الفصل الثامن عشر(الخدعة)

8.6K 305 2
                                    

ما إن أصبحا وحيدين داخل الشقة .. حتى انتزعت أماني نفسها انتزاعا من بين ذراعي هشام .. وابتعدت عنه وكأنه يحمل فيروسا معديا .. قالت بجفاف :- ما الذي تفعله هنا ؟
لوى فمه بابتسامة ساخرة وهو يقول :- ليس هذا هو الشكر الذي توقعت أن أناله بعد إنقاذي لك من الموقف المحرج الذي وجدتك فيه
قالت بعصبية :- لم أكن بحاجة لمساعدتك
:- ولكنك لم تترددي في مجاراتي لخداع ابن عمك .. متلهفة للخلاص منه
آخر ما تريده أماني هو مناقشة مشاكلها مع هذا الرجل .. فزفرت قائلة وهي تغير الموضوع :-
:- أظنني قد قمت بما طلبته مني وغادرت منزل خالك وبسرعة .. صحيح ؟
رد بهدوء :- هذا صحيح
:- إذن ما الذي تريده بعد يا سيد هشام ؟ كيف عرفت عنواني على أي حال ؟
:- سمر هي من أطلعني على العنوان بعد أن طلبته منها
حدقت فيه بتوتر :- ولماذا طلبته ؟ ما الذي تريده مني ؟
اشتم رائحة الخوف في صوتها فعبس قائلا :- ما أريده هو الاعتذار إليك
ارتسمت الريبة على وجهها وهي تردد :- تعتذر .. عن ماذا ؟
قال بحزم :- لأنني أسأت الحكم عليك .. وعاملتك بطريقة غير متحضرة خلال لقائنا الأخير في شقة سمر
بدا عليها الارتباك من اعتذاره المفاجئ .. بطريقة ما لم يبد لها من النوع الذي يتراجع عن موقفه ويعترف بخطأة بسهولة .. ما الذي غير رأيه ؟
سألته بحذر :- ما الذي أخبرتك به سمر بالضبط ؟
راقب كيف بدأت ملامحها بالتغير أثناء حديثه :- كل شيء .. عن السبب الحقيقي الذي دفع والدك لحرمانك من الميراث .. والمشاكل التي تعانينها معه منذ سنوات
شعرت بالدماء تغلي في جسدها وهي تصيح بغضب :- لم يكن من حقها إخبارك .. لقد طلبت منها أن تبقي الأمر سرا
قطب فجأة قائلا :- هناك شيء يحترق
تسللت رائحة احتراق المعدن إلى أنفها فصاحت بجزع :- إبريق الشاي
كما توقعت .. وجدت فور دخولها إلى المطبخ أن محتوى الإبريق قد تبخر تماما.. وبدأ المعدن بالالتواء والمقبض البلاستيكي بالذوبان بفعل الحرارة .. أطفأت النار ورفعت الإبريق بقطعة قماش سميكة .. وألقته في الحوض .. وقد عرفت بأن نهاية الإبريق الحتمية هي سلة المهملات
تأملت الفوضى التي تسببت بها بسهوها بحسرة .. لا شراب ساخن هذا المساء .. سمعت هشام يقول من خلفها :- هل تحتاجين لأي مساعدة ؟
استدارت لتكتشف لحاقه بها إلى المطبخ .. بدا أكثر ضخامة وهو واقف عند الباب الضيق .. أحست أماني بأن مساحة المطبخ الصغيرة أصلا قد تقلصت .. حتى أنها لم تعد قادرة على التنفس .. كان ينظر إليها بعينين ضيقتين يتفحص اضطرابها .. والطريقة التي أخذت تنظر بها حولها وكأنها فأر علق في مصيدة .. تذكر فجأة رد فعلها الخائف عندما حاصرها منذ أسابيع في شقة خالته وكادت تفقد صوابها .. فتراجع خارجا من المطبخ وهو يقول بانزعاج :- لم لا نعود إلى الصالة لنتابع حديثنا .. أعدك بأنني لن أتهجم عليك إن كان هذا ما يخيفك
