الفصل العشرون (خطبة تقليدية )

8.5K 301 1
                                    

نظرت أماني حوها قائلة :- ما رأيك الآن ؟
تأملت جودي التغيير الذي حل بالشقة الصغيرة وقالت برضا :- أفضل بكثير.. وتشبه مكانا يقيم فيه البشر
منذ الصباح وهما تعملان معا في التنظيف والترتيب .. وتنسيق قطع الأثاث التي اشترتها أماني بثمن زهيد من متجر للأثاث المستعمل بدلا من القديمة القذرة .. أحضرت جودي معها بضع لوحات وتحف للزينة من المنزل .. قبلت بها أماني على سبيل الإعارة .. على الأقل حتى تمر زيارة والدة هشام بسلام
تابعت جودي :- إذا كانت حماتك المستقبلية مدركة لظروفك الصعبة فهي لن تنتقدك
تمتمت أماني :- أتعشم هذا
فهي كانت قلقة حقا من ألا تكسب إعجاب والدة هشام .. بالرغم من يقينها بأن هذه الخطوبة ماهي إلا مسرحية .. ولكنها تحترم تلك المرأة وتقدرها من خلال ما سمعته عنها .. حتى لو أ، لقاءا لم يجمع بينهما بعد
إخفاء أماني حقيقة زيف هذه الخطوبة عن جودي يزعجها .. ولكنها لن تخاطر بمصارحتها كي لا يزل لسانها أمام صلاح دون أن تدري فتفسد على أماني كل شيء
نظرت جودي إلى أختها وقالت بقلق :- أماني .. هل أنت متأكدة من الخطوة التي تقومين بها ؟
ترددت أماني في الإجابة .. فهي أكثر قلقا من جودي .. تورطها مع هشام قد لا يقل خطورة عن الزواج بصلاح . ولكنها قالت أخيرا بحزم :- بالطبع متأكدة
هنا انفجرت جودي قائلة :- ولكنك تكرهينه .. على الأقل صلاح ابن عمك .. وتعرفينه حق المعرفة ... ستعرفين تماما ما ينتظرك معه .. أما هشام عطار ....
صمتت أماني للحظات قبل أن تقول باقتضاب :- أنا لا أكره هشام عطار
اتسعت عينا جودي بدهشة .. ونظرت إلى وجه اماني الجامد .. ثم همست :- يا إلهي .. هل وقعت في حبه ؟
صدمت الفكرة أماني فصاحت باستنكار :- بالطبع لا
ألقت نفسها على مقعد قريب وهي تقول موضحة لأختها :- لقد تغيرت نظرتي إليه منذ فترة .. اكتشفت مؤخرا بأنه ليس بالسوء الذي ظننته
تذكرت لحظتها ما شهدته من رقة وحنان في تعامله مع سمر .. وغريزة الحماية العالية لديه .. لا .. لم تكذب على جودي عندما صرحت بعدم كرهها له .. ولكن مشاعرها نحوه انقلبت إلى خوف كبير .. وجودي محقة في جهل أماني كل شيء عنه .. إنه أشبه بالبئر العميق الممتلئ بالأسرار.. تذكرت كيف ربت على يدها محاولا بث الاطمئنان في نفسها .. فاقشعر بدنها لذكرى ملمس يده .. وأخفضت عينيها كي لا تلاحظ جودي ارتباكها وقالت :- أنه شخص جيد .. حياته الخشنة والقاسية هي ما جعله ضعيف الثقة في الآخرين وقاسي في معاملتهم
لم تنجح في بث الثقة في نفس جودي التي استعدت لمتابعة النقاش .. إلا أن جرس الباب منعها بصوته العالي الذي دوى في أنحاء الشقة الصغيرة
