Part 6

2.9K 81 0
                                    

الفصل السادس

كل خائن يختلق ألف عذر وعذر
يقنع نفسه بأنه فعل الصواب
لكن عندما تلامس قسوة الرجل قلب أنثى فتمزقُه
تموت عاطفة الأنثى
فتولد أنثى أخرى
ولكن بقسوةِ رجل
فما أصعب من قسوة القدر!

نهضت من موضعها بصعوبة مازالت تحت تأثير الصدمة ، خرجت تتعثر  في خطواتها غير واعية لما حولها!
الكون يدور حولها تسير تائهة جسدها غير متزن تتخبط في الهواء كالمخمورة!
كادت أن تدخل للمنزل فوجدت سيارة والدها تدلف من البوابة يهبط منها أيمن مساعده الخاص.
عقدت حاجبيها بدهشة تتسع عيناها تدريجيًا وقلبها يحدثها بحدوث شيء ، فهبطت الدرج بسرعة تهمس :
-"بابا ....!"
أمسكته من يده هاتفة بلهفة وترقب وقلب وجل :
-"فين بابا؟
قولي فيه حاجة حصلت؟"
حاول تهدئتها كي يخبرها ما أتى من أجله :
-"اهدي يا آنسة هدير ، خليني أشرح لك"
راقبها تبتلع بصعوبة وترمش بأهدابها عدة مرات محاذاة مع إيماءات رأسها التي تحثه على الحديث ، فتنهد يملأ رئتيه بالهواء قبل أن يتحدث :
-"تأثير الصدمة على والدك مش سهل ، ونقلناه للمستشفى لأنه اتعرض لأزمة قلبية"
تراجعت تستند على السيارة خلفها ، ووضعت يدها تكتم شهقة أو  صرخة كادت تخرج منها من هول ما تلقت من صدمات اليوم.
يا الله أبيها لن يتحمل فهو مريض بالقلب!
أعادت خصلاتها للخلف قابضة عليها بقوة ، تعض على شفتها حتى كادت تدميها ، ثم همست بصوت يكاد يسمع :
-"في مستشفى إيه؟"
أخبرها باسم المستشفى ، فأخذت المفاتيح من السائق وانطلقت بالسيارة محدثة خلفها سحابة كبيرة من الغبار.. قادت بسرعة متهورة لا تكاد ترى أمامها من كثرة دموعها التي تهبط على وجنتيها حتى وصلت إلى هناك.
خرجت منها تركض إلى الاستعلامات تسأل عن غرفته ، فأخبروها أنه بالعناية المركزة في الطابق الثالث.
هرولت تقطع الممر حتى وصلت إلى غرفة العناية ، وقفت خلف الزجاج تراقب أغلى ما تملك في هذه الحياة ، رفعت يدها إلى الزجاج كأنها تتلمس وجهه ، ودموعها لم تتوقف عن الهبوط..
تبكي لشعورها أنها السبب لما آل إليه ، تعتذر له بقلبها قبل لسانها.
شعرت بمن يضع يده على كتفها فالتفتت لترى من؟
كانت منار برفقة نادر ، ارتمت بأحضانها تبكي وكأنها كانت تنتظر قدوم صديقتها حتى تفصح عن شهقاتها :
-"أنا السبب يا منار ، بابا حصله كده بسببي ، أنا المسئولة عن كل اللي بيحصل"
شددت منار من احتضانها وبكت هي الأخرى لبكاء صديقة عمرها ، فهذه من المرات النادرة التي تراها فيها بهذا الضعف والانهيار.. فقالت مربتة على ظهرها بحنان تحاول بثها الاطمئنان :
-"هيبقى كويس متقلقيش ، بس خليكِ قوية متضعفيش"
كفكفت دموعها وحاولت استنشاق أنفاسها فخرجت متقطعة :
-"أيوة هو هيبقى كويس إن شاء الله"
تقدم منها نادر وقال بهدوء :
-"إن شاء الله هيبقى كويس يا هدير ، بس قولي لي أزاي ده حصل؟"
-"معرفش يا نادر أنا فجأة عرفت بالخبر"
-"أقصد إن أكيد في حد ورا اللي حصل ، تفتكري مين؟"
نظرت له هدير بشرود ولمعت عيناها بغضب عندما تذكرت زيارة كريم لها.. تعلم أن كل هذا بسببه.
بالتأكيد أن والدها أصابه هذا عندما علم وما زاد الأمر سوءً نشر الخبر بالصحف!
