الفصل الخامس عشر
الغضب جنون قصير
ساعته ليس لها عقارب
فأولئك الذين في ثورة غضبهم لا يحملون سلطانًا على أنفسهم ولا ردود أفعالهم.
لكن في قانون الحب غالبًا ما ينتج عن الغيرة
فهما متلازمان لا مجال للهدوء والسلام بينهما
يقال "اتقِ شر الحليم إذا غضب"
لكن هنا يقال "اتقِ شر الحبيب إذا غار"
صمت مطبق في غرفته بعد أن أغلق هاتفه مع حارسه.. ملامح جامدة ، نظرة سوداء غامضة لا تنم عما يدور في عقله ، ينظر في نقطة ما في الفراغ ولم يصدر منه أي رد فعل.
اللون الأبيض المحيط بحدقتيه الزرقاء استحال للأحمر حتى برزت شعيراتها الدموية ، يضغط على عضلة فكه بقوة حتى كادت أسنانه أن تتكسر ، وقبضته تشتد على هاتفه .
ماذا يفعل بها؟!
ماذا يفعل حتى يكبح جماح ثورتها وعنادها الذي سيؤدي بها إلى طريق الهلاك؟!
هل تستغل حادثته لتتصرف كما تشاء؟
حسنًا سيضع حد لهذا الرأس الحجري ، وليرى ما الذي ستؤول إليه الأمور!
أمامه صديقه يخلل أنامله بخصلاته بتوتر ، يعلم أن خلف هذا الصمت ثورة كبيرة ستنفجر بمجرد رؤيتها.. حاول فتح حديث معه لكن كل ما قابله السكون والبرود الذي لا يتجزأ من شخصيته.
غيظ اجتاحه منها ومن تصرفاتها التي تزيد الأمور بينها وبين صديقه سوءً بعد أن بدأ الهدوء يتسلل بينهما وبراعم الحب تنمو.
حاول فتح الحديث معه مرة أخرى لكن دق الباب أعاقه عما ينوي ، زفر بيأس ونهض يفتح فطالعه وجه هدير برفقة والدتها ووالدها .
-"جالك الموت يا تارك الصلاة"
همس بها في قرارة نفسه وعلم أن تلك الزيارة لن تمر مرور الكرام إلا وساء الحال بينهما أكثر .
أراد جعلها تذهب من هنا هذه الساعة لكن وجود أسرتها معها هو ما منعه؟
أشهر كفه لسالم يبادر بالسلام بابتسامة رسمية :
-"أهلًا وسهلًا يا سالم بيه"
ثم نظر لزوجته يوجه لها التحية :
-"أخبار حضرتك يا هانم؟"
أومأت له سهام بابتسامة حنونة مربتة على كتفه ، في حين بادله سالم التحية بود :
-"أهلًا بيك يا أستاذ رامز، يا ترى مازن صاحي ولا لسه نايم؟"
-"لا طبعًا صاحي.. اتفضلوا"
أفسح لهم طريق الدخول ليتقدما أولًا خلفهم هدير التي أوقفها هامسًا :
-"هدير مهما مازن عمل أو قال من فضلك خليكِ هادية"
عقدت حاجبيها بدهشة وقد عادت خطوة للخلف تقابله متسائلة عن مقصده ، لكنه دفعها برفق للداخل حتى لا يلاحظ مازن شيء قائلًا :
-"متقلقيش هتعرفي"
انضما إلى الجميع فرأت والدتها تقف بجانبه تمسح على رأسه وكتفه تقول بنبرة حنونة :
-"أنت بخير يا حبيبي ، طمني عليك أنت كويس؟"
ابتسم لها مربتًا على كفها ثم أمسكه يقبل ظاهره بحب :
-"اطمنِ يا حبيبتي أنا بخير متقلقيش"
ربت سالم على ظهره مبتسمًا :
-"إن شاء الله تخرج من هنا بالسلامة يا بني"
بادله الابتسامة مرددًا المشيئة خلفه .
مر القليل من الوقت في حديث عام من سالم بادله إياه بسلاسة.. ونصائح عن سلامته وطعامه من قبل سهام استقبلها بمرح وسعادة.. وصمت مرتقب من قبل هدير!
نهض والدها للذهاب بسبب اجتماعه بالشركة وسهام ستذهب لزيارة والدته على وعد بالمجيء مرة أخرى .
خرجا وذهب رامز معهما يترك الفرصة لهما للحديث ، فوجوده لا فائدة منه الآن.
طوال الوقت لم يبادلها ولا حتى نظرة ، ولم يوجه لها أي حديث ، حتى بعد ذهاب والديها أرجع رأسه للخلف مغمض العين يغلفه هالة من الغموض والهدوء الحذر .
رمشت عدة مرات تحاول البحث عما حدث منذ الأمس حتى الصباح جعله يتغير بهذا الشكل ، فلقد ذهبت من هنا والحال بينهما بخير ، ومن حينها لم يتحدثا فهي لم تفعل شيئًا بعد عودتها من شركة كريم...!!!
اتسعت عينها عن وصولها إلى تلك النقطة!
هل علم بأمر ذهابها إليه ولهذا يتعامل هكذا؟
عضت على شفتيها بشبه صدمة ناعتة نفسها بالغباء ، فكيف لن يعلم وحراسه الموكولين بحراستها بالتأكيد أخبروه ما أن تحركت ووصلت إلى هناك!
زفرت بخفوت ، وتهدلت أكتافها تغمض عينها بقلة حيلة!
وضعت حقيبتها ونهضت تقترب منه واضعة كفها فوق كتفه المصاب بهدوء تهمس باسمه حتى ينتبه إليها ، لم يعيرها اهتمام في بادئ الأمر غير أنه فتح عينيه ينظر لها بصمت ، لكن هذا الغضب الذي يلوح في زرقتيه بعيد كل البعد عن الهدوء!
ازدردت لعابها بحذر ونظراتها تسأله عما به ، اعتدل في جلسته ولم يقطع نظراته معها يسألها بدون مقدمات :
-"أنت روحتِ لكريم امبارح؟"
رمقته بصمت مشوب بالحنق ، يعلم أنها ذهبت فما الغرض من سؤالها!!
أرادت قول هذا لكنها آثرت السلامة فأومأت بصمت ، فعاد يسألها بنفس هدوءه التي باتت تكرهه :
-"ليه؟"
سعلت والتفتت تعود لمجلسها السابق تخلق مسافة بينهما :
-"مش وقته يا مازن ، لما تخرج بالسلامة إن شاء الله هحكي لك أكيد"
جذبها من رسغها قبل أن تتحرك يضغط عليه بقوة وقد بدأ غضبه يلوح على وجهه ، فهتف من بين أسنانه :
-"بقولك روحتِ ليه ؟
قبل ما تنزلي من هنا وأنا حكيلك كل بلاويه ، عاوزاه يبقى إيه علشان تبعدي عنه؟
عوزاني أقولك إيه علشان تختفي من طريقه؟
وفي الآخر تروحي برجلك ليه؟"
حاولت تحرير يدها من قبضته بعدما عصف بها الألم تهتف :
-"مازن سيب ايدي بتوجعني ، أنا مقولتش مش هحكي لك أنا بقولك مش وقته"
شهقت عندما جذبها إليه حتى كادت أن تصطدم به لولا أنها تمسكت بكتفه السليم ، فأصبحا وجهيهما متقابلين.
همس بحدة شعرت بذبذباتها في أنفاسه الحارة التي تلفح وجهها :
-"مفيش حاجة اسمها مش وقته ، أنتِ بتستغلي قعدتي في المستشفى وتتحركِ على هواك !!"
اتسعت عيناها بدهشة من تفكيره لكنه لم يعرها اهتمام وأكمل :
-"ممكن تقولي لي لحد امتى هيسيبك من إيده وأنتِ ريحاله بنفسك؟
لو كان عملك حاجة وأنا بالمنظر ده مش عارف إيه اللي بيحصل معاكِ كان مصيرك هيبقى إيه؟
مش عاوزة تفهمي ليه إني خايف عليكِ ، وعنادك ده هيضيعك"
حاولت الحديث حتى يفهم ولا يتفوه بالترهات ، فهتفت وقد بدأت الشراسة تتمكن منها بعد أن حررت يدها منه :
-"مازن ، أنا فاهمة وعارفة كويس قوي كريم ده يبقى إيه؟
بس لو حكمت عقلك أكيد مش هروح له بمزاجي ، مش واحشني يعني هروح أطمن عليه!"
هل تعلم أنها تزيد الأمر سوءً؟!
بدلًا أن تمتص غضبه وتخبره سبب ذهابها تثير حنقه أكثر .
