لم يتأخر اتصال جودي كثيرا ..استيقظت اماني بعد منتصف الليل بقليل لتسكت صراخ هاتفها المحمول .. وعندما قرات اسم جودي على الشاشة رفعته إلى أذنها قائلة بقلق :- جودي
كما توقعت كان صوت جودي منهارا وقد تخللته الشهقات المتتالية وهي تقول :- أخبريني بأن ما قرأته غير صحيح .. لا يمكن ان يكون صحيحا
ردت أماني :- جودي .. اهدئي قليلا .. هل تريدين مني القدوم إليك ؟
نعم .. كانت مستعدة لدخول ذلك البيت من جديد حتى لو خاطرت بلقاء صلاح كي تكون مع جودي في هذه اللحظات
تمالكت جودي أعصابها وهي تقول :- لا .. لا داعي لهذا .. أنا بخير .. اكتشفت فقط بأن القواعد التي كنت أستند إليها في حياتي لم تكن سوى مجسمات ورقية مزيفة .. عرفت لتوي بان أمي لم تحب أبي قط .. وأنها تزوجته لأجل امواله ومركزه الاجتماعي مضحية بمشاعرها اتجاه ابن عمها الفقير ..وأنها لم تكن سعيدة على الاطلاق .. بل كرهت كل لحظة عاشتها داخل هذا البيت
أحست اماني بالهستيريا تتخلل صوت جودي فقالت برفق :- أعرف بأن صدمتك كانت كبيرة .. ولكنك تغفلين عن شيء في قمة الأهمية .. نحن لم نعرف امنا حقا يا جودي .. وهذه فرصتك للتعرف إليها جيدا .. ان تعرفي المرأة التي كانتها تحت ذلك القناع الذي اضطرت لارتدائه أمام زوجها وأمام الناس .. تمعني في احلامها وأفكارها .. لا تغفلي عن الحب العميق الذي كانت تكنه لنا والأمنيات التي كانت تراودها حول حياتنا ومستقبلنا
أخذت نفسا عميقا ثم أكملت :- نعم هي لم تكن سعيدة .. ولكن هذا لم يكن ذنبها .. فهي لم تستطع أن تجبر قلبها على نسيان حبها الأول وتقبل شخص آخر حتى بعد ان أنجبت منه أطفالا .. حاولت لأجلنا على الأقل وفشلت .. فلم تعد ترغب بأي شيء من الدني إلا تجنيبنا التعاسة التي عانت منها .... أبي أيضا لم يكن مذنبا .. فقد أحب امنا بجنون .. حاول إرضائها بكل الطرق الممكنة ولكنه صدم عندما اكتشف بان أمواله بكثرتها لت تستطيع ان تشتري له السعادة .. كنوز الدنيا كلها لا تستطيع منحنا حبا لم يكن مقدرا لنا
عندما لم تسمع صوت جودي قالت بقلق :- جودي .. هل تسمعينني ؟
بعد لحظات من الصمت همست جودي :- وأنت كنت تعرفين منذ البداية .. لهذا كان ابي ينفر منك .. كنت تذكرينه بخيبته الوحيدة .. ولم يسامحك على هذا قط
تنهدت أماني وقالت :- مشكلتي مع أبي تعود إلى أسباب أكثر تعقيدا .. ولكنك محقة .. معرفتي للحقيقة التي حاول انكارها طويلا لم تساعده على تقبلي
:- لهذا كنت مصرة على رفض صلاح .. لم ترغبي بتكرار مأساة أمي
قالت اماني بحدة :- كراهيتي لصلاح لا شك في عمقها .. ولا علاقة لها أبدا بأحلام امي .. كنت لأرفضه حتى لو خرجت من القبر وتوسلت إلي بأن أقبل به
ثم أخذت نفسا عميقا كي تخفف من غضبها وقالت :- قصتي مع فراس كانت ردة فعلي الحقيقية على ما عرفته عن أمي .. أردت بيأس أن أتزوج برجل أحبه .. وكنت قد ضقت ذرعا بمحاولات أبي لتزويجي من صلاح
قالت جودي متفهمة وقد هدأت :- ثم خيب فراس أملك وفقدت أملك بعد ذلك بتحقيق حلم أمنا .. ولكنك الآن مقبلة على الزواج بالرجل الذي تحبينه حقا .. صحيح ؟
تمتمت أماني :- نعم .. هذا صحيح
ساد الصمت للحظات قبل ان تقطعه اماني :- ما الذي ستفعلينه الآن ؟
عرفت جودي ما قصدته اماني فقالت باضطراب :- لا أعرف بعد .. أظنني بحاجة إلى التفكير لبعض الوقت .. انا آسفة لإيقاظك بينما ينتظرك يوم حافل في الصباح
