قضت اماني نهار جمعة طويل في السوق تنتقل من متجر إلى آخر برفقة سمر ونورا شقيقة هشام الصغرى التي تماثلها في السن .. تشترين لها جهازا مناسبا بناء على طلب هشام الغير قابل للمناقشة .. وهكذا وجدت اماني نفسها تجرب الثوب بعد الآخر وقد علا الملل وجهها الجميل .. وفي كل مرة كانت تقول فيها متذمرة :- هل هذا ضروري
سمر كانت تقول :- الزفاف بعد أسبوع .. لا يمكنك مواجهة الناس كزوجة لهشام بدون جهاز فاخر يليق بك
أما نورا ذات الطابع الضاحك والمرح والمختلفة تماما عن شقيقها الأكبر فقد كانت تضحك بخبث قائلة :- أو قمصان نوم مناسبة لشهر عسل ساخن
مع احمرار وجهها .. وتجاهلها للمزات نورا الخبيثة .. لم تكن قادرة على خداع سمر التي انتهزت فرصة ابتعاد نورا لتهمس في أذن أماني :- في الخميس القادم ستكونين زوجته .. هذا يجعل شراءه ما يلزمك طبيعيا
زفرت أماني وقالت بجفاف :- اعرف هذادخلت أماني إلى شقتها .. ورمت الأكياس الكثيرة جانبا
( في الخميس القادم .. ستكونين زوجته )
خلعت معطفها فواجهت كالعادة برودة الشقة الشديدة
( في الخميس القادم )
فركت يديها وهي ترفس حذائها .. لم تر هشام خارج مبنى الشركة منذ أعلنت موافقتها على الزواج منه .. فقد كان يكتفي باتصال هاتفي كل مساء ليسألها عن حالها .. ويستفسر عن احتياجاتها .. أما باقي الترتيبات فقد تكفلت بها أمه التي كانت تحدثها يوميا .. بالإضافة إلى سمر ونورا .. وحتى جودي رغم تعاستها الظاهرة وإرهاقها .. لم تتأخر عن مساعدتها
إنها بحاجة إلى الاستحمام بعد تعب نهار طويل .. وكالعادة كانت هذه أصعب مهمة تقوم بها في هذا الجو البارد وفي حمام لا يحوي سخانا للماء
كان عليها في كل مرة أن تسخن الماء في قدر كبير وتحمله إلى الحمام الذي يتحول إلى ثلاجة بسبب تسرب الهواء من نافذته ذات الزجاج المشروخ.. خلعت ملابسها وهي ترتجف .. ورمتها في سلة الغسيل .. ثم خطت إلى داخل الحوض المتصدع .. حتى مع سكبها المستمر للماء الساخن فوق رأسها لم تتوقف عن الارتعاش
بصعوبة أخرجت نفسها من الحوض .. وارتدت روب الحمام وأسنانها تصطك بقوة وكل خلية في جسدها تتوق إلى التمدد تحت أطنان البطانيات فوق السرير والتماس بعض الدفء .. ولكن الكارثة التي لم تتوقع حدوثها هي ان تحاول فتح باب الحمام لتجده مقفلا بإحكام
أدارت المقبض عدة مرات غير مصدقة للمأزق الذي وضعت نفسها فيه بغباء لا يمكن أن تكون قد أقفلت الباب ورائها وهي تعرف جيدا بأنه لا يفتح إلا من الخارج .. كادت تفقد اعصابها بعد نصف ساعة من المحاولات اليائسة لفتح الباب باستعمال أي أداة ممكنة وجدتها في الحمام ..في النهية أخذت تضرب الباب بقبضتيها وتصيح على أمل أن يسمعها احد
أبعدت شعرها الرطب والمشعث عن وجهها .. والتفتت تتأمل الحمام بعجز ودموعها تكاد تغلبها .. لماذا تحصل لها الامور السيئة باستمرار ؟ لماذا هي بالذات ؟
جلست على حافة الحوض وهي تدلك ذراعيها علها تحصل على بعض الدفء دون فائدة .. حاولت تهدئة نفسها هامسة :-
:- لا بأس .. ستتصل بك جودي او تمر لزيارتك كالعادة وتخرجك من هنا
ولكن جودي لا تملك مفتاحا للشقة ..