انتفضت بذهول تضع يدها على أذنها عندما أمسك بالكوب الزجاجي يلقيه بعنف في الحائط أصدر صوتًا مدويًا دخل على أثره رامز الذي سمع التكسير فقرر الدخول حتى لا يزداد الأمر سوءً.
رأى الزجاج متناثر على الأرض ، والاثنان يرمقانه بنظرات مختلفة.. هدير بذهول ومازن بجمود .
هتف مازن بحدة ولم يعبئ بدخوله وقد تلبسه شياطينه :
-"مهما أحذرك مفيش فايدة ، عنادك وتسرعك هما اللي بيتحكموا فيكِ ، لو حكمتِ عقلك ولو واحد في المية استحالة هتروحي هناك ، لكن إزاي لازم هدير سالم تندفع وتتصرف عشان قدام نفسها تبقى مقصرتش مش كده؟"
-"مازن كفاية"
هتف به رامز وقد علم أنه طالما وصل إلى تلك المرحلة سيتفوه بالترهات التي هم في غنى عنها ، لكن لم يستمع له الآخر التي ظل يهتف ويده تتمسك بكتفه المصاب :
-"مفيش كفاية ، تقدر تقولي لو كان عملها حاجة كنت هعمل إيه وأنا في الحالة دي؟!
ولو مكنش الحراس بلغوني مكنتش هتحكي حاجة"
نظر رامز إليها فرأى نظراتها تتحول من الذهول إلى الشراسة والغضب والتفتت إلى مازن ترمقه بأنفاس لاهثة ثم تقدمت إلى حقيبتها تخرج هاتفها تعبث به بأناملها ووضعته أمام عينيه!
قرأ ما أطلعته عليه ورفع عينيه إليها بصمت والتساؤل يلوح بها فابتسمت بسخرية :
-"الرسالة دي جت لي بعد ما نزلت من عندك على طول ، عارف معنى الرسالة إيه؟
معناها إنه مراقبني ، عارف أنا فين وبعمل إيه.. إنه السبب ورا كل اللي حصلك"
جذب رامز الهاتف منها يقرأ الرسالة بحاجبين معقودين قبل أن يشمله الغضب يرفع نظره إليها هامسًا :
-"كريم السبب ورا حادثة مازن؟"
لم تجبه هدير لكن مازالت تنظر لزوجها بغضب وصدرها يرتفع وينخفض من تنفسها السريع :
-"عارف إحساسي كان إيه وهو بكل بجاحة يقول لي إنه السبب وإنه هيفضل يحاول ويحاول عشان يخلص منك واللعب على المكشوف؟
الأمور اللي بينكم أنتو الاتنين أنا مليش دخل فيها وملوش لزوم أعيد وأقولك إني واثقة فيك ، بس ...."
تقدمت منه وانحنت واضعة كفها على حافة السرير والأخرى مستندة على الفراش مقتربة بوجهها منه غير عابئة بوجود رامز:
-"بس تقدر تقولي لو كنت طلعت وقرأت الرسالة كنت هتعمل إيه بردو وأنت بحالتك دي؟
كنت هتقوم تقتله؟!
ولا هتعامله بالمثل يا مازن؟!
في كل الحالات مكنتش هتعمل حاجة غير لما تخرج من هنا ، لأني عارفة حقك بتآخده بأيدك علشان كدا قولت لك مش وقته"
ظل الاثنان يرمقان بعضهما بغضب وأنفاس حارة تنم عن الثورة القائمة بداخل كل منهما!
تعلم أنه قلق عليها خاصةً عندما يكون عاجز هكذا لن يستطيع إنقاذها إن أصابها شيء!
ويعلم أنها لا تستطيع السيطرة على رد فعلها إذا كان الأمر خلفه كريم!
لم يرَ خوفها عليه ،ولم ترَ غيرته عليها!
-"أنا روحت أعرفه حاجة واحدة بس زي ما قولتها له هقولها لك.. اللي قدامكم دي مش هدير سالم المندفعة اللي عاوزة تبان قدام نفسها مش مقصرة ، أنا هدير مازن السيوفي!!
يعني زي ما أنت بتخاف على اللي ليك أنا بخاف على اللي ليا"
همست بحدة ونبرة بعيدة كل البعد عن الهدوء والحب.
التمعت عينيه بانبهار سيطر عليه عندما أعلنت ملكيتها له!
فكر هل أخبرت كريم بهذا الشيء؟!
يفع عمره كله ويحضر هذا المشهد أمامه .
قطعت التواصل البصري بينهما والتفتت تأخذ هاتفها من رامز وجذبت حقيبتها بعنف تهز رأسها وبداخلها حزين من أسلوب حواره معها ، كادت أن تذهب فأوقفها صوته الهادر :
-"رايحة فين؟"
وقفت عند الباب تمسك بمقبضه ولم تكلف نفسها وتلتفت تنظر له ، بل أجابته بحدة :
-"اطمن رايحة الشغل ورايا حاجات مهمة أعملها"
لم تنظر رده وخرجت صافقة الباب خلفها ، تاركة إياه ينظر في أثرها بملامح متوجعة من كتفه لكن غضبه من نفسه لعدم السيطرة على ردوده والتمسك بهدوء ، لكنه أقنع نفسه أنها أخطأت بذهابها وعدم تفكيرها بالعواقب .
ورامز الذي يضع كفيه في جانب بنطاله يطالع صديقه بصمت يهز رأسه بيأس وقلة حيلة.
كلما كان البئر أعمق
كان الماء أبرد وأعذب
بالمثل كلما فكرت جيدًا وبعمق قبل أن تخرج دلوك من قلبك ، كان الجدال أكثر هدوءً وتفهمًا!
فالكلام مرهون بالعقل ويبنى عليه ردود فعل الآخر .
وبالرغم أننا نؤمن أن اختيار العقل الأكثر صوابًا!
إلا أنه يصعب علينا عدم الالتفات إلى أشياء اختارتها قلوبنا!
فالحب جنة القلب وجحيم العقل !
يجابه العقل بالغضب والغيرة
فتكون الثقة بلسم القلب لهذا الجحيم حتى يخمد!
جلس واضعًا ساق فوق الأخرى ، يتسند بمرفقه على حافة الكرسي واضعًا أنامله أسفل ذقنه ، يلقي ذراعه الآخر على الحافة الأخرى بإهمال يطالع ذلك البارد الذي يجلس وكأنه لم يحدث شيئًا ، بعد أن أتصل بحراسه الموكلين بحمايتها وأمرهم بنبرة قاطعة أنها إذا اقتربت مرة أخرى من شركة كريم يتم منعها بالقوة حتى لو اضطروا أن يفقدوها الوعي كالمرة السابقة أثناء تصويرها لعملية الرشوة.
يتابع الممرضة تضمد جرح كتفه الذي نزف بسبب ثورته وتحركه الكثير ، تضع له المسكنات لسكون ألم قدمه ورأسه قبل أن تخرج.
تناول مازن دواءه وانحنى يضع كوب الماء فالتقط نظرات رامز الجامدة ، وضع الكوب واستند مرة أخرى للوسادة خلفه :
-"لو عندك حاجة عاوز تقولها بخصوص اللي حصل يبقى وفرها أحسن ، أنا مش عاوز أتكلم في الموضوع ده على الأقل دلوقتي"
-"عزيز العجمي كلمني النهاردة الصبح وبلغني أنهم درسوا موضوع الشراكة كويس بينا وبينهم وبين شركة العامري ، مش ناقص إلا اجتماع ثلاثي نناقش فيه كل حاجة باقية قبل ما نمضي العقود ونعلن"
طالعه بدهشة من حديثه في موضوع آخر ولم يعلق على ما حدث منذ قليل كعادته عندما لا يعجبه شيء!
تنهد بعمق فتعامل رامز بهذا الشكل يعني أنه زاد الأمر سوءً ولم يعطي فرطة لعقله أن يفكر ولو قليلًا..
هو حتى لم يعطها الفرصة كي تخبره الغرض وراء ذهابها!!
التفت له وتلبس شخصيته الرسمية والجادة المتميز بها عندما يتعلق الأمر بعمله :
-"أنت شايف إن خطوة الشراكة دي في مصلحتنا؟
أنت مطمن من ناحيتها؟"
أومأ باطمئنان يمسح على لحيته القصيرة للغاية :
-"اطمن.. أنت عارف أن العجمي ليهم في كل حاجة وبالتحديد في الهندسة والعمارة ، والاستيراد والتصدير
ودول مجالنا وهما من أكبر الناس في المجال ده ، فشراكتهم مكسب وكمان سمعتهم كويسة أنت عارف"
تنفس مازن براحة فهو متأكد من اختياراته ، لكن طمأنينة رامز له تعني شيئًا آخر .
