الفصل الخامس والعشرون
أعلم جيدًا أنك هناك تنتظرني كعهدك دومًا
توقف دقات الساعات وترى صورتي في كل ثانية تمر بدوني
أعلم جيدًا أن حبك لي مازال هو ، لم يتأثر ببعدنا
لا يمكن لي أن أفعل شيئًا سوى أن أنتظرك وأدعو ربي في كل ليلة أن يجمعني بك
وأن أصحو في يوم ما لأجدنني معك.. معك أنت فقط
ظل بأحضانها حتى نسيا كم مر من الوقت ، لم يشعر كيف دلفا للداخل ومتى جلسا على الأريكة ومازال محتضنًا إياها متعلقًا بها يستنشق عبق الراحة والأمان منها ، يحيط خصرها كمن يتمسك بفرصته الوحيدة للنجاة يستند بذقنه على رأسها مغمضًا عينه يتنفس بعمق.
كانت بدورها تضم كتفيه بذراعها الأيسر مخللة خصلاتها بأنامل يدها اليمنى تمشطها بحنان ثم تهبط بها على عنقه تمسح عليه هبوطًا إلى ظهره تربت عليه برفق ، فرفع رأسه ينظر لها بأعين فاقدة لروحها ونظرات مستغيثة!
يحول بحدقتيه بين عينيها بصمت تبادله بأخرى شبيهة له لكن مغزى الصمت مختلف فيما بينهما..
صمته يغلفه الصدمة ، شعور الخيانة والخذلان ، يفوقهم الاعتذار على ذنب لم يقترفه وكان القدر ضده يخبره أن الأمل الذي عاش عليه كل تلك السنوات كان سرابًا لا يستحق!
وصمتها حنون ، مليء بالاحتواء والتفهم ، مغلف بالوعد أنها بجانبه في ظهره ولن تتخلى عنه ، تترجاه ألا يضعها موضع تضحية ويتخلى عنها لن تتحمل ، تخبره أن الأمل الذي فقده مازال موجود بصورة أو بأخرى.
أخذ كمية كبيرة من الهواء البارد هبطت بداخل صدره المحترق تخمد نيرانه قليلًا وأخرجه ساخنًا لاهبًا كانت لوجنتيها نصيبًا من الشعور به ، وبصوت غريب لم تتذكر أنها سمعته يتحدث به من قبل ، صوت فاقدًا للحياة والروح ، مثقل بالهموم وهمس :
-"أنا تعبان يا أسماء ، تايه مش قادر أواجه حد ، مش قادر أبص لنفسي حتى في المراية أواجهها"
تركته يتحدث وظلت على صمتها مستمعة له بقلبها قبل أذنها ، وجعه يصلها وتشتته تشعر به ، اعتدل في جلسته ينظر في الفراغ ، يستند بمرفقيه على قدمه يميل بجسده إلى الأمام قليلًا :
-"طفل اتربى من غير أم..
في البيت ده كان فيه أم سابت ابنها عمره أربع سنين ومشيت من غير ما تبص وراها!
طفل اتربى أبوه ليه كل حاجة ، أب وأم وصديق.. على الرغم من الفقر اللي كنا فيه بس كنا راضيين ومبسوطين وحياتنا حلوة وفرحته بأني دخلت هندسة"
ابتسم للذكرى ولمعت عيناه بغشاوة من الدموع وقد ترائت أمامه فرحة والده عندما علم بنجاحه ، وسجوده شاكرًا لله.. حضنه لن ينساه طوال حياته ، نظر لها وأكمل بصوت فخور بنطق اسم أبيه :
-"يومها نزل الحارة وقال بعلو صوته ابني المهندس رامز منتصر حقق حلمي ورفع راسي وأنا فخور بيه ، وشكر أهل الحارة كلهم اللي كانوا أكتر من أهل..
دي كانت أحلى لحظة في حياتي"
تنهد بعمق مغمضًا عينه وقد اختفت البسمة عن وجهه فتسلل كفها إلى كفه تمسكه بحنان فقبض عليه مشبكًا أنامله معها لكنه لم ينظر لها :
-"حاول يعوضني عن كل حاجة وعن غياب أمــ......."ـ
صمت ولم يستطع نطق ياء الملكية بالكلمة ، لا تستحقها ولم تؤهل لها ، ضغط على أسنانه بقوة يكظم غضبه ونيران قلبه قبل أن يكمل :
-"بس كنت حاسس بفجوة جوايا ، على قد كل محاولاته بس دور الأم مكنش حد يقدر يعوضه ، كنت بستغرب لما أسأل عليها يقولي جملة عمري ما هنساها..
(لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ، ومامتك مكنتش مؤهلة لنعمة الأمومة فربنا علشان بيحبك بعدها عنك وهيعوضك بحاجات تانية كتير)"
نظر لها بغموض يضيق عيناه بشكل انعقد له حاجبيها بتساؤل واقترب برأسه منها يسألها :
-"قوليلي يا أسماء ، فيه حاجة تعوض غياب الأم؟"
ابتلعت ريقها بصعوبة واغرورقت عيناها بالدموع مما استشعرته من ألم وضياع في سؤاله ، وحركت رأسها بالنفي كإجابة عليه ولم تقدر على الحديث فابتسم لها مقتربًا هذه المرة بجسده منها يضع كفه الحُر على وجنتها ولانت نظرات عينيه و تداخلت خيوط العسل فيها يشيعها بحنية رجل عاشق، يقدس فضل وجودهم جميعًا هامسًا :
-"لا بيعوض عارفة إمتى؟
لما تكون فعلًا متستاهلش ، يمكن قبل كده كانت فكرة العوض مكنتش متقبلها لكن لما الحقيقة تنكشف بتعرفي إن ربنا مبيعملش حاجة وحشة.
بيعوض بأب كرّس حياته كلها لابنه..
بصاحب لقاه وسط تيهة القدر حطهم في طريق بعض كسند وحماية..
بأم بتدي مشاعر الأمومة والحنان من غير مقابل وكأنها أمك اللي ولدتك"
فك شباك كفيهما ورفعه يحيط وجنتها الأخرى بعد أن أعاد خصلاتها للخلف ، ورأت نظرات العشق التي افتقدتها طوال الأسبوع الماضي فدق قلبها تتسارع ضرباته بداخلها من السعادة لرؤية حبه مازال كما هو ، تسمعه ينطق بوله :
-"بيعوض بحبيبة جت بعد عذاب كبير وكأن ربنا بيكافئني على اللي شوفته بيكِ ، بيطبطب على قلبي بحُبك ، ويسكن روحي بوجودك معايا"
أمسكت رسغيه واستندت إلى جبهته مغمضة العين ، مبتسمة الثغر ، ثم فتحتهما ترسل له نظرات مليئة بحبها مغلفة بعتاب عن غيابه الفترة الماضية وهمست لأول مرة منذ أن دلفت إلى الشقة :
-"غيابك عني أسبوع كامل بعد اللي حصل خلاني مرعوبة إنك ممكن تفكر تسيبني ، بس كان عندي أمل أنك ترجع لي..
كل يوم بستنى رسالة منك ، مكالمة تطمني عليك أو أسمع صوتك بس.. إزاي قدرت تبعد!"
هز رأسه برفض ونظرات متعجبة من تفكيرها أنه من الممكن أن يتخلى عنها!
أمسك كتفيها يضغط عليهما بقوة طفيفة وهتف أمام وجهها بحزم :
-"أتخلى عنك!
أنا ممكن أتخلى عن العالم كله وأنتِ لا.. أنا كنت تايه مصدوم من اللي عرفته ، كنت محتاج أرتب أفكاري ، محتاج أستعد لمواجهة هدير وأخوكِ إني أبقى أخو أكبر عدو ليهم"
خلل خصلاتها واستند مرة أخرى إلى جبهتها واستحال صوته الحاد إلى آخر حنون ، عاشق :
-"أول ما حسيت إني فوقت بعتلك تجيلي ، مش محتاج غيرك يا أسماء.. محتاج قوتي منك علشان أبقى مستعد لأي قرار هياخده أخوكِ إلا إنه يبعدني عنك مستحيل"
وبدون كلمة إضافية لم يستطع منع نفسه وهبط إلى شفتيها بقبلة ملحة وعميقة بشدة فارتجفت أعماقها أمام طوفان حبه الذي يبثه لها في قبلة واحدة ، شعرت بيده تتسلل حول ظهرها والأخرى خلف رأسها يقربها منه أكثر مجبرًا إياها على السكون والاستسلام :
-"أنا مش هقدر إن حد يبعدني عنك"
غمغم أمام شفتيها موقفًا قبلته ، يده تتسلل أسفل كنزتها بلا وعي ثم أغرق أنفه بين خصلات شعرها الناعم يهمس بخفوت هز أعماقها :
-"عندي استعداد أحارب وأواجه الكل بس تفضلي معايا"
انحدر بشفتيه نحو رقبتها يطبع عليها عدة قبلات ساخنة جعلتها ترتجف بقوة بين يده وتتمسك بملابسه وشعره ، مغمضة العين غارقة في فيض إحساسها بلمساته وقبلات فمه الرقيقة.