أحست أماني بقلبها يكاد يقفز من مكانه .. واضطربت وهي تنظر إلى جودي بحيرة
فابتسمت جودي متذكرة التوتر الذي كان يصيبها عند كل زيارة من عائلة طارق فقالت :- ما الذي تنتظرينه ؟ افتحي الباب
قالت اماني بتوتر :- كيف أبدو ؟
تأملت جودي تنورة اماني الطويلة البالغة الأناقة والانوثة والمتناسقة من القميص الحريري الذي عانق صدرها وذراعيها مظهرا تناسق قوامها .. وقالت مشجعة :- رائعة الجمال كالعادة
تأكدت أماني من اختفاء ندبتها تحت خصلات الشعر المنسدلة وهي تقول بفظاظة لتخفي ارتباكها :-
:- كوني مهذبة .. وإياك وذكر اسم صلاح
ثم اتجهت نحو الباب وأخذت نفسا عميقا قبل ان تفتحه
رحبت بتهذيب وخجل بسمر .. والسيدة الأكبر سنا التي بدت وقورة للغاية بحجاب رأسها وملابسها الأنيقة والمحتشمة .. وأطلت من عينيها السوداوين الناضجتين نظرات الفضول والاستكشاف وهي تتأمل اماني بإمعان
دعتهما للدخول والحرج يكاد يأكلها عندما تذكرت رؤيتها السابقة للمرأة خلال جنازة والدها .. وتساءلت بقلق إن كانت قد أساءت الظن بها ذلك المساء كما فعل ابنها تماما
سمر كانت أكثر بشاشة وهي تضم أماني وتقبلها بسرور دون أن تخفي حماسها للخطوبة بعكس أختها التي جلست بوقار تنقل بصرها بين جودي واماني .. ثم تركزه على أماني التي احمر وجهها بتأثير من تعليقات سمر اللاذعة
اعتذرت أماني .. وهربت إلى المطبخ .. وهناك وقفت مستندة إلى الحوض لعدة لحظات محاولة تمالك أعصابها .. ما الذي أصابها ؟لماذا تتصرف كمراهقة يزورها خاطبون للمرة الأولى ؟ لطالما كانت هادئة فب تعاملها مع الآخرين .. فلماذا تشعر بكل هذا القلق والتوتر ... والإحباط ؟
نعم .. لقد توقعت ان يرافق هشام والدته في زيارتها الأولى .. وعندما لم تجده خلف الباب كما توقعت أحست بخيبة امل .. فوجوده كان سيخفف من صعوبة الأمر بالنسبة عليها ... وعلى والدته التي يبدو رفضها للخطوبة واضحا .
ولكن ما الذي كانت تتوقعه ؟ أن يتجاهل أعماله ومشاغله الكثيرة لأجل خطوبة مزيفة ؟
شعرت بالخزي عندما تذكرت بأنها مجرد فتاة أشفق عليها ورغب بمساعدتها في حل مشكلتها .. استيقظ كبريائها فجأة .. ذلك الرجل لا يعني لها شيئا .. إنها تستغله فقط حتى ييأس صلاح من مطاردتها .. ثم ستنساه تماما
لحقت بها سمر إلى المطبخ في اللحظة التي وضعت فيها دلة القهوة فوق الموقد ..سألتها بقلق :- هل أنت بخير ؟
ردت أماني بفتور :- ألا أبدو كذلك ؟
:- لا .. بل يبدو عليك وكأنك فأر علق في المصيدة
نظرت إليها أماني بدهشة فقالت سمر :- أنا أعرفك .. وأعرف بأنك لا تميلين إلى ابن اختي .. ولا تفكرين حتى في الزواج .. وأعرف هشام أيضا .. لو كان يرغب في الزواج بك لفعل منذ 5 سنوات