-"حلو أوي ، حدد معاهم الاجتماع كمان يومين"
طالعه الآخر بعدم فهم ماذا يعني ب (كمان يومين)؟!
لقد نجى من حادث بأعجوبة ، ملقى أمامه مجبور الساق ، مجروح الكتف والرأس.. فكيف الاجتماع على شراكة كبيرة تعتبر الأكبر في المنطقة في تلك الفترة بعد يومين؟
اتسعت عيناه عندما فطن إلى ما ينوي ووقف بحدة يقترب منه هامسًا بحذر :
-" عارف لو تقصد اللي في بالي !!"
-"أيوه هو.. أنا هخرج من المستشفى النهاردة ، أنا بقيت كويس الحمد لله"
هتف به بشراسة وقد تلبسته شياطينه من غباء الجالس أمامه :
-"هو أنت الحادثة أثرت على مخك؟!
أنت مش شايف رجلك ، ولا كتفك؟
تقدر تقولي هتتحرك إزاي؟"
ناظره ببرود وأجابه بهدوء يثير الغيظ :
-"الحمد لله فيه رجل تانية ودراع كمان شغالين محصلش ليهم حاجة.. المهم إني مش هبات يوم كمان هنا ومش عاوز نقاش"
ضغط على قبضته بشدة حتى ابيضت مفاصله يرفعها في وجه هذا المستفز يتمنى لكم وجهه بشدة ، لكنه متأكد أنه سيجعله مصاب بفقدان الذاكرة إذا هبطت على فكه.. فبدلًا من ذلك هبط بها على الحائط أعلى الفراش ، ثم جذب طرفي سترته بعنف وهتف بحدة :
-"أنا ماشي رايح الشركة أشوف شغلي ، بدل ما يحصل لي حاجة وأنام جمبك هنا بسببك"
ابتسامة جانبية لاحت على شفتي مازن يطالع صديقه بهذا الغضب ، لكنه أخفاها عندما وجده يعود أدراجه إليه يقف بالمقابل منه يشبك أنامله ويستند بذراعيه على الحافة الخلفية للفراش قائلًا :
-"عاوز أقول لك على حاجة.. أنا كل مدى وشكي في ياسمين بيزيد ، حاسس إن وراها بلوة"
طالعه باندهاش وتساؤل :
-"مش فاهم إيه خلاك تقول كده؟"
سرد له ما لاحظه من تصرفاتها ، خاصةً المكالمات المبهمة والذي يظن أنها تخرج معلومات الشركة لأحد ما..
أخبره بشكوكه أن تكون جاسوسة لأحد ما ، ففي الفترة الأخيرة كثرت المشاكل لديهم انتهت بتلك الحادثة!
تخلل خصلاته يهذبها يتساءل :
-"تفتكر ممكن تكون مع كريم؟"
لم يجبه ، بل ظل يستمع إليه بنظرات غامضة وملامح مبهمة لا تُقرأ .. فاستطرد الآخر يحثه على الحديث :
-"أنت روحت فين؟!"
رمش مازن مرتين وهز رأسه نافيًا :
-"متقلقش ياسمين مش جاسوسة ولا هي مع كريم اطمن وشيل الشكوك دي من دماغك"
ناظره بتعجب من الثقة الذي يتحدث بها ، فاقترب بجسده للأمام يسأله بأعين ضيقة :
-"مازن.. فيه حاجة معرفهاش؟"
-"أنا هحكي لك بس علشان دماغك متلفش وتدور على الفاضي والبنت بريئة"
رفعة حاجب مندهشة هو ما تلقاه منه فقط ليكمل :
-"يقين ثابت المهدي.. أبوها كان شريك أبويا ورأفت منصور ، وهو اللي لقى الورق اللي يثبت أن رأفت شغله مش مضبوط وأنه شغال مع المافيا"
-"الورق اللي بسببه قتلوا أبوك؟!"
سأله بترقب ليومئ له مازن وقد صمت عندما تذكر ذلك اليوم ، فازدرد ريقه ببطء وأكمل بتنهيدة عميقة :
-"سلمه الورق ووصاه على بنته كان عندها أربع سنين لأنه عارف إنهم مش هيسكتوا وهيقتلوه.. علشان كده أبويا خدها ووداها عند ناس يعرفهم يعرفوا يحموها كويس وكمان استحالة يوصلوا ليها ، زور موتها وغير اسمها من يقين لياسمين"
كان يستمع لهذا الحديث لأول مرة وذهوله يزداد أضعاف ، لم يصدق كل هذا!
هز رأسه بقوة ، فيبدو أن عداوته مع رأفت ليست متعلقة بأبيه فقط ، وليست بسبب العمل.. بل هناك ما هو أعظم وأكبر!
هناك حقد وضغينة تجبر المرء على فعل أسوء ما يمكن فعله!!
سأله بخفوت وحذر :
-"عاوز تقولي إن ياسمين هي يقين؟"
أومأ مازن بتأكيد فزفر الآخر بقوة ثم أكمل :
-"طب وأنت وصلت ليها إزاي؟"
أغمض عينه وقد بدأ يشعر بالإرهاق ، فمنذ الأمس حتى اليوم ضغط نفسي كبير وذكريات تتدفق بشدة على مخيلته قمعها منذ زمن.
أجابه بخفوت وأنفاس متهدجة :
-"من وصية أبويا.. وصاني عليها وعرفني مكانها ، عشان كده جبتها وشغلتها في الشركة تبقى تحت عيني وحمايتي.. والناس اللي كانت بتكلمهم دول هما الناس اللي كانت عايشة معاهم واللي تعتبرهم أهلها''
الأن فهم كل شيء!
حمد الله أنه أفصح عن شكوكه حتى يخبره مازن بكل تلك الأشياء!
فقد كان على وشك ظلمها واتخاذ قرار صارم بالنسبة لها ، لكن جيد أنه لم يتهور وحكم عقله أولًا!
أومأ براحة يعتدل في وقفته يضع كفه في جيبه والأخر يخرج نظارته :
-"كويس إنك حكيت مع إننا لسه هنتحاسب على إنك مقولتليش من الأول.. يلا همشي علشان ألحق الشركة"
التفت يذهب فأوقفه صوت مازن يخبره بإقرار :
-"بعد الشركة تجيلي علشان ترجعني البيت.. أنا مش قايل لحد ، ميرفت هانم لو عرفت هتقيم علينا الحد"
نظر له من أعلى كتفه بحاجب مرتفع ، وابتسم بسخرية ولم يعلق.. بل ارتدى نظارته وخرج من الغرفة بعد أن أشاح بالسبابة والوسطى علامة (إلى اللقاء) .
★★★★★
مشاعر متضاربة تباغتها من وقت لآخر ، قلبها ينتابه الحيرة مما هي فيه!!
تحبه!
نعم تحبه لا تستطيع الإنكار ، إن أنكرت فإنها تكذب على قلبها ونفسها قبل أي أحد!
لكن ما يحيرها أن من أحبته هو الرجل الممتلئ بكافة الصفات التي تمقتها.
يحيطها بأوامره ، تحكماته ، نظراته ، وحضوره المهيب!
بكل تلك الأشياء دك حصون قلبها التي أمضت السنوات في إنشاءها كي تحميه من أي جراح أخرى!!
استندت بمرفقيها فوق سطح مكتبها تعيد خصلاتها للخلف ممسكة بها بين أناملها تفكر فيما حدث هذا الصباح.. تعلم أنه معه حق وأنه خائف عليها لكنها لا تتقبل هذا الأسلوب في الحوار.
لم يترك لها الفرصة أن تخبره الأمر كاملًا وسبب ذهابها إليه!
ضحكت بخفوت وكأن بداخلها يسخر منها ، فهل تريد بعد كل ما أخبرها به أن يتعقل في رد فعله؟
أخرجها من شرودها الكوب المليء بالقهوة الذي وضعته منار أمامها ، فرفعت أنظارها إليها لتجدها ترمقها بصمت واضعة يدها أسفل ذقنها قبل أن تقول :
-"كفاية بقى يا هدير.. أنتِ عارفة كويس إنه معاه حق أنتِ بس كل اللي مزعلك إنه أتكلم بعصبية"
طالعتها بنزق وكادت أن تتحدث لكن الأخرى لم تعطها فرصة وهتفت بحزم :
-"أنتِ كمان عاوزة تقاوحي؟
عاوزة إيه تاني أكتر من اللي قاله عشان تبعدي عن الزفت ده؟!