لتطمئن أوًلا على والدها أنه أصبح بخير وبعدها تقسم أنها ستذيق كريم وأبيه الأمرّين.
نظرت لنادر مرة أخرى عندما عادت من شرودها ، ولكن قبل أن تتحدث صمتوا جميعًا عند خروج الطبيب من غرفة العناية ، فأسرعت إليه بلهفة :
-"طمني على بابا يا دكتور أرجوك"
أردف الطبيب مطمئنًا إياهم برسمية :
-"الحمد لله قدرنا نسيطر على الحالة ، بس نسيبه أربعة وعشرين ساعة تحت الملاحظة ادعوا إنها تعدي على خير"
هتفت مرة أخرى بنبرة رجاء :
-"أرجوك يا دكتور دخلني ليه ، خمس دقايق بس من فضلك"
-"مينفعش يا آنسة هدير ، حالة والدك متسمحش بالزيارة دلوقتي"
ظلت تترجاه أن تدخل له فوافق على مضض تحت إصرارها الشديد فأمر الممرضة أن تعدها لدخولها غرفة العناية.
دلفت إلى الداخل بعد أن ارتدت الملابس المعقمة وتقدمت بخطوات بطيئة ، اقتربت منه تجلس بجانبه ، أمسكت يده وعيناها تتأمله بدموع تمسح جسده المليء بالأسلاك والمحاليل المغذية ، وهمست قائلة :
-"أنا آسفة ، حقك عليا ده كله بسببي ، أوعدك إني هعمل كل اللي تطلبه بس قوم لينا بالسلامة ، أنا مليش غيرك في الدنيا دي أرجوك"
انحنت إلى كفه مقبلة ظاهره بهدوء ثم أسندت وجنتها عليه متطلعة في نقطة في الفراغ تكمل هامسة :
-"أقسم بربي لأخلي اللي عمل فيك كده يدفع تمنه.. هخليه يندم إنه فكر يأذيك ، الظاهر إني غلطت زمان ولازم الغلطة تتصلح"
تطلعت به مرة أخرى فوضعت كفها على رأسه وانحنت تقبله فوق جبينه قبل أن تخرج.
جلست على مقعد في الممر بجانب غرفة العناية تشعر بصداع رهيب يكاد يفتك بها ، فوضعت يدها على وجهها وأغمضت عينها تدعي ربها أن ينجي والدها.
أفاقت من شرودها على صوت أمها تركض نحوها حتى وقفت أمامها تتمسك بها باكية :
-"هدير قولي لي أبوكِ ماله جرى ليه إيه؟"
-"اهدي يا ماما ، الدكتور لسه خارج من عنده دلوقتي وطمني إن الحالة مستقرة ، ادعي له إن شاء الله هيبقى كويس"
أخذتها أمها في حضنها وظلت تدعي الله أن ينجي زوجها ويحفظه.
نهضت من موضعها بعد قليل من الوقت واتجهت إلى نادر ومنار ، تقول بنبرة قوية ونظرات إصرار :
-"نادر تعالى معايا نروح مشوار مهم"
ثم نظرت إلى منار قائلة برجاء :
-"وأنتِ يا منار ممكن تخليكِ مع ماما لحد ما أرجع؟
ولو حصل أي حاجة كلميني فورًا"
التقطت غموض صديقتها ونظراتها ، فتساءلت بحذر وترقب وعيونها تغوص في أعينها :
-"أنتِ ناوية على إيه أنا مش مطمنة ليكِ؟!"
-"هحكيلك بس أرجع"
ثم التفتت لنادر تحثه على السير :
-"يلا يا نادر بسرعة"
هبطا إلى أسفل ، وجلست بجانبه في السيارة حيث تساءل بدهشة من تصرفاتها ونظراتها التي يشوبها الغموض متنهدًا بعد أن أدار  سيارته يتجهز  للتحرك :
-"هنروح فين؟"
ظلت تنظر أمامها بقوة وغضب ، وما لبست أن همست بآخر مكان توقع الذهاب إليه :
-"اطلع على شركة رأفت منصور"
نظر لها بذهول ودهشة لما نطقت به!
ترى أجنت هي؟
تريد الذهاب لعقر الذئاب بقدميها؟!
تريد الدخول إلى هناك دون أن تفكر في عواقب ما ستفعله وكأنهم سيسمحون لها بالخروج بدون فعل شيء؟
كاد أن يهتف باعتراض ثم أوقف تشغيل السيارة ، ولكنها قاطعته بنظراتها إليه ، ونبرتها الحادة غير القابلة للجدال :
-"من فضلك يا نادر اطلع بالعربية زي ما قولت لك وأرجوك بلاش اعتراض.. و بوعدك إني هحكيلك كل حاجة!"