مع تزايد إحساسها بالبرد كومت نفسها داخل الحوض وهي تردد بأنفاس مرتعشة .. اهدئي .. ستكونين بخير .. لا حاجة للشعور بالذعر
مع مرور الوقت .. بدأت تفقد الاحساس بأطرافها كبداية .. ثم بدأ الخدر يتسرب إلى عقلها .. لم تعرف كم مر عليها من الزمن عالقة هناك .. فاقدة للإحساس بما حولها ..حتى وصل إلى مسامعها صوت ضجة مكتومة .. رفعت رأسها واثقة تماما بانها تتوهم .. ثم سمعت بوضوح صوتا مألوفا يهدر باسمها :- أماني
إنه هشام ..كالعادة ينتشلها من مآزقها كالفارس المغوار .. تدفقت دموعها عندما حاولت ان تتحرك فلم تستجب لها عضلاتها
حاولت ان تصيح فخرج صوتها همسا مرتجفا :- أنا هنا
سمعت صوته يصيح من خلف الباب بقلق :- هل انت هنا ؟
بسهولة شديدة تحرك الباب فور ان أدار المقبض .. وخطا إلى داخل الحمام الضيق .. صاح باستنكار :- ما الذي ...؟
ولكن نظرة واحدة منه كانت كافية كي يفهم الموقف جيدا .. سقط قلبه امام مظهرها المثير للشفقة .. ملتفة بروب الحمام وقد التصق شعرها الرطب برأسها وجبينها .. وازرقت شفتاها المرتعشان .. وأطل العجز التام من عينيها الواسعتين
شتم بغضب وهو يهتف بها :- منذ متى وانت عالقة هنا ؟
حركت شفتيها دون أن يخرج منها صوتا .. فقال بغلظة وهو يتجه نحوها :- أنت كارثة تمشي على قدمين .. تحتاجين إلى من يراقبك على مدى الساعة كي يمنعك من أذية نفسك
انحنى نحوها .. وبحركة قوية أوقفها فخذلتها ساقاها .. وسقطت مستندة إليه بعجز .. أخذ نفسا غاضبا وهو يحملها بين ذراعيه بسهولة شديدة .. ويسير بها إلى خارج الحمام .. بدأ عقلها يعمل مجددا .. وتذكرت فجأة وضعها .. عاجزة بين ذراعيه لا يسترها إلا روب الحمام الطويل 00 ولكنها لم تخف منه هذه المرة .. بل شعرت بالراحة والدفء بعد ساعات من الخوف والاحساس بالبرد في ذلك السجن الجليدي .. أسندت نفسها إليه وتركته ينزلها فوق السرير بعد ان أزاح البطانيات جانبا ودثرها جيدا .. فأتيحت لها الفرصة للنظر إلى وجهه عن قرب ورؤية التوتر الواضح في ملامحه .. والتغير في لون وجهه .. لقد كان قلقا عليها
اعتدل ونظر إليها وهو يصيح بها غاضبا :- هل تعلمين كيف كان شعوري بعد ساعات من الاتصال بك على هاتفك المحمول دون أي رد منك ؟ هل تتخيلين الظنون التي كادت تفتك بي وأنا أقود السيارة كالأعمى إلى هنا للاطمئنان عليك ؟
أخفضت عينيها وقد أثقلها الاحساس بالذنب .. لابد أن الأفكار السيئة قد أطاحت بعقله .. ابتداءا بعودة صلاح وانتهاء بحدوث مكروه لها
خرج صوتها أخيرا كهمس مختنق :- لم أستطع فتح الباب .. فعلقت في الداخل
كان عليه ان يكبح أعصابه ويكتم غضبه الشديد عندما تذكر المشهد الذي وجده في الحمام .. ولكن صوته كان قاسيا عندما قال :- لطالما كنت ضد العنف في معاملة النساء .. ولكن ما أغب به الآن هو تجاهل هذه القاعدة .. وضربك بقسوة حتى يعود إليك عقلك وتعترفي بأن هذا الجحر غير مناسب أبدا للاستعمال الآدمي
ثم خطرت على باله فكرة مفاجئة جعلته يدور حول نفسه ويفتح خزانتها بدون استئذان فقالت بتوتر :- ماذا تفعل ؟
أخرج حقيبة سفر كبيرة .. وهو يقول بغلظة :- لن اتركك في هذا المكان لحظة واحدة .. ستقيمين مع سمر حتى موعد الزفاف
عاد إليها طبعها المتمرد فصاحت بحدة :- لا تستطيع إرغامي .. لن أذهب إلى .....
