الفصل الثامن عشر
الانكسار حزن كلهيب الشمس
تجيبه العيون بنثر مائها تطفئ لهيب الذكريات
لسانه الدموع
حديثه الصمت
ونظره يجوب السماء .
كالحب تعجز الحروف عن وصفه
كالعين الجارية التي بعدما أخضرّ محيطها نضبت
قابعة بين يده لا يفصلها عما يريد فعله بها سوى رحمة الله بإرسال تميمة إنقاذ لها ، صرخت بكل ما يعتمر قلبها من رعب وقلق علّ صوتها يصل لهؤلاء الحراس الموكلين لحمايتها لكن لا رد!!
قبضتها تدفع كتفيه عنها ، رأسها يتحرك في كل الاتجاهات بعيدًا عن مرمى شفتيه ، دموعها ترسم أنهارًا على وجنتيها المحتقنة بالدماء ، بين كل نفس والآخر شهقة تخرج من طيات جوفها المحترق تفتح بها مسار الهواء للتنفس حتى لا تختنق.
يراقبها بتشفي وجمود ، دفعها وتحركها لم يؤثرا به بل ظل مثبتًا إياها ملتصقًا بها ، منتشيًا بما يراه من ضعف ورعب أثاره بداخلها ، يشبع عينيه وروحه من تفتت قوتها التي كانت تثير غيظه وحنقه بها.
ضحك بجنون ممسكًا برسغيها خلف ظهرها يسيطر على حركتها بين يديه ، يقترب بأنفه من وجنتها حتى اختلطت أنفاسهما مما أثار رغبة التقيؤ بداخلها ، يهمس أمام شفتيها بتشفي :
-"كمان.. اصرخي كمان وبأعلى صوت عندك ، محدش هيجي لك ، محدش هينقذك مني"
لم تستمع له ، لم تسمع أي كلمة مما قالها بل ظلت شفتيها تتحرك باسم مازن حتى لو لم يخرج صوتها.
صدح هاتفها الملقى بجانب قدمها باسمه ، فنظر لها بابتسامة قبل أن يعيد النظر إليها :
-"شكله سمعك وأنتِ بتنادي عليه ، خلينا نطمنه"
أحاط خصرها بذراعه وانحنى يرفع الهاتف يدقق في اسمه وصورته التي تضعها ، قَبَل المكالمة وفتح مكبر الصوت ليصلهما صوته
-" هدير ...!!"
لم يصله أي إجابة ، لم تستطع أن تخرج صوتها ، حاولت ولم تفلح..
وصلها صوته باسمها مرة أخرى ليجيبه كريم هذه المرة :
-"بصراحة هدير مش هتقدر ترد عليك ولا على أي حد ، بس أنا حبيت أطمنك"
صدمة حلّت على رأس مازن عندما تعرف على صوته!
كان في اجتماع خاص برفقة مالك العمار للاتفاق عما تبقى بالعقود الخاصة بشركته ، لكنه شعر أنه بحاجة إلى سماع صوتها ، يريد الاطمئنان عليها ، يشعر بحاجتها له فاستأذن قليلاً ليتصل بها منتظرًا صوتها الذي يصله ككل مرة ، لكن كريم هو من أجاب؟
ناقوس خطر دق في قلبه قبل رأسه ، وعشرات السيناريوهات تُصنع في عقله عما جمعهم مجددًا؟
همس بأعين محتدة ، نظرات ثاقبة ، وقلب تتسارع نبضاته بجنون قلقاً وشراسة :
-"هدير فين يا كريم؟"
-"بين إيدي.. في حضني.. نفسي على رقبتها ، شفايفي على شعرها ومفيش أي حد معانا"
همس بفحيح ومع كل كلمة يقربها منه أكثر ، وبين كل كلمة والأخرى يحرك رأسه معها ، يستنشق عنقها ، يتلمس خصلاتها ، قبضته تشتد على خصرها فتأن بألم وضعف ، أنين وصل كالسهم المارق في قلب المستمع بشراسة له ومع كل كلمة تشتعل نيران قلبه ، وجزء من عقله يكاد يفقده عما يفعله بها!
سمع همسها باسمه فصرخ لها ألا تقلق وتظل بكامل وعيها عندما لاحظ الضعف في صوتها ، وصله ضحكات كريم الساخرة فكانت القشة التي قسمت ظهر البعير .
اقتحم مكتبه بعاصفة انتفض لها الجميع بدهشة وتساؤل خاصةً رامز الذي فطن أن كارثة قد حدثت ، يأخذ مفاتيح سيارته ويهرول للخارج غير عابئ بنداء رامز من خلفه.
هتف به بوعيد ويده تقبض على هاتفه حتى ابيضت مفاصله والأخرى تضرب أزرار المصعد بقوة :
-"ورحمة أبويا لو لمست شعرة منها هولع فيك حي"
وصلته ضحكاته القوية تلتها صرخة هدير العالية .
صمت لا يعلم ما حدث؟
أنفاسه تعالت ، عيناه احتقنت بالدماء ، وصوته لا يجده.. فلم ينتظر المصعد وركض نحو الدرج يهبط عشرة طوابق بقفزات وخطوات مهرولة يقسم له بوعيد :
-"أقسم بالله لو حصل لها حاجة موتك على إيدي يا كريم"
جلس كريم القرفصاء يمسك الهاتف بيد يضعه أمام فمه ، واليد الأخرى يتسند بها على ركبته ممسكًا بمسدسه الذي ضرب به جانب جبهتها فسقطت صارخة تتلوى من الألم وخط من الدماء يهبط بجانب عينها مرورًا بوجنتها وعنقها!!
يتابع هبوطه يتحرك معه بفوهة مسدسه دون أن يلمسه ، وصوته يصل إلى ذا الأنفاس اللاهثة :
-"عندي استعداد آخدها حالًا ومتلمحش الشعرة اللي بتتكلم عليها دي ، بس عارف إيه اللي هيحرق قلبك أكتر؟
إني أسيبها ليك بالمنظر ده"
استقام يرمقها تتلوى يمينًا ويسارًا وعيناها غائرة تائهة تحارب حتى تبقى مستيقظة لكن فجوة الظلام تسحبها إليها بقوة ، وأنينها يصدح بضعف وألم تضغط بقوة واهية بكفها على الأرض حتى تنهض لكن جسدها يعود للسقوط مرة أخرى!
أكمل حديثه بجمود :
-"رسالة بسيطة ورد صغير على اللي حصل ، اعتبرها بداية"
أنهى حديثه بعد أن أعطاه العنوان المتواجدة فيه ، ثم أغلق الهاتف ملقيًا به بجانبها بابتسامة عبثية تخفي تشفي كبير ، والتفت يخرج من المكان لكنه توقف قليلًا يذم شفتيه بخبث تبعتها ابتسامة غامضة ومد أنامله يفتح أولى أزرار قميصه واستدار لها يقترب منها يجلس خلفها ورفعها في أحضانه بدون أي حركة منها ولا شعور ثم أخرج هاتفه وبدأ بتصوير مقطع فيديو صغير لهما يلمسها بطريقة حقيرة ماجنة ، يزيح قميصها من فوق كتفها مقبلًا إياه وعنقها ، ثم تركها ونهض ينهي المقطع بغمزة عابثة منه وأرسله إلى مازن في رسالة.
خرج من المكان يركب سيارته وانطلق في طريقه منتشي بما فعله ، تاركًا إياها مستسلمة تمامًا للظلام الذي يمد كفه لها تضع به يدها برحابة صدر.
وعند مازن ما إن أغلق الهاتف كان قد وصل للأسفل ، فركض بأقصى سرعته نحو سيارته يديرها فأصدرت صرير عالٍ انفلج لها الحراس ليتفرقوا نحو سياراتهم يلحقون به .
طوال الطريق قدمه لم تُرفع عن دعس زيادة المقود حتى كاد الخزان أن ينفجر من شدة السرعة ، يحاول الاتصال بحارسيها لكن لا رد!!
حاول الاتصال بها علها من تجيبه لكن ينتظر حتى ينتهي الرنين ولم يتلقَ أي إجابة.. أوقفه رسالة من رقم مجهول ليظهر أمامه هذا المقطع!!