يعلم جيدًا عقلها ، وإنها ما أن أصرت على شيء ووضعته في رأسها فإنها ستفعله بالتأكيد.. فهي بكلتا الحالتين ستذهب ، سواء به أو من غيره ، فخير  له أن يذهب معها كي يطمئن عليها ويكون بجانبها!
قام بتشغيل السيارة مرة أخرى وانطلق بها إلى حيث تريد ولسان قلبه يدعو أن يمر اليوم على خير.
بعد قليل وقفا أمام شركة ألد أعدائها ، ذلك الصرح الشاهق الذي يعتبر أكبر شركة مقاولات في مصر.. تتذكر كل مكان فيها ، فهي دخلتها أكثر من مرة.
تذكرت كل ما مر عليها في السنوات الأخيرة واللحظات التي دلفت بها إليها.
تسارعت أنفاسها بغضب ، تهبط من السيارة وخلفها نادر الذي يكاد يجن من تصرفاتها المجنونة.. فدلفت إلى الداخل بكل ثقتها وغضبها وملامحها تنم على نيتها في إقامة كارثة هنا لن يسلم منها أحد.
وفي هذه الأثناء.. كان جميع الموظفين مجتمعين في بهو الشركة ، يستمعون إلى رئيسهم الذي يقف في الطابق الثاني بجانب ابنه العائد بعد غياب حاضرًا له هديتين..
أخرجه من سجن كان سيمكث فيه طيلة حياته.. والثانية ما فعله بسالم خطاب وقربه على إشهار  إفلاسه!
هدر صوت كريم هاتفًا بغرور مجيبًا التساؤلات عن سبب ما فعله بسالم :
-"دي بس قرصة ودن صغيرة ، لسه التقيل جاي ورا"
صدح صوت رأفت مقهقهًا يربت على كتفه بفخر قائلًا :
-"الحمد لله على السلامة يا كريم ، نورت الشركة بأحلى خبر..
يا ترى إيه المفاجأة اللي جاية؟"
-"اطمن يا رأفت ، المفاجأة اللي جاية هتبقى مني أنا..
  يوم ما تكمل حياتك الباقية في السجن أنت والباشمهندس ابنك"
قاطعه صوت هدير التي اقتحمت الصرح بكل ثقة وكبرياء مستمعة إلى كل ما قاله خلفها نادر الذي وقف متسمرًا للحظات عندما واجه وجه كريم المبتسم ببرود كعادته منذ سنوات.
الآن فقط بدأت الخيوط تتجمع في يده يفهم ما الذي يحدث حقًا؟!
ظهوره وما حدث لعمه سالم ثم مجيء هدير إلى هنا يؤكد له أنها تعلم بعودته وأن له يد فيما يحدث!
وضع يديه في جيبي بنطاله يهز رأسه بيأس وعلامات الغموض تلوح في عينيه التي التقت بعيني كريم الذي رفع إصبعيه إلى جبهته تحية له وابتسامة ساخرة على محياه قابلها بجمود رافعًا أنفه لأعلى.
اتجهت إليها عيون الجميع بذهول.. الفتاة التي كان رئيسهم يقف متشفيًا بها وبوالدها ، تقف بقوة في شركته!
ابتعد الجميع إلى كلا الجانبين جاعلين إياها تقف في المنتصف تنظر إليهما بسخرية جعلت كريم يتبادل نظرات الدهشة مع والده من التي لم تُكسر بعد!
لينظر لها نظرات تفصيلية أكثر منها مشتاقة ، يملئه الإعجاب بقوتها ، وهذا أقل ما كان ينتظره منها.
يعلم أنها لن تصمت على ما حدث ، بل ستحاول رد له الصاع صاعين ، وكان هو بانتظارها.. لكن مجيئها بتلك الهالة الفاتنة إلى صرح شركته ، زاد من إعجابه بالحرب بينهما التي ستملأها الإثارة.