وفجأة توقف كل شيء عندما شعرت به ينجرف في طريق سيندمون عليه فيما بعد!
نعم هي زوجته لكنه الآن ليس في وعيه ، صدمته وحزنه يقودانه ، خذلانه يسيطر عليه ، وهي هنا كي تأخذ بيده!
عادت للخلف تحاول الإفلات من تمسكه الشديد بها تمسك بوجهه تجبره على التوقف هاتفة بحزم :
-"رامز لا.. فوق علشان خاطري أنت مش في وعيك"
شدد على خصرها بقبضتيه ودفن وجهه في تجويف عنقها يتنفس بقوة وصعوبة بلهاث عالٍ ، يهز رأسه بموافقة وصوته خرج ثقيلًا :
-"حاضر حاضر ، سكتت بس متبعديش ، متخافيش مش هعملك حاجة"
همست اسمه بحنان ممسدة على رأسه ، فتسلل بجسده لأسفل ينام على قدمها ومازال يحيط خصرها ، يهمس بتعب :
-"محتاج أنام ، بقالي أسبوع مش عارف أغمض"
صمت مغمضًا عينه فابتسمت لذلك الرجل الذي يستطيع بأقل القليل جعل قلبها يرتجف من نظرة
يتقافز من كلمة
يتسارع بغزل
يعيش بحبه وعشقه!
مسحت على ذراعه ، وحركت أناملها في رأسه بحركات رقيقة ، تهبط على جبهته تطبع قبلة صغيرة فوقها ، ثم جذبت شالها تدثره به.
مر بعض الوقت ليقطع الصمت صوت هاتفها بنغمة أخيها الخاصة فأجابته كي تطمئنه ليقابلها بلهفة :
-"قوليلي أنتِ فين يا أسماء خليني أجيلك"
ابتسمت في نفسها وأجابته بهمس حتى لا توقظ رامز بصوتها:
-"يعني عاوز تفهمني إنك لو عاوز تعرف مكانه هتستناني أقولك"
سمعت صوت زفيره القوي وكأنه يكافح كي لا يترك لنفسه العنان ويهرول إليها الآن ، فأشفقت عليه وقالت :
-"حبيبي اطمن ، هو بخير بس محتاجني وأنا مش هقدر أسيبه أنا ما صدقت عرفت مكانه واطمن عليه"
-"متأكدة أنه كويس يا أسماء!"
سؤاله نابع من قلق ، خوف ، اشتياق لصديقه يعلم أنه بحاجة إليه لكنه بحاجة لبعض الوقت.
وقع نظرها عليه فلمست لحيته بظاهر يدها بابتسامة عذبة :
-"كويس والله يا حبيبي صدقني بس نايم ، كان محتاج شوية وقت يا مازن اعذره ، لكن اللي متأكدة منه دلوقتي أنه محتاجك بأسرع وقت"
-"خلي بالك منه ومن نفسك وأنا بكرة هكون عندك"
وافقته بامتنان وأغلقت معه ، ثم أعادت نظرها تشبع عينها من رؤيته بعد ابتعاده عنها.
ابتعاده يشبه صداع الرأس لكنه في القلب ، ولقاءه مسكن لألمه.
★★★★★
أشرق الصباح بمشاعر مختلفة وروح جديدة تشع طاقة من وجودها معه!
يقف أمام الحوض في مرحاضه يهذب لحيته كما طلبت منه ، يطالعها بين الحين والآخر تقف مستندة بكتفها على حافة الباب تمسك بمنشفة صغيرة بيضاء تبتسم له بحب ، واقتربت منه عندما انتهى ترفعها إلى وجنتيه تجفف قطرات الماء العالقة بها ثم تلمست ذقنه بأناملها قائلة بمرح :
-"كده رجعت رامز اللي أعرفه"
كاد أن يجيبها لكن رنين الباب قاطعه فعقد حاجبيه على الزائر المجهول له والمعلوم لدى أسماء.
اقترب يعرف هوية القادم ، ففتح الباب وتسمر أمام الآتي يتبادلان النظرات بصمت.