جحظت عيناه من الطريقة السافرة التي يلمسها بها ، هو من يتحكم بها وهي فاقدة الوعي.. فقذف الهاتف على الكرسي بجانبه وزمجر بقوة وقدمه تدعس الوقود يزيد من السرعة أكثر ، يتفادى الكثير من السيارات وكسر الكثير من الإشارات حتى يصل إليها بأسرع وقت!
وصل إلى المنطقة النائية ، لمح سيارة حراسه على جانب الطريق فأمر الأخرين بتفقد الأمر.. وصل إلى البناية المصفوفة أمامها سيارتها ، ألقى نظرة خاطفة عليها قبل أن يركض للداخل آمرًا ما تبقى معه من حراسه بعدم الدخول معه.. لا يعلم لمَ؟
لكنه شعر أنها في وضع لا يسمح بأحد أن يراها هكذا غيره.
نادى باسمها بأعلى صوته بلا مجيب ، دار بنظره بطريقة مجنونة يبحث عنها حتى سقطت عيناه عليها!
ملقاة على الأرض الترابية ، خصلاتها تغطي وجهها فلم يظهر منه أي شيء ، جسدها تغمره الأتربة ساكن فاقدة الوعي لا حول لها ولا قوة!
صاعقة ضربته جعلته يتسمر للحظة في مكانه ، شعر بأنفاسه تتوقف ، نبضاته تنخفض ، عيناه جحظت بذهول!!
أسرع نحوها وانهار على ركبته يضع يده خلف رأسها يرفع جسدها لأحضانه ، يبعد خصلاتها عن وجهها فرأى جرح جبهتها والدماء تغطي نصف وجهها بالكامل ، جرح آخر بجانب شفتيها وجيدها المتورم وبقع حمراء مطبوعة عليه ، هبط بنظره فلاحظ تمزق ملابسها!
يراقب كل هذا والدماء تتفجر في رأسه من الغضب ، لكن من يراه يدقق النظر له يشعر بحزنه من عينيه المحتقنة بالدماء ، تغطيها طبقة لامعة من الدموع لم يستطع السيطرة عليها فهبطت دمعة يتيمة على وجنته.
ربت على وجنتها هامسًا بهوس ورعب :
-"هدير.. هدير فوقي مش هيحصل ليكِ حاجة.. هدير"
كانت في رحلتها إلى الظلام فلم تستمع إليه ، ولم تفطن لوجوده ، خلع سترته وألبسها إياها ثم حملها وأسرع بالخروج من المكان.
هتف في حارسه بعنف :
-"اطلع بينا على البيت بسرعة"
ثم نظر لآخر :
–"اتصل بالدكتور خليه يحصلنا على البيت"
دلف إلى الكرسي الخلفي مجلسًا إياها بين أحضانه ، بين كل حين والآخر يشعر بانتفاضتها بين يده من وسط إغمائها فيهتف لحارسه بالإسراع ويضغط عليها في أحضانه أكثر يبثها الأمان والطمأنينة أنها الآن معه.
الأبيض المحيط بحدقتيه الزرقاء استحال للون الدماء ، نظراته متسمرة في الفراغ حتى الآن لا يصدق ما حدث ، يضغط على أسنانه بقوة كلما تذكر رؤيته لها ملقاة بهذا الشكل ، ممزقة ، مجروحة ، فاقدة الوعي!!
صوت إنذار صدح في مخيلته يتساءل هل هذا أقصى ما فعله كريم أم تمادى إلى نقطة الـ لا رجوع؟!
نبضاته تسارعت.. عيناه جحظت من القلق.. وناقوس الخطر يشتد طرقه في عقله فنظر لها يعيد خصلاتها للخلف يهمس لحارسه بدون وعي :
-"اطلع على المستشفى مش البيت ، وقول للدكتور يستناني هناك"
أومأ الحارس بسرعة وغيّر مسار طريقه إلى المشفى ، فاحتضنها مرة أخرى يهمس بأمل :
-"هتبقي كويسة.. مش هيحصل ليكِ حاجة إن شاء الله"
وصل إلى وجهته فهبط مسرعًا حاملًا إياها ، فكان الطبيب بانتظاره مع مجموعة من الممرضات وفراش متحرك ، تلقوها منه وأسرعوا إلى الغرفة الخاصة بالفحص .
دخلت وظل يرمق الباب المغلق بقلب وجل ونظرات مترقبة متلهفة ، فربت الطبيب على كتفه مطمئنًا :
-"اطمن يا مازن كل حاجة هتبقى تمام"
لم يجبه بشيء ليتركه ويدخل لفحصها..
دقائق مرت عليه يقطع الممر جيئةً وذهابًا ، يكاد يفقد الوعي من شدة قلقه ولسانه لم يكفّ عن الدعاء وبث الأمل لنفسه أنها ستكون بخير .
انتفض على صرختها الهستيرية ، وبكائها الحاد الذي لم يفهم منه سوى أنها ترفض اقتراب أحد منها ، هرول للداخل دون سابق إنذار يقتحم الغرفة فجأة فيرى الطبيب يحاول مسك يدها كي يقيس نبضها ، فصرخت به باهتياج مبتعدة إلى نهاية الفراش :
-"إياك تلمسني أنت فاهم!"
أسرع إليها يمسكها من كتفيها يضمها إليه محاولًا السيطرة من خوفها وقلبه يهبط لقدمه على خوفها بقوله :
-"اهدي يا حبيبتي أنا هنا ، ده الدكتور هيكشف عليكِ علشان الجروح اللي في راسك دي ، مش هيأذيكِ أنا معاكِ"
أمسكته من ملابسه تحتمي به وتخفي وجهها في صدره تهز رأسها رافضة تقول بخوف وفزع :
-"ابعده يا مازن ، أنا مش عايزاه هنا.. مش عيزاه يلمسني.. مش عايزة أبقى هنا ، خدني يا مازن وامشي عايزة أمشي"
أمسك وجهها بين يده يجبرها على النظر إليه ، بعدما أشار له الطبيب بالمحقن في يده ينوي حقنها به.. لا يعرف ماهيتها لكنه دقق النظر في عينها قائلًا :
-"هدير.. محدش هيقرب منك يا حبيبتي أنا هنا معاكِ ، متخافيش"
نظرت له بأعين زائغة تائهة وصمتت حتى أنها لم تشعر بوخزة الإبرة عندما وضعها الطبيب في وريدها.. لتهدأ ثورتها وانفعالاتها ويتهدل كتفيها براحة.. فوضع رأسها فوق الوسادة برفق مقبلًا جبهتها ، وخرج مع الطبيب يستفهم منه عن حالتها ، فقال بهدوء :
-"انهيار عصبي حاد..
أنا حقنتها بمهدئ علشان ترتاح ، واللي شوفته أنها متعلقة بيك وبتحس بالهدوء معاك ، وده هيساعدها إنها تخرج من حالتها دي بسرعة"
اقترب منه وبوجه ممتعض وسؤال حاد متخليًا عن دور الطبيب يحدثه بقلب أب يعرفه منذ سنوات ويرى زوجة ابنه بهذه الحالة :
-"ودلوقتي أنا عاوزك تقولي إيه اللي حصل ليها بالضبط؟!
إيه اللي وصلها للي هي فيه ده؟
دي مضروبة بحاجة حادة في دماغها بس الحمد لله ربنا سترها ومفيش مضاعفات ، جسمها كله كدمات وشبه اعتداء عليها"
كل كلمة تصدر منه يشرح حالتها تسقط معها جزء من ثبته وتحرق الباقي من قلبه وتماسكه ، رفع كفه يفرك وجهه بغضب وقهر حتى استمع للطبيب يكمل :
-"أنا مش هقدر أسكت على اللي حصل ، لازم أبلغ"
منعه من مرفقه وعيناه استحالت للشر ، يقرب وجهه منه بنظرات شرسة ونبرة هامسة :
-"مفيش جنس مخلوق هيعرف باللي حصل.. مرات مازن السيوفي مش هيجي اسمها في محاضر بوليس ، واللي حصل أنا هعرف أخد حقه كويس"
تنهد الرجل بضجر ونظر له بامتعاض يعلم من هو ، وما يستطيع فعله؟!
صمت ولم يتحدث ، يلاحظ انفعالاته التي تتغير كل لحظة ، يرى شبح التردد على وجهه ونظراته التي تحول في المكان إلى أن اتخذ قراره وسأله :
-"طمني الموضوع مجرد كدمات وضرب بس ولا....."