يكاد الجميع يقسم لو كانت النظرات تحرق كانت الشركة كلها تحولت لرماد من قوة النظرات بينهما ليقطعها رأفت بصوته الساخر:
-"أهلًا وسهلًا  بالصحفية المشهورة ، بما إنك موجودة طمنينا على أبوكِ بعد اللي حصل؟"
ذم شفتيه بإشفاق مصطنع يهز رأسه بأسف مبالغ من شخص مثله مكملًا :
-"صراحة زعلت عليه ، مكنتش أعرف أنه هين كده"
وجدت نادر يضغط على كفها هامسًا لها :
-"بلاش يستفزك يا هدير ويخليكِ تقولي حاجة تبقى ضدك ، وكفاية يلا نمشي أنتِ مجرد ما جيتِ هنا قولتِ ليهم أنهم فشلوا"
استمعت له لكن ملامحها ظلت جامدة ، نظراتها ثابتة بأعين كريم الذي لم يبادر بأي بادرة لقطع التواصل.
تفاجأ رأفت أكثر منه كريم من ردة فعلها عندما ابتسمت ابتسامة واسعة قائلة بسخرية أكبر ومازالت نظراتها ترمق ابنه بقوة :
-"أنت أكتر واحد عارف أن سالم خطاب زي الجبل ما يهزه ريح.. وإن اللي حصل مجرد موجة باردة وراحت لحالها خلاص"
لتكمل تشيح بيدها مشيرة بسبابتها إليه في حركة تهديد مبطن :
-"أنا بس عايزاك تفتكر أن اليوم اللي جمعت موظفين شركتك عشان تتشفى في أبويا ، جيت هنا وعرفتك إنك خسرت"
التفتت تخرج بنفس غرورها التي دلفت به تاركة خلفها زوجين من العيون يكادان يفتكان بها ، لكن استوقفها صوت كريم المليء بالسخرية هادرًا من خلفها :
-"كده 1-1 يا هدير ، وصدقيني  اللي بينا لسه مخلصش ، ده بدأ"
كلاهما ثقته في نفسه عالية ، لكن على درجات متفاوتة..
فالفرق بينهما أنه وصل للغرور وتناسى أن الإفراط في الثقة مجلبة للخطر.
استدارت له ملقية نظرة غامضة إليه ، وتبسّمت بسخرية ثم انطلقت تخرج من الشركة.
انطلق نادر يستمع إليها تخبره بكل ما حدث منذ أن هاتفها كريم ذلك اليوم عندما علمت بخروج والده ، إلى زيارته لها في بيتها وأنه سبب ما حدث لوالدها.
كادت رأسها أن يصطدم بزجاج السيارة أثر ضغطه على المكابح فجأة ، فنظرت له بصدمة من ردة فعله لتجده يصرخ بها بغضب وغيظ :
-"أنتِ مجنونة؟
إزاي متحكيش اللي حصل عشان كنا نتصرف؟
هتفضلي ماشية بدماغك دي لحد امتى؟"
نظرت له بدهشة لغضبه ، فهو  شخص هادئ جدًا ولا يغضب سريعًا ، فمن النادر تراه ثائرًا بهذا الشكل ، والأدهى أنها تعلم أن معه حق!
كانت لابد أن تخبرهم بما حدث معها ، لعلهم يجدون لها حلًا!
لم تستطع السيطرة على غضبها الطفولي وهي تقول :
-"نادر متتعصبش عليا ، أنا فيا اللي مكفيني"
رفعت ذراعيها أمام وجهها في حركة دفاعية عندما رفع قبضته عاقدًا النية على لكمها في منتصف جبهتها لعل عقلها يعود إلى مكانه الصحيح ، يهمس لها ضاغطًا على أسنانه ، ويشهر سبابته بوعيد :
-"بصي يا هدير خليكِ ساكتة أحسن لحد ما نوصل المستشفى عشان أفضل ماسك أعصابي عليكِ فاهمة"
لم تجد إجابة غير أنها كممت فمها بكفيها علامة على رضوخها لطلبه ، فظل الصمت هو السائد في السيارة حتى وصلت إلى المشفى ، هبطت منها سريعاً تطمئن على والدها ، وهروبًا من غضب نادر النادر .
لم تسلم  من صراخ منار عليها عندما علمت بعودة كريم وما فعلته بذهابها إلى عقر داره بكل غباء!
ليمر أسبوع على هذا الحادث ، تحسنت فيه حالة والدها وعاد إلى منزله.. لم تفارقه طوال الأسبوع بل مدت إجازتها حتى تعتني به.
قررت أسماء الذهاب لزيارتها والاطمئنان عليها بعد ما حدث ، قابلتها هدير بسعادة وابتسامة واسعة ثم احتضنتها مرحبة بها بشدة وصعدا إلى غرفتها.