:- لا مشكلة .. ستطلعينني على أخبارك أولا بأول ... أليس كذلك ؟
:- بالتأكيد
أنهت جودي المكالمة .. وأحاطت نفسها بذراعيها محاولة إيقاف الأفكار التي تتصارع داخل عقلها بلا رحمة .. لقد طرحت اماني السؤال الأهم ... ما الذي ستفعله الآن ؟ هل ستتابع التحضيرات لزفافها وتتزوج بطارق ؟
هي لا تستطيع نفي ما تحسه نحوه من مودة .. فهو شخص رائع ولم يكن معها إلا مثال الخطيب الكامل .. وكان من الممكن أن تكون سعيدة معه لو لم تقع في حب تمام
تمام .. رددت اسمه بألم كبير .. وتذكرت ملامحه المجروحة في آخر لقاء لهما عندما قطعت علاقتها به نهائيا .. لن تنسى ما عاشت نظرة عينيه وهي تخرجه من حياتها بقسوة لم تدرك بانها امتلكتها .. لم يكن يومها غضبها منه قد خمد .. كلماته القاسية التي وجهها نحوها خلال عشائهما الأخير مازالت محفورة داخلها .. مع انها بعد أن هدأت .. بالأدق بعد ان أضناها الشوق .. بدأت تعطيه الأعذار .. فهي من بدأ بإهانته والتقليل من شأنه بالإشارة إلى وضعه المادي والاجتماعي المتدني .. وبعدها جرحته بكلماتها بعد أن انتابها الذعر من ضعفها الشديد أمامه
دفاعها المستميت داخل عقلها لا ينفي الواقع .. وهو انه شاب عابث لا يفكر بالزواج منها حتى لو كان يحبها بجنون كما يدعي .. وهي لن تسمح لنفسها أبدا بأن تستسلم له بشروطه مهما كان حبها له كبيرا .. ومهما عذبها فراقه
ضجيج خافت قادم من الطابق السفلي قطع تسلسل أفكارها .. على الفور سيطر عليها الخوف الطبيعي للفتاة تقيم وحيدة في منزل كبير .. فحتى وجود الخادمة النائمة على بعد رواق من غرفتها لن يمنع عنها أذى لص أو مغتصب
نهضت دون ان تصدر صوتا .. وتناولت عصا والدها الضخمة .. وغادرت غرفتها متجهة إلى الطابق السفلي بحذر شديد
على الضوء الخافت لإحدى القناديل الناعمة الموزعة بذوق في أرجاء الصالة .. لمحت ذلك الرجل الجالس فوق الأريكة وقد أحنى رأسه مخفيا وجهه بين يديه وقد بدت عليه التعاسة
أخفضت العصا وهي تهمس :- صلاح
رفع رأسه نحوها فصدمها مظهره المزري .. لم ترى صلاح في حياتها فاقدا السيطرة على نفسه بهذا الشكل حتى عند وفاة والدها
وجهه الوسيم كان شاحبا نحيلا .. وقد أحاطت الهالات السوداء بعينيه الغائرتين .. ونمت ذقنه حتى بدا شخصا آخر مختلف تماما عن ابن عمها الواثق الأنيق الذي عرفته طوال حياتها
ابن عمها القوي يتعذب بشدة في هذه اللحظة
تحركت نحوه ببطء بينما خرج صوته الأجش يقول :- لقد انتهى كل شيء .. سوف تتزوج به بعد أيام ... بينما أنا أقف عاجزا عن فعل أي شيء لإيقافها
جلست إلى جواره قائلة برقة :- لن تستطيع إيقافها يا صلاح .. أماني سوف تتزوج من هشام عطار .. لقد حان الوقت كي تمنحها حريتها لتجد سعادتها التي حرمت منها طويلا
نظر إليها بتعاسة قائلا :- وماذا عني انا ؟ ما الذي سأفعله الآن بدونها
قالت بحزن :- أعرف بأنك قد ظننت لفترة طويلة بأنها تنتمي إليك .. ولكنني آسفة يا صلاح .. أماني كانت دائما ملك لنفسها .. يجب أن تنسى الآن نزعتك التملكية نحوها و تبدأ بالبحث عن امرأة أخرى تحبها حقا هذه المرة
تقلصت ملامح وجهه باستنكار وهو يقول :-
:- ألا تظنين ما أحسسته نحو اماني حبا حقيقيا ؟ ربما عاملتها بقسوة وتجاوزت الحد .. إلا انني أحببتها بجنون منذ دخلت بيتكم طفلا يتيما جائعا إلى الحب والاهتمام .. وقد وجدته لدى عمي .. لديك انت .. حتى لدى زوجة عمي المرحومة ..