لم تحتمل أماني ذكاء سمر فقالت بانزعاج :- ما الذي ترمين إليه ؟
نظرت سمر إلى عيني اماني قائلة :- لقد أخبرني هشام بأنك تعجبينه وأنا أصدقه .. فأنت جميلة جدا ويجب ان تنالي إعجاب اي رجل يملك إحساسا .. ولكن ماذا عنك .. هل يعجبك هشام ؟
ارتبكت أماني واحمر وجهها الشاحب .. ثم أشاحت ببصرها هربا من نظرات سمر الثاقبة ثم غمغمت
:- بطريقة ما .. نعم .. يعجبني كثيرا
ثم اجتاحها ذهول كبير عندما اكتشفت بانها لم تكن تكذب .. هشام عطار يعجبها .. متى حدث هذا ؟ وكيف ؟
تأملت سمر نظرات أماني المرتبكة فصدقتها .. واسترخت حواسها وابتسمت قائلة :- الحمد لله .. لقد ظننت هشام يمر بإحدى نوباته الحمائية بعد أن عرف بمشاكلك .. وأنك تستغلينه بدورك لتتخلصي من ابن عمك .. ولكن أي أحد يستطيع أن يعرف الحقيقة من مجرد النظر إليك
ضمتها بقوة وهي تقول بتأثر :- لو تعلمين مقدار سعادتي لأن هشام قرر الاستقرار أخيرا .. وأنك ستجدين السعادة بعد كل التعاسة التي عرفتها في حياتك .. مبارك لك يا حبيبتي
تقبلت أماني عناق سمر دون أن تصحو من ارتباكها .. وعندما تركتها سمر وحيدة في المطبخ حاولت أن تفكر بهدوء .. وتراجع التغير الكبير الذي طرأ على نظرتها نحو هشام
لم الدهشة ؟.. ألم يقف إلى جانبها ويساعدها .. ويضحي بوقته من أجل حمايتها من صلاح
من الطبيعي أن يختفي ازدرائها السابق له وتبدأ بالنظر إليه من زاوية مختلفة ..
ليس هناك مبرر لذعرها .. هشام عطار يعجبها .. كرجل أعمال ناجح وإنسان قوي صلب شاهد الكثير في حياته دون أن يتأثر .. وكصديق كما أظهر لها ذلك المساء الذي عقدا فيه اتفاقهما .. ولكنه لا يعجبها كرجل .. فهي لا تميل إلى الرجل الخشن المجرد من العاطفة
تذكرت فراس فجأة .. الشاب الوسيم المرح .. والعاطفة التي كانت تقطر من كل نظراته وكلماته .. ثم فكرت بمرارة .. بماذا نفعتها حساسيته وعاطفيته سوى بتحطيم قلبها وحياتها ؟
صبت القهوة في فناجين أنيقة أعارتها إياها جودي .. ثم حملت الصينية إلى غرفة الجلوس .. حيث كان حديثا مهذبا يدور بين الموجودين .. توقف الكلام .. و قطبت أم هشام وهي تراقب أماني بعينين حادتين قاسيتين شبيهتين بعيني ابنها
جلست اماني إلى جانب جودي بعد تقديمها القهوة .. ولأول مرة في حياتها تصاب بالخرس فلا تجد ما تقوله لحماتها المستقبلية الزائفة
ولكن السيدة الأكبر سنا لم تنتظر مبادرتها .. بل قالت بصوت هادئ ووقور :- أنت تعملين لدى ولدي إذن
تنحنحت اماني لتسلك حنجرتها وهي تقول :- نعم .. أعمل في شركته منذ خمس سنوات
:- وهل خطبت من قبل ؟
أدهش السؤال اماني التي أجابت حائرة :- لا
فقالت المرأة بحزم :- ما الذي منعه من خطبتك سابقا إذن ؟
هتفت سمر محذرة :- لميس ..
