Part 24

1.8K 53 2
                                    

الفصل الرابع والعشرون

كالبدر المنير في سمائه الكاحلة
يستمد من ضيائه أمل الحياة
لؤلؤة مصونة تتلألأ وتضيء أعماق بحار قلبه
وتميمة حظه المرسلة كهدية من الله
نشلته من فوهة الضياع.

في دفء أشعة الشمس المنتشرة على العشب الأخضر ، ونسيم الهواء العليل الذي يلحفهما ، تجلس على الأرجوحة الكبيرة تثني ساقيها أسفلها تنظر له بجانبها ممسكًا بكوب العصير يتجرع منه بتلذذ ، ينعم بذلك اليوم الجميل والحياة الجديدة التي بدأ ينعم بها.
تبتسم بسعادة تمسد على خصلاته الكثيفة بحنان فيقابلها بابتسامة حقيقية.. أعطته بضعة أيام لم تتحدث معه عن أي شيء حتى يهدأ ، لكن الفضول ورغبة الاطمئنان بداخلها فاقت الحد فسألته بهدوء :
-"مصطفى ممكن أسألك سؤال؟"
استدار لها بنصف جسده يثني ساقًا واحدة أسفله يوليها كامل انتباهه ظهر بتوسع عينيه ولمعة حدقتيه بشكل أكبر من سنه جعلتها تبتسم بفخر وأكملت :
-"في اليوم اللي اتصلت بيا فيه وجتلك البيت المهجور ، رجالة كريم خدوك فين؟!"
رأت ملامح الخوف تتسلل في عينيه ، ابتلع ما بفمه ببطء ومال يضع الكوب على المنضدة كأنه فقد شهيته مجرد أن تدفقت ذكريات الأيام الماضية في عقله جراء سؤالها.. لكن بجانب الخوف ميزت جانب من القوة في نظراته يشوبها نوع من الكره!!
بنبرة هادئة تتنافى مع ما يلوح على وجهه أجابها :
-"لما ضرب على يوسف نار والرجالة خدونا ، واحد منهم حط على بوقي منديل كده ساعتها محستش بأي حاجة ، ولما صحيت لاقيت نفسي أنا وشوية ولاد في أوضة كلها تراب وطوب وحديد"
لاحظته يتسلل في جلسته نحوها كمن يحتمي بها فأحاطت كتفيه بذراعها تمسد على ظهره بحنان تبثه إياه وتحثه :
-"وبعدين كانوا بيعاملوك إزاي؟!"
-"كنا محبوسين في الأوضة دي واتنين من الرجالة حراس ، الباب مكنش بيتفتح إلا مرتين علشان الأكل ولو حد عاوز يعمل حمام."
-"طب ليه محاولتش تهرب الأيام اللي قبل كده؟!"
هز رأسه نافيًا بطفولة تلك الفكرة هاتفًا :
-"علشان كنت خايف ، هو كان كل يوم بيضربني لما أقوله إني عاوز أروح ليكِ."
جذبت رأسه لصدرها تخلل خصلاتها بأصابعها تقبل أعلاه ونظراتها متسمرة على نقطة أمامها في الفراغ تلوح بها الندم والسخط عليهم جميعهم وعلى نفسها قبلهم أنها ضعفت ولم تقاوم لتنقذه ، اشتعلت نيران الغضب وصورة كريم بابتسامته الساخرة تتراءى أمام عينها فأغمضتهما تهز رأسها تنفض صورته من رأسها ونظرت لمصطفى ثانيةً :
-"طب والمرة دي كان إيه الجديد؟!"
ابتلع ريقه ببطء واثنى ساقيه أسفله يستدير بكامل جسده نحوها يشد على ظهره لأعلى فظهر في صورة كامل الثقة وبدأ يسرد قصة هروبه المشابهة لهروب من براثين الوحوش حتى وصوله لبر أمانه وسعادته ، بدايةً من دخول الرجل وسخريته على زواجها وأنها تخلت عنه ، ثم ضربه له بقطعة الحديدة فأوقفته بدهشة :
-"ضربته بالحديدة؟
أنت قدرت تشيل حديدة وتضربه يا مصطفى؟!"