تمتمت بحرج :- لم .. أفكر بهذا
ولكنها فكرت به .. كما تفعل عادة كلما جمعها مكان واحد برجل غريب .. أجبرت نفسها على التزام الهدوء والتصرف بصرامة على الأقل حتى تعرف هدف زيارته
لحقت به إلى الصالة فوجدته جالسا بارتياح في انتظارها على الأريكة القديمة
قالت بتكلف :- اعذرني لعدم استطاعتي تقديم شيء لك كضيافة .. فكما رأيت بنفسك .. أفسدت الإبريق الوحيد الذي أمتلكه
رفع رأسه قائلا بحزم :- لم آت إلى هنا لأختبر ضيافتك يا أماني .. بل لأتحدث .. وسأبدأ بموضوع سمر.. أرجو ألا تغضبي منها لإفشائها أسرارك .. ولكنها كالعادة لم تحتمل رؤيتي أخطئ دون أن تصحح لي خطأي
جلست أماني متردة فوق مقعد بعيد وهي تنظر إليه بحذر فأكمل :- لقد أخبرتني عن معركتك الطويلة مع والدك التي استمرت لسنوات .. وصمودك الشجاع في وجه معاملته السيئة لك كي تقبلي الزواج برجل لا تريدينه .. أخبرتني عن قطعه المال عنك و .....
قاطعته بكبرياء :- أنا من رفض أخذ المال منه
ارتسمت شبه ابتسامة على شفتيه وهو يقول :- وهل يشكل هذا فارقا ؟ في الحالتين أنا أخطأت في حقك مرارا .. وأهنتك متهما إياك بالفساد والدلال والجري خلف المال .. بينما كنت تكافحين لكسب لقمة عيشك بجهدك الخاص .. من النادر أن تمتلك فتاة ولدت ثرية القوة والشجاعة لفعل هذا
أحرجها ثناءه وبدا غريبا لصدوره منه بالذات .. عرفت فجأة بأنها كانت تكره بشدة رأيه السيء بها .. تمتمت بخفوت :-
:- أي فتاة كانت لتفعل المثل في ظروف كتلك التي واجهتني
:- أي فتاة كانت لتستسلم بالزواج من رجل يمتلك فعليا كل ما تحتاج إليه من مال ومكانة بدلا من مغادرة المنزل الذي ولدت فيه .. والاضطرار لمواجهة العالم القاسي وحدها والإقامة في مكان كهذا
نظر إلى تفاصيل الشقة الفقيرة .. فشعرت بالحرج والحاجة لأن تقول :- لم أستطع إيجاد مكان أفضل خلال وقت قصير
أطل الندم من عينيه القاتمتين وهو يقول بخفوت :- أعتذر لأنني أخرجتك من شقة سمر بتلك الطريقة الفظة
هزت رأسها وقد استيقظ كبريائها من جديد :- كل ما فعلته هو تعجيل المحتوم .. الوضع ليس سيئا كما يبدو .. ليست الشقة بالمستوى الذي اعتدت عليه ولكنها مريحة
لم يظهر عليه أنه صدقها .. بل شمل المكان بنظراته مجددا ثم قال مغيرا الموضوع :- ما الذي أراده ابن عمك منك بعد موقفك الصريح الرافض منه ؟
تمتمت بفتور :- جاء ليطمئن علي