ولكن والدة هشام لم تعرها أي اهتمام .. بل تابعت استجواب كنتها العتيدة :-
:- لن أخفي عنك استيائي الشديد من خطوة هشام .. مع أنني انتظر زواجه منذ سنوات بفارغ الصبر .. ولكنني تمنيت له زوجة من اختياري .. أنا أثق برأي هشام .. ورغم جميع المزايا التي عددها حولك .. وجمالك الواضح الذي يرضي أي حماة .. إلا أنني ما زلت قلقة حول اختياره لك .. لا تسيئي فهمي .. ولكن الناس في المدينة يتحدثون .. وانا كنت موجودة في جنازة والدك
فهمت أماني ما قصدته المرأة بكلماتها المختصرة .. وجمدت للحظات تحدق فيها ببرود حتى ظنت جودي بانها ستنفجر صارخة في أي لحظة
ولكنها قالت أخيرا بهدوء :- أتفهم قلقك يا سيدتي .. ولا ألومك على ظنونك .. ولكن بالنسبة إلى سيدة قديرة مثلك رأت الكثير في حياتها وعانت من ويلات المجتمع .. ألا تجدين بأنك تتسرعين بالحكم علي دون منحي أي فرصة لأثبت لك وللآخرين من أنا حقا ؟
أخذت نفسا عميقا وهي تتابع :- أنا لست كاملة .. لا احد منا كذلك .. وعلاقتي بوالدي كانت مضطربة كما أخبرك هشام بالتأكيد .. قد أكون مسؤولة جزئيا عن شجاري معه .. وربما كان علي بذل مزيد من الجهد في إصلاح الأمور بيننا قبل فوات الأوان .. لا أعرف .. ولا أظنني سأعرف .. ولكنني أؤكد لك على الأقل بانني لست بالسوء الذي يحسبه الآخرون بي
كانت تتحدث بهدوء .. إلا ان صوتها اخذ يرتعش عند ذكرها لوالدها .. ثم اكملت بخفوت :- بالنسبة لهشام .. فانا محظوظة لأنه اختارني أنا .. ولأنه كان نبيلا بما يكفي كي يتجاهل لمزات الآخرين حولي .. وأعرف بأنني لن أستحقه مهما فعلت .. وسأتفهم تماما رفضك لارتباطه بي .. ولكن في حال حدث هذا الارتباط .. فتأكدي بأنني لن أسبب له الأذى ما حييت
مدت جودي يدها لتعانق أصابع أختها وقد أحست بالجهد الكبير الذي بذلته لتنطق بهذه الكلمات .. بدا على سمر التأثر .. بينما ظل وجه السيدة لميس جامدا حتى لانت ملامحها فجأة وهي تقول :- أتمنى ألا أندم على هذا .. ولكنني سأمنحك الفرصة .. فلسبب ما تبدين جديرة بالثقة يا اماني
أشرق وجه سمر وهي تقدم التهاني لشقيقتها وتبدأ التحدث عن الاستعدادات للزفاف وكيف سيتم نشر الخبر بين المعرف .. بينما انتاب أماني ارتياح شديد وإحساس مفاجئ بالرغبة في البكاء
ارتفع رنين الجرس في هذه اللحظة .. فاعتذرت اماني لتفتح الباب دون أن تصحو بعد من اضطرابها .. وبالرغم من توقعها لحضوره إلا ان رؤيتها لهشام واقفا أمام بابها .. بأناقته وصلابته المعهودة .. جعلت قلبها يرتجف .. قال بلطف :- أرجو ألا أكون قد تأخرت كثيرا