قهقهة ساخرة صدرت منه أثارت دهشتها وصدمتها أن تلك المشاعر والانفعالات تصدر من طفل لم يتعدَ عمره ست سنوات زادت أكثر عندما قال بنبرة يائسة يملأها الإحباط والسخرية :
-"كانوا يعلمونا إزاي نهرب ، وندافع على نفسنا لو خلاص هنتمسك من حد ، نضرب بأي حاجة قدامنا طوبة حديدة سكينة!!
وكمان كان سكران هو والراجل التاني ، والحديدة كان رفيعة اللي بيبنوا البيوت بيها فضربته على دماغه وجريت."
سلاسته في الحديث وسخريته الصادحة منه تؤلمها وتشعرها بالفشل!!
وأثناء الفشل تهبط الدموع ، إما تتحول إلى شموع تضيء لنا طريق المستقبل ونتعلم من أخطائنا.. أو تغرقنا في بحور اليأس المظلمة.
شعرت بكفه الصغير يمسح دمعاتها التي هبطت على وجنتها..
يربت على كتفها بحنان طفولي ضرب قلبها في مقتل وصدحت لها دفوفه بقوة وأكمل :
-"مع أنك اتأخرتِ عليا ، وكل شوية يقولولي إنك هتتخلي عني ، ولما ورالي صورة فرحك حسيت ساعتها إني لوحدي بعد ما كنت صدقت أنك هتحميني وتنقذيني منهم ، بس مكنتش عاوز أصدق وده اللي خلاني أهرب لحد ما لاقيت عربية نقل كبيرة ركبتها وخليت واحد يوصلني المكان اللي بتشتغلي فيه من ورقة الجرنال اللي كانت معايا."
أحاطت وجهه بين كفيها تستند بجبهتها على جبهته بعد أن طبعت قبلة طويلة عليها بها كثير من الاعتذار والحماية والوعود.
نظرت لعينه وابتسمت من بين دموعها قائلة :
-"خلاص ، كل حاجة خلصت والكابوس ده انتهى.. ودلوقتي أنت معايا مفيش حد هياخدك مني تاني ياروحي."
استقام على ركبته حتى جابهها برأسه يمسح دموعها بحزم وهز رأسه برجاء :
-"خلاص متعيطيش تاني عشان خاطري"
ضحكت بقوة وأومأت موافقة بصمت فأشهر إبهامه على إعجابه بإنصاتها له فجذبته إلى أحضانها تعانقه بقوة مقبلة أعلى رأسه بحنان وحب.
صرير السيارات التي دلفت بقوة جذب انتباههما ، رأته يهبط من السيارة الأولى متخليًا عن سترته ، مشعث الشعر ، متجهم الوجه ، جامد الملامح!!
وقفت لاستقباله كعادتها لكنه لم يتقدم منها بل وقف ينظر لها بغموض وصمت مبهم انعقد حاجبيها له بدهشة وتساؤل ، وقبل أن تتقدم منه التفت تاركًا إياها ودلف إلى المنزل بخطوات نمّت عن غضبه أثارت ريبتها!
شعرت بمصطفى يمسك يدها كأنه استشعر غضب مازن هو الآخر ، فربتت على رأسه وعيناها مازالت على باب المنزل.
تركته يلعب بالحديقة وتقدمت من أحد الحراس تسأله عما حدث فأخبرها :
" الباشا عرف طريق رأفت منصور وكان عنده هو ورامز باشا"
ملأها الذعر  واتسعت حدقتيها بصدمة ، خوف قرع قلبها بقوة مما يكون قد حدث جعله يعود بهذا الشكل؟!
التفتت راكضة نحو الداخل ، لسانها يدعو أن يكون كل شيء بخير ، تسمرت مكانها وصوت تكسير عالٍ وزمجرة شرسة تخرج من قلب يعتمره الحرقة والغضب تصدر من داخل مكتبه ، أمامها والدته تقف خائفة من حالته ولم تجرؤ على الاقتراب من الباب.
ازداد صوت اصطدام الأشياء جعلها تنتفض واضعة كفها على صدرها بخوف لكنها لن تقف مكتوفة الأيدي واقتربت تحاول فتح الباب فوجدته مغلق من الداخل.. طرقت عليه بقوة بكف والآخر على المقبض تلويه مرة تلو الأخرى ، رأسها تلتصق به تريد سماع أي شيء غير التكسير للاطمئنان عليه هاتفة :
" مازن.. مازن افتح الباب قولي فيه إيه؟
مازن من فضلك افتح طمني عليك!!"