أعاد ظهره إلى الخلف قائلا بسخرية :- كنت لأصدقك لو لم أر نظرة الاستغاثة الصامتة في عينيك لحظة فتحت الباب لي .. من حقي أن أعرف سبب استجابتك لكذبتي على ابن عمك
أسبلت عينيها وتساءلت عن ردة فعله لو أخبرته الحقيقة .. بأن وجودها مع صلاح في مكان واحد يعني تهديدا لإحساسها .. وكبريائها وحريتها .... وحتى شرفها
شيء ما أكد لها بأنها تستطيع منح هشام بعض الثقة رغم أنه كان منذ ساعات فقط ثاني أكره شخص لديها .. ولكن مساعدته ثم اعتذاره الصادق غيرا شيئا في نظرتها إليه .. ولم تعرف إن كان هذا جيدا أم سيئا
تمتمت أخيرا :- جاء آملا أن يجدني أعاني في الطريق الوعر الذي اخترته لنفسي .. وليؤكد لي بانني أضيع وقتي وجهدي هباء
سألها بهدوء :- وهل هذا صحيح ؟
لأول مرة .. تركت إرهاقها يظهر بوضوح عبر زفرة قوية انطلقت من أعماقها ثم قالت باكتئاب :- لا أعرف .. إنني أبذل جهدا كبيرا الآن لأستقل في مدينة لا تعترف باستقلال المرأة .. وما عليه إلا أن يقف متفرجا حتى يتمكن المجتمع مني .. وعندها لن أجد غيره ليتلقفني . . هذه كانت خطة والدي الذي وضعها قبل وفاته .. لقد عرف بأنني لن أتقبل شروطه ببساطة ... وهكذا سيكون علي أن أعاني من ويلات الواقع وصفعاته قبل أن أستسلم .. لطالما كان مقتنعا بأنني لن أعتدل إلا بضربة على الرأس
أدركت بأنه يراقبها بهدوء .. وعينيه الثاقبتين تلاحظان بدقة رعشة جسدها وهي تتكلم .. هزت كتفيها قائلة باكتئاب :-
:-إنني واقعية فقط .. لا فائدة من خداعي لنفسي
:- لماذا ترهقين نفسك إذن ؟ لم لا تتزوجين به ؟ .. إنه ابن عمك أولا وأخيرا .. سيحميك ويمنحك ما تحتاجين إليه من رفاهية وأمان
قالت بحدة مفاجئة :- آخر ما أتوقع الحصول عليه من صلاح هو الحماية والأمان
أحست بتوتر جسده وهو يقول :- ماذا تقصدين ؟
هذا ما كان ينقصها .. أن تحكي لهذا الرجل عن تاريخها الأسود مع صلاح.. قالت بعنف وهي تقف :- لماذا يجد الناس صعوبة في تقبل فكرة رفضي للزواج من رجل لا أحبه ؟ إنه ابن عمي .. ولكنني لا أرغب في الزواج منه
قال بصرامة :- هل لمشاعرك هذه علاقة برجل آخر ؟.
نظرت إليه باستنكار :- هذا ليس من شأنك.. ولكن حتى أرضي فضولك سأخبرك بأنني أرفض الزواج بصلاح .. وغير صلاح
هز رأسه متفهما :- أنت كارهة للزواج إذن
قالت ساخرة :- ليس من الغريب أن تتفهم هذا .. فقد سمعت بأنك مضرب عن الزواج بدورك .. أم أنك كغيرك تجد هذا متاحا للرجال وليس للنساء
قال بحزم :- أعرف الكثير من النساء اللاتي رفضن الزواج .. ولكن أسبابهن كانت مقنعة
قالت بخشونة :- تأكد بأن أسبابي مقنعة تماما
ساد صمت ثقيل للحظات التقت خلالها أعينهما .. كان ينظر إليها من مكانه وقد علا وجهه تعبير غير مفهوم .. فأحست برجفة توتر مفاجئة .. وتمنت أن يرحل سريعا ويتركها وحدها