صمت لا يستطيع نطقها ، ليس لأنه لا يقدر لكن لا يريد أن يضع احتمال ولو بالحديث أن يكون "اغتصبها"
فهم الطبيب ما يريد قوله فربت على كتفه يهز رأسه بنفي :
-"لا اطمن كل الحكاية اعتداء بالضرب وآثار تحرش ، لكن اغتصاب فعلي محصلش هي سليمة"
زفر براحة أنها بخير ، جملته كانت كنسمة هواء رطبة محملة برزاز مياه أعلى نيران مشتعلة فأخمدتها قليلًا .
أكمل الرجل حديثه بطريقة عملية :
-"أنا كتبت لها على مهدئ كويس تآخده وإن شاء الله هتبقى كويسة.. هيخليها تنام ده أحسن عشانها"
أومأ له ولم يتحدث بل أسرع إلى الداخل متلهفًا لرؤيتها والاطمئنان عليها!!
نائمة لا تعي لما يحدث حولها ، أسلاك المحاليل المغذية والأجهزة الطبية موصلة إليها.. اقترب منها يمسك كفها يقبل ظاهره قبلة طويلة مغمضًا عينيه يبث لها كل ما يعتمر قلبه من قلق تبعه راحة مؤقتة..
غضب مشوب بحبه لها.. وآخره اعتذار!
رفع رأسه يقترب من وجهها ، يقبل الجرح بجانب شفتيها يستند على جبهتها التي أحيطت بضمادة بيضاء تخفي جرحها ، يهمس وأنفاسه الحارة تلفح وجهها ، ودمعة واحدة تسقط على جفنها المنغلق :
-"الحمد لله إنك بخير.. الحمد لله إنه مقتلكيش لآخر نفس!!
والله لو كان حصل إيه مكنتش هستغنى عنك ، بس حبيت أطمن عشانك أنتِ ، علشان متكرهيش نفسك وتكرهي كل حاجة ، علشان تلاقي حاجة تقويكِ وتقويني"
أزاح الأسلاك عنها وحملها برفق يضمها إليه بحنان وخرج من الغرفة بل من المبنى بأكمله غير عابئ باعتراض الممرضات ولا غضب الطبيب أن ما يفعله لا يصح.
هي لن تبقى لحظة في المشفى ، منزله سيجهزه بكل ما تحتاج إليه وقبل أي شيء وجوده!
دلف إلى سيارته وأمر الحارس أن يتجه للمنزل.. وضع ذقنه على رأسها وعينيه على الطريق بجانبه..
نار تشتعل في قلبه منذ أن سمع صوته يجيبه..
رعب اجتاحه عندما سمع صرختها المتألمة وأنينها الضعيف..
وعيد وانتقام أقسم عليه بداخله عندما رآها بهذا الشكل..
سيجعله يتمنى الرحمة ولن يطالها..
سيجعله يتمنى الموت ويدعو به ولن يطاله .
سيذيقه الأمريّن ، سيمحي وجوده بعد أن يريه عذاب الجحيم على الأرض.
شعر بها تنكمش بين ذراعيه وهمسها يصل إليه بلا وعي :
–"قتله.. كريم.. مصطفى.. قتله.. مازن"
ظلت تهذي باسمه ليمسك رأسها يدفنه في صدره ، يهبط على جانب جبهتها يقبله بقوة ، يهمس لها علّه يطمئنها أنه موجود :
–"أنتِ معايا ، محدش هيعملك حاجة ، متخافيش أنا جمبك"
كررها أكثر من مرة فاستكان جسدها براحة حتى وصلا إلى منزله.
هبط يحملها ودلف إلى الداخل ، يصعد الدرج برفق حتى وصل لغرفته ، وضعها بهدوء على الفراش وكاد أن يستقيم فوجد كفها متشبث به بقوة حتى أثناء فقدانها الوعي ، كأنها لا تريد الانفصال عنه!
جلس بجانبها بحرص يضمها إليه ، يرمق سترته التي مازالت ترتديها يعلم جيدًا أنها تخفي أسفلها آثار ما حدث لها ، فمد يده بحذر وقلق مما سيري!
قميصها ممزق تظهر من تحته علامات حمراء على عنقها وجيدها ، هبط بأنامله يرفع حافة كنزتها البيضاء قليلًا فظهرت آثار أصابع على خصرها تحولت للون الأزرق.
أغلق السترة مرة أخرى يضغط عليها بيده حتى ابيضت مفاصله ، أنفاسه تتسارع من الغضب ونظرات تحمل رعب العالم أجمع في عينيه الزرقاء ، حاول إفلات ملابسه من قبضتها ، وأراحها برفق فوق الوسادة وذهب إلى غرفة أخته يخرج بعض الملابس التي تناسبها ، وجاء بطبق به ماء وقطعة قماش فيه ثم عاد مرة أخرى إليها.
وضع ذراعه أسفل ظهرها يرفعها إليه برفق ، وأزاح السترة من عليها أتبعها بالقميص الممزق ، وشرع ينظف لها جسدها من الآثار والأتربة ، وعيناه تتحول للاحمرار من شدة غضبه ، من فكرة أنه لمسها بتلك الطريقة القذرة!
يعلم أنه لم يجرؤ على فعل شيء مشين لها!
لو أراد فعلها لم يكن يعطيه العنوان بل لم يكن سيحدثّه من الأساس!
لكن لمسها.. ضربها.. تعذيب روحها.. رعبها الذي شعر به من أنينها وصرختها ، كل هذا يفتت من روحه وقلبه.
ألبسها ملابس أخته ثم أراحها فوق الوسائد والتقط زجاجة العطر يحاول إفاقتها ، حاولت فتح عينها وفشلت ، رمشت عدة مرات حتى تعتاد على الضوء ، نظرت حولها بتيه وجبين متغضن من الألم والصداع الذي عصف بها إلى أن وقعت عيناها عليه يطالعها بقلق..
لم تشعر إلا عندما هبطت دموعها على وجنتيها بصمت ، تضغط على أسنانها بتشنج ، فتنهد بصوت مسموع يمد ذراعه يرفع رأسها برفق إلى صدره ، ويده تتغلغل خصلاتها ضاغطًا عليها بقوة ، يبثها من قوته وحمايته لتتشبث به بدورها وشهقاتها ترتفع عند تذكرها ما حدث.. أمسك وجهها بين كفيه ينظر لعينيها بحنان بالغ ، وهمسة مطمئنة :
-"بس خلاص متخافيش ، محدش هيقرب منك تاني ولا يأذيكِ ، أنتِ معايا هنا ، مش هسمح لمخلوق يعمل فيكِ حاجة..
خلاص اهدي يا حبيبتي اهدي"
جسدها ينتفض من شهقاتها ، أنفاسها متقطعة ، ترمي بنفسها بين ذراعيه تحاوط عنقه خوفًا أن يكون مجرد حلم ، وشرعت تقول بصوت باكِ ومحشرج :
-"قتل طفل!
طفل ملوش أي ذنب ولا له حول ولا قوة ، قتله بدم بارد من غير ذرة رحمة.."
صمتت لم تستطع التكملة وشهقاتها ترتفع بصخب ، فزاد من ضمه لها يربت على شعرها ملقيًا لأذنها كلمات كي تهدأ :
-"متفكريش في أي حاجة.. مفيش حد هنا غيري أنا وأنتِ ، كفاية عياط بالله عليكِ اهدي"
ظل يلقي الكلمات على مسامعها إلى أن عادت للنوم من جديد فتركها بعد أن أحكم الغطاء عليها و هبط إلى الأسفل يتقدم من حراسه الذين طلب منهم تفقد حارسيها ، وقف أمامهم يسألهم وعينه تبحث في الأرجاء عنهما :
-"أومال هما فين؟ إيه اللي حصل بالضبط وليه عربيتهم كانت واقفة على الرصيف؟"
نظر الرجلان لبعضهما بحزن أثار ريبته وجعله يتأهب في وقفته فنطق أحدهما :
-"لاقينا العربية مضروب عليها نار ، والاتنين سايحين في دمهم فيها ، نقلناهم على المستشفى بس واحد مات والتاني في العناية المركزة"
أغمض عينه متألمًا يشعر بالغضب والحزن ، فقد كانا من أفضل رجاله ولذلك وكلهما بحمايتها.