صوته العالي جاءها رافضًا :
" مش عاوز أشوف حد ، سيبوني لوحدي"
لم يستوقفها هذا بل زادها عنادًا وتعالت دقاتها وعلىَ صوتها أكثر :
" مش همشي إلا لما تفتح يا مازن ، من فضلك سيبني أدخل أطمن عليك"
هدأت الضوضاء من الداخل وعم الصمت المريب فجأة ، تستمع لخطواته التي تقترب من الباب يدعس الزجاج أسفله..
عادت للخلف خطوة وصوت المفتاح الداخلي وصلها فـ لوت المقبض سريعًا ودخلت.
المكتب مقلوب رأسًا على عقب ، جميع ما كان عليه مكسور على الأرض بجانب المزهريات والأوراق المبعثرة في جميع الأرجاء.. رأته جالسًا على الأريكة وسط كل هذه البعثرة ، يستند بمرفقيه على قدميه مشبكًا أنامله يقبض على كفيه بقوة ، ينظر لها بعينين كنقطتين زرقاوتين وسط بحر من الدماء.
قميصه الأبيض التصق على جذعه من فرط عرقه ، خصلاته مبعثرة وهبطت على جبهته.
تسمرت أمامه لا تعرف ماذا تفعل؟
تريد الاقتراب منه وزرعه في أحضانها ، وفي نفس الوقت تشعر أنه لا يريد لأحد لمسه!!
غريب به شيئًا ما فأرسلت له تساؤلها وخوفها بنظراتها ، فخرج صوته هادئًا ، خافتًا ، بعيدًا كالضائع في السراب :
" كريم طلع أخو صاحبي.. أخو رامز ، أخوه من أمه"
كمن لكمها بقوة على حين غرة ، كلماته كصاعقة كهربية دفعتها للخلف خطوة بصدمة تناظره بتيه وعدم استيعاب هامسة :
" رامز وكريم!!
إزاي؟"
لم يجبها وشرع يكمل حديثه بانكسار ولم يلتفت لرد فعلها:
"رامز مشي.. سابني ومشي!!
أول مرة يغضب ويسيبني بدل ما يجري عليا!!"
صمت انتشر في المكان تحاول فهم ماذا يحدث؟
تدلك جبهتها بقوة ، وعقلها يعقد المقارنات بين الاثنين!
فرق السماء والأرض ، كيف لشيطان أن يكون أخ لآخر يترقى لمكانة ملاك؟
شيطان به كل معاني الخيانة والخبث والشر ، وآخر الأمان والصداقة والاخلاص متجسدين فيه؟
نظرت مرة أخرى إلى زوجها تريد أن تستشف منه ردة فعله ففشلت..
قدمها خانتها وتقدمت بدون إرادة منها نحوه وجلست القرفصاء بين قدميه تضع كفها على مضخته التي تدق أسفل يدها بقوة صدح صداها في جسدها ، وأحاطت عنقه بذراعها الآخر تهمس اسمه بصدمة وتيه ترمش بأهدابها بعدم استيعاب لينظر لعمق عينها بجمود:
"وأنت هتعمل إيه يامازن؟"
" خايف عليه ، خايف ميرجعش..
أنا عارف رامز استحالة أغلط في قرايتي لحد ، أخو كريم أو مش أخوه مش فارق معايا في حاجة ، اللي فارق معايا هو"
ضمته إليها تخلل خصلاته من خلف ، تربت على قلبه تبثه طمأنينة في أشد الحاجة لها ثم شبكت أنامله مع خاصتها وهمست بحزم حنون :
" يبقى هيرجع ، هو محتاج شوية وقت لوحده يستوعب اللي عرفه ، الصدمة مش سهلة عليه يا مازن اعذره"
هز رأسه نافيًا يخفي عينيه بكفه وخرج صوته مخنوق خافت يصدر الخوف والقلق منه :
" مش هيرجع ، مشي عشان مش عاوز يواجه ويلاقي الرفض ، وأكتر حد خايف يواجهه أنتِ"
أنزلت كفه عن عينيه وقبضت عليهما بحزم ونظرت له بقوة تخبره :
" يبقى سيبه يآخد وقته ، يمكن ده اختبار لصداقتكم خلوه يآخد فرصته"
شبك أنامله خلف ظهرها ، استند برأسه على كتفها يتنهد بتعب ، فأحاطت ظهره بذراع تضمه بقوة لداخلها ووضعت الأخرى على رأسه تمسد على خصلاته هامسة له بحنان :
" هيرجع والله هيرجع اطمن"
لولا الصدمات لبقينا مخدوعين لمدة أطول..