وقبل أن تحل عقدة لسانها .. كانت سمر قد وصلت إلى الباب وعانقته مهنئة وهي تطلق الزغاريد الطويلة لتسمع الجيران .. نظر هشام إلى أماني بعينين لامعتين جعلتها تشيح بوجهها بعيدا عنه لتخفي ارتباكها .. ثم تفسح له الطريق ليدخل إلى الشقة
صافحته جودي .. وتبادلت معه كلمات المجاملة .. وكل منهما يدرس الآخر بروية .. فكرت جودي بأنه يبدو كما وصفته أماني تماما .. رجل ضخم .. أنيق وقاسي المظهر .. ذو وسامة خشنة وداكنة .. عززتها الندبة الصغيرة التي قاطعت حاجبه الأيمن .. بالرغم من امتعاضها الشديد من فكرة ارتباط أماني بهذا الرجل إلا ان رؤيتها لندبته ذكرتها بندبة أماني المخفية تحت طبقات الشعر الأشقر الكثيف المنسدلة حول وجهها .. فتذكرت الحياة المرة التي عاشها هذا الرجل .. الشبيهة بحياة أماني المعقدة فاسترخت حواسها وزالت معظم مخاوفها .. فقد أيقن جزء منها بأن كل من شقيقتها وهذا الرجل قد قدر للآخر بطريقة ما .. وجدت نفسها تبتسم له قائلة :- سررت للقائك أخيرا .. لقد حدثتني أماني عنك كثيرا
قال متهكما :- أظنني قادرا على تخمين ما قالته عني
احمر وجه أماني عندما وجه نحوها نظرة ساخرة قبل أن يتوجه نحو أمه ويجلس إلى جانبها متناولا كفها بين يديه طابعا عليها قبلة تقدير وهو يقول :- آسف لتأخري .. لقد حدث طارئ في العمل
منحته أمه ابتسامة حنون وهي تقول :- لا تهتم .. لم يحدث إلا ما أردت تماما
نظر إلى أماني قائلا :- أتعنين بأن عروسي قد نالت إعجابك ؟
ضحكت أمه عندما احتقن وجه أماني وقالت :- عروس جميلة وذكية .. وامرأة مناضلة .. لم لا تنال إعجابي
اعتذرت أماني باقتضاب كي تعد له فنجان قهوة متأخر .. فلحقت بها جودي إلى المطبخ قائلة :- لم أتخيل أن يتغير شعوري نحوه بهذه الطريقة فور رؤيتي له
سألتها اماني بفضول :- هل أعجبك ؟
هزت جودي كتفيها قائلة :- لا أعرف .. ولكنني رأيت روحك في عينيه .. وهذا كاف بالنسبة إلي كي أتوقف عن القلق
نظرت أماني إليها بذهول وقد هزتها العبارة .. قالت باضطراب :- ما الذي تقصدينه برؤيتك لروحي في عينيه ؟
تمتمت جودي بحيرة :- لا اعرف .. لقد كان مجرد إحساس غريب أدهشني أنا الأخرى
أسرعت تطفئ النار أسفل القهوة قبل أن تفور قائلة :- أسرعي بتقديم القهوة إلى خطيبك قبل أن يمل الانتظار
عندما عادتا إلى الغرفة فتحت السيدة لميس موضوع الزفاف فأقفله هشام بحزم موضحا بأن الوقت ما يزال مبكرا للتفكير في الأمر .. عندها نهضت مع سمر راغبتين في المغادرة ..