سيبك من اللي قاله خالص.. عاوزة إيه أكتر من اللي عمله زمان عشان متقربيش منه؟
أنا مش هستنى لحد ما البيه يعملك حاجة تاني وساعتها نتحسر"
ناظرتها بصمت غير مندهشة من كرهها لكريم ، فهي من بداية معرفتها به وقد أخبرتها صراحة أنها لا تطمئن له ولا لشخصه ، تشعر أن خلفه أمر ما وحذرتها منه.. لكنها الغبية لم تستمع لها.
تذكرت تعاملها معه عندما كانت تراه معها .. ابتسامة صفراء ، ملامح جامدة ، حديث رسمي أو ساخر كانوا ردود أفعالها معه!
تذكرت بعد تلك الحادثة التي تسببت في سجنه ، كانت منار من نشرت ذلك الخبر عنها ، لم ترها سعيدة مثل هذا اليوم وهتفت أنه فرحت عندما علمت أنه خائن ، فلقد تخلصت منه!
ضحكت عندما تدفقت تلك الذكريات إليها فكتفت ذراعيها على المكتب وغمزت لها قائلة بمرح :
-"وهتعملي إيه يا هولاكو؟"
استندت على المكتب بكفيها وانحنت بجسدها مقربة رأسها منها تناظرها بشراسة هامسة :
-"مش أنا اللي هعمل ، الحمد لله ربنا رزقك بواحد هيكسر دماغك قبل ما تكرريها تاني ، فاطلعِ من دور هركليز عشان كريم خلاص يوم ما يفكر يتحرك ويأذي مش هيقرب منك.. هيأذي أقرب الناس ليكِ والبداية أهي حادثة مازن.. فيا رب نتعظ"
استقامت ترفع كوبها بعنف من على المكتب والتفتت تتقدم من مكتبها بعد أن رمقتها بنظرة تهديد ، فكادت أن تسقط بسبب اندفاع هدير نحوها وضمها من الخلف فسقطت بضعة قطرات من القهوة على كفها نفضتهم بغيظ واستدارت برأسها تنوي الصراخ ، لكنها قاطعتها بمرح :
-"ربنا يخليكِ ليا يا منار ، حقيقي من غيرك مش عارفة أنا هتصرف ازاي!
اندفاعي وغضبي كانوا هيسيطروا عليا"
تنهدت بقوة تنظر لأعلى تقلب عينها تهز رأسها بقلة حيلة منها ، ثم ربتت على ذراعها المحيط بكتفيها :
-"أنا خايفة عليكِ ، ومازن كمان خايف عليكِ ورد فعله طبيعية جدًا ، محدش هيقدر يحميكِ طول ما أنتِ بتبوظي الدنيا من الناحية التانية"
شددت من ضمها لتضمها الأخرى بحنان ، ثم وقفت أمامها تهتف بمرح :
-"بس لا طلع يتخاف منك ، زهقك أعوذ بالله"
رفعت حاجبها ونظرة سخرية هو كل ما رمقتها بهم منار ترفع كوبها إلى فمها ولم تجبها ، فاستدارت الأخرى بنظرها في الأرجاء متسائلة :
-"هو عامر بيه وافق على إجازة نادر ولا إيه؟
مش شيفاه كده ولا قابلته النهاردة"
أومأت بتأكيد :
-"أه.. شغل باباه الله يرحمه عاوز تركيز جامد الفترة دي خصوصًا في الشحنات الجديدة ، علشان كده سافر الفرع اللي في الاسكندرية يستلمهم"
دلف محمد في تلك الأثناء يلقي التحية بمرحه المعتاد يخص بها منار :
-"سلام على أجمل واحدة في الجريدة"
ضحكت له بمرح وبادلته التحية برقتها ، فهتفت هدير من خلفه بنزق من تجاهله لها :
-"هو أنا هوا في الأوضة مش باينة يعني؟"
رمقها بحنق لاويًا فمه بغيظ :
-"سلام قولًا من رب رحيم"
تعالت ضحكات منار تعود للخلف بجسدها بعد أن جلست خلف مكتبها ، فلكمته هدير في كتفه ليهتف بها :
-"اللي يقول الحق يبقى وحش.. وبعدين لو تشوفي نفسك وأنتِ داخلة الصبح كان فاضلك دقيقة وتطلعي نار من بوقك ولا التنين المجنح"
-"محمــد..!!!"
هتفت به بغيظ وكادت أن تلكمه مرة أخرى فطالعها ببرود وقال :
-"رئيس التحرير بيقولك المقال بتاعك هينزل الأسبوع الجاي ، وهاتي الملف اللي جابهولك من يومين لو خلصتيه"
أومأت له بعملية قائلة :
-"حاضر ، هنزل أطبع منه نسخة وأبعت لك الأصل على المكتب"
التفت يخرج لكنه توقف عند الباب ينادي عليها ، فنظرت له بتساؤل وحاجبين معقودين باهتمام فقال بغمزة :
-"صباحك فل يا قمر"
ثم التفت يذهب بكل سلام نفسي تاركًا إياها تطالعه بدهشة وعدم استيعاب بالبداية قبل أن تنظر لمنار ، ثم ضحكا ملئ شدقيهما.
هزت رأسها بيأس منه ونهضت ترتب الأوراق التي يريدها في ملف واحد ثم توقفت أمام مكتب الأخرى تنحني قليلًا هامسة:
-"نسيت أقولك حاجة.. خفي على خطيبك شوية الله يكون في عونه ، شغل الصحافة من ناحية وشركة أبوه من ناحية.. مش هيبقى الزمن وأنتِ عليه"
استدارت بسرعة تهرب من أمامها بعد أن قذفتها منار بالقلم الذي كانت تمسكه هاتفة بحنق :
-"قولي لنفسك الكلام ده"
★★★★★
ميناء واسع في عروس البحر المتوسط ، يعج بالسفن التجارية الكبيرة الأتية من كبار الدول الأوروبية.. يقف هو بكل هيبة وشموخ واضعًا يديه في جيب بنطاله وسترته ترفرف خلفه من هواء البحر الذي يضرب به وقد أوشك الشتاء على الاقتراب ، يرتدي نظاراته السوداء وخصلاته تترنح للخلف من أثر النسيم.
يتابع العمال يفرغون البضائع من السفينة الإنجليزية يضعونها في الشاحنات التي تحمل شعار شركته "التهامي جروب"
يتأملهم بنظرة فخر ، فالجميع هنا يحترمونه ويحترمون العمل منذ أن كان والده على قيد الحياة ، لم يجرح عامل بكلمة ، ولم يقوم بطرد أحدهم ظلمًا ، سار على نهج أبيه فأحبوه كما أحبوا والده وأكثر.
فخر عندما يناديه الجميع بـ "ابن التهامي" وكأنه وسام يضعه على صدره يسير به وسط الناس بكل شموخ..
تعلم أن يفصل بين شغفه وانتمائه.. فالصحافة شغفه التي يستحيل الاستغناء عنها ، والتجارة انتمائه الذي يشعر بروح والده تحيط به وخاصةً هنا في الميناء.
جاءه أحدهم من الخلف ينادي عليه ويقدم له بعض الأوراق:
-"نادر بيه.. ممكن حضرتك تمضي على أوراق الاستلام دي علشان أقدمها للمندوب البريطاني!!"
أخذها منه بابتسامة يخط بقلمه أسفلها بعد أن تأكد منها ، ثم أعطاها له مربتًا على كتفه بتشجيع ليبادله الرجل ابتسامته وذهب حتى ينهي كل شيء .
دق هاتفه بنغمة والدته المخصصة فأجابها بنبرة حنونة :
-"ست الكل.. عاملة إيه!"
-"أنا بخير يا حبيبي ، أنت عامل إيه خلصت شغلك ولا لسه؟"
جاءه أحد العاملين يخبره أن كل شيء على ما يرام والبضائع رُصت في الشاحنات وعلى استعداد للرحيل إلى القاهرة فشكره وتقدم من سيارته بعد أن أمرهم بالتحرك لينطلق هو خلفهم ، ثم عاد لوالدته مرة أخرى :
-"أه يا حبيبتي خلاص راجع القاهرة ، هطمن إن البضاعة بقت في المخازن وبعد كده هرجع على الشركة أظبط لاجتماع بكرة"
تمتمت والدته بدعاء أن يحفظه الله ويرزقه من عطاءه ، وأعطته نصائح السلامة المعتادة التي لم تتخلَ عنها قبل وفاه أبيه ، فاستقبلها برحابة صدر وأمّن خلفها قبل أن يغلق الهاتف وينطلق عائدًا.
دلف شركته الواسعة بعدما اطمئن أن البضائع وضعت في المخازن إلى حين توزيعها في الغد على جميع عملائه ، قابله الجميع بابتسامة بشوشة استقبلهم بمثيلتها.