نظرات نسيمها الشوق وعبيرها الإخلاص..
تنبع من بساتين الحب في ربيع العمر
القلوب في لحظة اللقاء
ابتلع ريقه بصعوبة لكنه لم يقطع الاتصال البصري بينه وبين ميرفت التي تبادله بأخرى عاتبة تلومه على ردة الفعل التي أخذها.
حال بنظره ليجد مازن ونادر يقفان بينهما هدير!
نظرات العتاب بينه وبين مازن.
وأخرى معتذرة يرسلها لهدير تبادله بأخرى متفهمة مبتسمة.
وغامضة بينه وبين نادر!
عاد للخلف مفسحًا لهم المجال للدخول ، وأعاد نظراته لميرفت مرة أخرى عندما هتفت به بحزن ولوم :
-"هانت عليك أمك تبعد عنها!"
أغمض عينه بقوة يتنفس بعمق ، لولا كبريائه الذي يمنعه لبكى.. أحنى رأسه يهزها للجانبين يكظم انفعالاته أثر كلماتها القليلة ، فاقتربت منه تجذبه من ملابسه تزرعه في أحضانها بحنان تمسد على ظهره برفق فأحاطها بقوة هامسًا لها :
-"أنا آسف متزعليش مني أنتِ بالذات مش حمل زعلك ، سامحيني"
ابتسمت من بين دموعها وأحاطت وجهه بين كفيها تجذب رأسه مقبلة جبهته تخبره :
-"يعلم ربنا إن غلاوتك من غلاوة مازن ، وتبقى مجنون لو فكرت إن اللي حصل ده هيأثر على حاجة ، أنا عارفة ولادي كويس"
انحنى يقبل ظاهر كفها قبلة طويلة ممتنة ، وأحاط كتفها يقبل أعلى رأسها أيضًا هامسًا بصوت مختنق من مشاعره القوية :
-"ربنا ما يحرمني منك يا أمي"
ربتت على صدره بحنان تبتسم برقة ، فنظر إلى هدير التي اقتربت منهما بدورها تنظر له بغموض وحاجب مرتفع ، فتح فمه يتحدث وقد تأهب للمواجهة فها قد أتى وقتها لكنها قاطعته برفع كفها أمام وجهه إشارة إلى الصمت وهتفت بلوم وخبث :
-"أنا فاكرة كويس رامز اللي قابلني في النادي لما نزلت المقال عن رأفت وبالرغم من كلامه الساخر بس حسيت أنك بتحمي مازن ، اللي هو علشان حد يوصله لازم يعديني الأول"
أغمض عينه لثواني يتنفس بعمق ثم نظر لها مرة أخرى يستمع لها وقد فطن لمحاولتها أن تذكره بمكانته لديهم فأكملت تميل برأسها للجانب قليلًا تنظر له بقوة وشبكت أناملها مع بعضها :
-"وفاكرة رامز اللي عنده مازن وماما وأسماء خط أحمر لو حد قرب منهم هيمحيه..
فاكرة اللي حلف أنه هيبقى مع مازن مهما حصل.. اللي مصدرش منه أي موقف يخليهم يتخلوا عنه"
اقتربت أكثر تطالعه بقوة وقد تعالت نبرة صوتها واشتد الحزم بها تشهر سبابتها إليه مرة ثم نحوها مرة أخرى :
-"فاكرة رامز اللي اعتبرني أخته"
ثم أشارت بسبابتها إلى مازن الواقف خلفها دون أن تزيح نظرها عنه ولم تلتفت له :
-"ووعد جوزي إنه هيجيب حقي ، فيا ترى واجب الأخت المفروض يبقى إيه؟"
فرك وجهه بكفيه وأعاد شعره للخلف بانفعال ، يهز رأسه باعتراض مبتسمًا بسخرية وقال بصوت مليء باليأس والإحباط وإقرار بالأمر الواقع :
-"بس الأخ طلع أخو أكتر شخص أذاكِ في حياتك ، عاوزة تقنعيني أنك هتتقبليه؟"
تلاشت الضحكة عن ثغره ، وقبض على كفه يضرب بسبابته على صدره بعد أن أشار إليها :
-"عاوزة تقنعيني أنك هتتعاملي معايا طبيعي ومش هتفتكريه؟"
ابتسمت بهدوء وكأنها متوقعة إجابته تلك ، ثم كتفت ذراعيها أمام صدرها وأجابته :
-"عارف كنت هعمل كده إمتى؟"
عقد حاجبيه بصمت ينتظر إجابتها يميل برأسه للجانب قليلًا فأكملت مشيرة إلى الجميع بكفها :
-"لو كنت تقبلت كريم ووجوده..