قاطعها بصرامة :- لا يحق لك الاعتراض بعد المأزق الذي وضعت نفسك فيه اليوم .. إن كنت لا تجيدين العناية بنفسك سأفعل أنا .. من حسن الحظ أنني احتفظت بنسخة عن المفتاح عندما أصلحت القفل وإلا لبقيت سجينة تلك الثلاجة حتى الصباح
استسلمت بضعف وهي تراقبه يفتح الحقيبة فوق الطرف الآخر من السرير ويبدأ برمي أغراضها عشوائيا داخلها .. فتمتمت :- امنحني بعض الوقت
استدار نحوها وهو يقول عابسا :- ماذا ؟
همست بضعف :- امنحني بعض لأستعيد حرارة جسدي الطبيعية وسأوضب أغراضي بنفسي
طار غضبه بعيدا في لحظة واحدة .. وأطل القلق من عينيه وهو يلاحظ من جديد شحوب وجهها وارتعاش جسدها .. لم تعرف أبدا كم بدت ضعيفة في تلك اللحظة
أشبه بطفلة صغيرة تائهة تسعى لشيء من الدفء والحنان
قال بندم :- أنا آسف .. لم أفكر جيدا
فاجأها اعتذاره .. ولكن ما صدمها هو اقترابه المفاجئ وجلوسه إلى جانبها فوق السرير إذ شدها إليه بدون إنذار .. وضمها بقوة إلى صدره .. تشنجت في البداية .. ولكنها سرعان ما بدأت تسترخي عندما أخذ يدلك ذراعيها
سرى الدفء سريعا في أوصالها .. لا .. بل كانت حرارة شديدة انبثقت من جسده .. وانتقلت حارقة ومثيرة إلى جسدها
تعالى صوت نبضات قلبها المجنونة وهي تشعر بقوة جسده الذي احتواها بين أحضانه .. أغمضت عينيها تكافح المشاعر الغريبة التي اكتسحت جسدها .. أحست بالخوف والاضطراب .. وفي الوقت نفسه بالإثارة والبهجة لقربه منها .. لإحساسها بالانتماء إليه .. وكأنها أمضت 25 عاما تتخبط في حياتها حتى وجدت بيتها أخيرا
لأول مرة تبدا مشاعرها بالاتضاح أمامها .. شيئا فشيئا كان الغموض يتلاشى .. وما كانت خائفة منه ومن جهلها له .. يتراءى أمامها بوضوح
غمغم سائلا :- كيف تشعرين الآن ؟
صوته الخشن بدا حميما للغاية في قربه الشديد منها .. رفعت رأسها إليه .. والتقت نظراتهما .. فأحست بجسده الضخم يتصلب .. ورأت القلق والاهتمام يختفيان من عينيه .. وحل مكانهما الذهول والصدمة لما رآه مرتسما في عينيها
اكتسحت كيانها حمى غريبة فتعالى لهاثها .. في الوقت الذي شعرت فيه بخفقات قلبه تتسارع تحت كفيها التين انبسطتا على صدره
قال بصوت خشن :- أماني
أسبلت عينيها بخوف .. من نفسها هذه المرة .. مما بدات تكتشفه وتخاف من التصريح به .. فأمسك بذقنها يجبرها على النظر إليه .. فلم تستطع إزاحة عينيها عن اللهب المشتعل في عينيه الداكنتين :- أنت ترتجفين
دغدغت نبرة صوته الخشنة كيانها .. وشوشت تفكيرها ... بالكاد سمعته عندما قال :- أظنني لم أدفئك بالطريقة المناسبة
وقبل ان تفهم قصده .. قطع المسافة القصيرة بينهما .. ولمس شفتيها بشفتيه بقبلة خاطفة .. شهقت على إثرها مصدومة من ردة فعل جسدها العنيفة .. فلم يترك لها فرصة للتراجع .. إذ غرس أصابعه بين خصلات شعرها الرطبة .. وتناول شفتيها بقبلة عاصفة .. جائعة .. ومتطلبة بقسوة .. انتفض جسدها بعنف .. وارتفعت يداها غريزيا نحو كتفيه تحاولان إبعاده .. ولكنهما عجزتا بضعف شديد كان سببه المشاعر العاصفة التي اجتاحتها
بذل شديد تخلص جسدها من سيطرة عقلها .. والتصق به بتهور .. فشدتها ذراعاه إليه اكثر .. ومرت لحظة نسي فيها كل منهما ما حوله حتى تركها فجأة
نظر كل منهما إلى الآخر بذهول .. بأنفاس مضطربة .. كان عليه ان يبتعد عنها ويقاوم اللهب المتراقص في عينيها الذاهلتين .. اعتدل واقفا وهو يقول بفظاظة :- سأعد لك شيئا ساخنا تشربينه
راقبته يختفي خارج الغرفة .. فأحاطت جسدها بذراعيها محاولة السيطرة على ارتجافها .. يا إلهي .. ما الذي حصل لتوه ؟
لقد قبلها هشام .. قبلها حقا ..الرجل الذي ظنته لفترة لا يعرف كيف يكون إنسانا .. غمرها بعاطفة لم تعرف مثلها من قبل .. وقبلها
وما صدمها اكثر هو انها لم تمنعه .. لم تقاومه .. لم تخف كما في كل مرة يقترب فيها منها رجل .. بل رغبت بأن يقبلها ومنذ لفظ اسمها بتلك الحرارة التي أذابتها .. ومازالت تسري في كل عرق من عروقها ..