وقف أمام مكتب سكرتيرته يخبرها أن تأتي بكل الأوراق الخاصة باجتماع الغد لتدلف إليه بعد خمس دقائق بيدها بعض الملفات وضعتهم على المكتب ثم التفتت له قائلة :
-"خدمة تانية يا فندم"
هز رأسه شاكرًا :
-"لا شكرًا يا رويدا ، من فضلك مش عايز إزعاج لحد ما أخلص"
أومأت بابتسامة برسمية والتفتت تتركه في عمله.. تخلى عن سترته وفك رابطة عنقه ليتدلى طرفيها على كتفيه ، حرر أول أزرار قميصه كاشفًا عن جزعه ، وأثنى كميه عن ساعديه حتى المرفق ثم شرع ينظر في الملفات التي أمامه بتركيز ظهر في عقدة حاجبيه وذمة شفتيه.
مر أكثر من ثلاث ساعات شعر بالإرهاق فوضع كفه خلف عنقه يدلكه بتروي يحرك رأسه لليمين واليسار يخفف من تشنجه ، رن هاتفه فرفعه يجيب على سكرتيرته التي تعتذر مشيرة أن خطيبته تنتظر الإذن بالدخول ، فأمرها بالسماح لها على الفور.
دلفت إليه بمرحها فاستقبلها بابتسامة محببة يتحرك من خلف مكتبه يتقدم منها ، هتفت بمشاكسة :
-"قولت هاجي ألاقيك لسه في اسكندرية ، متوقعتش السرعة دي"
ضحك بمرح يرفع كفيها يقبل ظاهرهما ، وقادها نحو الأريكة قائلًا :
-"لسه واصل من أربع ساعات تقريبًا ، أنما إيه المفاجأة الحلوة دي؟"
ضحكت بمشاغبة غامزة له بعبث :
-"حبيت أشوف خطيبي وهو رجل أعمال بدل الصحفي اللي وشنا في وش بعض على طول ده"
اقترب منها بمكر هامسًا أمام وجهها بخبث :
-"وإيه رأيك؟
الصحفي ولا رجل الأعمال؟"
الخجل.. التلجلج في الحديث.. الهرب بالنظرات ، هو رد الفعل الطبيعي لأي فتاة في هذا الموقف ، لكن خطيبته مختلفة عن البقية!
رفعت حاجبها ببرود ولكمته في كتفه بقوة هاتفة :
-"أتلم يا نادر وبطل قلة أدب!"
ناظرها بغيظ ورفع كفه يدلك مكان لكمتها قائلًا من بين أسنانه :
-"والله ما فيه قليل الأدب غير دماغك دي ، المهم طمنيني إيه اللي حصل النهاردة؟"
تنهدت بعمق وبدأت تسرد عليه ما حدث لمازن وما فعلته هدير بالأمس ، فزفر بيأس من عقل صديقتهم يهز رأسه بقلة حيلة هاتفًا :
-"أنا مش عارف هي عاوزة توصل لإيه؟
وأنا مش عاوز أتدخل احترامًا لوجود مازن وبقت مسئولة من راجل"
ربتت على كتفه تهدأه تقول :
-"اهدى هي مش هتعمل حاجة تاني ، خصوصًا بعد اللي مازن قاله ليها"
-"خليها تعمل واللي معرفتش أعمله زمان بناءً على طلبها ، هعمله من غير ما أرجع لها"
ضغطت على شفتيها تومئ بأن معه حق ، لكنها باتت متيقنة أن هدير لن تفعل شيئًا مرة أخرى ، رفعت نظرها تنوي الحديث لكن دق الباب أوقفها ، سمح للطارق بالدخول فكانت سكرتيرته تخبره :
-"نادر بيه.. الأستاذ كريم منصور بره عاوز يقابل حضرتك"
انتفضا سويًا من جلستهما عندما نطقت باسمه ، وصدمة سقطت على رأسهما من حضوره!
ماذا يفعل هنا؟!
هل أصيب بالغباء كي يأتي إليه بقدمه وهو يعلم الكره الذي بينهم؟
شعر بكفي منار تمسك ذراعه تضغط عليه بقوة تنم عن الغضب والدهشة التي تعيث بها ، ربت على كتفها باطمئنان ونظر لرويدا التي تنتظر رده ، فأخبرها بالسماح له بالدخول.
التفتت منار له بعد خروجها بدهشة متسائلة :
-"أنت هتقابله بجد؟"
نظر لها بهدوء يحثها على الاطمئنان وترك زمام الأمور له.. قاطع نظراتهم دخول كريم بجبروته وعجرفته ، يتقدم نحو نادر قائلًا :
-"صباح الخير يا نادر بيه"
بادله نادر التحية بجمود ، فاستدار كريم لمنار الواقفة خلفه بقليل ينظر لها بأعين ضيقة وابتسامة جانبية عابثة.
مازال يتذكرها!!
كيف ينسى عقبته الوحيدة التي كانت تقف كالعلقم في الحلق في طريقه مع هدير؟
كيف ينساها وينسى كرهها الذي كان من السهل على أي أحد قراءته في عينيها؟
مال برأسه يوجه حديثه لها :
-"حظي حلو إني جيت في الوقت ده علشان أشوفك بعد السنين دي وأقولكم مبروك الخطوبة"
وكما توقع لم تتخلَ عن ابتسامتها الصفراء ونظرتها الجليدية التي رمقته بها ، فالتفت إلى نادر الذي أشار له بالجلوس واستدار يجلس مكانه خلف المكتب يشبك أنامله مستندًا على سطحه .
جلس كريم واضعًا الساق فوق الأخرى يستند بمرفقه على المكتب يحك ذقنه بأنامله ، فبادر نادر بالحديث :
-"خير يا كريم!
إيه سبب الزيارة الغريبة دي؟"
ابتسم الآخر بغموض وقال بتروي :
-"شغل.. جايلك في شغل ، شحنة مقاولات عاوز منك تبقى المسئول عن دخولها"
رفع نادر حاجبه بسخرية ، وقهقه بخفوت وعاد بجسده للخلف يتأرجح بالكرسي يمينًا ويسارًا :
-"لولا إني عارفك كويس كنت قولت عليك غبي علشان تجيلي لحد هنا تطلب مني نشتغل سوا..
من كل عقلك فاكر إني ممكن أوافق؟"
ضحك بعلو أثارت دهشة نادر واشمئزاز منار التي تراقبه برغبة دك عنقه حتى تتخلص من جحوده!!
من أين أتى بذلك الجبروت ليقترح على نادر العمل معه؟
فاستمعت له يقول :
-"الشغل حاجة والمسائل الشخصية حاجة تانية يا نادر ، أنا وأنت مفيش عداوة بينا علشان ردة فعلك الحادة دي ، فخلينا نركن اللي حصل زمان على جمب ونبدأ شغل جديد"
قاطعه نادر بحزم وقد تحولت نظرته من السخرية إلى الجد يشوبه الغضب الذي بدأ يتمكن منه ، لكن شخص كهذا يجب التعامل معه ببرود لأن الغضب يعد انتصار له :
-"صح مفيش عداوة مباشرة بينا ، لكن زي ما بيقولوا عدو صاحبك عدوك ، وعدو عدوك صاحبك!!
وهدير مش صديقة يا كريم ، دي أختي وحط تحتها مليون خط أحمر ، ولولاها مكنش حد وقف لك زمان غيري"
ضغط كريم على شفتيه بغيظ ، فقد عمل جاهدًا حتى يخرب العلاقة التي تربط الثلاثي ، فكم كانت تثير حنقه وغضبه كثيرًا.. استدار له بنصف جسده يضع ساعديه على المكتب قائلًا بجدية :
-"كل واحد دلوقتي بيشوف مصلحته ، والصفقة دي هتنقلني وتنقلك لمكان تاني خالص وعشان كده أنا جيت لك بنفسي.. هدير ومشاكلي معاها أنت بعيد عنها ففكر في شغل والدك وكبره"
هنا وقد نفذ صبر منار ، فانتفضت من مكانها هاتفة بغضب وحدة :
-"أنت إيه مبتفهمش!
أي جزء بالضبط في كلام نادر مفهمتوش ، ولا عاوزه يقولك أنك مش مرحب بيك؟!