هي قاسية لكنها صادقة.. وصدمتها الآن ليست قاسية فقط بل كصدمة طفل يلقي بجسده على والده واضعًا كامل ثقته ليفاجئه بابتعاده فارتطم جسده بالأرض!!
استمعت لحديث أخيها عندما عادت من الخارج ورأت المكتب مفتوح فكادت أن تدخل بمشاغبة كعادتها فصدمتها كلمته أنه ذهب ولن يعود!!
زوجها أخ عدوهم اللدود!!
عادت خطوات للخلف بهدوء وصدمة تهز رأسها برفض التصديق لما يقال!
تلتفت حولها تبحث عن حقيبتها حتى وجدتها فأخرجت هاتفها وبحثت عن رقمه تصل به هامسة لنفسه :
" رد.. رد.. رد!!
أكيد كل ده محصلش ، أنت مش هتسيبني وتمشي!
رد علشان خاطري يا رامز رد"
لم يأتها رد بل صوت آخر يعلمها أن الهاتف مغلق فلتحاول الاتصال في وقت لاحق ، أعادت الاتصال أكثر من مرة فلم يجد نفعًا!
جذبت مفاتيح سيارتها وخرجت راكضة من المنزل تديرها وقادت بسرعة كبيرة!!
بحثت عنه في كل الأماكن التي من الممكن أن يكون بها ، المكتب وجدته خالي
المنزل أخبرها الجيران أنه لم يأتِ
النادي أخبرها رجال الأمن أنهم لم يروه منذ عدة أيام!!
خيبة أمل انتابتها وعادت أدراجها لخذلان إلى سيارتها ، تمسك عجلة المقود بقوة وعيناها متسمرة في الفراغ تهز رأسها بعدم تصديق أنه تخلى عنها وتركها!!
لم يلتفت خلفه ليراها ولم يفكر بها!!
فقط ذهب!
شعرت بالدنيا تدور من حولها ، الظلام يحيط بها يريد جذبها لفوهته فأغمضت عينها واستندت إلى عجلة القيادة لتبدأ في ذرف الدموع وشهقاتها ترتفع أكثر وأكثر..
في نفس الوقت نهض مازن يخرج من المكتب تحت إلحاح من هدير فقابلته والدته تسأله عن أسماء فلقد عادت منذ وقت لكنها لم تجدها!!
اضطرب وصدح الخوف لقلبه..
يبحث عنها في كافة أنحاء المنزل فلم يجدها ، غرفتها فارغة.. مصطفى نائم بمفرده وليست معه!!
خرج للحديقة فلم يعثر عليها لكنه وجد أحد الحراس يقترب منه قائلًا :
" مازن باشا حضرتك بتدور على آنسة أسماء فهي خرجت بعربيتها من شوية"
خرجت!!
تأكد أنها استمعت إليه فهرول نحو سيارته ، يضع هاتفه ينتظر إجابتها وقدمه تدعس على الوقود بقوة يزيد من السرعة يهتف بقلق جليّ عندما انتهى الاتصال ولم تجب :
"ابوس ايدك ردي أنا مش حمل توتر وقلق ، ردي بالله عليكِ قوليلي أنتِ فين"
استجابت لمكالمته فهتف بلهفة :
"حبيبتي أنتِ فين؟
قولي لي مكانك وأنا هجيلك"
لم يصله حديث ، بل شهقات عالية متقطعة وبكاء حاد!