لو كنت سيبت كل دول ومشيت"
ساعتها مكنش حد هيسامحك"-"
هتف بها مازن من خلفها ، يقف واضعًا يديه في جيبيه يشد على جسده لأعلى يطالعه بصرامة ، فترك ميرفت واقترب منه يجابهه في الطول وقال بيأس :
..-"كنت محتاج أبعد ، كنت محتاج أرتب أفكاري
كنت محتاج أستعد إني أواجه نفسي وأواجه الحقيقة علشان أقدر أواجهك وأتقبل أي قرار هتآخده"
كتف ذراعه أمام صدره واستند بمرفقه الآخر عليه يحك ذقنه ، وتسائل بتفكير مصطنع :
-"ويا ترى كان إيه القرار اللي ممكن آخده؟"
-"إيه اللي يخليك تتحمل أخو عدوك في حياتك..."
انتفض الواقفون ، وتعالت شهقة أسماء تزامنًا مع هدير عندما هبط مازن بلكمته على فك رامز عاد للخلف خطوتين ممسكًا فكه الذي بدأ في النزيف من قوتها.
تقبل لكمته بصدر رحب ولم يتحدث ، بل اعتدل في وقفته يمسح خط الدماء بإبهامه يعيد نظره إلى الغاضب اللاهث بقوة ، يعيد هندامه مشهرًا سبابته أمام وجهه بتهديد :
-"دي علشان تبطل تفكيرك الغبي ده"
هبط على فكه الآخر بظاهر قبضته لينحني للجانب للآخر وخرجت آهة عالية منه بسبب شدتها وضعف بنيته من إرهاقه وقلة أكله الفترة الماضية ، ليقترب نادر مسرعًا إلى مازن يمنعه من الاستمرار فيما يفعله هاتفًا :
-"خلاص يا مازن اهدى"
لم يرد عليه بل وجه حديثه لرامز الذي يستند على أسماء التي هرولت له تمسك بوجنته تتفحصها بلهفة مرسلة لأخيها نظرات معاتبة :
-"ودي علشان اللي عملته ميتكررش تاني ، مش بمزاجك تبعد وبمزاجك تبقى موجود"
أفلت يده من أسماء واقترب بخطوات سريعة نحو صديقه مزيحًا نادر للجانب ، وجذب مازن إلى أحضانه بقوة يشد على كتفيه عندما شعر به يحاول دفعه هامسًا :
-"غصب عني ، أنت شوفت حالتي وصدمتي كانوا عاملين إزاي!"
أحاطه مازن باشتياق أخ وعتاب صديق وقال :
-"هنعديها سوا ، واللي حصل مش هيغير حاجة"
هتف نادر إليهم أنه سيأتي بثلج وعلبة الإسعافات الأولية حتى يداوي اللكمات التي بدأت تتخذ اللون الأخضر ، فدلف للداخل لعدة دقائق ثم خرج بهما هاتفًا دون وعي ، يعبث بالأشياء في يده ، كاشفًا عما كان مستورًا الأيام الماضية :
-"أنا عاوز أفهم أنت غبي يا رامز!
الأكل اللي كنت بجيبه ليك كل يوم زي ما هو أومال كنت بتاكل إيه وعايش إزاي عاوز أفهم!"
تعجب للصمت الذي قابله فرفع رأسه وجد الجميع ينظر إليه بصدمة ، أربعة أزواج من الأعين الجاحظة ، وأربعة أفواه مفتوحة ببلاهة ، إلا رامز الذي ضرب جبهته بكفه بيأس من عدم تركيزه يهز رأسه بلا حول ولا قوة!
عقد حاجبيه بتعجب من مظهرهم ولم ينتبه لما قاله ، وجد مازن يقترب منه ببطء وعيناه تناظره بغموض أثار ريبته وارتفع حاجبه للشراسة التي تلوح في عينه وكأنه سينقض على أحد حتى وقف أمامه يقول بهدوء معاكس لاشتعال نيرانه :
-"الأكل اللي إيه يا نادر؟"
عقد حاجبيه بتفكير قبل أن تجحظ عيناه بانتباه إلى حديثه ، لعن نفسه وتسرعه في الحديث ونظر إلى مازن وكاد أن يتحدث فهتفت ميرفت الجالسة بجانب رامز تداويه زوجته بعد أن أخذت الأشياء منه :
-"أنت طول الوقت ده كنت عارف مكانه يا نادر ومقولتش؟"
-"الموضوع مش كده يا أمي والله كل الحكاية..."