نهض واقفا وكأنه قد قرأ أفكارها :- أظن بأن ابن عمك لن يزعجك بعد الفصل المسرحي الذي قدمناه له معا ... أليس كذلك ؟
أطلقت ضحكة قصيرة جافة وهي تقول بتهكم يائس :- لا تكن متأكدا .. أنا أعرف صلاح .. سرعان ما سيعود عندما يعرف بأن قصة خطوبتنا ملفقة وغير صحيحة .. ولكنه سيعود أكثر غضبا وتصميما ولن يردعه شيء هذه المرة
ارتعشت وقد تذكرت تحذيره السابق من تورطها مع رجل آخر .. أحست بخوف كبير ظهر في عينيها دون أ، تدري .. وبعد دقائق من الصمت قال هشام بهدوء :-- ليس من الضروري أ، يعرف الحقيقة
أجفلت غير متأكدة مما سمعته ثم قالت بحذر :- ماذا تقصد ؟
:- أقصد أنه لن يعود إذا وجد بأن خطوبتنا حقيقية .. ومعلنة أمام الجميع
تراجعت إلى الخلف مصدومة وهي تقول :- لا يمكن أن تكون جادا .. أنا لا أريد أن أتزوج بك
استحال هدوءه إلى جفاف وهو يقول :- أنا أفوقك رفضا لهذه الفكرة .. ولكنني لم أتحدث عن زواج
قالت بعصبية وهي تلوح بيديها نافذة الصبر :- هلا تحدثت مباشرة عما تعنيه ؟
:- أعني خطوبة مؤقتة .. نعلنها أمام الناس ونتصرف على أساسها حتى يقتنع ابن عمك بأنه قد خسر ويتركك بحالك
نظرت إليه بريبة وقد فاجأتها الفكرة .. نظريا .. كانت فكرته لامعة وكفيلة بإبعاد صلاح عنها .. ولكن مجرد التفكير بأي ارتباط بهذا الرجل بعث في جسدها قشعريرة فسرتها فورا على أنها رفض وازدراء
كان يقف أمامها طويلا شامخا .. ما يزال يرتدي ملابس العمل الأنيقة التي لم تخفي تكوين جسده الضخم القوي .. وقد عقد ساعديه أمام صدره العريض في انتظار ردها .. ولسبب ما شعرت بالخوف منه .. هذا الرجل بحد ذاته يشكل عليها خطرا غامضا لا تستطيع فهمه .. تمتمت أخيرا :- لماذا قد تفعل هذا لأجلي ؟
هز كتفيه بلا مبالاة قائلا :- ليس بالشيء الكثير .. فكما سبق واستنتجت .. أنا لا أفكر بالزواج قريبا .. ولن يشكل الأمر مشكلة بالنسبة لي .. ولا تنسي بأنني الشخص الذي ورطك بالفكرة منذ البداية
ثم نظر إلى عينيها وقال:- كما أنني أدين لك بالمساعدة بعد الطريقة التي عاملتك بها
إذن .. فهو شعور بالواجب والشفقة .. شمخت بأنفها قائلة :- لا أحتاج إلى أي مساعدة منك
زفر بقوة وقد نفذ صبره .. ثم قال بحدة :- سأتركك إذن لتواجهي ابن عمك وحدك .. ولنرى كيف ستساعدك كبريائك
تجاوزها تجها نحو الباب.. فشعرت بالذعر .. فرغم امتعاضها وحذرها منه .. إلا أنه منحها بمساندته إحساسا بالأمان .. وهي لا تريد فقدان هذا الإحساس .. صاحت من خلفه :- لا تذهب .. أرجوك
التفت ينظر إليها من فوق كتفه إلى كيانها المرتبك .. فجلست على الأريكة لتهرب من نظراته قائلة بيأس :- لا أستطيع مواجهة صلاح وحدي .... أنا ....