كلمات لم يفهم منها سوى اسمه المنطوق برجاء ولهفة كأنها تستجديه ، فهتف بقلب وجل يقرع بالخوف عليها :
"يا حبيبتي قولي لي أنتِ فين وأنا هجيلك فورًا"
"أنا.. أنا قدام بيته"
زاد سرعة سيارته أكثر نحو منزل رامز ومازال على الهاتف معها حتى لا تغيب عن الوعي.
وصل بعد عدة دقائق فهبط سريعًا تاركًا الباب مفتوح مهرولًا نحو سيارتها يفتح بابها فوجدها تستند على عجلة القيادة ، فأحاط ظهرها بذراع يرفع وجهها بيده الأخرى فنظرت له بوجه شديد الاحمرار ، عينين نظراتهما ضائعة بدموع غزيرة ، تهمس اسمه برجاء فحملها بسرعة يضمها لأحضانه بقوة ، وتقدم من سيارته ليسرع أحد حراسه يفتح الباب الخلفي فدلف وأمره بتولي القيادة0
جلس يضمها كالطفل الصغير تتشبث بعنقه تدفن وجهها بجانب عنقه وشهقاتها لم تهدأ لحظة وهمساتها تخرج متقطعة :
"سابني ومشي يا مازن ، مفكرش فيا!
طب كان يآخدني معاه هو عارف إني مش هتحمل"
قبّل أعلى رأسها مغمضًا عينه ، ولسانه يسب غباء صديقه على ردة فعله التي ستسبب له العقبات الكثيرة مع أخته.
أعاد خصلاتها خلف أذنها يرفع وجهها إليه وسألها :
"أنتِ بتثقي فيا مش كده؟"
أومأت له بضعف فاسند جبهته إلى خاصتها وقال بوعد :
"هيرجع يا روحي ، رامز هيرجع ده وعد"
دفنت وجهها في صدره تشد على إحاطة خصره يذراعها ، فهزها في أحضانه كالرضيع حتى تهدأ0
وصل إلى المنزل فوجدها غطت في نوم عميق من الإرهاق فابتسم بحنان وحملها بهدوء يدلف لها للداخل فاستقبلته هدير ووالدته برفقة مصطفى الذي لاحت في عينيه علامات القلق عليها0
صعد بها إلى غرفتها يمددها على فراشها بهدوء مربتًا على رأسها بحنان ، فربتت هدير على كتفه هامسة :
"سيبها ترتاح وتعالى أنت كمان ترتاح"
تنهد بقوة وأومأ بموافقة يهم بالنهوض لكن تشبث أخته به وهمسها باسمه في نومها جعله يعود في تفكيره وتمدد على الفراش بجانبها يخبر زوجته :
"أنا هخليني جمبها ، خليكِ أنتِ مع ماما"
أومأت بموافقة والتفتت تخرج.. همت بغلق الباب فرأته يرفع جسدها لتنام على ذراعه يمسد على رأسها بحنان تارة ويقبل جبهتها تارة كأنها ابنته وليست أخته ، فابتسمت بحنان واقتربت منه مرة أخرى تشد على كتفه تمسده بحنان مقبلة رأسه وي تهمس له :
"بحبك"
*********
صدمات نقابلها بمشاعر مختلفة
عدم التصديق
الرفض
التقبل
لكن أقساهن ما نقابلهن بالسخرية!
ليصبح الوجع غير مفهوم ولم تجد إلا السخرية للتعبير عنه هو الوحدة بعينها!
دلف للمنزل بهيبة وكبرياء ، يسير بثقة عالية يدور بنظره في المكان المبعثر جراء الاقتحام نحو مكتب والده وعلى وجهه ابتسامة ساخرة رافعًا حاجبه حتى دلف لوالده الذي يجلس خلف مكتبه يضع ضمادة على جرح انفه ، لتتحول ابتسامته إلى ضحكة عالية عندما رآه فأشار له ثم إلى الخارج هاتفًا :
"جرى إيه يا رأفت؟
مش عارف تحمي نفسك؟"
ناظره رأفت بجمود ونهض يتقدم منه يقف مجابهًا لابنه هاتفًا بغيظ من سخريته التي يكرهها :
"سيبك من ده وخلينا في المصيبة اللي حصلت ، مصطفى هرب ومازن عرف يوصل ليا"
جلس على الكرسي يضع ساقًا فوق الأخرى يستند على المكتب واضعًا يده أسفل ذقنه يشيح بالأخرى ويمط شفتيه بلامبالاة :
"وأنا مالي ، مش أنت اللي قولت سيب موضوع اختفاء الواد ده أنا هتصرف فيه؟!