أنت إيه الجبروت اللي يخليك تيجي مكان أنت عارف أنه مش مرحب بيك فيه؟"
ناظرها بحاجب مرتفع بصمت أثار حنقها أكثر فكادت أن تعيد الصراخ به لكن هتاف نادر بحزم وجد جعلها تبتلع كلماتها بغيظ ونظراتها تكاد تشعل بكريم النيران ، فالتفت نادر له يقف من مكانه يدور حول مكتبه حتى وقف خلف الكرسي المقابل له قائلًا بهدوء يثير الغيظ :
-"اسمعني يا كريم علشان نبقى واضحين ، شغل بيني وبينك مش هيحصل ، ومفيش حاجة اسمها مليش دخل باللي حصل لهدير دي حاجة!
الحاجة التانية والخاصة بيا أنا ، إيه يجبرني أشارك حد سمعته مهببة زيك لما ممكن أشارك واحد سمعته كويسة زي مازن السيوفي ونرفع بعض بردو وكل حاجة"
نهض كريم يقف أمامه بطوله المهيب يضع يديه في جيب بنطاله يضحك بمكر ناظرًا لأسفل في نقطة وهمية ثم رفع نظره له مرة أخرى بحاجب مرتفع :
-"بالورق والأدلة والقانون مفيش ذرة تراب عليا ، فلو تقصد أبويا وقضيته فأنا بقولك الشغل معايا مش مع أبويا"
حك خلف أذنه بتفكير وأشار له بسبابته ورأس مرفوع بغرور:
-"بس أنا مقدر رد فعلك ومع ذلك هسيبك تفكر والمصلحة تحكم.. يلا سلام"
التفت ينوي الخروج فقابل نظرات منار فابتسم لها غامزًا بخفية عن نادر ، فزفرت تشيح بوجهها في الاتجاه الآخر تقلب عينها باشمئزاز .
فتح الباب وكاد أن يخرج فأوقفه نادر بنبرة غير قابلة للجدال:
-"كريم ، أنا وأنت عمرنا ما هيجمعنا مصلحة ، فالأحسن ليك تبعد عن طريقي أنا بالذات وكل اللي يخصني.. اللي بينا طار قديم أنا بحاول أتلاشاه متخلنيش أحطك في دماغي"
نظر له بصمت ثم ابتسم ببرود وأشار بسبابته لجانب جبهته بمعنى "فكر " ثم التفت وذهب تاركًا إياهم يطالعونه بجمود.
اقتربت منار من نادر تهمس بدهشة ومازالت ترمق الباب :
-"هو اللي حصل ده بجد؟
هو كان هنا بيقترح عليك تشتغل معاه؟"
لم يجبها مباشرة بل ذم شفتيه وعقد حاجبه بتفكير ، ثم قال بجمود عندنا نظر لها من علو :
-"منار اللي حصل النهاردة ميحلصش تاني ، ملكيش أي علاقة بكريم لا من قريب ولا من بعيد"
اتسعت عينيها بدهشة من لهجته الحادة فهمست اسمه بتعجب ليهتف بحزم :
-"منار من فضلك من غير جدال ، مش عاوز كريم يحطك في دماغه..
زيارته النهاردة وراها حاجة ولحد ما أعرفها خليكِ بعيد ، وبلاش هدير تعرف باللي حصل كفاية عليها حادثة مازن"
تعجبت من أسلوبه الذي تراه لأول مرة.. دائمًا ترى نادر المرح ، المحب للمشاكسة ، ودائم الابتسام!
لكن هذه الزيارة اليوم جعلتها تكتشف الجانب الجاد ، الحازم من شخصيته!!
ابتسمت له بمرح تمتص غضبه وجديته وربتت على كتفه بحنو قائلة برقة مرحة :
-"طب خلاص روق بس كده.. أنا كنت جيالك عشان أخدك ونزور مازن ، مينفعش يكون في المستشفى ومنروحش.. هدير سبقتنا على هناك بعد معاناة"
أومأ لها بابتسامة والتفت يأخذ سترته يرتديها ثم جذب سلسلة مفاتيحه وهاتفه وأمسك بكفها بحنان يجذبها خلفه برقة يخرج من شركته متجهًا إلى المشفى.
★★★★★★
العناد هو سبب الضياع
هو ما يتحكم به فيضيع كل ما هو جميل
كاذب من قال أن عدو الحب هو الغيرة
بل العناد العدو الأول وجحيم الحب
الحب تفاهم
حوار
نقاش
وثقة!
قبل زيارة كريم لنادر بساعة كانت هدير قد وصلت إلى المستشفى بعد جدال طويل مع منار !
ترفض الذهاب من جهة ومنار تقف لها بالمرصاد أن ليس لها وجه حق في عنادها وغضبها منه ، تعيد كلماتها من جديد أنه محق في غضبه ، محق في ردود فعله ، محق حتى لو قام بكسر عنقها على غبائها التي تقحم نفسها فيه.
سارت نحو غرفته تدق بابها بخفوت لكن لا رد.. فتحتها ودخلت تنظر في أرجاءها بتعجب من عدم وجود أحد بها ، ظنت أنه ذهب يجري إحدى الأشعة ، رأت الممرضة المسئولة عن علاجه فسألتها عن مكانه لتخبرها :
-"الباشمهندس مازن خرج من ساعة ، الأستاذ رامز مضى على خروجه بعد ما الدكتور أذن ليه"
ذهبت وتركتها تنظر أمامها بصمت.. خرج ولم يخبرها!
خرج وهو بتلك الحالة ، ساق مجبورة وكتف مصاب ينزف من أقل حركة زيادة عن كدمة في الرأس!
أخرجت هاتفها تبحث عن رقم ما ووضعته على أذنها تنتظر الرد حتى أجابها فقالت بهدوء :
-"مازن فين يا رامز ؟"
نظر لذلك المضطجع أمامه على الأريكة يسند قدمه على الطاولة أمامه ، تجلس والدته إلى جانبه وأخته إلى الجانب الأخر بعد أن هدأت معركتهم معه من خروجه بدون علم أحد ولم يكمل شفاءه ، فابتعد بالهاتف يجيبها بدهشة حذرة :
-"مازن في البيت.. هو مقالش ليكِ أنه قال للدكتور يكتب ليه على خروج؟"
-"لا تخيل.. وبعدين لو هو طلب كده أنت ممنعتوش ليه يا رامز؟
إزاي يخرج بالحالة اللي هو فيها دي؟"
تحولت نبرتها من الهدوء إلى الغضب المغيظ ، فناظر مازن بغيظ يضغط على أسنانه بقوة يود لو يذهب ويكسر الباقي من عظامه السليمة على أفعاله ، تنهد يجيبها بيأس :
-" ما أنتِ عارفة يا هدير إن محدش بيعرف يرجعه عن قراراته..
صدعت عشان يرجع عن اللي في دماغه بس عاوزة الكسر"
-"ماشي يا رامز.. سلام"
أنهت الاتصال فجأة ورمقت الغرفة بسخط ثم اندفعت بغضب تخرج من المكان بأكمله ، دخلت سيارتها فصدح هاتفها برقم نادر فتنهدت بقوة قبل أن تجيبه :
-"أيوه يا نادر!"
-"إيه يا بنتي أنا ومنار خلاص قربنا على المستشفى ، أنتِ هناك ولا إيه؟"
أجابته ساخرة :
-"لا ملوش لزوم خلاص.. البيه رجع بيته ، عاوز تزوره روح البيت"
تطلع لمنار بدهشة من غضب الأخرى فأشارت له برأسها بمعنى ما الأمر ، فرفع كتفيه بعدم معرفة ثم عاد لهدير :
-"طيب خليكِ عندك وأنا هجيلك نروح سوا"
أدارت سيارتها وشرعت في القيادة هاتفة بغضب رافض :
-"لا مش رايحة في حتة ، هبعت لك رقمه أتصل بيه لو عاوز تزوره ، أنا راجعة البيت تعبانة وعاوزة أرتاح"
قدّر غضبها وعلم سببه ، فيبدو أن مازن خرج ولم يخبرها بناءً على ما أخبرته به منار ، فأخذ منها رقمه الخاص وأنهى الحديث معها على وعد بلقاء قريب.
هاتفه يستأذنه بالزيارة حيث أنه لم يجده بالمشفى ، فرحب مازن بشدة وانتظره حتى أتى.
استقبله رامز بترحيب لائق ورحب بمنار بلباقة وقادهم حيث يجلس مازن ، كاد أن يقف مرحبًا فأجلسه نادر قبل أن يقف جالسًا بجانبه مربتًا على كتفه قائلًا :
-"ألف سلامة عليك يا باشمهندس ، أعذرني معرفتش أجي امبارح كنت مسافر الاسكندرية في شغل"
ربت مازن على ركبته بحفاوة :
-"ولا يهمك يا نادر أنا الحمد لله كويس"
التفت لصوت منار الواقفة بجوار أخته تحيط ذراعها بين ذراعيها بعد أن ضمتها بترحاب وسعادة :
-"ألف سلامة عليك يا باشمهندس"
-"الله يسلمك يا آنسة منار"
التفتت لصوت أسماء الهامس لها بتساؤل :
-"أومال هدير فين مجتش معاكم ليه؟"
سعلت منار بخفوت تنظر حولها بتردد قبل أن تقول :
-"تعالي نقعد لوحدنا وهقولك"
أومأت لها والتفتت تعتذر من الجميع بأنها ستأخذ منار لتعرفها على والدتها وتتركهم سويًا.
