
-"بصراحة جايلك عريس.. دكتور كبير في ألمانيا ، ووالده صاحب بابا ووالدته صاحبتي ، أدب وأخلاق ومكانة ، مامته شافتك في حفلة جوز خالتك ودخلتِ دماغها.. ها إيه رأيك؟"
ظلت تنظر لوالدتها بأعين ضيقة ولا يوجد أي تعبير على وجهها فربتت سهام على كتفها تنبهها إلى ما قالته لتعقد بين حاجبيها وهتفت بتساؤل :
-"مقولتيش إيه اللي موترك يا ماما!"
كادت أن تعيد على سمعها ما قالته مرة أخرى فزفرت هدير بملل قبل أن ترفع كتفيها بلامبالاة :
-"ماما اقفلي الموضوع ده ، هو مش في دماغي دلوقتي"
ثم نهضت إلى المطبخ فوجدت كريمة جالسة تقطع بعض الخضراوات من أجل الغداء فأخذته منها وشرعت في تقطيعه قائلة بسلام نفسي وكأن والدتها لم تتحدث معها في شيء :
-"ها يا دادة هنطبخ إيه على الغدا النهاردة؟"
لم تكد تنهي سؤالها حتى دلفت أمها بثورة خلفها.. فهذه عادتها عندما تفاتحها في الموضوع تتركها ولم تتحدث أو ترفض مثلما فعلت.
هتفت بها بغضب تكاد تجذبها من خصلاتها :
-"هدير مش كل مرة نتكلم في الموضوع ده تتصرفي ببرود"
نظرت لها ببرود ثم تابعت ما تفعله ترفع كتفيها بعدم اهتمام :
-"ماما يا حبيبتي أنتِ عارفة إني مش هتجوز بالطريقة دي.. فمن فضلك متفتحيش الموضوع تاني"
نظرت لها سهام شذرًا وهمت بالرد عليها بطريقة تريد بها كسر البرود الذي تكرهه ولكن قاطعتها كريمة مهدئة إياها :
-"اهدي بس يا سهام هانم ، المواضيع دي متتاخدش كده"
تنهدت بيأس تجلس ترى ابنتها تقطع الخضراوات وكأن ما يحدث ليس له علاقة بها :
-"يا كريمة دي رفضت من غير ما تشوفه ، دي عندها تلاتة وعشرين سنة ، اللي من دورها فاتحين بيوت"
تنهدت بيأس من الحديث الذي لم يتغير كلما تقدم لخطبتها أحد فوضعت السكين وأزاحت الطبق للأمام ثم جلست بجانب أمها وقبلت جبهتها قائلة :
-"طب قولي لي حضرة الدكتور موافق إني أكمل في شغلي؟!"
قالت والدتها بخفوت وحذر من ردة فعلها :
-"وأنتِ تحتاجي الشغل في إيه؟
أنتِ هتتجوزي وتسافري وتعيشي ملكة ، يبقى ليه التعب والشغل؟"
قامت تقطع المطبخ جيئةً وذهابًا تعض على شفتيها ، وإصبعها على ذقنها تمشي مدعية التفكير ، تراقبها سهام وكريمة بحذر تتبادلن النظرات بتوتر ، إلى أن صرخت بمرح :
-"مكرونة بشاميل"
فتحتا أفواههن بذهول ، واتسعت أعينهم ، فأمها تحدثها عن الزواج وهي عن ماذا تتحدث؟
إلى أن نظرت لهم فوجدتهم على تلك الحالة ، عقدت حاجبيها بتعجب وقالت :
-"فيه إيه؟
بتبصوا لي كدا ليه؟"
وقبل أن يجيبوا قالت بحماس ترفع الطبق مرة أخرى :
-"يلا يا دادة هنعمل مكرونة بشاميل على الغدا النهاردة ، بابا بيحبها"
صرخت فيها أمها بذهول من جنانها الذي سينهي جزء من تعقلها :
-"هــديــر.. أنا بقول إيه وأنتِ بتقولي إيه؟"
-"فيه إيه يا ماما!