سؤال واحد يعصف بعقله.. ما الذي جعلها تذهب إلى هناك؟
مقتل حارسه وإطلاق النيران عليهم يؤكد أنه مخطط له حتى يمنعهما من الوصول إليها!
أومأ لهما وطلب منهما متابعة المشفى وإخباره بكل جديد عن حالة حارسه الحرجة لحين زيارته له ، والإسراع بإخراج تصريح دفن الآخر.
ذهبا ينفذان ما طلبه ، فوضع يد على خصره واليد الأخرى مررها بين خصلاته بغضب يتذكر كلمات هدير التي هذت بها ، حاول ربط الاحداث ببعضها ولكنه ليس في حالة تسمح ، عليه أن يطمئن عليها أولاً ثم يسمع منها ما حدث!
وجد سيارة أخته تدلف إلى المنزل فوقف يستقبلها وما إن رأته صرخت بمرح وهرولت إليه ، فاحتضنها بابتسامة بين ذراعيه يقبل أعلى رأسها فهتفت بمرح :
-"مازن وحشتني.. لا أنا مش هسافر تاني وأبعد عنك"
"وأنتِ كمان يا روحي"-
قالها مربتًا على رأسها بحنان مقبلًا جبهتها ، فقد عادت لتوها هي ووالدتهما من السفر حيث كانت ميرفت تقوم ببعض الفحوصات الروتينية كالعادة.
التفت لوالدته التي وقفت بجانبه وضمها إليه بحنان :
-"وحشتيني يا ست الكل ، طمنيني عليكِ عاملة إيه؟"
ضمته بدورها تربت على صدره :
-"الحمد لله يا حبيبي.. أنا بخير!
أنت عامل إيه وفين رامز؟"
-"أنا الحمد لله.. رامز في الشركة هيخلص ويجي على هنا أكيد"
دلفوا إلى المنزل فهتفت أسماء بمكر :
-"طبعًا استغليت سفرنا أسوء استغلال وهيصت فيه أنت وهدير مش كده؟"
تنهد بتعب يضع يده في جيب بنطاله وتطلع إليهم يقول :
-"هدير فوق في أوضتي"
توسعت عيني الاثنتان بدهشة ، وشهقت أخته بصدمة مصطنعة واضعة كفيها على وجنتيها هاتفة :
-"في أوضتك!
هي حصلت!
هي أه مراتك بس مش للدرجة دي يعني!
والأستاذ رامز إيه نظامه كان جايب هو كمان بنات في الأوضة اللي جمبك!
أه ما هو مبقاش بيت بقى كباريه"
ضحكت ميرفت على جنان ابنتها التي اختبأت خلفها عندما تحولت ملامح مازن للشراسة رافعًا قبضته ينوي جذبها من خصلاتها على جنانها ، ثم نظرت له بجدية تسأله :
-"سيبك من المجنونة دي.. هدير مالها؟"
-"هدير تعبت جامد ، انضرب عليهم نار والحراس اللي وراها في المستشفى.. وهي دلوقتي في أوضتي فوق الدكتور لسه ماشي من عشر دقايق"
شهقت أسماء بفزع ، وتساءلت والدته بخوف وقلق :
-"إيه اللي حصل لكل ده؟"
كادت أسماء أن تسرع لتراها تهتف بقلق وخوف :
-"هروح أطمن عليها"
أوقفها من ذراعها وقال بتصميم :
-"معلش يا أسماء هي نايمة دلوقتي ، سبيها ترتاح ولما تصحى أبقي أدخلي ليها"
طلب من والدته الاتصال بسهام والدتها ، حتى يقوم بإخبار والدها كي لا يقلقا عليها ،ولكن بعد أن تفيق.
مر بعض الوقت وصعد مرة أخرى إليها بعدما تأكد من إفاقتها ، فوجدها تجلس على الفراش ، تضم ركبتيها إلى صدرها تحيطها بذراعيها ، تضع رأسها عليه تنظر نحو الشرفة بصمت وشرود ودموعها تهبط بلا دخل منها وكأنها لا تشعر أنها تبكي ، جلس بجانبها يمد يده يدير وجهها إليه ، ومسح دموعها بإبهامه هامسًا لها وعيونه ترسل إليها نظرات مطمئنة :
-"عايزك تعرفي أنك معايا.. عاوزك تطمني"
استندت بذقنها على ذراعيها تنظر لنقطة ما خلفه بشرود وتيه كأنها بعالم آخر ، تردف بصوت محشرج هامس :
-"لمسني.. أذاني.. قالي كلام مقرف!
لمسته كانت زي النار اللي بتكويني يا مازن ، قرفانة من نفسي قوي"
نظرت له وحدقتيها تتوسع تزامنًا مع هز رأسها بنفي تعود للواقع خطوة خطوة :
-"مكنش أنت.. كريم مش أنت!
كان بيقارن نفسه بيك بس أنا محستش بالأمان معاه ، حسيت بنار وقرف من ناحيتي ليه ، استحالة يكون أنت!"
كلماتها تزيد من اشتعال نيران قلبه ، وجعها يدس خنجرًا في طياته لكن نظراته كانت مشجعة حتى تكمل ما تريد سرده ، يستمع لها بهدوء حاول التمسك به وذراعه يحيط بكتفها يشد عليه.. صمتت ثم دفنت وجهها في كفيها تهز جسدها للأمام والخلف برتابة تتمتم :
-"صرخت بأعلى صوت مليان وجع وقهر يمكن يكون عنده قلب ويبعد عني لكن هو حيوان!
صرخت علشان الحراس يدخلوا لكن مفيش رد!
صرخت باسمك علشان تحميني زي ما وعدتني ، وزي ما توقعت أنت جيت.. اتصالك أنقذني"
أظافره كادت تخترق باطن كفه من شدة ضغطه على قبضته من الغضب ، يتمنى أن يهرول إليه يحرقه حي جراء كل كلمة خرجت منها ، ليس من السهل عليه أن يستمع لما تقوله ولا رؤيتها هكذا ، لكنه يتحمل علّ هذا يريحها ولو قليلًا.. آهة عالية صدحت منها شقت صدرها ، وضمت نفسها تستند بجبهتها على ركبتها هامسة :
-"أنا انكسرت يا مازن!
فيه حاجة اختفت معرفش إيه هي؟
كنت بحاول أفوق من ضغط الفترة اللي فاتت علشان يجي هو يكسرني!
دم الطفل مش راضي يروح من خيالي.. ومصطفى!!
خدوه معرفش عنه حاجة"
صمتت بعدها تغلق عيونها بشدة من الألم ، فجذبها إلى أحضانه فجأة يقبل عنقها بشدة ، ذراعيه يمسدان ظهرها يتغلغلان خصلاتها يمسد رأسها بحركات دائرية ، يرفع رأسه عن عنقها يقبل رأسها وجبهتها كأنه يعتذر لها عن تأخيره وشعوره بالتقصير.. يحاول التحكم في غضبه كي يجعلها تهدأ يشدد من ضمها إليه وهمس لها :
-"وحياتك عندي هجيبه من تحت الأرض ، هخليه يتمنى الموت من اللي هعمله فيه.. هخليه يندم ويلعن اللحظة اللي فكر يحط ايده عليكِ فيها"
شددت من ضمها له وتابعت قولها بنفس نبرتها :
-"مش هيسكت يا مازن ، ده شيطان مش بني آدم"
أعاد خصلاتها إلى الخلف بكفيه ، وأردف بتصميم يستند بجبهته إلى جبهتها :
-"والشيطان أخرته الحرق يا هدير ، وحرقه على ايدي خليكِ واثقة فيا"
-"أنا واثقة فيك.. واثقة فيك"
تمتمت بها بهمس أشبه بالهذيان ، فهزها بين أحضانه برتابة كالطفل الصغير ثم همس لها :
-"أسماء هتموت من القلق عليكِ وعاوزة تدخل وأنا مانعها ولا مدير المدرسة ، هتقدري تقابلي حد؟"
نظرت له بتردد وتساؤل فطن له ، فانحنى يقبل كفيها وأردف بتصميم :
-"متقلقيش قولت لها حادثة بسيطة ، استحالة هقبل أن حد يشوفك بالمنظر ده أو يعرف حاجة حتى لو كانت أمي أو أختي..
اللي حصل محدش هيعرفه غيري أنا وأنتِ وبس"
تطلعت إليه بامتنان ، وأشاحت بنظرها للأسفل متنهدة ثم عادت بنظرها إليه وقالت بلهفة :
-"طب بابا وماما!