بادرت هدير بالقول بحبور شديد :
-"وحشاني والله يا سمسمة ، طمنيني عليكِ"
-"الحمد لله بخير ، أنتِ أخبارك إيه؟"
أجابتها بهدوء ورزانة :
-"الحمد لله أحسن من الأول"
لاحظت توتر أسماء من ابتلاعها بصعوبة وتفرك كفيها بتردد قبل أن تقول :
-"متزعليش مني يا هدير إني مجتش طول الفترة دي ، أنا كنت مسافرة وأول ما رجعت جيت على طول"
قاطعتها معاتبة على ما تتفوه به ونظرت لها بمشاكسة :
-"إيه اللي بتقوليه ده.. كفاية إنك طول الوقت معايا على التليفون.. المهم قوليلي تشربي إيه؟"
كادت أن ترفض لكن الأخرى لم تعطها الفرصة وهتفت :
-"ولا أقولك أنا مش هسيبك النهاردة أنتِ تتغدي معايا وكمان منار  زمانها جاية ، و تتعرفوا على بعض"
-"بس يا هدير"
-"مش عايزة اعتراض خلاص"
قضت أسماء اليوم معهم ، تعرفت فيه على منار التي أحبتها ، وتحدثت مع سهام ، وجدتها ودودة وطيبة ، ثم أطمأنت على والدها ، وعادت إلى بيتها في المساء.
وما إن دلفت من باب المنزل حتى وجدت أخيها في وجهها مما جعلها تضع يدها على صدرها منتفضة هاتفة بأعين مغلقة :
-"سلام قولًا من رب رحيم"
لتعيد نظراتها إليه بغيظ ومرت من جانبه تلكمه بكتفه هاتفة :
-"فيه حد يظهر زي عفريت العلبة قدام حد كده"
جلست فجلس مقابلها واضعًا ساق فوق الأخرى مشعلًا سيجارته التي لا تفارقه إلا نادرًا قائلًا :
-"مش قولتِ هتروحي ساعة تطمني وترجعي ، هي الساعة عندك بقوا خمس ساعات؟!"
لا تعلم ما الذي جعلها تتذكر الفيلم المصري الشهير لتجد نفسها تتقمص دور البطلة ، تضع يدها أسفل ذقنها مستندة على حافة الكرسي قائلة :
-"هو البيه من النيابة؟!"
عقد حاجبيه بدهشة لتكمل :
-"قعدة بنات عاوزها تخلص في ساعة.. وبعدين مش بعادة يعني إنك هنا في الوقت ده؟"
أطفئ سيجارته بهدوء وأشار  لها بالمجيء ، يربت على المكان الخالي بجانبه على الأريكة ، لترفع حاجبها بتوجس منه ثم نهضت تتقدم منه فجذبها فجأة من خلف عنقها في حركته المعتادة معها بغيظ :
-"هو أنا امتى ربنا هيمّن عليا وأشوفك بتجاوبي من غير لماضة؟"
حاولت الإفلات من قبضته تهتف بنزق :
-"لما تبطل تعاملني معاملة حرامية الغسيل دي"
لم ينقذهما من بعضهما غير صراخ والدتهما الآتي من المطبخ تضرب كفًا فوق الأخر بقلة حيلة من طفولة أبنائها والأخص مازن الذي لا تستوعب أن هذا من يهابه الجميع!
لكن هاذان الاثنان علاقة خاصة ، فوجوده في حياة أخته هو حضور لصديق أبدي ، ورفيق أول للطفولة ، وصخرة تستند إليها..
هو السند والأمان
الشجرة الوارفة التي لا تميل ولا تنحني
الحصن المنيع الذي يذود عنها مصائب الدنيا
هو روح إضافية ، ونسمة صيف عليلة تهبّ على القلب تخفف من لهيب الحزن فيه
عينها التي ترى
وأذنها التي تسمع
وقلبها الذي ينبض
روحها معلقة فيه
★★★★★
هو رجل يعلم متى يضرب ضربته
كالفهد يتربص ويتربص حتى تحين لحظة الانقضاض
كالحية تتسلل وتتخفى وسط العشب تراقب فريستها ، تجمع سمها وتحدد هدفها ثم تلقيه بثقة وقوة
كالصقر القابع أعلى قمة جبل وعيناه ترمق تلك السمكة السابحة بغنج لا تلقِ بالًا للخطر أعلى رأسها حتى يقرر الوقت المناسب فيهبط بسرعة تسابق الريح يأخذها بين براثين مناقره ويعلو
سيد الفرص وملك استغلالها!

