الفصل السابع والعشرون (وداع)

7.6K 266 1
                                    

تسلل صوت طارق إلى عقل جودي ليوقظها من شرودها بقوله :-
:- جودي .. أنت تعبثين بطبقك منذ دقائق
نظرت إلى طبقها الذي بالكاد لمسته ثم قالت بأسف :- لست حقا جائعة
التقت نظراتهما عبر المائدة المختارة بعناية في زاوية أحد أفضل مطاعم المدينة .. ثم سرعان ما أشاح كل منهما بعينيه بعيدا .. بالرغم من أن جودي تحاول جاهدة إصلاح الأمور مع طارق .. إلا أن الوضع بينهما قد تغير منذ قبلها أمام باب منزلها قبل أسابيع بناءا على طلبها .. شيء ما قد فقد أو كسر .. وتعرف جودي بأنها هي الملامة في هذا بعد تجاهلها القاسي وعديم الذوق لطارق لفترة طويلة ..
قال طارق محاولا كسر الارتباك الذي ساد بينهما :- يبدو أن ثمة ما يشغل بالك
ردت باقتضاب :- لا شيء.. مجرد مشاكل بسيطة مع أماني
همهم دون معنى وعاد يركز اهتمامه على طبقه .. لقد أدرك جيدا بأن اماني هي أحد المواضيع المحظر عليه مناقشتها مع جودي ..ولم يرغب بزيادة علاقتهما توترا وسوءا ..تنهدت جودي وهي تتابع العبث بطبقها دون ان تأكل منه شيئا ..على الأقل هي لم تكذب على طارق هذه المرة ..فما زال عقلها مشغولا باتصال أماني بها هذا الصباح ..
لقد كان صوتها متوترا وهي تتحدث بشكل غير مترابط .. فلم تفهم منها جودي إلا بان صلاح كان في شقتها ليلة الامس ..وعن زواجها بهشام
ما الذي قصدته بزواج سريع خلال أسبوعين ؟ بالكاد خطبت للرجل وها هي تتحدث عن زواج .. شعرت جودي بأن أماني لم تطلعها على كل شيء .. فمن الواضح أنها قد تشاجرت مع صلاح مجددا ..وهي لن تطلعها على التفاصيل كالعادة .. فمنذ وفاة والدهما .. وبالرغم من سوء معاملة صلاح لأماني فإن مشاعره الأخوية نحو جودي لا شك في صدقها .. وعمليا هو الشخص الوحيد المتبقي لها من العائلة ..وأماني لا تريد إفساد علاقتهما .. وهذا ما يدفع جودي للتفكير في الأسوأ .. ما الذي حدث بين صلاح وأماني ؟
ارتفع صوت ضحك جماعي صاخب من طاولة قريبة .. قطعت أفكارها وذكرتها بالرجل الجالس أمامها .. والذي بدا عليه التفكير العميق قبل أن يقول :- لقد قابلت صلاح قبل أيام .. وتحدثنا مطولا حول الزفاف
رمشت جودي بعينيها ورددت ببلاهة :- زفاف ! .. أي زفاف ؟
رد طارق بعصبية :- زفافنا انا وأنت بالتأكيد .. أم أنك نسيت بأنها النهاية الطبيعية لأي خطوبة
تنحنحت بحرج قائلة :- لا .. لم أنس .. ولكنك فاجأتني فقط .. لم أفكر بالأمر مؤخرا
قال ساخرا :- أعرف بأنني لا أخطر كثيرا على بالك في الآونة الأخيرة
احمر وجهها لسخرية طارق غير المعهودة .. وامتنعت عن التعليق .. فأكمل :- نرى أنا وصلاح بأن أفضل وقت لإقامة الزفاف هو الاسبوع الذي يلي انتهاء الامتحانات .. أي في شهر ...