وعندما نهض معهما منعته سمر وهي تقول غامزة :- سأوصل أمك بسيارتي .. لقد وصلت لتوك ولابد أنك تملك الكثير لتقوله لأماني
فور مغادرتهما وقفت جودي بدورها قائلة :- علي الرحيل أنا الأخرى
أسرعت أماني تقف وتقول بعنف لا شعوري :- ابقي
عقد هشام حاجبيه وهو يراقب الأختين .. بينما ردت جودي :- أود لو أبقى .. ولكن دوام الفصل الثاني يبدأ غدا .. ويجب أن انام مبكرة
رافقتها اماني إلى الباب وهناك همست بحدة :- أيتها الخبيثة .. تستطيعين البقاء لبعض الوقت
قالت جودي بعبث :- آخر ما تحتاجانه هو وجود متطفلة مثلي بينكما
ثم همست وهي تمسك بيد أماني :- لا تقلقي .. ستكونين بخير
منحتها ابتسامة تشجيع ثم غادرت .. وقفت أماني للحظات طويلة أمام الباب المغلق دون أن تجرؤ على العودة إلى حيث يجلس هشام .. ولكنه لم ينتظر عودتها إذ قال بكسل من مكانه فوق الأريكة :- أيخيفك البقاء معي إلى هذا الحد؟
توترت لسماع صوته الساخر الذي أعادها إلى الواقع .. فاستدارت تواجهه قائلة بعصبية :- هذا غير صحيح
اعتدل في جلسته وهو يقول بجدية :- لا تظني بأنني لم ألاحظ الهستيريا التي تصيبك كلما اقتربت منك وكأنك تخافين أن أفترسك في أي لحظة
قالت بانزعاج :- أنا لست خائفة منك
:- أثبتي هذا واقتربي
قاومت إغراءا كبيرا بان تفتح الباب المجاور لها وتهرب .. وأخذت نفسا عميقا .. ثم اقتربت منه بهدوء .. وجلست في الطرف البعيد من الأريكة
تأملها للحظات ثم قال :- يدهشني أن تعاني امرأة بقوتك وثقتك بنفسك من نقطة ضعف كهذه .. ماذا لديك ضد الرجال يا اماني ؟
ابتلعت ريقها وامتنعت عن النظر إليه .. ولكنها كانت تشعر بوجوده قويا وطاغيا يكاد يكتسح الغرفة .. قالت باقتضاب :-
:- لا أستطيع القول بأنني رأيت منهم الكثير من الخير
بدا وكأن اسئلة لا نهاية لها تتراقص في عينيه السوداوين .. ولكنه غير الموضوع قائلا :- ما رأيك بوالدتي ؟
خف توترها وهي تقول :- سيدة رائعة .. وترغب برؤيتك سعيدا
ابتسم قائلا :- أخمن من حديثك بأنها قد أخضعتك لاستجواب عنيف
نظرت إليه أخيرا وهي تقول :- كنت لأفعل المثل لو قرر ابني الوحيد الزواج بفتاة سيئة السمعة
التقت عيناهما طويلا قبل أن يقول بهدوء :- سمعتك ليست سيئة يا أماني .. الناس هنا يترددون حول كل ما هو خارج عن تقاليدهم وعاداتهم .. إنها زوبعة سرعان ما ستنتهي
ثم ابتسم بلطف قائلا :- كما أنك نجحت في الامتحان في النهاية .. أليس كذلك ؟
ابتسمت بتردد وقد فاجأها التغيير الذي طرأ على ملامحه بسبب ابتسامته .. وقالت :- لست متأكدة .. مازال علي مقابلة شقيقتيك
:- لبنة تقيم مع زوجها في السعودية .. وقد تنتهي القصة بأكملها قبل موعد إجازتهما .. أما نورا فأظنها ستحبك .. إنها فتاة مدللة وطائشة .. ولكن خطوبتها لرجل هادئ وناضج قد هذبت طباعها قليلا كما أرجو
تذكرت ما أخبرتها إياه سمر من قبل بأنه قد تعهد بألا يفكر بالزواج حتى يزوج شقيقتيه فسألته :-متى سيتم زفافها ؟
:- خلال أشهر قليلة .. ربما في نهاية شهر آب
عندها .. يصبح حرا ليتزوج المرأة المناسبة له .. في ذلك الوقت لن تكون موجودة لتعيق طريقه .. فقصتهما ستنتهي قبل ذلك بكثير
تمتمت فجأة :- أنا ممتنة لما تفعله لأجلي يا سيد ....