مر  أسبوع آخر ليذهب سالم إلى شركته حتى يجد حل للمشكلة التي حلت عليهم بعد جدال عنيف مع ابنته وزوجته اللتان رفضتا بشدة ذهابه إلى العمل وهو مازال على تلك الحالة وقلبه لم يتعافَ بالكامل.. لكنهما بالنهاية رضخا لرغبته.
وجد سكرتيرته تخبره بقدوم مازن السيوفي لمقابلته ، فأمرها بإدخاله على وجه السرعة ليرحب به بشدة :
-"أهلًا مازن بيه ، اتفضل"
خلع نظارته الشمسية وجلس بكل هيبة وثقة :
-"أهلًا بيك يا سالم بيه ، الحمد لله على سلامة سعادتك"
-"متشكر جدًا ، تشرب إيه؟"
-"قهوة مظبوطة"
هاتف سكرتيرته وطلب منها إحضار فنجانين من القهوة ، وما هي إلا دقائق حتى دلفت بالمشروب ووضعته أمامهما ، فبادر مازن بالقول وهو يتناول قهوته :
-"طبعًا حضرتك بتسأل عن سبب الزيارة خصوصًا في الوقت ده.. صح؟"
نظر له بحيرة يحك ذقنه بتفكير قبل أن يجيب :
-"بصراحة مستغرب"
أسند مازن ظهره على الكرسي ، وتأهب ليلقي عرضه بكامل ثقته:
-"أنا بعرض على حضرتك شراكتي.. أنا هشتري نص أسهم الشركة وبكده الشركة تخرج من المشكلة اللي فيها ، وسمعتها تفضل زي الجنيه الدهب"
انفرجت أسارير سالم ، فمشاركة مازن في حد ذاتها نقلة أخرى لشركته كان يسعي لها منذ وقت وها قد أتت الفرصة.. ولكن يبدو أنه لم ينتهِ من حديثه بعد ، فأردف قائلًا :
-"بس بشرط ..."
عقد سالم حاجبيه بتعجب وقال :
-"شرط!
شرط إيه يا مازن بيه؟"
نظر له بثبات وغموض بنظرته الثابتة يلقي ورقته الأخيرة ويلقي بالكرة في ملعب الآخر تاركًا له حرية الاختيار :
-"أتجوز هدير"
★★★★
-"نــعـــم"
صرخت بها أسماء عندما علمت ما فعله
ماذا يعني بتقدمه للزواج من هدير؟
يا الله هو مازال يفكر  في الانتقام؟
إن كان ذلك غرضه بالتأكيد قد جُن تمامًا!
قال رامز الذي يتابع حديثه بهدوء ، يحاول الوصول إلى عقل صديقه فيما يفكر يستند بمرفقيه على قدميه مشبكًا أنامله مع بعضها :
-"مازن أنت عاوز توصل لإيه بطلبك ده؟"
تنفس سيجارته وقال ببرود ولامبالاة :
-"عادي ، قررت أستقر"
كادت أسماء أن تقتلع خصلات شعرها من بروده تهتف من بين أسنانها وعينيها تبحث عن أي شيء تلقيه به :
-"وليه هدير بالذات؟
لو الموضوع استقرار زي ما بتقول اختار واحدة مفيش بينك وبينها مشاكل أو توتر.
ولو على العروسة من بكرة يكون عندك قبيلة"
نظر لأخته بابتسامة مستفزة يردف :
-"وأنتِ بذكائك فاكرة إني لما أتجوز هقعد وأخلى أمي تختار ليا مراتي؟
ثم إني مش عايز قبيلة ولا حاجة وأنا خلاص اختارت فإيه المشكلة في هدير يا سمسم ؟"
ضيقت بين عينيها ترمقه بغيظ وكادت أن تنهض تكيل له الضربات حتى يكف عن بروده لكن رامز سبقها قائلًا ببرود مماثل وحاول مسايرته :
-"وإيه ضمنك إنها توافق؟"
تركهم مازن وخرج بكل ثبات نفسي وبرود واضعًا كفيه في جيب بنطاله ، لكنه قال بثقة عمياء أثناء سيره :
-"هتوافق يا رامز ، هما يومين وتلاقي سالم بيتصل يقول إنها وافقت"
استوقفته أسماء بهتافها المغتاظ من خلفه :
-"لو كنت لسه بتفكر في المقال اللي نزلته تبقى تجننت يا مازن ، أنا وأنت عارفين أن رأفت يستاهل وإنك غلطت لما شاركته"
اتسعت عينيها من الغيظ والذهول عندما لم يلتفت لها بل أشاح بكفه بلامبالاة وأكمل صعوده لأعلى ، فالتفتت إلى رامز بأعين شرسة تقترب منه هامسة بشر :
-"أنت كنت عارف باللي ناوي يعمله؟"
حاول كتم ضحكته من مظهرها الغاضب ، وقال محاولًا تهدئتها برفع كفيه أمام وجهها :
-"أنا كنت عارف إنه ناوي يشارك سالم ، لكن تفاجئت من طلب جوازه.. وبعدين مش يمكن تكون السبب إنه يتعدل"
ألقت بجسدها على الأريكة بيأس تزفر بعمق :
-"مش لو وافقت!