قاطعته بتوتر :- أرى أنكما قد اتخذتما كل القرارات بدوت استشارتي .. ألا يحق لي إبداء رأيي في الموضوع ؟
قال ببرود :- وهل لديك أي مشكلة اتجاه الموضوع ؟.. أظن بأن خطوبتنا قد طالت بما يكفي .. أليس كذلك ؟
تململت بانزعاج وقاومت رغبة جامحة في الصراخ به عن عدم استعدادها لأي حديث عن الزفاف .. ولكنه محق .. فهما خطيبان .. أليس كذلك ؟ .. هي لا تخطط للبقاء مخطوبة إليه إلى الأبد .. عاد صوت الضحك الصاخب ليقطع تسلسل أفكارها .. فتناولت حقيبة يدها وقالت بعصبية :- سأغيب للحظات قليلة
وأمام نظراته الثاقبة .. اختفت داخل ممر جانبي مؤدي إلى استراحة السيدات .. اتكأت فوق المغسلة وهي تزفر بقوة .. لقد كان تصرفها جبانا بالهرب من مواجهة طارق .. فهي ستحصل عاجلا أم آجلا .. ولكن ليس قبل أن تواجه نفسها أولا ..
نظرت إلى صورة وجهها المنعكسة على المرآة حيث لاحظت الشحوب الذي علا وجهها الجميل .. وأطل الذبول من عينيها .. لقد فقدت بعض الوزن خلال الأسابيع السابقة بسبب قلة النوم والطعام .. والتفكير المضنى ليل نهار .. والشوق اليائس إلى حب مستحيل لا أمل منه
ترقرقت الدموع في عينيها .. وهي تهمس :- تمام
لو أنها فقط لا تشتاق إليه بهذا الشكل .. ولا تستعيد في كل لحظة صورة وجهه ونبرة صوته .. لمسة يديه .. رقة شفتيه
أغمضت عينيها المرهقتين بقوة .. عندما واجهتها أماني قبل أشهر بشكوكها حول حبها لطارق لم تبالي بكلامها .. والآن أدركت كم كانت أماني صادقة ..
فجودي لم تحب طارق قط .. ليس كما يجب أن تحب المرأة الرجل .. بل هي تحب رجلا آخر .. رجل لا ينتظرها منه إلا السعادة المؤقتة والندم الأبدي
رجل أهانها وقلل احترامها وأوضح لها بصراحة عدم رغبته في الزواج منها .. يجب أن تنساه .. أن تلغيه من عقلها وقلبها وكيانها .. أن تتجاهل مشاعرها نحوه كما تجاهلت لأيام اتصالاته الملحة ومحاولاته اليائسة لمخاطبتها
مسحت دمعتها الفارة .. وقررت العودة إلى طارق وإعلامه بموافقتها على الزواج منه في الموعد الذي اختاره
جددت زينتها لتخفي آثار اكتئابها .. ورسمت ابتسامة مشرقة على شفتيها .. ثم حملت حقيبتها وغادرت المكان .. وقبل أن تصل إلى صالة الطعام ..أطبقت أصابع قاسية على ذراعها مما جعلها تطلق شهقة ذعر قوية وتستدير نحو مهاجمها الذي سحبها بدون لطف عبر باب جانبي إلى خارج المطعم حيث وجدت نفسها وقد لفحها الهواء البارد في شارع خلفي مظلم خلا من أي أثر لوجود آخر
حررت نفسها وابتعدت لتواجه غريمها .. وتلهث مراقبة ملامح وجهه .. والغضب الأعمى الذي ارتسم في عينيه الداكنتين .. لا .. لم يكن الخوف هو ما شعرت به جودي وهي ترى تمام بعد أيام من فراقهما العنيف .. وقد انتفضت كل عضلة في جسده النحيل والطويل ثورة وغضبا .. بل كان الشوق .. الشوق التام والمؤلم إلى حد المرض ..