أغمضت عينيها للحظات كي تستجمع شجاعتها ثم أكملت :- أنا أحتاج إلى مساعدتك
ظل جامدا مكانه دون حراك .. فظنت بأنه سيتجاهلها ويتابع طريقه نحو الباب .. ولكنه استدار نحوها قائلا بجفاف :- في هذه الحالة .. توقعي زيارة قريبة من والدتي
رفع ترأسها مصدومة وقالت :- ماذا ؟ .. ولماذا تزورني ؟ .. ظننت بأن هذه الخطوبة ستكون زائفة
:- هذا ما سيعرفه كلانا .. أما أمي .. فهي لن تعرف هذا أبدا .. يجب أن نتبع جميع الخطوات التقليدية وبشكل طبيعي كي لا نثير الشكوك .. وأمي يجب أن تصدق بأن هذه الخطوبة حقيقيو .. لأنها لن تتقبل بعد كل هذا الإضراب عن الزواج أن أتورط في تمثيلية لا نفع لي منها
قالت بصراحة :- سترفض في كل الأحوال .. لن تقبل ارتباطك بي في الوقت الذي تستطيع فيه الزواج من أفضل فتيات المدينة
عقد حاجبيه واقترب خطوتين وهو يقول بحدة :- وما الذي يعيبك أنت ؟
نظرت إليه بمزيج من المرارة والحزن .. ثم قالت بانفعال :- أنت تعرف بالضبط ما يعيبني .. لقد كنت أول من حكم علي من خلال موقف أبي مني .. و الآن بعد أن عرفت المدينة كلها .. فإن الجميع يتحدثون عني ويتساءلون عن الأسباب التي دفعت أبي لحرماني من الميراث .. وأمك لن تكون مختلفة .. لن ترضى بارتباط اسم ابنها الوحيد بفتاة مثيرة للشكوك .. لن تكون أما طبيعية إن فعلت
رفعت رأسها إليه ورسمت على شفتيها ابتسامة مرارة وهي تقول متهكمة :-
:- كما ترى .. لست مخيرة في رفضي التام للزواج .. لن يقبل رجل محترم الزواج بفتاة سيئة السمعة وتعيش وحيدة في هذا المجتمع المتحفظ .. ربما علي اختصار الجهد والوقت .. والقبول بما يعرضه علي صلاح مهما كان كرهي له شديدا
رغم محاولتها الاحتفاظ بالهدوء والواقعية أثناء حديثها إلا أن صوتها قد تهدج في النهاية عندما سرت رعشة اشمئزاز في جسدها .. مما أظهر مقدار التعاسة التي تبذل جهدا خرافيا لإخفائها عن الآخرين .. ولكنه تمكن من ملاحظة الدموع الحبيسة في عينيها .. فقطع المسافة بينهما ببطء.. وجلس إلى جوارها .. فانكمشت على نفسها .. وقد أربكها قربه .. ولكنه لم يكن ينظر إليها .. بل كان شارد الذهن وقد استغرق بالتفكير .. رائحة عطره المميزة كانت واضحة هذه المرة .. وبالرغم من الضيق الذي تثيره فيها روائح العطور .. إلا أن انجذابا مفاجئا أثار ذعرها نحو رئيسها الذي كرهته دائما .. فكرت بالقفز مبتعدة عنه .. ولكنها ستظهر نفسها أمامه مجددا كالحمقاء المذعورة .. فسيطرت على ارتعاش جسدها وأقنعت نفسها بأن حالتها النفسية السيئة وأزمتها الحالية تصوران لها أشياء لا وجود لها ..
قال هشام فجأة قاطعا استغراقها في تحليل مشاعرها :- بالرغم من كل شكوكي السابقة بك يا أماني .. فلطالما ظننت بأنك فتاة شجاعة وقوية .. تعرف جيدا ما تريده وتسعى إلى تحقيقه بعزم .. رغم ظروفك السيئة .. لم تفقدي ثقتك بنفسك وكنت دائما الفتاة الذكية والأنيقة والمتألقة .. مما أثار داخلي احتراما وتقديرا كبيرين لك .. ليس من العدل أن تفقدي كل ما لديك إرضاء لكلام الناس