أظن عرفتِ ردي على الموضوع ، أنا شغلي رقم واحد في حياتي قبل عريس الغفلة نفسه ، وخلاص يا ماما أقفلي على الحكاية دي ، وتعالي نشوف هنعمل إيه على الغدا"
هزت رأسها بيأس من عنادها ، فرأسها كالحجر الصوان ، لكنها مثل أي أم تريد الاطمئنان علي ابنتها وتريد أن تراها في بيتها.. لكن بهذا الشكل لن تتزوج أبدًا.
فبالنسبة لسهام
الزواج هو الانتصار الأقوى والمغامرة الأشمل في الحياة ، تستطيعين أن تثبتي فيه كل ما تريدين.
لكن الزواج بالنسبة لهدير
مغامرة لكنه المغامرة الوحيدة المفتوحة للجبناء ، حيث لا يستطيعون ثبات كيانهم إلا بها.
في كلتا الحالتين
قبل ان تبحث عن نصفك الآخر
تأكد من أن نصفك الأول مكتمل ومستعد للنصف الثاني 

بعد انتهائها من تحضير الغداء ، قررت الخروج إلى الحديقة ذات التصميم الأنيق والرائع.. الصخور الموزعة على جانبي درجات السلم الصخرية ، بتوزيع إضاءة رائع ، وأصائص نباتات الزينة يكتمل المشهد المثالي لمن في داخل المنزل أو من يجلس في الحديقة!
يوجد ممر حجري جميل ينتهي إلى حوض السباحة ، وذلك المجلس العربي الجميل والأرجوحة التي تعشقها من الصغر ، بأحواض ورودها التي تعتني بها بنفسها.
وجدت أن ورودها تحتاج أن تروى ، فدلفت إلى الغرفة التي تعتبر مخزن لأدوات الزراعة في الحديقة ، غرفة من الزجاج مكعبة تشبه المشتل ، يوجد بها أحواض لزراعة الورود ، وأدوات للري.
أضاءتها ودلفت تبحث عن إناء الري ، لكنها ما أن تقدمت للداخل و أولت ظهرها للباب فزعت من صوت غلقه فظنته الهواء فلم تلتفت واستمرت في بحثها إلى أن شعرت بأنفاس شخص معها في نفس المكان.
استدارت بحذر تزيح خصلاتها المنتشرة على وجهها ، فتسمرت مكانها ما إن وقعت نظراتها عليه واتسعت عينها بذعر لمرأه أمامها لتهمس بصوت يكاد يسمع :
-"كريم!"
نظر لها نظرات متفحصة وعلى شفتيه ابتسامة خبث ، يعلم أن رؤيته أمامها أصابتها بالخرس.
كما هو لم يتغير به شيء.. طويل القامة بجسد ضخم
ملامح سمراء خشنة ، يزين عظام فكيه الحادين لحية سوداء مهذبة تحيط شفتين حادتين!
عينان سوداويتان تحمل نفس النظرة الخبيثة الناعسة تخفي مكرًا وتلاعبًا طالما كرهتهما يعلوها حاجبان كثيفان وجبين عريض يهبط عليه خصلات شعره السوداء اللامعة!
ظهوره الآن بعد تلك السنوات وبعد ما حدث هنا في بيتها كان صدمة كبرى بالنسبة لها!
الصدمة تحولت إلى بغض ، فاتسعت ابتسامته لأنها لم تتغير فجميع مشاعرها تظهر مليًا في عسليتيها.
فالود لا يخفى وإن أخفيته
والبغض تبديه لكَ العينان
وكل ما يعتمر بداخلها أبعد كل البعد عن الود.. فتابعت بذهول لم ينتهِ :
-"أنت دخلت هنا ازاي؟!"