أماني كانت الوحيدة التي اعتبرتني دخيلا منذ اللحظة الأولى .. بينما بهرت أنمنا بجمالها وكبريائها وغموضها .. وجعلت هدفي أن أقلب يوما نظرة الكراهية في عينيها إلى الحب العميق الذي كنت أنشده .. كلما كانت تقاوم .. كنت أزداد غضبا وتمسكا بها .. استبحت كل الطرق للوصول إليها .. ولكنها كانت أبعد من نجوم السماء عني
وهاهي الآن تتزوج برجل آخر فقط كي تتحرر وتنتقم مني .. كيف أعيش بعد الآن وأنا أعرف بأنها كرهتني إلى حد وهب نفسها لرجل لا تحبه فقط كي تتخلص مني
ساد الصمت للحظات قبل أن تقول بهدوء :- أنت مخطئ يا صلاح .. أماني تحب هشام .. إنه الرجل الذي فهمها وقدرها واحترمها في الوقت الذي نبذها فيه المجتمع .. إنه إنسان رائع تمكن من منح أماني الأمان الذي افتقدته طوال حياتها .. هشام هو الرجل الذي استحق أماني فعلا .. هو الشخص القادر على حمايتها كما يجب
تذكر صلاح بخزي شديد ردة فعل هشام عندما ضبطه يهاجم أماني في لحظة غضب جنوني لم يعرفها من قبل .. فتمتم معترفا :- إنه كذلك بالفعل
ابتسمت برقة قائلة :- إن كنت تحب أماني فعلا فستتمنى لها السعادة .. وتحاول أن ترمم ما دمرته سنوات من العداء والاضطهاد بينكما
عرف صلاح بأن أماني لن تقبل النظر إلى وجهه بعد الآن ولكنه تمتم :- بالتأكيد
ثم قال :- آسف لأنني أيقظتك في هذا الوقت المتأخر .. كنت يائسا وبحاجة إلى محادثة شخص ما أثق به .. وكنت أنت من خطر على بالي
ابتسمت وأمسكت يده بقوة قائلة :- أنت هو عائلتي الوحيدة يا صلاح
نهض مصلحا ثيابه .. ومرر يده عبر شعره الأشعث وقال :- سأتركك تعودين إلى النوم .. أنت لست بحاجة إلى مشاكلي إضافة إلى همومك .. دراستك .. زفاف أماني .. زفافك المرتقب .. ما يطمئنني هو أنني سأطمئن عليك على الأقل تحت رعاية طارق .. إنه شاب جيد وسيهتم بك كما يجب
هزت رأسها موافقة بصمت .. فقبل جبينها بحنان أخوي قائلا :- تصبحين على خير
راقبته يغادر ثم تكومت هي مكانه على الأريكة وهي تفكر ساخرة بأن النجاح في الحب ليس من سمات عائلة النجار .. ابتداء بوالديها .. وانتهاءا بها وبصلاح
على الأقل تمتلك أماني الفرصة لتحقق ما فشلو جميعا في تحقيقه
السعادة الكاملة
أنت تقرأ
سيدة الشتاء
Romansنظر إليها بتامل شعرها الأشقر الرطب الذي إلتصقت أطرافه بجبينها ووجنتيها . واسترخائها الكامل وكأنها قضت حياتها كاملة تحت المطر . . فقال - سيدة الشتاء . . ردت باضطراب : سيدة الشتاء ابتسم بغموض قائلا - كان لها حبيب يحمل قسوة في قلبه . تشاجرا ذات ليلة...