قاطعها بحزم قائلا :- هلا توقفت عن الشعور بالامتنان .. ما أفعله معك لا يخلو من الأنانية .. صدقيني
سألته بحيرة :- ماذا تقصد ؟
بدلا من أن يجيبها .. أخرج من جيبه علبة مخملية صغيرة وهو يقول :- كان من المفترض بي أن ألبسك إياه في حضور عائلتي وشقيقتك .. ولكنني خفت أن أحرجك وأضطرك لاحتمال لمستي .. ففضلت إعطاءك إياه على انفراد
تناولت العلبة منه بتردد.. ثم فتحتها لتتأمل المحبس الذهبي البسيط المرفق بخاتم ثمين زينه صف عريض من الأحجار الكريمة المبهرة للأبصار
قالت بارتباك :- لم تكن مضطرا للتكلف بهذا .. الأمر لا يستحق
قال ساخرا :- هل نسيت بأننا نعيش في مدينة صغيرة ؟ الكل سوف يتفحص يديك بحثا عن خاتم لائق في إصبعك .. وأمي لن تقبل بأن يتهمني أحدهم بالبخل على خطيبتي .. لقد اختارته لك بنفسها
شعرت بالتأثر وهي تتأمل بريق الماس .. وترقرقت الدموع في عينيها دون أن تتجاوزهما .. لوهلة .. شعرت بالخيبة لأن هذه الخطوبة ليست حقيقية .. وأن هذا الشعور بالأمان هو زائف ومؤقت
تمتمت :- ما كنت لتحرجني لو ألبستني إياه امام الآخرين
بدا عليه كأنه قد بوغت .. إذ تلاشى تماسكه للحظة وهو يقول غير مصدق :- حقا ؟
نظرت إلى عينيه القاتمتين والغامضتين التعبير .. وأدركت بأنه يستحق منها هذا على الأقل مقابل صنيعه معها .. أن تشعره بثقتها به فقالت :- بالتأكيد
نظر مطولا إلى عينيها الخضراوين اللتين بدتا لأول مرة خاليتين من البرود والتوتر .. فائضتين بالتأثر والامتنان
وبدون أن يتكلم .. اقترب منها وأخذ العلبة الصغيرة من بين يديها .. ثم تناول كفها المرتعشة .. رفع عينيه إليها ليراقب ردة فعلها وهو يخرج الخاتمين .. ثم يحيط بهما وبيد ثابتة بنصرها الأيمن
لم تعرف أماني كم من الزمن استمرت في حبس أنفاسها وهي تشعر بيديه الكبيرتين تحاصران كفها بتملك واضح .. منعت نفسها بصعوبة من الاستسلام لنوبة ذعر جديدة .. ولكن ذعرها كان مختلفا هذه المرة .. أليس كذلك ؟
قال بهدوء :- أنت الآن خطيبتي رسميا يا أماني
ارتعشت وسحبت يدها فورا لتقف قائلة بغلظة :- أمام الناس فقط يا سيد هشام .. ولفترة مؤقتة
وقف بدوره وظللت فمه ابتسامة باردة وهو يقول :- لم أنس هذا لحظة واحدة يا أماني .. ولكن إياك أنت أن تنسي
نظرت إليه وقد اشتعل غضبها .. واختفى بلمح البصر كل اضطرابها وإحساسها بالذنب لغلظتها المفاجئة .. هل يظن المغرور بأنها ستستغل الوضع لصالحها وتحاول إيقاعه في شباكها ؟
رغبت بأن تعبر له عن كرهها العميق .. ولكنه لم يترك لها الفرصة لتقوم بذلك .. إذ اتجه نحو الباب .. ونظر إليها بلا مبالاة قبل أن يخرج قائلا :- تعرفين رقم هاتفي المحمول في حال احتجت إلي في أي لحظة
دوى صوت انصفاق الباب تاركا إياها في حالة جنون وحيرة من أمرها .. فهذا الرجل مزيج غريب من المتناقضات ..
ما الذي يريده منها بالضبط
ألقت نفسها فوق الأريكة وقد بدأت تحس بتعب النهار وضغط وضعها الحالي .. هشام عطار رجل جدير بالثقة .. حدسها يؤكد لها هذا .. ولكنها ليست واثقة من أن نتيجة احتكاكها به ستكون لصالحها أبدا

سيدة الشتاء حيث تعيش القصص. اكتشف الآن