وقولت لك أحميك قولت إيه وقتها؟"
صمت يضيق بين عينيه يحك أسفل فمه بتفكير مصطنع ، ثم نهض يقف أمامه يضع كفيه في جيبي بنطاله يميل برأسه للجانب قليلًا يميل نحو أذنه هامسًا :
"لا أنا أعرف أحمي نفسي.. أنت هتكبر على أبوك!"
عاد برأسه للخلف يبتسم بسخرية ثم ربت على كتفه بنوع من القوة يخبره بتقرير :
"جهز نفسك علشان هتيجي معايا مكان تاني غير ده.. وبالنسبة لمازن سيبه ليا أنا هدفعه تمن ضربته دي"
التفت يخرج فدعس ورقة أسفله ليجذب صوتها انتباهها فنظر لها قابله ظهرها الأبيض!
انحنى يجلس القرفصاء يرفعها يقرأ ما بها فكانت شهادة ميلاد رامز!!
وقرأ نفس اسم والدته أسفل اسم والده المختلف!
عقد حاجبيه بعدم فهم والتفت برأسه لوالده بتساؤل الذي يطالعه بنظرات جامدة وابتسامة خبيثة ، فاستقام يشهر الورقة له :
"إيه ده؟"
كتف رأفت ذراعيه أمام صدره وقال باعتيادية مصطنعة تخفي خلفها خبث كبير :
"زي ما أنت شايف ، شهادة ميلاد أخوك من أمك
رامز منتصر عبد الرحمن وأمه نادية عبد القوي اللي في نفس الوقت أمك"
مط شفتيه بلامبالاة ينظر للشهادة مرة أخرى يومئ برأسه فاستغل أبوه حالة الصمت هذه ليطرق الحديد وهو ساخن :
"لكن أخوك لما عرف رفض ، إزاي أخوه يبقى مجرم"
ضحك بقوة ، ضحكة اهتز لها جسده بأكمله لا يعرف لها معنى!
أهي ساخرة أم تخرج بحرقة؟!
همس بتفكير مصطنع :
"صحيح إزاي؟"
جعد الشهادة في يده ونظر لوالده الذي عاد أدراجه يجلس خلف المكتب ثانيةً يهز رأسه بعدم فائدة ، ينظر له من أعلى لأسفل بسخرية قائلًا :
"حتى اختياراتك لجوازاتك شبهك يا رأفت ، عشان كده مستغربش إني أصحى ملاقيش أمي بردو!!
ما هي سابت ابنها قبل كده ، طبيعي تسيب ابنها التاني وبعدها يجي خبر أنها ماتت في حادثة!!"
انحنى يستند على حافة المكتب يقترب برأسه من رأسه أبيه ، يناظره بقوة وغموض يرتعب له قلب رأفت على الرغم أنه ابنه لكنه يخاف منه ، ومال برأسه للجانب قليلًا وتوسعت حدقتيه مع رفع حاجبه الأيسر فظهر في هيئة شرسة وهمس بتلاعب يغلف ماضٍ مدفون :
"بس يا ترى حادثة فعلًا يا... يا بابا؟"
ناظره بغيظ ، يتنفس بسرعة واحتقن وجهه بالدماء ليضحك ابنه بقوة على ملامحه واستقام ينظر لكرة الورق في يده يشير بها لوالده قبل أن يلقيها أمامه على المكتب ويلتفت يخرج بكبرياء وجسد شامخ دون أن ينتظر حديث آخر من أبيه.
************


أعلنت خطوط دمه عن إقلاع رحلة حبه
الرجاء من مطار قلبها الإذن لها بالهبوط

دقة تلو الأخرى تعصف بداخله كل لها صدى أعلى من التي تسبقها ، يراها تقترب منه برداء أبيض يصل لركبتيها وكمين يصلان لمرفقيها ، بحذاء ذا كعب عالٍ تتهادى به بهدوء على العشب الأخضر حتى لا تسقط ، بخصلات مموجة تصل لكتفيها بغرة كثيفة تغطي نصف وجهها تحمل حقيبة بيضاء مستطيلة تقترب منه بابتسامة هادئة جميلة عصفت بقلبه العاشق.