قاطعه مازن بصوت ساخر وخطواته تقترب منه :
-"كل الحكاية إيه ها؟"
عاد خطوة للخلف مشهرًا كفيه أمامه يهدأه قائلًا :
-"اصبر بس هفهمك"
لم ينتظر أن يستمع وهبط على فكه بلكمة قوية كالتي أخذها رامز منذ قليل عاد على أثرها للخلف فتعثرت قدمه في حافة الفراش فسقط على الأريكة بجانب ميرفت متأوهًا ، فنظر له بقوة وغيظ قابله مازن ببرود كأنه لم يفعل شيئًا.
أنحنى إلى ميرفت هامسًا :
-"أنتِ كنتِ بتأكليه إيه؟
دي مش إيد بني آدم أبدًا"
مال رامز عليه هامسًا بسخرية ونبرة مغتاظة منه :
-"تستاهل علشان تبقى تمسك لسانك"
رفع نادر قبضته بجانب رأسه في وضع التهديد يكز على أسنانه بغيظ ، ثم دفعها نحو جعبة الثلج الممسك بها يجذبها منه بقوة يضعها مكان لكمته :
-"أنا الغلطان ، دي أخرة اللي يعمل خير لحد"
***************
في الصميم هو وحيد
حياته أشبه بالعلب الصينية
علبة داخل علبة وتتضاءل حجمًا كلما تفتح واحدة
إلى أن تبلغ العلبة الصغرى في القلب منها جميعًا
وإذا في داخلها خاتم ثمين من خواتم ابنة السلطان
بل سر أثمن وأعجب.. الوحدة
عشرة دقائق هي الوقت الذي مر ومازال تحت الماء لم يخرج حتى الآن!
ظهره يظهر تحت صفحة الماء يقطع حمام السباحة جيئةً وذهابًا بجسد عارٍ إلا من سروال قصير ، يتحرك بخفة وسرعة وشيء من الحدة!
هذا حاله منذ أن أخبره والده عما حدث ذلك اليوم ، كان يظن أنه شيئًا عابرًا ولن يهتم به لكن الأمر سيطر على تفكيره بأكمله.. جملة والده تتردد في عقله مرارًا لا يستطيع إخراسها
"رامز يبقى أخوك من أمك..
رامز رافض فكرة أنك أخوه من الأساس"
دفع برأسه إلى الخارج يهزها للجانبين مرتين يزيح الماء عنها قبل أن يدفع بخصلاتها التي التصقت بجبهته للخلف ، واقترب من الحافة يستند بذراعيه عليها يطالع الفراغ أمامه وجسده يرتفع بشكل ملحوظ من تنفسه العالي يشبع رئتيه بالأكسجين.
الموضوع بأكمله يصيبه بالسخرية واللامبالاة ، لم يحدث أي فارق سواء له أخ أم لا أو حتى إذا تقبله هذا الأخ أو رفضه!
لكن عجبًا للقدر من بين أكثر من سبعة مليار شخص في العالم يكون أخاه الرجل الثاني لعدوه الأول مازن ، والذي بدونه لا شيء.. وفي قاعدته " صديق العدو عدو".
لا يعنيه هويته ولا وجوده.. لا يعنيه الأمر برمته ، لكن ما يثير حنقه هو ذلك الهاجس الذي يأتيه في لحظة ما..
ماذا ينقصه كي لا يتقبله رامز كأخ له؟
ضحك بسخرية واستند بكفه على الحافة يدفع جسده لأعلى قافزًا يخرج من الماء ، يسير نحو منشفته يحملها يجفف جسده محدثًا نفسه بإجابته المعتادة على هذا السؤال :
-"وإيه اللي عندك يخليه يتقبلك؟"
أضاء هاتفه باسم نادين فانعقد حاجبيه بدهشة من مكالمتها الآن ، فقد أمرها أن تختفي حتى يطلب منها الظهور!
قبل المكالمة فوصله صوتها المائع الذي يثير سخريته :
-"عامل إيه يا بيبي؟"
أجابها ببرود يرفع منشفته يجفف خصلاته :
-"خير يا نادين!