مال برأسه إلى الجانب ، يتفحصها بنظراته يستكشف أنه لم يتغير بها شيء ، مازالت  الابتسامة على شفتيه ، يراقب حركة حدقتيها المندهشة يهمس بصوته الأجش والذي لم يخرج من عقلها للحظة :
-"أنتِ عارفة إني لما أحتاج أعمل حاجة بعملها ، متهيألي دخول الفيلا موضوع مش صعب"
استعادت شراستها تهتف به بقوة وسبابتها تشير نحو الباب المنغلق خلفه ويستند عليه :
-"افتح الباب واتفضل من هنا مش عايزة أشوف وشك تاني ، أنا ما صدقت إنك خرجت من حياتي.. إيه اللي رجعك؟"
تابعت بنبرة أعلى و وجهها يحتقن من الغضب :
-"اخرج من هنا دلوقتي حالًا إلا والله هنادي على الأمن و أطلب ليك البوليس"
صدرت منه ضحكة عالية وهو يراها هكذا.. منفعلة ، غاضبة ، شرسة
ضحكة لطالما اشمأزت منها وعيناه تحول على جسدها متفحصًا إياها بمجون :
-"يا ترى هتقولي للبوليس خطيبي السابق أتهجم عليا؟"
ليغمز لها بخبث يكمل :
-"متهيألي ملمستكيش.. على الأقل لحد دلوقتي
ولا هتقولي خطفني وأنتِ في بيتك!"
صمت يعقد بين حاجبيه بتفكير مصطنع ثم تقدم ببطء يقترب منها فتسمرت مكانها حتى وقف خلفها وانحنى برأسه يهمس مشيرًا بيده أمام عينيها يرسم خطًا وهميًا في الهواء :
-"هقول ليكِ على حاجة أحلى.. بكرة في الجريدة بتاعتك في الصفحة الأولي ، منشت بالفونت العريض
"الصحفية هدير سالم تواعد خطيبها السابق كريم رأفت منصور في الخفاء في منزلها.. ترى ما العلاقة الجديدة التي تربط بينهما؟
خاصةً بعد الهجوم الذي شنته على أبيه الفترة الماضية؟"
اتسعت عينيها من الصدمة وتسارعت أنفاسها تضغط على فكيها بقوة من تهديده وحقارته ولم تنظر له فتابع همسه وشفتيه تكاد تلامس شحمة أذنها :
-"أظن اللي يخليني أطلع أبويا من قضية توديه ورا الشمس زي الشعرة من العجين ، مش صعب عليا أعمل اللي قولت عليه"
أدارت رأسها بعنف والتمعت عينها بشراسة وشفتيها ترسم خطًا مستقيمًا ثم همست :
-"عاوز إيه يا كريم؟
بتلف وتدور عاوز توصل لإيه؟"
ازدادت ابتسامته المتشفية لرؤيتها هكذا لا تستطيع فعل شيء اتساعًا ، هذا ما أراده كسر القوة التي تحيط بها.. ليكمل بهمس ومازال على وضعه خلفها :
-"اللي عاوزه عملته خلاص وكنت جاي بس عشان أبلغك"
عقدت حاجبيها بحيرة تهز رأسها بتساؤل!
فمد يده بالجريدة لتجد ذلك الخبر الذي ما أن قرأته أتسعت عيناها بصدمة.. والدها!
خسر كل أسهمه في البورصة وعلى وشك إعلان إفلاسه؟
ضحك بقوة وهو يراها غير مصدقة لما تقرأه.. أناملها تتمسك بالجريدة بقوة جعلتها تتجعد ، عيناها الواسعة بذهول وصدرها يرتفع وينخفض بأنفاس ثقيلة.
ليقترب منها وأردف بتشفي :
-"هي دي.. النظرة اللي كان نفسي أشوفها في عينك من زمان"
لم تلتفت له ومازالت عيناها تعيد قراءة الأسطر فأكمل بشراسة وجانب وجه يكاد يلتصق بصدغها ، ويضغط بأصابعه على كتفها:
-"لسه دي البداية.. درس إنك وقفتِ في طريق أبويا وطريقي ، ولسه اللي عملتيه فيا هدفعك تمنه غالي.. غالي قوي يا هدير"
تركها في صدمتها وذهب فجأة كما ظهر.