وجدته يقترب منها بدوره ببذلته السوداء وقميصه الأبيض دون رابطة عنق يفتح أول أزراره كاشفًا عن عنقه الأسمر الطويل ، يشهر كفه إليها فأمسكت به برقة ليرفعه لفمه وقَبل ظاهره بحنان هامسًا :
"خليكِ احلوي وانا أشيط أكتر يا منار"
ضحكت بأنوثة عالية وشاركها الضحك غامزًا لها بعشق وقادها نحو طاولتهما المرصوص فوقها أصناف كثيرة من البيتزا التي تحبها وأكواب من المشروب الغازي المفضل.
فالتمعت عينها بسعادة وتشبثت بذراعه لعدم تصديق ليهتف بمرح يشاغبها :
"لو بتحبيني نص حبك للأكل مش هيبقى فيه حد في سعادتي والله"
لكمته في كتفه بغيظ وجلست على كرسيها فأمسك يدها قبل أن تمتد على الطعام وجلس القرفصاء أمامها هاتفًا من بين أسنانه :
"إيدك مش هتتمد على حاجة إلا لما تقولي إنك بتحبيني أكتر من أي حاجة في الدنيا"
ارتفع حاجبيها بدهشة وتوسعت عينها بعدم تصديق تقول بخفوت وخجل :
"نادر اعقل مينفعش كده"
جذب يدها إليه فمالت بجسدها نحوه تشهق بخفوت ليهمس أمام عينها :
"أنتِ خليتِ فيا عقل.. قولي"
ضحكت بخفوت وهزت رأسها بقلة حيلة منه ثم رفعت نظرها تبثه حب وعشق يزداد يومًا عن يومٍ تضع كفها فوق وجنته بحنان تهمس :
"محبتش ولا هحب غيرك ، ومش هحب حاجة أكتر منك ، أنت الوحيد اللي في قلبي واكتفيت بيك"
لا يجد ما يجيبها به إلا الصمت الطويل يتخلله غرق بعينيها!
حبها كالبحر الواسع وهو لم يكن ماهرًا بالسباحة
يعلم أنه إن اقترب سيغرق لكنه غامر بكل ما يملك آمنًا أن موجها لن يضيعه
بل سينتشله إلى بر الأمان.
جلس على ركبتيه يكور وجهها بين يده يعيد غرتها إلى الخلف يقبل جبهتها بقوة مبتسمًا بعشق وله :
"خلاص مبقتش قادر أتحمل ، عاوز نحدد معاد كتب الكتاب والفرح ، عاوز أتجوز بقى قولتلك تعبت من أكل برا يا منار"
امسكت بساعديه وضحكت بقوة تهز رأسها بعدم تصديق منه وقالت :
"هنعمل فرح ازاي ورامز مختفي يا نادر؟"
"هيرجع.. لما يعرف إني هتجوز هيرجع"
قالها بثقة عالية أثارت دهشتها قبل ضحكاتها ، لتنظر له بعد أن هدأت وأومأت له بعشق :
"موافقة"
*********


دائمًا هناك أمل وإن أُغلقت كل الأبواب في وجهك
لا تنطفئ من خيبة أو عثرة أوجدها الله في طريقك!
في كل حزن وضيق حكمة من الله لأقدارك!
إن أغلقوا كل المداخل لا تقف
إن أطفئوا نور النهاية لا تقف
إن ألقوا الأشواك او نثروا الحصى أو أوقفوك في كل شيء لا تقف!!
وهي لم تتوقف عن الأمل ، حتى بعد مرور أكثر من أسبوع على اختفائه دائمًا هناك هاتف يخالجها أنه سيعود!
لم تمل من مراسلته ، مهاتفته ، البحث عنه والوصول له بكافة الوسائل!
لم تيأس للحظة وتتوقف عما تفعله بل استمرت حتى ولو باءت بالفشل!
ممددة على فراشها ، هاتفها بجانبها تنظر له كمن تنتظر اتصاله ككل يوم منذ ذهابه.
تشعر اليوم أنها ستراه بالرغم من عدم وجود أي شارة أمل!!