لازم اطمنهم"
مسد على كتفيها مطمئنًا :
-"متقلقيش.. أنا هتصل بيهم دلوقتي و أخليهم يجوا هنا ، بس أدخلك أسماء الأول"
نهض يفتح الباب ولم يكد يخطو خطوة واحدة حتى اندفعت أسماء للداخل تقفز بجانب هدير تجذبها لأحضانها ، وصوت مختنق خرج منها قلقًا عليها :
-"دودو أنتِ كويسة؟
حصلك حاجة طمنيني؟"
تسألها ويدها تستكشف جسدها تطمئن عليها ، فربتت على كتفها باطمئنان مبتسمة بتصنع :
-"ولا حاجة يا حبيبتي اطمني"
احتضنتها مرة أخرى فناظرهم مازن بابتسامة قبل أن يخرج يهاتف أسرتها حتى يأتوا ، ثم أتصل بنادر يطلب منه المجيء هو ومنار على وجه السرعة ، يريده اللآن أمامه ، فأخبره أنه في حدود ساعة أو ساعتين وسيكون عنده .
بعد مرور نصف ساعة كانا قد وصلا إلى منزل مازن ، فاستقبلتهم والدته ودلفا إلى الداخل.
هتفت سهام بقلق وقلبها يحدثها أن مكروهًا أصاب ابنتها :
-"فين هدير؟
طمني يا مازن بنتي مالها!"
سأله والدها بنبرة يشوبها القلق :
-"إيه اللي حصل يا مازن؟"
نطق بنبرة هادئة محاولًا طمأنتهم :
-"مفيش حاجة يا عمي.. كل الموضوع أن هدير تعبت شوية وهي دلوقتي كويسة"
-" وهي جت هنا ازاي؟"
سأله سالم بشك وقبل أن يجيب مازن قاطعته سهام بلهفة وحزم :
-"مش مهم جت هنا ازاي؟
المهم أني أطمن على بنتي ، هي فين؟"
أخذهم مازن كي يطمأنوا عليها ، فما أن رأت سهام ابنتها تستند إلى الوسادة خلفها ، وتنظر إلى الشرفة بشرود همست باسمها وهي تقترب منها بخطوات راكضة ، استدارت هدير على اسمها لتجد أمها أمامها ، مدت ذراعيها إليها ودموعها تأخذ مرساها على وجنتيها فضمتها أمها لأحضانها تقول بلهفة :
-"مالك يا حبيبتي فيكِ إيه؟!"
دفنت وجهها في صدر أمها تهرب من الجميع كما كانت تفعل في طفولتها عندما يحزنها شيء ، أو تخاف من شيء ، تهرول إلى أمها تقبع في أحضانها تحتمي من العالم أجمع.
لا يوجد مكان في العالم آمن مثلما هي قابعة الآن!
استشعرت خوف ابنتها فضمتها أكثر ، وهمست بلهفة تمسد على خصلاتها :
-"مالك يا روحي إيه جرى ليكِ؟"
التقطت عيناها بعين مازن الذي كان واقفًا خلف والدتها ، يشير لها بأنه لم يخبرهم بشيء ، فابتسمت له امتنانًا لما فعله.. ورفعت عيناها لأمها تطمئنها :
-"اطمني يا ماما.. تعبت شوية والحمد لله بقيت كويسة ، بس كنت عاوزة أحضنك"
جلس والدها بجانب أمامها ، ووضع كفه على جانب وجهها بحنان يسألها :
-"حبيبة بابا ، أنتِ متأكدة إنك كويسة؟"
أومأت بصمت تخرج من أحضان والدتها وترتمي بأحضانه فقبل رأسها بحنان ، ليتابع والدها يمسد على شعرها :
-"يعني هتقدري ترجعي معانا البيت!"
هتف مازن من خلفه فجأة يقول بتصميم وإقرار :
-"لا.. هدير مش هتمشي من هنا .
هدير مراتي ، وهتفضل هنا معايا"
أردفت والدتها بتوتر :
-"ازاي بس يا مازن تفضل هنا ، ولسه الفرح متعملش؟"
-"معلش يا أمي ، بس أنا مش مراهق علشان تخافي على مراتي مني...
أظن أنا لو عايز أتمم جوازي منها مفيش حاجة كانت هتمنعني طول الفترة دي كلها"
وقف سالم بهيبته أمامه ، وطالعه بنظرات طويلة غامضة قبل أن يردف :
-"لو مش واثق فيك ، مكنتش أديتك أغلى حاجة عندي"
جلست والدته على الجانب الآخر من الفراش تمسد على ظهرها :
-"هدير بنتي قبل ما تكون مرات ابني ، فمتقلقوش عليها وهي معايا"
قضت والدتها معها عدة ساعات أوصت فيها مازن على الاعتناء بابنتها طالما ستبقى هنا وتوجهت بحديثها إلى زوجها :
-"أجّل السفر يا سالم ، مش هينفع نسافر ونسيب البنت كده"
كانا قد خططا للسفر لمدة أسبوع لعمل فحوصات طبية ضرورية للاطمئنان على قلبه وميعاد الطائرة في المساء ، فرفعت نظرها لوالدتها تهز رأسها برفض ممسكة بكفيها تخبرها بصوت محشرج :
-"لا.. التحاليل دي مهمة لبابا ولازم يعملها وأي تأخير هيضر بيه ، سافروا أنا هبقى كويسة"
كاذبة!
تعلم أنها تنطق بهذه الكلمات وهي نفسها لا تصدقها!
روحها منهكة ، قلبها ممزق ، بداخلها ضلع مفقود انهار وانهار معه تماسكها وقوتها ، ولم تقو على رؤية والدتها تعذب وهي تشعر أن بها شيء ، مهما حاولت أن تخفي لن يفهمها غير أمها .
أرادت الاعتراض عاقدة حاجبيها بتعجب لما تقوله ، فنظرت هدير لمازن تريد المساعدة فاقترب من سالم يضع كفه على عضده يشد عليه :
-"هدير عندها حق.. طالما التحاليل مهمة ملوش داعي التأخير وكلها أسبوع وترجعوا وأنا هحطها في عيني أطمن"
حال سالم بنظرة بين زوجته وابنته التي تحثه على الموافقة ، فتنهد بقلة حيلة وأومأ بموافقة يحثه على حمايتها لحين العودة من سفره مقتربًا من ابنته يقبلها من رأسها مربتًا عليها بحنان.
ظلت سهام بجانبها تحتضنها تمسح على ظهرها حتى سكنت بين ذراعيها تتنفس بهدوء ظاهري لكن بداخلها هناك دخان أسود ينتشر.. نيران قهر مشتعلة تتمكن منها .
مر بعض الوقت وذهب والدها برفقة والدتها إلى المطار للسفر ، وفي نفس اللحظة وصل رامز بسيارته خلفه نادر برفقة منار الذي بعد مكالمة مازن له هاتف رامز قلقًا يريد أن يطمئن بأن كل شيء على ما يرام ، فأخبره بأمر خروجه من الشركة وتركه الاجتماع فجأة مهرولًا إلى الخارج لا يعلم شيئًا مما يحدث ، كما أنه حاول الاتصال به فلم يجب.
كان قد أنهى الاجتماع مع مالك وانطلق إلى منزل مازن فتقابل الاثنان في نفس الوقت أمام البوابة .
لاحظا سيارة تخرج من البيت وأسرة هدير بداخلها ، فدلفا يجدا مازن يتحدث في هاتفه في الحديقة ، تقدما منه فعقد رامز حاجبيه متسائلًا :
-"هو سالم خطاب كان هنا ولا إيه؟"
حال نادر بنظره بينهما بتعجب وحدثه يخبره أن شيئًا يحدث :
-"فيه إيه يا مازن إيه اللي حصل؟"
تنهد بقوة يحيل بنظره إليهم ثم توجه بحديثه إلى منار القلقة التي اقتربت منه تميل برأسها بتوتر ونظراتها تقدح توترًا :
-"هدير حصل ليها حاجة؟!
قولي إنها بخير"
-"هدير هنا.. اطلعي لها أول أوضة على اليمين في الدور التاني أنتِ أكتر واحدة محتاجة لها دلوقتي"
اتسعت عينها بصدمة وأنفاسها تسارعت بخوف ، لم تنتظر وأسرعت بأقصى ما لديها للداخل حيث هي .