جلسوا في الحديقة بعد أن تعرفت ميرفت عليها وفرحت بشخصيتها الرقيقة والتي لاحظت أنها منفردة ، بها رقة تجعل من يعرفها يخاف عليها أن يستغلها أحد ، وفي نفس الوقت نظراتها تعج بالقوة والثقة ، وهي تحب الفتيات ذوات الشخصية المشابهة لها لذلك أعجبت بها.
حفزتها أسماء كي تجيب على عدم مجيء هدير فقالت :
-"الظاهر أن أخوكِ مش معرفها أنه هيخرج ، علشان كده راحت المستشفى ومن هناك عرفت ، فمش محتاجة أقولك على عنادها عامل إزاي!"
ضحكت ميرفت على تصرفات هدير والتي ستجعل جزء من عقل ابنها يُفقد ، وهزت أسماء رأسها بيأس منهم ترفعها لأعلى زافرة بقوة.
وبالداخل بعد أن تحدثوا سويًا وأخبره نادر بأنه يعلم السبب في الحادثة من منار لينظر له متسائلًا :
-"مازن ، زيارتي النهاردة مش بس علشان الحادثة.. أنت عارف إن هدير أختي ، في حين إن الكل كان ضدك بس بنظرة راجل كنت عارف إن فيه سبب لكل اللي عملته..
كريم مش عدوك لوحدك ، بسبب اللي حصل زمان كريم اكتسب عداوتي من غير ما يحس ، ولولا هدير أنا كنت اتصرفت معاه على اللي عمله"
تطلع مازن لرامز بعض الوقت ثم نظر لنادر بعدم فهم :
-"مش فاهم يعني إيه لولا هدير؟"
تنهد بقوة وشبك أنامله ببعضهما يستند بساعديه إلى فخذيه ينحني للأمام ناظرًا له بجدية :
-"أكيد عارف شركة التهامي للتجارة!"
أومأ مازن بتأكيد وهتف رامز الجالس بجانبه :
-"أكيد دي من أكبر الشركات في مجال التجارة والاستيراد"
-"وأكيد عارف إن أنا صاحب الشركة دي ، كانت لوالدي وبعد وفاته الله يرحمه أنا توليت الإدارة"
أومأ له بتأكيد ليكمل الآخر حديثه :
-"ساعتها كنت ماسك شغل لرأفت ، ولما عرفت اللي عمله ابنه سحبت التوكيل لما خلاص الشحنة اتحركت من بره ، فالصفقة اتلغت ورأفت خسر ملايين ، وكان عندي استعداد أكمل بس هي اللي وقفتني وقالت إنه خلاص خد جزاءه"
ليس هذا فقط بل أخبره بزيارة كريم له اليوم في الشركة ورده عليه.. أخبره بشكوكه أنه يعقد النية على فعل شيء كبير ولن يكتفي بهذا فقط ، فالبداية كانت حادثته ، والثانية عرض العمل معه الذي رفضه بقوة والذي يعلم أن كريم كان متأكد من ذلك لكنه كمن يخبرهم أنه موجود وأنهم لم يتخلصوا منه بسهولة .
فكر مازن بكل هذا ، ليزداد سخطه أكثر على ذلك الرجل الذي ما ينفك يحوم حول من لهم علاقة به!!
تبادل مع ثلاثتهم النظرات في اتفاق صامت على اتحادهم قبل أن يوجه حديثه لنادر :
-"أنا فخور بنادر الراجل الوحيد اللي هسمح له يكون قريب من هدير علشان عارف ومتأكد أنها أختك ، ولو أنك مش خاطب وخلاص هتتجوز مكنتش قربت منها"
رفع نادر حاجبه ضاحكًا ونظر لرامز الذي هز رأسه بيأس من هذا الرجل ثم التفتا له وهو يكمل :
-" والنهاردة كبرت في نظري وزاد إعجابي بيك إزاي عارف تفصل بين الصحافة وشغلك"
ضحك نادر بقوة وانحنى يربت على كتفه بمحبة قبل أن ينهض:
-"الصحافة دي شغف ، حلمي اللي بلاقي نفسي فيه ، والشغل الروح بتاعتي.. الاتنين مكمليني ومينفعش استغنى عن حاجة منهم"
جذب طرفي سترته يعقد أزاراها في نية للذهاب :
-"المهم إنك بخير ، ودلوقتي أقدر أقولك إني موجود في أي وقت تحتاجني فيه"
تشابكت قبضتهما بقوة في إشارة إلى بدء صداقة جديدة بينهما ليضع رامز كفيه فوقها يهزها أكثر بمرح فتعالت ضحكاتهم حتى وصلت للجالسات بالخارج.
★★★★★
إنه منتصف الليل
يمكنك الآن أن تتجرد من كل الأدوار التي لعبتها اليوم
يمكنك خلع الابتسامة الزائفة ، والقوة المصطنعة
يمكنك أن تعود أنت وتخرج مشاعرك وأفكارك التي تعيث بجوفك!
واقفاً أمام شرفة غرفته يلحفه النسيم الليلي يرتدي كنزة صوفية زرقاء وبنطال رمادي ، يستند على عكازه يتحامل عليه بنصف جسده يرفض الجلوس وكأنه يريد إقناع نفسه أن لا أحد يستطيع كسره!!
قذف سيجارته من الشرفة بعد أن أنهى استنشاقها يزفر دخانها بقوة ويتذكر ما فعله بالصباح معها ، كيف صب جم غضبه على رأسها ولم يعطها فرصة للحديث إلا عندما أثار حنقها؟
لا يعلم لماذا يشعر أنه كلما هدأت الأمور بينهما يحدث شيء يزيد الأمر سوءً خاصةً بخروجه اليوم وعلمه أنها عادت للمستشفى بعد شجارهما لتراه؟
لكن لا.. يكون ملعونًا لو عاد معها خطوات للخلف كما كانا من قبل ، فأخرج هاتفه من جيب بنطاله وضرب أرقامها وانتظر..
كانت في هذه اللحظة تجلس على أرجوحتها في حديقة منزلها تثني ساقيها أسفلها ، تحيط كتفيها بوشاح ثقيل تحميها من بوادر الشتاء التي بدأت تلوح ، تجمع شعرها في جديلة على كتفها و تضع حاسوبها المحمول على قدمها تقرأ كتابًا تحاول به إلهاء سخطها وحنقها مما حدث في الصباح!
لا تعلم لماذا لم تندهش من أمر خروجه ، بل اندهاشها أنه كيف تحمل البقاء يوم في المستشفى؟
تعرف غروره ، كبريائه ، كرهه لإظهار ضعفه.. لكن كان عليها أن تعلم!!
زفرت بقوة وهزت رأسها تنفض الأفكار لكنه يأبى أن يتركها ، رأت هاتفها يصدح برقمه ، ظلت تنظر له بصمت ورغبتين تتقاتلان بداخلها ، واحدة تحثها على الرد والاطمئنان عليه والأخرى تلكمها وتحذرها بالاستماع للأولى وتركه هكذا عقابًا عما فعله!
انتصرت الأولى لكن بعد انهاء الاتصال ، رفعت هاتفها تنظر لاسمه الظاهر تحت كلمة مكالمة فائتة ودقاتها تحثه على إعادته ، لكن بدلًا من هذا ظهرت رسالته :
-"آسف على غضبي الصبح ومسمعتكيش ، بس خوفي وقلقي وقبلهم غيرتي سيطروا عليا..
خوفي عليكِ من فكرة أنه ممكن يكون مسّك بحاجة..
قلقي من خطواته اللي جاية..
وغيرتي إنك روحتِ لواحد عارف ومتأكد إنه عاوزك"
ابتسامة لاحت على شفتيها دون وعي ، دقات قلبها تتسارع بداخلها حبًا ، وكبرياء أعاده لها اعتذاره الذي لم يحدث قد في حياته!
أكملت الباقي من رسالته :
-"آسف إني مقولتش على خروجي بس مش مازن السيوفي اللي يقعد في مستشفيات تحت رحمة دكتور أو شوية إصابات ملهاش لازمة"
اتسعت عيناها بصدمة.. بلا فائدة!