يا رامز أنت متعرفش هدير ، دي عنيدة وبتكره مازن وخصوصًا بعد اللي عمله في الحفلة"
قهقه باستمتاع ، يعشق صغيرته في جميع الأحوال وخاصة وهي غاضبة ، فحاول إخراجها من هذا الغضب قائلًا :
-"طب بقولك إيه سيبك منهم هما أكتر اتنين يقدروا يتعاملوا مع بعض.. يلا أنا عازمك على الغدا"
عادت لطفولتها هاتفة بمرح ، تنهض من مكانها ، متناسية ما حدث منذ قليل :
-"استنى لحد ما أغير هدومي وأجيب شنطتي وأجي"
صعدت إلى غرفتها وتركته ينظر في أثرها بذهول على جنانها ، فهي مثل الطفلة أقل القليل يسعدها.. ليتنهد بقوة وتمتم في نفسه :
-"هو أنا بحبك من شوية"
عادت بعد قليل من الوقت فوجدته على هذه الحالة يحدث نفسه ، فرفعت حاجبيها بدهشة وقالت :
-"أنت بتكلم نفسك يا رامز!"
-"هو اللي يبقى معاكِ في مكان واحد عوزاه يبقى عاقل إزاي!"
لم ينطق بهذه الكلمات ولكنه قال :
-"لا مفيش حاجة ، يلا بينا عشان نلحق"
قضوا يوم رائع ، أخذها لتناول الطعام ثم أحضر لها الشوكولاتة التي تعشقها ، وأحضر لها هدية كي يراها سعيدة.
انتهى اليوم ثم أوصلها إلى المنزل ووعدها أنه سيتصل بها لتخبره برأيها في هديته.. فصعدت إلى غرفتها وكان أول ما فعلته فتح هديتها لتجدها مجموعة من الألوان بدرجاتها المختلفة كانت تبحث عنها منذ فترة ، فرحت كثيرًا بهذه المفاجأة ولم تصدق أنه أهتم وبحث عنها من أجلها ، لتلتقط هاتفها تتصل به :
-"رامز بجد فرحتني قوي  ، الهدية جميلة جدًا.. أنت متعرفش أنا كنت هموت على المجموعة دي"
ابتسم بسعادة لنبرة الفرحة التي تصله منها وقال :
-"المهم إنها عجبتك وإنك مبسوطة"
-"مبسوطة جدًا يا رامز ، ربنا يخليك ليا"
انتبهت لما تفوهت به فوضعت يدها على فمها من الإحراج وحمدت ربها أنه لم يرها.. انتبه لما قالته ففرح كثيرًا ولكنه لم يعلق لعلمه أنها شعرت بالإحراج وقال :
-"الحمد لله إنك مبسوطة ، يلا هقفل واسيبك ترتاحي.. ومن فضلك متشغليش دماغك بموضوع مازن واطمني"
-"حاضر يا رامز تصبح على خير"
أغلقت الخط و ابتسامة حالمة مرسومة علي وجهها ، تحبه منذ أن رأته ذلك اليوم في المشفى
لا تعرف لماذا هو؟
ولكنها تشعر بحبه لها وتنتظر حتى يعترف.
أمسكت الألوان واحتضنتها ثم قررت أن أول صورة سترسمها بها هي صورته.
سارقة سرقت قلبه
متسلطة استحوذت على تفكيره
كانت ولازالت نبض وجوده
جميلة كأن سحر الشرق بين عينيها
نجوم السماء بين يديها
وزهور الأرض بين شفتيها
★★★★★
وفي اليوم التالي في منزل هدير كان يقام نفس الحوار
-"لا يا سالم لا ، أنا بنتي مش سلعة تبيعها عشان خاطر صفقة أو شراكة من بتوعك"
صرخت بها سهام عندما فاتحها زوجها بطلب مازن للزواج من ابنته مقابل شراكته وإنقاذ اسمه من الإفلاس.