مش قولت متظهريش غير لما أقولك؟"
-"ومين قال إني ظهرت؟
على العموم أنا حبيت أفكرك باتفاقنا آخر مرة كنا فيها مع بعض وإن كل حاجة اتنفذت زي ما قولت ، بس بصراحة مع تغيير بسيط ، إن رامز هو اللي انقبض عليه لأنه هو اللي عقد الصفقة معايا مش مازن"
وبدون كلمة أخرى أغلقت الهاتف ، فأظلمت عيناه بصورة مرعبة من يراه سيخر صريعًا من الرعب ، يقبض على الهاتف بقوة لا يعلم الشعور الذي يحوم بداخله!
سبها بداخله متوعدًا لها بالعقاب ، فقد كان لابد أن تعود إليه قبل الإقدام على فعل أي شيء.. كان لابد أن تخبره بميعاد الشحنة ليخبرها بما ستفعله!
اندفع للداخل يضع الهاتف على أذنه ينتظر رد مدير أعماله الذي أتى سريعًا :
-"عاوزك تعرف لي مين اللي كان في جمارك الاسكندرية ، وتسمع اللي هقولك عليه وتنفذه بالحرف"
أملاه ما سيفعله ثم أغلق معه قاذفًا الهاتف والمنشفة على الفراش ، يفتح خزانته بعنف يأخذ منها قميص أسود وبنطال من نفس اللون هاتفًا من بين أسنانه :
-"ماشي يا نادين ، حسابك معايا كبير"
وفي تلك الأثناء كان الحال في النيابة العامة مقلوب رأسًا على عقب ، يجرى التحقيق مع رامز بما أنه المسئول عن الصفقة برفقته نخبة من كبار المحامين.
مازن بالخارج برفقة نادر يجريان اتصالاتهما بكل معارفهما للوصول لحل هذه الكارثة.
ياسمين تقف في جانب تحاول الوصول إلى مدير أعمال نادين كي يأتي لكن لا رد.
خرج أحد المحامين فاندفع مازن نحوه في لهفة يسأله عما وصلوا إليه فأخبره الرجل بإحباط :
-"مفيش حل غير إننا نثبت إن الشحنة تم تبديلها في الجمارك وإنها خارجة من الشركة الألمانية سليمة"
كاد أن يتحدث لكن قاطعه اقتراب شخص ما خلفه خمسة أشخاص آخرين ، يطلب من الحارس أخذ الإذن بالدخول لتمر دقيقة ويدخل تحت أنظار مازن الذي تبادل النظرات المتعجبة مع نادر!
لم يمر الكثير وخرج رامز فملامح مكفهرة متعبة ، يبدو عليه الإرهاق فاستند على الحائط خلفه رافعًا رأسه لأعلى مغمض العين ، تاركًا المحامي يخبره بما حدث :
-"تم الإفراج عن الباش مهندس رامز ، واعتراف اللي عملوا كده أنه بريء"
قاطعه رامز بسؤاله المتعجب :
-"أنت لاقيت بتوع الجمارك إزاي؟"
عقد مازن حاجبيه بعدم فهم :
-"بتوع الجمارك مين؟
أنا مش فاهم أي حاجة"
-"الناس اللي دخلوا دول اعترفوا أنهم هما اللي بدلوا الشحنة السليمة بشحنة فاسدة"
يستمع للكلمات بصدمة وعدم استيعاب ، هو لم يفعل هذا بل لم تتسع له الفرصة أن يفكر حتى فيما سيفعله ، فمن فعل هذا؟
من استطاع الوصول إلى الفاعلين بتلك السرعة إليهم وجعلهم يعترفون أيضًا؟
ألاعيب الساحر كثيرة تصب جميعها في إناء واحد وهو "الأذى"
لكن ماذا إذا انقلب السحر على الساحر؟
دقات على باب المنزل بقوة جعلتها تهرول لفتحه بذعر وقلق وقد علمت هوية القادم فلا أحد يعرف هذا المكان غيره!
تغلق حزام روبها القصير في رابطة حول خصرها قبل أن تفتح الباب لتعود للخلف بقوة بسبب دفعه لها بعنف وأغلق الباب بقدمه يقف أمامها بهالته المرعبة التي لا يحب أحد اللقاء بها.
يرفع كمي قميصه إلى مرفقيه أبرزت ساعديه الأسمريين بعروقهما البارزة بسبب تدفق الدم القوي بهما من شدة انفعاله..
يفتح أول أزرار قميصه كاشفًا صدره الذي يصعد ويهبط بهدوء أثر تنفسه..