نظرت إليه بحيرة .. أهكذا يراها حقا ؟ لم تتخيل أنها قد تسمع منه كلمات الإطراء يوما .. ولكنه يعيد إليها ثقتها بنفسها وشجاعتها بكلماته .. أكمل بهدوء :- بالنسبة لأمي قد تكونين محقة .. ولكنني واثق بأنها ستتفهم ظروفك وتقدرك كما أفعل أنا .. فهي أكثر من يعرف ما تعانيه المرأة الوحيدة في مواجهة المجتمع
تذكرت أماني ما أخبرتها به سمر عن والدته .. لطالما تمنت أن تقابل تلك المرأة المناضلة ولكن لقائها في هذه الظروف يخيفها كثيرا
قال هشام :- لقد رفضت بدورها الزواج مجددا بعد رحيل زوجها .. ولم يفهمها المجتمع .. ولكنها فضلت العناية بأبنائها والاعتماد على نفسها بدلا من الخضوع مجددا لسيطرة إنسان آخر يستغل مشاعرها وحاجتها إليه
لاحظت كيف تكلم عن والدته بصفته زوج والدته .. وأحست خلف كلماته بمرارة الذكرى .. فقالت بتردد:-
:- أهذا سبب رفضك للزواج ؟ كي لا تمنح امرأة امتياز السيطرة عليك من خلال مشاعرك ؟
أحست بجسده الضخم يتصلب .. وعلا وجهه انزعاج غاضب وهو يقول:- نحن نناقش حياتك أنت لا حياتي
نظر إليها فوقع بصره على أثر الجرح في جانب وجهها الأيسر .. تأمله صامتا وقد تراقص تساؤل في عينيه .. ارتبكت وأسرعت تتخلل شعرها بأصابعها وتسقطه فوق الجرح لإخفائه .. قال متأملا :-
:- ما أعنيه من هذا الحديث هو أنك لست مضطرة للقلق بشأن أمي .. قد تحتج في البداية كأي أم .. ولكنها ستفهم في النهاية .. ستتغلب عليها رغبتها في رؤيتي متزوجا
قالت بقلق :- ماذا عن ردة فعلها عندما ننهي الخطوبة ؟ ألن يزعجها هذا ؟
لوى فمه قائلا:- سيزعجها قليلا .. ولكن هذه الأمور تحدث .. سنختلق شجارا أو اثنين .. ثم ندعي بأننا لم نتفاهم
تمتمت :- أنت تسهل الأمر كثيرا
سقطت يده فوق يدها فجأة .. لتجفلها بملمسها الخشن والدافئ .. نظرت إليه باضطراب فقال مؤكدا :- ستنتهي الأمور بخير .. ولن يزعجك ابن عمك مجددا .. أنا أعدك بهذا
حزمه وهو يعدها بدعمه جعلها تشعر بالأمان والسكينة .. ولكنها لم تستطع تحمل لمسته أكثر ..فسحبت يدها بهدوء قائلة :- أشكرك .. أشكرك حقا على مساعدتك لي
منحها ابتسامة جانبية باهتة وهو يمسح وجهها بنظرات مبهمة .. ثم وقف قائلا :-
:- وفري شكرك حتى النهاية .. فنظرة ابن عمك أثناء خروجه من هنا أوحت إلي بأن الطريق أمامنا لن يكون سهلا
وقفت بدورها وهي تقول بتشكك :- سيد هشام .. أكرر بأنك لست مضطرا للتورط في هذه المشكلة .. لا أريد أن .....
قاطعها بحركة من يده وهو يقول بسلطته المعهودة :- لا أريد سماع المزيد من النقاش حول الموضوع .. غدا صباحا سأراك في مكتبي لأعلمك بموعد زيارة والدتي
ثم غادر شقتها تاركا إياها وحيدة .. تسترجع كل كلمة تبادلاها .. وتساءلت إن كانت محقة في منحه ثقتها .. فلطالما كان لئيما معها .. وموقفه المساند لها يبدو غريبا وغير مفهوما .. فما الذي يدفعه لمساعدتها ؟
أهي غريزة الحماية التي حدثتها عنها سمر ؟
أم شعور بالذنب لمعاملته السيئة لها ؟.. أم الشفقة بعد أن قرأ الخوف في عينيها من المستقبل؟
في جميع الحالات هي مسرورة لأنها لم تعد وحيدة في مواجهة صلاح .. ولأنها قد عقدت هدنة ولو مؤقتة مع رئيسها في العمل .. ولكنها بطريقة ما .. تشعر بأنها تتورط مع رجل قد يشكل عليها خطورة أكثر مما يفعل صلاح
خطورة من نوع آخر



سيدة الشتاء حيث تعيش القصص. اكتشف الآن