صوت رسالة وصلتها جعلتها تنتفض جالسة ، تفتحها لتجدها من رقم مجهول بداخلها عنوان ما ، شعرت انه من أرسله لها.
يريدها
يحتاجها
يستجديها للذهاب له
انتفضت من فوق الفراش نحو الخزانة تخرج ثياب خروجها وتبدل ملابسها بأسرع ما يمكن ثم جذبت مفاتيح سيارتها وهاتفها وخرجت تهرول نحو الأسفل.
قابلتها هدير ومازن الذين انتفضا على ركضها فسألتها عما حدث لتخبرها بإرساله عنوان لها عن مكان وجوده فانتفض مازن في وقفته وكاد أن يصعد هاتفًا :
"ثواني هلبس وأجي معاكي"
أوقفته بإمساكها من مرفقه تهز رأسها برفض قائلة بنضوج أثار إعجابه :
"سيبني أروح أنا لوحدي ، هو محتاجني يا مازن..
عشان خاطري سيبني أروح لوحدي"
تردد بين تركها تذهب وبين قلقه على صديقه ورغبة الاطمئنان عليه ، لاحظته هدير فاقتربت تتخذ القرار عنه ومسدت ذراع أسماء قائلة :
"روحي له يا أسماء ، روحي"
ابتسمت لها بامتنان واستدارت تركض للخارج ، فنظر مازن لزوجته بغيظ لتضحك :
"لو كان مستعد يقابلك كان قالك مكانه ، لكن هو محتاج ليها"
تنهد بعمق وقلة حيلة ، وأحاط كتفيها بحنان مقبلًا رأسها.
عدة دقائق ووصلت إلى العنوان في أحد الأحياء القديمة ، وهبطت من سيارتها أسفل إحدى البنايات التي عاث بها الزمن تركض إلى الداخل ، تصعد الدرج المهترئ إلى الطابق الثالث.
وقفت أمام الباب تتنفس بعمق وقلبها دقاته تتسابق بين أضلعها ، تنظر للباب الذي يفصل بينها وبينه قبل أن تتنفس بعمق تبث نفسها القوة وترفع قبضتها تدق عليه بخفوت.
خطوات متريثة تقترب من الداخل وصوت المفتاح الداخلي يعلن عن فتحه ليظهر أمامها حبيب القلب ومعشوق الروح لكن بشكل مختلف لم تره من قبل.
شعر مشعث ، ملابس غير مهندمة ، ذقن غير حليقة لم تزرها ماكينة حلاقة منذ فترة.
نظرات فارغة يائسة اختفى مرحها ومشاكستها وحل مكانهما الاحباط واليأس.
دمعت عيناها لمرآه بهذا الشكل ونظراته ترسل لها الاشتياق والاعتذار فهو في أمّس الحاجة لها!
ترسل الرجاء لانتشاله من فوهة ضياعه ، يمد كفه المرتعش لها لتهمس اسمه بحرقة وشوق تلقي نفسها بين أحضانه تتعلق برقبته تضمه بقوة ، هامسه بأذنه بمدى اشتياقها إليه :
"وحشتني.. وحشتني وعتبانة عليك قوي"
دفن وجهه في تجويف عنقها بصمت ، يريد فقط حضنها لا يقدر على الحديث ولا الحركة.
فقط يريد الاستكانة بين يدها ، يريدها أن تأخذه لبر أمانها.
فإذا عاد الحبيب تكون عودته بمثابة عودة الروح للجسد بعد انفصالها عنه..
لتبدأ ترانيم الحياة باللقاء ، والجاذبية الروحانية!
فيحلو كل مُر ، ويعذب كل مالح
تلمع العيون ببريق الأمل
تعزف أوتار القلب أعذب الألحان
ويأتي الربيع فيذيب كل الآلام وتتلاشى الأحزان
تتلون الأشياء بألوان الزهور وتتعطر برائحة السعادة ، فيشعر أن له جناحان قويان يطير بهما ويعلو فوق السحاب
حيث لا عتاب ولا عذاب
ينهل من الحب بلا حساب
فما أحلى لقائها بعد فراق وغياب!!




الحب سبق صحفي " مكتملة "حيث تعيش القصص. اكتشف الآن