ظلت تنظر بصدمة في الفراغ أمامها تفكر فيما فعله ، والده يستحق كل ما فعلته به جزاء فساده وعمله الغير شرعي ، يستحق كل ما ناله وما سيناله جزاء ضحاياه الذين يخسرون حياتهم بسبب فساده.
أما الابن فهي تقسم أن ما فعلته به في الماضي لم يكن يستحقه بالفعل ، فلقد كان قليلًا عليه.. كان لابد أن يأخذ أضعافًا مضاعفة.
نظرت مرة أخرى إلى الصحيفة وصورة أبيها في المربع الكبير في يمين الخبر وابتلعت بصعوبة تفكر..
هل أخطأت عندما تجاهلت حديثه معها في ذلك اليوم ليدفع ثمن ذلك الخبر؟
هل تحمل نفسها الذنب الآن؟
★★★★★
-"كده كل حاجة يا رامز بقت واضحة.. اتصل بمندوب الشركة الألمانية وخلص معاهم الإجراءات"
هتف بها مازن للجالس بجانبه على طاولة الاجتماعات فأومأ بتفهم وأجاب :
-"تمام ماشي بس..."
قبل أن يكمل حديثه وجد أسماء تدخل إلى المكتب هاتفة بشقاوة:
-"زيزو حبيبي .."
ولكنها صمتت بخجل عندما رأت رامز يرفع رأسه إليها بتعجب محبب فسعلت قليلًا ثم همست :
-"آسفة معرفش إنك مشغول وكمان ياسمين قالت لي أدخل على طول"
قهقه مازن و نهض مقتربًا منها يحتضنها بحنان مقبلًا أعلى رأسها بترحاب جمّ :
-"حبيبتي أنتِ تدخلي في أي وقت الشركة كلها تحت أمرك"
الآخر يجلس مستندًا إلى كرسيه واضعاً سبابته أسفل ذقنه يتابع الترحاب بأعين عاشقة لملاكه الصغير.. وعقل ممتن لها أنها الوحيدة التي يرى مازن الطفل والحنون معها ليس المتعجرف الذي يراه طوال الوقت.
هي بسمة الفؤاد ، ونجمة السهاد
يعطيها عمره برحابة صدر
فهل يهدى العمر إلا لذات الدلال!
نهض يرفع الملف وهم بالخروج قائلًا :
-" أسيبكم أنا بقى ألحق أتصل بمندوب الشركة"
ألتفت إليها مرحبًا بطريقته المعتادة ، يفسد خصلاتها بيده :
-"نورتِ الشركة يا سمكة"
نظرت له بشذر وهو يخرج كاتمًا ضحكته بصعوبة ، كادت أن تلقيه بكلمات عاصفة مغتاظة لكن ألتفت مازن إليها ضاحكًا يضمها تحت ذراعه قائلًا :
-"سيبك منه أنا هربيه.. تعالي على ما أطلبك نسكافيه"
انتفخت أوداجها تجلس على الأريكة الجليدية الواسعة وجلس بجوارها ، أطمئن عليها وتحدثا إلى أن سألها بلامبالاة مصطنعة:
-"عرفت إنك شوفتِ هدير امبارح في النادي ، مقولتيش أنكم تعرفوا بعض"
ضيقت عينيها رافعة حاجبها بغموض ، ثم ذمت شفتيها بمكر و تقترب برأسها منه هامسة :
-"معرفش ليه كنت حاسة إنك جايبني عشان الموضوع ده.. بس مين اللي قالك إني قابلتها امبارح؟
رامز ولا نادين؟"
ضغط على شفته بغيظ منها ووضع يده خلف رأسها يقربها منه أكثر في حركة تثير غضبها الطفولي قائلًا :
-"أنتِ مبترديش على طول ليه؟"
نظرت له بحنق تبعد ذراعه عنها مدلكة خلف رأسها :