طالعها نادر بنفس صدمتها يقترب من مازن يرمش عدة مرات يحاول أن يفهم :
- "هدير هنا؟
مازن قولي فيه إيه مالها؟"
تقدم نحو الباب الداخلي يهتف لهم :
-" تعالوا معايا على المكتب ، الكلام هنا مش هينفع"
دلفوا إلى غرفة مكتبه ، وقف رامز ونادر بجانب بعضهما متأهبان لما سيقوله.. تخلى نادر عن سترته وبقى بقميصه الأزرق يرفع كميّه حتى مرفقيه ، ورامز الذي كتّف ذراعيه وجلس على ذراع الأريكة .
أغلق مازن الباب وتقدم يستند بظهره على حافة المكتب ، يمسكها بقبضتيه بقوة ينحني برأسه قليلًا ثم نظر لنادر بقوة انعقد له حاجبان الأخير :
-"إيه حكاية مصطفى دي يا نادر؟"
تأهب في وقفته يضيق بين عينيه ، يضغط على شفتيه بقوة وعلم أنه طالما وصل الأمر إليه فقد تسببت هدير بمشكلة كبيرة لها ، بدأ يسرد له بداية من رؤيتها له هي ومنار ومادة الهيروين التي يوزعها ، تعلقها بذلك الطفل وتحويل الشعور بداخلها من مجرد سبق صحفي وقضية جديدة تفتحها ، إلى شعور التعلق به ومحاولة إنقاذه من براثنهم.
-"وليه ممنعتهاش يا نادر؟!
ليه موقفتهاش أنها تكمل في الطريق ده وأنت عارف إن أخرته كوارث؟"
هتف مازن بغضب بعدما استمع لهذا الذي لا يعلم عنه شيء ، بعد أن وعدها بعدم التدخل في عملها معتمدًا على وجود نادر بجانبها وأنه سيمنعها من إيقاع نفسها في المشاكل إلا إذا اضطر للدخول بنفسه ، فأجابه نادر بقوة ونظرات غاضبة :
-"وأنت إيه أوحى ليك إني ممنعتهاش؟
هدير كانت عاوزة تفتح الكلام في مقالاتها وأنا منعتها.. منعتها تكمل في الحكاية دي وهي وعدتني أنها مش هتتكلم وكل اللي هتعمله هتشوف الولد كل فترة وخلاص"
كاد أن يهتف به بغضب فصدح رامز من خلف نادر بقوة يسيطر على انحراف دفة الحوار إلى الغضب :
-"ممكن تهدوا وتبطلوا خناق!!
مازن فيه إيه ما تنطق وتقول إيه اللي حصل؟"
نظر له بأعين تقدح شذرًا لكنه لم يكن يراه أمامه ، كل ما يراه هو المقطع الذي أرسله له وهي بين يديه!!
مظهرها الرثّ ملقاة بلا حول على الأرض!!
يسمع لصوتها الصارخ في المشفى ، بكائها بين ذراعيه ، ووصفها لما حدث بمجرد كلمات أوقدت النيران أكثر في قلبه!!
الآن بدأت خطوط ما حدث تتجمع في يده ، كريم خلف توزيع هذه المخدرات!!
خلف هؤلاء الأطفال ولا يستبعد أن يكون استخدمهم لجذبها إلى المكان!!
لكن هناك حلقة مفقودة لا يعلم ما هي؟!
سرد لهما ما حدث من مهاتفته لها ورد كريم عليه إلى أن وصل هناك ورآها فاقدة الوعي ، مضروبة في جبهتها ونقله للمشفى ثم أتى به إلى هنا مستثنيًا محاولة اعتداءه عليها وإرساله المقطع .
انتفض رامز من موضعه بعدم تصديق يفغر فاه وأعين متسعة لا يعلم ماذا يقول؟
ونادر الذي اهتز قليلًا في وقفته لا يستوعب ما يقال.. لقد تركها في الجريدة وذهب هو ومنار ليحدث كل هذا في الساعات التي غاباها!
رفع يده يعيد خصلاته للخلف بغضب هاتفًا :
-"هو إيه؟
مش ناوي يتهد بقى؟
أنا مش فاهم هو عاوز إيه من هدير مكفهوش البلاوي اللي سببها ليها "
طالع مازن غضبه بغموض و بنصف عين ، يحاول التحكم في رغبته بتوجيه لكمة لوجهه يجعله يصمت عن ذكر أمر يتعلق بزوجته بهذه اللهفة حتى لو كان هو من جاء به وشاركه في المشكلة ، لكن غيرته ترجمت في كلماته التي نطق بها :
-"مش شايف أنك لهفتك وغضبك بالطريقة دي مش في محلها!"
طالعه ببلاهة وحاجب مرتفع ، وتوسعت أعين رامز بعدم استيعاب لجملته إلى أن فطنا لمغزاها ينتبهان إلى نظراته النارية فعلما أنه يشعر بالغيرة.. لكن رد فعل نادر طبيعي فهدير صديقة الطفولة وأخته ولهفته بحكم السنوات التي قضوها سويًا برفقتهما منار .
اقترب من مازن بخطوات رزينة مدققًا النظر في عينيه يريد توجيه لكمة له بسبب غباءه وغيرته اللامنطقية في هذا الوقت يراقبه رامز متمنيًا أن يفعلها.. تحدث من بين أسنانه :
-"بص يا مازن ، أنا عارف أنك بتحبها وعارف أنك بتغير وده إن دل على شيء فيدل على حبك لهدير.. بس عاوزك تحط في دماغك حاجتين اتنين"
استمع له بحاجب مرتفع فأكمل :
-"هدير أختي وتقدر تقول تربيتي من وإحنا عندنا أربع سنين.. خوفي خوف أخوي وصداقة أنا مع هدير في فرحها وحزنها حتى في مشكلتها مع كريم أيام خطوبتها وخيانته ليها كنت أنا ومنار جمبها ودلوقتي أنت اللي استلمت المهمة دي تحميها وأنا واثق فيك"
ثم دنى من أذنه هامسًا مربتًا على عضده بنوع من الحدة :
-"والحاجة التانية إني خاطب وفرحي خلاص قرب ، وبعشق حبيبتي فبلاش الأفكار دي لأنها مش صح ولا وقتها المناسب.. تمام!"
طالعه بحدة وغيظ وكاد أن يرد لكن أوقفه صوت رامز الهادر من خلفهم بحنق :
-"نسيب البلوة اللي اسمها كريم واللي عمله ونمسك أن كل واحد بيغير على مراته ولا خطيبته!
ممكن تقعدوا أنتو الاتنين خلونا نشوف حل في الكارثة دي ونشوف هنعمل إيه؟"
طالعه مازن بدهشة وحاجبين معقودين وكأن نبت له قرون يقترب منه :
-"نشوف هنعمل إيه؟!
أنا عاوز كريم من تحت الأرض يا رامز ، عاوزة تحت رجلي أدفنه حي"
تنفس بعمق يعلم ما يعيث في جوف صديقه لكن الأمور ليست هكذا ، يشعر باشتعال نظراته ونيران قلبه يضع نفسه مكانه لو حدث هذا لأسماء لن يكتفي إلا بتقطيعه إربًا حتى تهدأ نيرانه.. نظر له بقوة :
-"أنا حاسس بيك ، لكن المواضيع متتاخدش بالطريقة دي"
أمسك مازن مزهرية كريستالية يلقيها بعنف في الحائط يتزامن معها هتافه الغاضب :
-"أومال تتآخد ازاي؟
أنت عارف شعوري إيه؟
شعوري وهو بيكلمني وبيضحك.. وأنا شايفها مرمية قدامي مضروبة في دماغها سايحة في دمها!
حراسي مقتولين ومضروب عليهم نار!
محدش معاها!
يعني لو مكنتش وصلت ولا اتصلت بيها كان يا عالم هيحصل فيها إيه؟"
ضغط رامز على أسنانه صامتًا يقبض على كفيه بشدة وحرقة صديقه ينتقل له يشعر به ، ينظر لنادر الذي يتنفس بغضب وحقده على كريم يزداد وتصوير مازن لحالة هدير تزيد من غضبه.
تقدم منه يمسكه من مرفقه هاتفًا به بحدة :
-"مازن فوق.. عارفين وحاسين باللي أنت فيه ، لكن رامز معاه حق!