أحاطت جسدها بذراعيها لتقي نفسها من البرد .. ورمقته بنظرة هزت كيانه بما تحمله من حزن عميق وألم .. قالت بصوت أجش :- ما الذي تريده مني ؟
حاول السيطرة على صوته وهو يقول :- بل ما الذي تفعلينه انت معه ؟
هزت رأسها غير مصدقة وهي تهتف :- طارق هو خطيبي
صرخ بها بعنف :- إياك أن تقوليها
ترقرقت الدموع المريرة في عينيها .. وبدأ قناعها الهش بالتلاشي وهي تقول :- ولكنه كذلك .. انا ألبس خاتمه منذ أشهر .. وسنتزوج بعد انتهاء الامتحانات
قطع المسافة بينهما بخطوات واسعة .. وأمسك كتفيها ليهزها بقوة قائلا :- وماذا عني أنا ؟
اقترابه منها إلى هذا الحد والشعور بأصابعه من فوق قماش قميصها الرقيق كاد يذهب بعقلها .. التقت نظراتهما .. واستعاد كل منهما خلال لحظة ما جمع بينهما خلال الأسابيع التي مضت .. كل يوم قضياه معا .. كل كلمة تبادلاها .. كل نظرة .. كل لمسة
انسدلت رموشه الكثيفة لتضفي المزيد من الحرارة على نظراته التي تأملت بشغف كل تفاصيل وجهها
ولكن هذه المرة .. كان تمام أي شيء إلا ذلك الشاب الواثق من نفسه .. المعتاد على سرقة قلوب الفتيات بابتسامة واحدة .. لقد كان يماثلها توترا وقلقا وعذابا ..
وهو يتنفس بسرعة محاولا السيطرة على انفعالاته .. كرر سؤاله همسا هذه المرة :- وماذا عني أنا يا جودي ؟
يا إلهي .. كم تحتاج إلى أن تضمه إليها .. أن تنهل من حبه وحنانه .. أن تضيع بين ذراعيه إلى الأبد .. هل يدرك تمام كم كان يبدو بهيئته المرتبكة واليائسة رائعا ومثيرا ؟.. هل يعرف بأنه قادر على سحق قلبها بنظرة واحدة فقط ؟
أطلقت شهقة مرتعشة وهي تبعد عينيها عنه وتهمس :- أت لا شيء بالنسبة إلي يا تمام
هز رأسه غير مصدق وهو يقول باضطراب :- تكذبين
كررت بصوت هزه البكاء :- أنت لا شيء بالنسبة إلي يا تمام
دفعته عنها وركضت إلى داخل المطعم تكاد لا ترى طريقها .. قفز طارق واقفا عندما لاحظ حالتها .. وقال بقلق :-
ما الأمر ؟ ما الذي حدث ؟
بذلت جهدا كبيرا كي لا تجهش أمامه بالبكاء وقالت :- أريد العودة إلى البيت
بدون تعليق .. دفع الحساب .. وتناول سترته .. ثم قادها من مرفقها إلى خارج المطعم .. وداخل السيارة وقبل أن يشغل المحرك .. ساد الصمت طويلا بينهما قبل أن يقطعه قائلا بجمود :- ألن تطلعيني على ما يحدث معك ؟
تمتمت وهي تنظر بعيدا :- ليس الآن
أصر بجفاف :- يجب أن أعرف ما غيرك يا جودي .. إن كنت ستصبحين زوجتي بعد أشهر فعليك اطلاعي على مشاكلك قبل أن نبدأ حياتنا معا
استغرقت فترة طويلة قبل أن تتمتم دون أن تنظر إليه :- امنحني بعض الوقت
هتف بسخط :- جودي
قاطعته وقد بدأت تفقد أعصابها :- هلا أعدتني إلى البيت
أدار المحرك بعنف وانطلق بالسيارة بتهور غير معهود منه .. وعندما أوقف السيارة أمام منزلها قال لها :- سأتصل بك لاحقا
قالت وهي تترجل من السيارة :- لا .. أنا من سيتصل بك
سارت نحو البيت بسرعة ودموعها تنهمر من عينيها .. لكم تتوق إلى الاختلاء بنفسها والبكاء فوق وسادتها حتى الصباح
فتحت الباب وأقفلته خلفها .. فأثار منظر البيت الخالي والموحش مشاعرها .. وأحست في تلك اللحظة كم هي وحيدة
وكم هي بحاجة إلى الرجل الذي أخرجته من حياتها بلا تردد هذه الليلة
إلى تمام

سيدة الشتاء حيث تعيش القصص. اكتشف الآن