هل حررها هشام من عقدها اخيرا ؟
أم أن الأمر أكبر من هذا بكثير ؟
في المطبخ الصغير .. كان هشام يحاول جاهدا السيطرة على ثورة جسده
أن يكتشف فجأة وبدون إنذار ان اماني .. الموظفة المتحفظة والمتكبرة .. ملكة الثلج التي عرفها منذ أكثر من خمس سنوات تخفي بعيدا عن العيون كتلة ملتهبة من الأحاسيس والمشاعر .. كثير عليه
أخيرا .. نظر إلى عينيها دون أن يرى الخوف والتوتر فيهما .. ولكن ما رآه عوضا عن هذا أطاح بصوابه .. لقد اشتعل الون الاخضر في عينيها وانقلب نارا اعمت بصيرته .. وأغشت تفكيره ..
وعندما تركها اخيرا .. كل ما فيها كان يدعوه للبقاء معا .. وألا يتركها أبدا
هل اكتشف صدفة أماني القديمة .. الشابة الصغيرة المفعمة بأحلام البنات والرومانسية .. والتي ماتت قبل سنوات بفعل قسوة أبيها وهمجية ابن عمها ؟
بعد ان حطم قلبها وآمالها .. وثقتها بالناس الرجل الذي أحبته ؟
عند هذه الفكرة انقبض صدره بما يشبه الغيرة والحقد على ذلك الرجل الذي عرف تلك المراة ولم يستحق مشاعرها النبيلة
خرج من المطبخ ليجد اماني واقفة عند باب غرفة النوم وقد ارتدت سروالا من الجينز .. وكنزة دافئة بلون كرزي قاتم أظهرت شحوب وجهها .. والهالات المحيطة بعينيها
بدت عيناها أشبه ببركتين خضراوين واسعتين امتلأتا بالحيرة والاضطراب .. فكبح رغبة عنيفة بقطع الطريق نحوها .. واحتوائها بين ذراعيه .. وطمأنتها بانه لن يؤذيها أبدا
وضع الصينية التي كان يحملها فوق المائدة قائلا بهدوء :- كيف تشعرين الآن ؟
كيف تشعر ؟ كيف يستطيع هو التحدث إليها بهذا الهدوء وكأن شيئا لم يحدث بينهما .. ؟ تأملت مليا وجهه الأسمر الجذاب .. وملامحه الغامضة .. وكأن الرجل الذي قبلها قبل دقائق لم يتواجد أبدا ..
ارتفع رنين جرس الباب لينقذهما من التوتر الذي تشبع في الجو فجـأة .. فقال باقتضاب :- إنها جودي .. لقد اتصلت بها قبل دقائق
فتح الباب بنفسه لجودي التي اندفعت نحو أماني بقلق قائلة :- أصحيح ما أخبرني به هشام يا أماني ؟ هل أنت بخير ؟
وقبل أن يتسنى لأماني أن ترد .. قال هشام من مكانه عند الباب بصوت جاف :-
:- سأذهب الآن .. وسأمر صباح الغد لأخذ أغراضك قبل ذهابك إلى العمل
ودع جودي بكلمات قصيرة .. ثم غادر مغلقا الباب خلفه بهدوء
أنت تقرأ
سيدة الشتاء
Romanceنظر إليها بتامل شعرها الأشقر الرطب الذي إلتصقت أطرافه بجبينها ووجنتيها . واسترخائها الكامل وكأنها قضت حياتها كاملة تحت المطر . . فقال - سيدة الشتاء . . ردت باضطراب : سيدة الشتاء ابتسم بغموض قائلا - كان لها حبيب يحمل قسوة في قلبه . تشاجرا ذات ليلة...