مكالمة كريم ليك واللي عمله معناه إنه مبقاش فارق معاه حاجة وهيبقى عامل حسابه لأي خطوة منك وخصوصًا إنه عارف إنك هتتصرف بطيش ودافع انتقام لهدير"
جسده يهتز تحت قبضته من الانفعال ، صدره يعلو ويهبط من لهاث أنفاسه فتقدم رامز منه يشد على كتفه :
-"كريم الوقت ده مش هنلاقيه بالساهل ، هيعرف يختفي كويس بس هيراقب كويس ردود فعلك.. لازم تهدى وتهدي هدير الأول تبقى جمبها الفترة دي وسيب لينا أنا ونادر نلاقي الزفت ده"
أومأ نادر على حديث رامز ، ينظر لمازن بثقة أن يترك لهما زمام الأمور الآن.. فهدير تحتاجه هذه الفترة أكثر من أي أحد ، فلا يشوش عقله بالتفكير في اتجاهيين معاكسين .
★★★★★
كل ما بداخلي أصبح حطام مبعثر
أصبحت أشلاء
كورقات الكتاب المتناثرة فوق صفحات البحر
الخوف من المجهول تمكّن مني
أصبحت أسيرة البكاء بعد أن كنت أمقته
وللأسف!!
فقدت إحساسي بالأمان!!
فكر وإحساس يعبث بداخلها وهي ساكنة بأحضان ميرفت التي تمسح على ظهرها بحنان.. فوجهت حديثها إلى أسماء دون أن تنظر لها وكأنها تحدث نفسها تخبرها بضعف :
-"منار.. عايزة منار ، اتصلي بيها خليها تيجي يا أسماء"
في تلك اللحظة كانت منار وصلت للطابق الثاني تدور بعينها باحثة عن الغرفة التي أخبرها بها ، وصل صوت هدير إليها تسأل عنها فلم تنتظر لحظة أخرى واندفعت للداخل بعنف وقلق التفتت له الأنظار.. وجدتها قابعة بأحضان ميرفت بجانبها أسماء التي نظرت لها بابتسامة قائلة :
-"أهي منار يا ستي جت على السيرة"
نهضت ترحب بها وتحتضنها بسعادة تلقتها منار برحابة وعينها لم تهبط عن صديقتها ، وسلّمت على والدتها التي أخذت أسماء وخرجت تاركة لهما المجال سويًا .
ألقت الحقيبة على الأريكة وأسرعت نحوها عندما مدت ذراعيها لها لتقترب والدموع تأخذ مجراها على وجهها ، تحيطها بين ذراعيها تضمها إليها بذعر وهي تراها بهذا الشكل المنهار وتلك الضمادة تحيط رأسها.. ظنت أنه حادث لكن جروح وجهها ، كدمات رقبتها التي لاحظتها عندما أعادت خصلاتها للخلف ويدها تتحرك على كتفيها ووجهها ورأسها برعب ، عيناها تتسع بصدمة فقد تركتها سليمة وسألتها بلهفة :
-"إيه حصل لك؟
أنا سيباكِ كويسة جرى لك إيه؟!
مين عمل فيكِ كده؟"
ضمت رأسها لها ثانيًة تهزها بين يدها تهمس وكأن أصابها مس
-" لا لا لا أنتِ مش كويسة ، وكنت حاسة إن فيه حاجة حصلت.. قولي لي مالك؟"
شددت هدير من ذراعيها حول خصرها وتركت لشهقاتها العنان كي ترتفع تبكي بقهر ، تريد الصراخ لكن لا صوت.. لسانها ينطق بنبرة هستيرية باسم واحد عندما يذكر يأتي برياح الكوارث والمصائب خلفه
-" كريم.. كريم يا منار.. كريم "
اتسعت عيناها برعب وشفتاها تتحرك لا إراديًا باسمه وناقوس القلق يدق بقلبها لدرجة أنها شعرت بنبضاتها تقرع بأذنها ورأسها هامسة
-"عملك إيه؟
أنا سيباكِ في الجريدة وصلك ازاي؟"
ببكاء حاد ، ودموع منهمرة ، ونبرة تكاد يختفي صوتها شهقاتها تقطع حديثها بين الحين والآخر.. سردت لها ما حدث بدايًة من مكالمة مصطفى لها يريد منها الذهاب إليه ومفاجأتها بوجود كريم ، مرورًا بمحاولة اعتداءه عليها واتصال مازن الذي تعتبره تميمة إنقاذها ، حتى عدم شعورها بأي شيء بعدما ضربها بمؤخرة مسدسه على رأسها لتسقط مغشيًا عليها ولم تفيق إلى في المستشفى برفقة مازن!!
كانت تستمع لها بنظرات تائهة بلا شعور وعدم تصديق وكأن ما تسرده يتمثل أمامها.. يا الله وصلت حقارته لهذه الدرجة؟!
الدماء انسحبت من وجهها ، نظراتها تسمرت في الفراغ وفكرة واحدة مسيطرة على عقلها أنها كادت تفقد هدير اليوم!!
ضمتها لها بشدة تربت على رأسها برفق معاكس لما تشعر به تهمس بخفوت وعدم وعي ، تحمل نفسها ذنب ما حدث
-" ياريتني ما خرجت.. ياريتني ما سبتك ومشيت.. ياريت كنت فضلت معاكِ أو أخدتك معايا غصب عنك!!
أنا اللي غلطانة ، أنا السبب إني مكنتش موجودة.. أنا السبب حقك عليا أنا آسفة والله حقك عليا"
ظلت تهذي بتلك الكلمات وجسدها يهتز برتابة ، دموعها هبطت بلا وعي وضمتها تشتد حول هدير القابعة في أحضانها كمن تحميها من شيء واهٍ ، هزت له الأخيرة رأسها برفض على ما تحمله لنفسها من ذنب ، فكل الخطأ يقع على اندفاعها وتهورها كالمعتاد فدفنت رأسها في صدرها تهمس
-"لا مش أنتِ ، مش أنتِ السبب أنتِ لا يمكن تأذيني"
أغمضت منار عينها ورفعت رأسها لأعلى تضغط على شفتيها بقوة تسيطر على شهقاتها التي تحارب للخروج ، فهي الآن بحاجة لقوتها حتى تساند تلك المنهارة التي تحتاج إليها ، اسندت وجنتها على أعلى رأسها ودموعها تبلل خصلاتها هامسة بدعاء
-" منه لله ، ربنا ينتقم منه.. ربنا ينتقم منه في أغلى حاجة عنده.. منك لله يا كريم حسبي الله"
ثم قبلت أعلى رأسها وأكملت
-" متخافيش أنتِ بخير وهتبقي بخير ، كلنا جمبك ومعاكِ.. وأنا معاكِ متقلقيش"
شددت من ضم نفسها إليها تستنشق الأمان من رفيقة دربها حتى غلبها النوم فاستكان جسدها وشعرت منار بثقله لتراها غرقت في سلطانه ، فأعادتها للخلف تسند رأسها على الوسادة ترفع الفراش لتدفئتها ، وظلت بجانبها تملسّ على خصلاتها ولسانها يتحرك بآيات وأدعية لحمايتها وتحصينها .
★★★★
مكان مظلم.. صرخات لطفل تعرفه ينادي اسمها ويستنجدها لإنقاذه.. صوت خطوات خلفها وأنفاس جعل جسدها يشمئز منها ، فانتفضت تنظر خلفها.
شبح مظلم بهيئة رجل طويل القامة ينظر لها بأعين ذئب ، وابتسامة ماكرة أظهرت عن أسنانه البيضاء بأنياب حادة يقترب منها بخطواته.
دلف إلى بقعة الضوء فظهر لها كريم يناظرها بمكره الكريه ، يده تمتد كي تلمسها ، تحتضن نفسها وتعود بخطوات للخلف لكن قدمها كأنها التصقت مكانها فلم تستطع الحركة ، حاولت الصراخ لكن صوتها لم يخرج .
وما إن كادت أنامله تلمسها حتى انتقضت مستيقظة تلهث بشدة ، تضع يدها على صدرها تهدئ من روعها.
نظرت حولها بذعر وحبيبات العرق تتجمع على جبينها تجد أنها ما زالت في غرفة مازن ، جالسة على فراشه ، فالتفتت إلى جانبها فلم تجد أحد ، دارت بنظرها في المكان فرأته جالسًا على الأريكة أمام الشرفة يلقي برأسه للخلف مشبكًا أصابعه على بطنه مغمض العينين يغط في النوم.