حاول إقناعها بالموافقة ممسكًا بكفها :
-"يا سهام افهمي ، أنتِ مش بتحلمي باليوم اللي هدير تتجوز فيه؟
أهو جه ومش أي حد ده مازن السيوفي"
لتصر على رأيها أكثر هاتفة بشراسة لا تريد أن تدلف ابنتها في لعبة الأموال والشركات خاصةً وهي تعلم رد فعل صغيرتها من قبل أن يفاتحها بالأمر :
-"قولت لا يعني لا أنا مش هدخل بنتي في ألعابكم دي..
الجواز مش بالطريقة دي يا سالم"
ثم نظرت له بتعجب مكملة بنبرة يشوبها السخرية :
-"وبعدين أنت بتتكلم على أساس إن بنتك وافقت!!
دي تقلبها حريقة لما تعرف باللي ناوي عليه ، دي رافضة الفكرة التقليدية ما بالك لما تعرف إن الجواز بالطريقة دي؟"
تنهد بقوة يفكر في حديثها يعلم رأي ابنته تجاه هذا الموضوع لكنه قال :
-"ملكيش دعوة بهدير ، المهم تساعديني نقنعها.. أنا بعتلها كريمة تقولها إني عايز أتكلم معاها"
زفرت بقوة ، تهز رأسها من تصلب رأسه لتقول محاولة إقناعه وثنيه عما يريد فعله :
-"طب سيبك من الجواز نفسه ، عاوز تفهمني إن بنتك اللي خناقاتكم سوا الفترة الأخيرة بسببه هتوافق تتجوزه؟!"
تنهد بيأس يعلم أن معها كل الحق في كل كلمة تنطق بها ويعلم تفكير ابنته وعقلها ، لكنها الطريقة الوحيدة للخروج مما لحق بهم.
ما كاد أن يجيبها إلا ووجد هدير تدق الباب طالبة الدخول ، فأذن لها لتدلف هاتفة بمرح :
-"خير يا بابا ، دادة كريمة قالت إنك عايزني!"
-"تعالي يا دودو ، عايز أتكلم معاكِ شوية"
أشار لها بيده لتقترب يلتفت إليها بانتباه وتابع عندما جلست بجانبه:
-"أنتِ عارفة الأزمة اللي بنمر بيها وبسببها أنا ممكن أعلن إفلاسي"
قاطعته تهتف بلهفة :
-"متقولش كده ، إن شاء الله الأمور تتعدل ويكون فيه حل"
تردد قبل أن يجيبها ، يتطلع لزوجته التي أشاحت برأسها تعبيرًا عن رفضها لكل ما يحدث فقال :
-"هو.. في حل ، لكن أيدك أنتِ"
أمسكت يده وقالت بلهفة أكبر :
-"قولي عليه ولو في أيدي أكيد هعمله من غير  حتى ما تطلب"
شدد على يدها وحاول أن يبدو طبيعيًا ملقيًا ما أتى بها من أجله لتهتف سهام بحزم :
-"ســالم"
عقدت حاجبيها على رد فعل والدتها فاستشعرت القلق ، فلم يلتفت لها يلقي ما بجعبته قبل أن يرضخ ويتراجع عما يريده :
-"مازن السيوفي عرض عليا شراكته إنه يشتري نص أسهم الشركة من البورصة ، بس بشرط"
عقدت حاجبيها بحيرة ، وقلبها يخبرها أن ما سيقوله ليس بخيّر على الاطلاق فرفعت عينيها إلى والدتها التي لم تبادلها النظرات ليزداد الشعور بداخلها ، فنظرت لأبيها مرة أخرى قائلة بحذر :
-"شرط إيه؟"
-"يتجوزك"
صمتت تنظر لأبيها ببلاهة وعدم استيعاب :
هل ما سمعته صحيح؟
يريد الزواج بها؟
أستغل محنة والدها كي يلقي ضربته؟
لا.. لن تسمح له أن يستغلها بهذه الطريق !
يا له من حقير.. يعلم أنها ترفضه قلبًا وقالبًا ليحكم وثاق خطته جيدًا وانتظر حتى حانت الفرصة المناسبة ليتأكد أنه لا يوجد مجال للرفض.
إما الرفض وهلاك والدها أو القبول وهلاكها هي!
تسارعت أنفاسها من الغضب ولم تشعر بنفسها إلا وهي تندفع إلى غرفتها ولم تبالِ بهتافات والدها خلفها
ارتدت ملابسها وأخذت سيارتها تنوي لقاء المتعجرف.



الحب سبق صحفي " مكتملة "حيث تعيش القصص. اكتشف الآن