لكن عيناه كأنهما استعارت سواد الجحيم واشتعاله!
عادت للخلف تبتلع ريقها بخوف تأخذ حذرها منه لكنه جذبها من خصلاتها بعنف جعلتها تصرخ بألم ممسكة بقبضته تحاول فكها بفشل ليهمس بفحيح جانب أذنها :
-"أقسم بالله لو صرختِ لتكون آخر صرخة هتطلع منك يا نادين أنتِ فاهمة؟"
طبقت على شفتيها بأسنانها وأومأت في طاعة ، ليبتسم بشر فكان أشبه بالشيطان المتجسد في هيئة بشر وقال بهمسه :
-"مين قالك تتصرفي من دماغك من غير ما ترجعي ليا وخصوصًا في الموضوع ده؟
وليه مقولتيش أن رامز هو المسئول مش مازن؟"
ضغطت على جفنيها بقوة تحاول تحمل الألم المنتشر في رأسها من قبضته ، تتلوى بجسدها حتى تستطيع الفكاك فتشتد قبضته أكثر :
-"ده كان الاتفاق بينا إننا هنعمل كده مش فاهمة إيه المشكلة وإيه اللي معصبك؟
ثم هيفرق معاك إذا كان رامز ولا مازن"
هز رأسها بين يده للأمام وأعادها إليه من جديد صارخًا بها برعب كمن وجد فرصته للتنفيس عن غضب الأيام الماضية ، تقلب أموره ، ظهور ياسمين ، معرفته بأخوته لرامز!
كل هذا يجعله مشتت ، لا يستطيع التفكير وهذا ما يكرهه!
ومن حظها العسر أنها جاءت في تلك الفترة ليستغل ما فعلته كي يحرر الوحش الثائر بداخله والذي يتآكله وحده من الداخل!
-"أنا اتفاقي معاكي هنعمل إيه في الشحنة لكن مقولتش مين هينفذ!
ثم أنتِ إيه علاقتك تفرق معايا ولا لأ؟"
دفعها بعنف لتسقط على الأرض ووقف يتنفس بلهاث كبير دون أن يشعر بها وقفت وتقترب منه تديره من مرفقه بقوة هاتفة به :
-"ومش أنت اللي هتقولي أعمل إيه يا كريم ، متنساش أنا أبقى مين؟"
لتبتسم بسخرية ترمقه من أعلى لأسفل باستفزاز :
-"ثم خليك في البرنسيس اللي ماشي تلف وراها في كل حتة وملكش دعوة بشغل الكبار لو صعب عليك"
ختمت حديثها بصرخة عالية وسقوط مدوي بسبب صفعته لها بظهر يده ، تستند بكفيها على الأرض وآهة عالية صدرت منها قبل أن تتحول لشهقة كبيرة وصرخة ثانية عندما جذبها من خصلاتها بيد والأخرى أحاطت عنقها بقوة حتى كادت أن تختنق ، هامسًا من بين أسنانه بشراسة :
-"قسمًا بالله لاعرفك مين هو كريم منصور لأن الظاهر إن أنتِ اللي نسيتيه ، هخليكِ تندمي على كلامك ده يا نادين وافتكري ده كويس"
دفع رأسها فاصطدمت بالأرض أدت لفقدانها الوعي ، فنهض ببرود وخطى من فوقها يخرج من المنزل بأكمله دون أن يرف له جفن.
دلف إلى سيارته ووصلت رسالة من مدير أعماله أن ما طلبه قد تم فابتسم بغموض قبل أن يفتح رسالة جديدة ويكتب بكامل السخرية
"مبروك الإفراج يا باش مهندس ، اعتبرها هدية من الأخ الصغير للكبير بمناسبة إننا عرفنا أننا أخوات ، أنت عارف الأخوات لبعضيها"
أرسلها ودفع هاتفه إلى الكرسي بجانبه وانطلق بسيارته يرسم ابتسامة منتشية على ثغره وعقله يفكر في القادم!!
أنت تقرأ
الحب سبق صحفي " مكتملة "
Romanceهي :- أنا فتاة عشت لـ نفسي , لـ حريتي , أعيش في مملكتي , ارفض القيود , أحب الحياة, أعشق الحرية , ولكني لن أنسى أني شرقية , ابنة رجل الرجال , وأخت فرسان , وحبيبة رجل ليس ككل الرجال .... أنا امرأة لا أنحنى إلا في صلاتي .. و لا أصمت إلا عندما ينعدم كلا...