تأملته في نومه بحاجبين معقودين تتأكد أنه معها وأنها لا تحلم!!
صدقًا أصبحت لا تفرق بين الحقيقة والحلم!!
هبطت من الفراش بتعب واقتربت منه تجلس على الأرض تستند بذقنها على ركبته ، تتأمل ملامحه هادئة أظهرت وسامته أكثر من ذي قبل ، وتلك التقطيبة الملازمة لجبهته اختفت .
لا تعلم كيف تحول شعورها بالنفور منه إلى شعور الأمان والاحتواء!!
كانت تشعر بالغيظ منه ومن بروده وثقته الزائدة عن الحد ، مستفَزة من غروره اللامتناهي .. لكن الآن هو أمانها الوحيد!!
لم تشعر بنفسها إلا عندما رفعت نفسها تضع رأسها على فخذه وترفع ذراعه تحيط به خصرها بهدوء ، تقضم شفتها السفلى واندست بين أحضانه ، وهي مازالت تنظر لملامح وجهه الهادئة التي تغيرت بلهفة وقلق عندما شعر بحركة ما بجانبه..
أراد النوم بجانبها لكن والدته رفضت رفضًا قاطعًا ، وهو لا يمكن أن يتركها وحدها بعد ما حدث.. فجلس على الأريكة يراقبها إن احتاجت لشيء يعمل على حاسوبه المحمول إلى أن سقط في النوم.
وضع يده على رأسها يغلغل أنامله بها ، والأخرى وضعها على كتفها ونظراته تطالعها بقلق وتساؤل إن كان بها شيئًا فهمست بخفوت :
-" ليه حاصرتني بالشكل ده؟!
كنت كرهاك ، متغاظة منك.. من أسلوبك ومن غرورك ومن استفزازك !!
ازاي كل ده اتحول لدرجة إن أول واحد صرخت بيه هو أنت!!"
تنهدت تتمسح بصدره كقطة أليفة تبحث عن الدفء والأمان وتابعت مغمضة الأعين
-"مش مهم ، المهم إحساس الأمان اللي بحسه معاك.. المهم إني جمبك ، فيه حاجة جوايا اختفت وده أكتر وقت أنا محتاجة ليك فيه"
أغمضت عينها تمني نفسها أن تعود للنوم الآن بدون أحلام مزعجة ، فمسح على ظهرها بكفه يسألها
-" أنتِ كويسة؟!
حاسة بحاجة؟"
-" عاوزة أنام يا مازن.. مش عاوزة أشوف كوابيس هو فيها"
قشعريرة شعر بها في جسده عندما شعر بلمستها لذراعه ، واندساسها في أحضانه ، همستها أنه أمانها وحمايتها!!
رفع جسدها قليلًا لتنام في أحضانه كالطفل الصغير ووضع رأسها في تجويف عنقه يطبع قبلة رقيقة على قمة رأسها ، وشدد من ذراعه حولها لينام وهو مبتسم هامسًا
-" هفضل أحميكِ لخد آخر نفس فيا.. وحقك هجيبه ولو هيبقى آخر حاجة هعملها في حياتي.. نامي محدش هيقرب منك"
★★★★
قبل لحظات من هذه اللحظة.. كانت جالسة في الحديقة تحيط كتفيها بشال صوفي يحميها من برد الشتاء ، تنظر إلى السماء الملبدة ببعض السحب لا تعلم ما يحدث حولها؟!
شيئًا كبيرًا يحدث ، ليست مجرد حادث يجعل هدير بهذا الخوف والرعب الذي يلوح في عينها ، تنهدت ونظرت للقابع بجانبها يعبث في هاتفه يبدو عليه التركيز الشديد في عقدة حاجبيه .
استدارت بجسدها له تثني ساقًا أسفلها وقالت بعدم فهم
-" رامز أنا عاوزة أفهم فيه إيه؟
فيه حاجة بتحصل أكبر من مجرد حادثة"
لم ينتبه لها وظل صامتًا يصب تركيزه على هاتفه فطالعته بتعجب ثم مدت يدها تجذب الهاتف من يده ووضعته بعنف على الطاولة ، فعقد حاجبيه بدهشة وتساؤل فهتفت به
-" أنا بكلمك وهموت من القلق وأنت مركز في التليفون؟"
اعتدل في جلسته يستند بمرفقيه على قدمه مشبكًا أنامله قائلًا
-" معلش مكنتش مركز.. كنتِ بتقولي إيه؟"
أعادت سؤالها عليه فتنهد بقوة رافعًا أنامله يتخلل خصلاته بتعب
-" متقلقيش زي ما قال مازن مجرد حادثة وكل حاجة هتبقى تمام"
انتفضت من مكانها بغضب وعيناها تشتعل بشزر هاتفة بضجر تشيح بكفيها
-" جرى إيه يا رامز هو أنا طفلة للدرجة دي؟
حادثة إيه اللي تخليها بالمنظر ده من القلق والخوف؟
حادثة إيه اللي تخليك أنت ومازن ونادر متجمعين في المكتب بالساعات؟"
طالعها من مجلسه بصمت قبل أن يستقيم رافعًا هاتفه ومفاتيحه وملامحه تظهر عليها الجمود
-" أنا ماشي وأنتِ حاولي تهدي وخليكِ جمبها الفترة دي"
كاد أن يذهب فطالعته بدهشة وعينين متسعتين ، ثم تبعته بخطوات راكضة تجذبه من مرفقه هاتفة
-" رامز أنا بكلمك متسبنيش وتمشي"
ضغط أعصاب اليوم وقلقه من خروج مازن بتلك الطريقة من الشركة زيادة على ما عرفه وما فعله كريم جعل أعصابه لا تتحمل مناقشة أو حديث فهتف بها رغماً عنه
-" أسماء من فضلك قدري إن مفيش حد مستحمل.. وحقيقي مش فايق أشرح لك أي حاجة"
طالعته بصمت تبتلع لعابها بضيق ورقاقة من الدموع بدأت تتجمع في مقلتيها فتركت مرفقه وعادت خطوة للخلف تضم الشال إليها أكثر وهمست بصوت مختنق
-" أنا بس كنت عاوزة أطمن مش أكتر.. على العموم مفيش مشكلة تصبح على خير"
انتبه لهتافه وغضبه الذي صبّه عليها وكاد أن يتحدث معتذرًا لكنها التفتت عائدة إلى المنزل ، حاول مناداتها فلم تستجب له ودلفت إلى الداخل ، ركل الهواء بعنف مزمجرًا بغضب ثم التفت نحو سيارته يركبها وانطلق بها بسرعة... أما عنها وصلت أمام غرفة أخيها التي تقبع بها هدير فتنفست بعمق قبل أن تدلف فوجدته يحملها بين ذراعيه متوجهًا نحو الفراش يضعها عليه برفق فاقتربت منه تسأله عمَّ بها فاحتضنها بقوة مقبلًا رأسها
-" شافت كابوس فقلقت.. اطمني يا حبيبتي"
ربتت على صدره بحنان وابتسمت له بخفوت هامسة
-" روح أوضتي ونام شوية وأنا هنام جمبها ، لو حصل حاجة هنادي عليك.. بس أنت لازم ترتاح يا حبيبي اليوم كان صعب عليك"
رفع أنامله يضغط أعلى أنفه يدلكه حتى يخفف ضغط الدم ، ثم ربت على كتفها يضمها له قليلًا وأومأ بموافقة فهو بالفعل بحاجة إلى النوم.
قادها إلى الجانب الآخر من الفراش وأحكم الغطاء حولهن وخرج.. ربتت أسماء على وجنة هدير بحنان وأمسكت يدها مغمضة عينها تستدعي النوم .
أنت تقرأ
الحب سبق صحفي " مكتملة "
Romanceهي :- أنا فتاة عشت لـ نفسي , لـ حريتي , أعيش في مملكتي , ارفض القيود , أحب الحياة, أعشق الحرية , ولكني لن أنسى أني شرقية , ابنة رجل الرجال , وأخت فرسان , وحبيبة رجل ليس ككل الرجال .... أنا امرأة لا أنحنى إلا في صلاتي .. و لا أصمت إلا عندما ينعدم كلا...