-"خلاص سيب دماغي ، أنا أعرف هدير من قبل ما تعرفها ، امبارح قابلتها صدفة في النادي . ثم إن علاقتي بيها ملهاش دعوة باللي بيكو"
أستند بمرفقه على حافة الأريكة واضعًا أنامله على وجنته قائلًا بسخرية :
-"عايزة تفهميني إن الصحفية اللي نشرت خبر يأذيني في شغلي ، بالصدفة تطلع صاحبتك وملهاش علاقة باللي بيحصل بينا؟"
لن تعطيه الفرصة لإثارة غيظها فوضعت ساق فوق الأخرى وأومأت برأسها بابتسامة بلهاء على شفتيها مجيبة :
-"أه عادي صدفة"
هتف من بين أسنانه :
-"أسماء بطلي استفزاز"
لتهتف هي الأخرى بغيظ :
-"أنت اللي تبطل نظرية المؤامرة دي.. زي ما قولت أعرفها من أكتر من سبع شهور قبل ما تفكر في الخبر اللي نزلته ولقائنا كان صدفة كمان"
كاد أن يرد عليها لكن رامز دلف للمكتب باندفاع قائلًا :
-"مازن عرفت اللي حصل!"
-"إيه اللي حصل؟"
هتف به بدهشة وترقب ليعطيه الجريدة يقرأ ما بها فهتف مازن بحنق :
-"أنا بقيت أتشاءم من الجرايد.. يا ترى في إيه المرة دي؟"
قرأ الأسطر سريعًا لتجحظ عيناه بصدمة عندما علم ما حدث مع سالم ، كيف ذلك؟
فسالم خطاب معروف بأنه ليس لديه أعداء ، وسمعته لا يشوبها شيء ، على العكس فإن كثير من رجال الأعمال تتمنى العمل معه.
كيف أسهم شركته تتعرض لهذا الانحدار؟!
نظر إلى رامز بحيرة ، وقال مطالبًا :
-"رامز تعرف إيه اللي حصل بالضبط ، وإيه صحة الخبر ده؟"
فكر في نفسه :
-"لو الخبر صح ، كل اللي برتب ليه هيبوظ"
ليسترجع اتفاقه مع رامز منذ عدة أيام

همس لرامز الجالس بجانبه على طاولة الاجتماعات يضع سيجارته بالمطفأة :
-"اسمعني يا رامز وأعمل اللي هطلبه منك"
أومئ برأسه منتبهًا لحديث صديقه :
-"سامعك قول ...."
-"تعرض على شركة الخطاب إنها تدخل معانا الصفقة الجديدة"
عقد بين حاجبيه بدهشة ليهمس :
-"شركة الخطاب!
تفتكر يوافق يشتغل معانا خصوصًا أن في توتر بينك وبين بنته؟"
أخرج سيجارة أخرى وأشعلها وقال بنبرة واثقة من بين دخانها :
-"سالم راجل مصلحته فوق أي حاجة ، يعني فرصة زي دي مش هيضيعها من إيده ، بالعكس التوتر ده اللي هيخليه يوافق ؛ عشان يوضح للناس إن مفيش أي نوع من المشاكل"
نظر له يحاول سبر أغوار عقله ، فطالت النظرات بينهما ولم يستشف منه على أي شيء فتنهد بحيرة :
-"ناوي على إيه يا مازن؟"
غمز لصديقه الذي ينظر إليه منتظرًا إجابته ، وهمس ينحني لأذنه هامسًا :
-"ولا أي حاجة ، ناوي أفتح فرع جديد في مجال السياحة ، وحاجة تانية لو ظبطت كل حاجة هتبقى زي الفل"
عاد من تفكيره على لمسة أسماء على كتفه بتوتر بعد أن أخذت الصحيفة منه وعرفت أن هذا والد هدير.. فربت على رأسها بحنان ومازال عقله يفكر.

الحب سبق صحفي " مكتملة "حيث تعيش القصص. اكتشف الآن