يسير بقدم وذراع سليمان ويقول بلا فائدة!
وللعجب قد تعالت ضحكاتها الأنثوية عاليًا حتى دمعت عيناها وهي ترى كبريائه وغروره اللذين لن يستطيع الاستغناء عنهما ، مسحت دموعها وتحركت أناملها بمهارة على شاشة هاتفها تكتب له بشيطنة :
-"مش زعلانة بس متعصبة منك"
كان يهم بالدخول إلى فراشه وقد تمكن الارهاق منه ، وما إن جلس وصلته رسالتها التي ما أن أنهى قراءتها ضحك وقد استشعر دلالها الفطري فيها!
ابتسم بحنان وفكر ، ومن يليق بها الدلال سواها!
اضطجع ببطء إلى فراشه بعد أن تخلى عن كنزته وأشعل نظام التدفئة الخاص بالغرفة فانتشرت الحرارة بسلاسة بالأرجاء ، أعاد قراءة رسالتها وقرر الاستمرار في طريق الرسائل عوضًا عن الاتصال كأنهما مراهقين يتبادلان الحديث بخفية أن يمسك بهما أهليهم.
-"وأنا ميهونش عليا تفضلي متعصبة ، بس أنا عارف هراضيكِ إزاي؟"
أرسلها فقرأتها لتبتسم على ثقته العالية ، أغلقت حاسوبها ووضعته بجانبها ودفعت جسدها للخلف فتحركت الأرجوحة بها وكتبت :
-"هنشوف.. المهم طمني عليك؟!
كتفك ورجلك عاملين إيه؟"
مرت دقائق ووصلها الرد الذي ظهر اللؤم والمكر بين السطور:
-"لو عاوزة تطمني كنتِ جيتِ مع نادر ومنار النهاردة"
رفعت حاجبها بغيظ ودقت على الحروف بحنق وقد نجح فيما يريد ، أراد إثارة مشاكستها فتلك الوديعة لا يستسغيها وكان له ما أراد :
-"ولو عاوزني أنسى متفكرنيش باللي عملته"
ضحك بقوة اهتز جسده لها ، يحبها معاندة ، يعشقها مشاكسة ، تستحق اسمها بشدة "هدير" .
صدع هاتفه برسالة جديدة منها :
-"يلا سيب التليفون ونام ، اليوم كان مرهق ومتأكدة إنك تعبان"
أومأ لها بابتسامة عذبة كأنها تراه وأجابها بسطر لاح منه الحنان :
-"حاضر وأنتِ كمان يلا ارتاحي"
انتهى الحديث وقد تبدلت المشاعر عما كانت عليها منذ ساعة ، تمدد على فراشه وعيناه تغفو بإرهاق.. وهي استقامت من مجلسها تحمل حاسوبها وهاتفها واتجهت إلى الداخل بابتسامة هادئة.
★★★★★
أن تكون في قمة الصمود ، الكبرياء ، الهيبة عندما يظن الجميع من حولك أنك سقطت
عندما يخطط الكل لإضعافك
هو القوة في حد ذاتها!!
خرج من المشفى بالأمس والآن تقف سيارته أمام الصرح العظيم العائد لمجموعة العجمي ، بجواره ياسمين سكرتيرته ترتب الملفات اللازمة للاجتماع ، ورامز يجلس في المقعد المجاور للسائق يتحدث في الهاتف.
خلفه سيارة المستشار القانوني للشركة ، يحيطهم بالأمام والخلف سيارتي الحراسة .
فتح حارسه الباب له ليخرج عكازه يستند عليه ويخرج من السيارة بكل هيبة ، سار رامز بجانبه بنفس الشموخ ولم يعرض مساعدته له لعلمه المسبق برفضه القاطع فآثر السلامة.
وفي مدخل الشركة كان عبد العزيز العجمي في استقباله يتألق في بذلته الزرقاء وابتسامة مرحبة واقفًا بهيبة كبيرة.. يتوسط أخيه محمد يقف على يمينه ببذلته الرمادية المعاكسة للون عينيه ، يضع كفيه في جيب بنطاله يشد جسده بشموخ ، وعلى يساره آسر السعيد ببذلته السوداء.
تقدم عبد العزيز خطوات نحوه يرحب به ونظر آسر لمحمد بتعجب لهذا الرجل القوي وصدمة من طلبه للاجتماع وهو بهذه الحالة ، فهمس له :
-"أنا مشوفتش حد عنيد كده في حياتي ، مكنش هيضر بحاجة لو عملنا الاجتماع لما يتحسن"
نظر محمد له بعض الوقت بلا اهتمام لذلك الجنون الذي يراه ، فأعاد نظره له هامسًا لقرارة نفسه :
-"مازن السيوفي ، وما أدراك ما مازن"
الثقة.. الهيبة.. الكبرياء.. والقوة!
كل هذه مسميات تصف وقفتهما أمام بعضهما متجابهين ، شامخين ، جسديهما مشدود حتى برزت عضلاتهما من أسفل رداءهما..
ابن العجمي الذي يهتز لاسمه السوق بأكمله
وابن السيوفي الذي يجعل الجميع يفكر مرتين قبل أن يتحرك!!
اتحدت القبضتان تشتدان على بعضهما بقوة ، ليصدح صوت عبد العزيز مرحبًا :
-"أهلًا وسهلًا مازن بيه ، أنا ممتن للشراكة دي اللي خلتنا نشوفك"
ابتسم مازن بسعادة وتبادل الترحيب معه :
-"أنا اللي سعيد بالصداقة دي يا عبد العزيز بيه مش شراكة وبس"
ربت على كتفه المصاب فلاح الألم الطفيف على وجهه فاضطرب الآخر واقترب رامز منه يسأله إن كان بخير ، فابتسم مازن برحابة صدر :
-"لا لا مفيش حاجة ، أنا كويس الحمد لله"
أفسح الطريق لهم ليصعدوا إلى غرفة الاجتماعات.. ترأسها عبد العزيز وعلى يمينه أخيه محمد بجانبه آسر ، وعلى يساره جلس مازن بجانبه رامز ومحاميه .
أشار إلى أخيه يعرفهم عليه :
-"أعرفكم.. محمد العجمي أخويا والرئيس التنفيذي للشركة"
ثم أشار إلى آسر :
-"والأستاذ آسر السعيد ، الممثل القانوني"
فعرفهم مازن على رامز :
-"رامز منتصر ، الرئيس التنفيذي للشركة ، والأستاذ أشرف المحمدي الممثل القانوني.. ودي ياسمين السكرتيرة الخاصة بيا"
رحب الجميع ببعضهما بحفاوة وبدأوا الاجتماع الذي سيتناقشون فيه على جميع بنود الشراكة المتوافقة مع الجميع في مجالي الاستيراد والتصدير ، والهندسة والمعمار .
عبد العزيز يلقي بشروطه ، وكذلك مازن يناقشهم فيها محمد ورامز ، يأخذون رأي آسر وأشرف فيها من الناحية القانونية .
الجو العام يغلفه التفاهم والنقاش الهادئ .
شراكة كالسد المنيع سيشد كل منهما عضد الآخر أمام السوق بأكمله!
بداية صداقة مستقبلية سيقف الجميع لها حفاوة وإعجاب!
أغلق عبد العزيز الملف أمامه بابتسامة راحة وقد تم الاتفاق على كل شيء :
-"كده كل حاجة تمام يا مازن بيه.. بداية طريق خير على الجميع إن شاء الله"
بادله الابتسامة يتلاعب بعكازه بعبث :
-"بداية الطريق تبدأ فعلًا لو رفعنا التكلفة اللي بينا ، فخليها مازن بس"
تعالت الضحكات المرحة في الغرفة ، فنهض مازن مستندًا على الطاولة بيد والأخرى ممسكة بالعكاز ، يتبادل السلام مع الجميع ثم قال :
-"كده كل البنود تمام ، والإمضاء والإعلان يبقوا في مؤتمر صحفي كبير يليق بالشركتين بإذن الله"
وافقه الجميع رأيه ، وذهب مازن برفقة رامز ومحاميه بعد الاتفاق أن السكرتارية سيقومون مما يلزم للتحضير لهذا المؤتمر .
أنت تقرأ
الحب سبق صحفي " مكتملة "
Romanceهي :- أنا فتاة عشت لـ نفسي , لـ حريتي , أعيش في مملكتي , ارفض القيود , أحب الحياة, أعشق الحرية , ولكني لن أنسى أني شرقية , ابنة رجل الرجال , وأخت فرسان , وحبيبة رجل ليس ككل الرجال .... أنا امرأة لا أنحنى إلا في صلاتي .. و لا أصمت إلا عندما ينعدم كلا...