الفصل الثالت والعشرون (سيدة الشتاء)

8.4K 309 3
                                    

استغرقت الرحلة إلى العاصمة ساعات قليلة .. بالكاد تبادلت خلالها أماني بضع كلمات مع هشام الذي تقبل صمتها ببساطة وكأنه قد أحس بخطتها في إزعاجه .. مما سبب لها هي الازعاج
ولكنها لم تستطع منع نفسها من الاسترخاء داخل سيارته الفارهة .. والاستمتاع بقيادته المتزنة .. تذكرت سيارتها القديمة وتخيلت بوضوح المشاكل التي كانت ستتعرض لها لو أنها أصرت على موقفها وسافرت بها
لم تندم على خضوعها لقراره المتسلط .. ولكنها قررت بإصرار على ألا تظهر له سرورها
بين لحظة وأخرى كانت تحيد بنظرها عن الطريق لتسترق النظر إليه .. كان مختلفا هذا الصباح بملابسه البسيطة .. ولكنه لم يتخلى عن أناقته و وقاره وكأن هذا قد أصبح جزءا من مظهره لا يستطيع التخلي عنه حتى لو حاول .. مهما تناقض هذا مع نظرة الرجل المكافح الذي شاهد الكثير في حياته والمطلة من عينيه .
راقبته وهو يتحكم بالسيارة بسهولة وسلاسة .. وهو يقطب مراقبا الطريق .. ثم تساءلت عما يفكر به في هذه اللحظة .. خلال استغراقها في تأمله .. ألقى نحوها نظرة عابرة .. سرعان ما عاد على إثرها يقابل نظراتها التي فاجأته .. فارتد وجهها إلى الخلف وقد أحست بعينيه اللامعتين تصفعانها في الصميم .. أشاحت بوجهها الشاحب نحو النافذة محاولة تهدئة خفقات قلبها .. ما الذي أصابها ؟
وماذا إن ضبطها تسترق النظر إليه ؟هذا ليس مبررا كي تفقد اتزانها وتتوتر بهذا الشكل .. خشيت أن يقول شيئا فيزيد من إحراجها ولكنه مد يده بكل بساطة ليدير جهاز التسجيل لتنساب منه موسيقى هادئة .. ثم عاد يوجه تركيزه نحو الطريق مما أراح أماني وأعاد إليها استرخائها
في طريق العودة مع حلول الظلام ..لم تكن أماني قد صحت بعد من ذهولها للطريقة التي مرت بها أحداث اليوم.. فقد استمتعت للغاية بوقتها برفقة هشام وأعجبت بذوقيهما المتشابهين بالنسبة للكتب .. وبشخصيته الآسرة التي ظهرت بوضوح خلال الغداء الذي دعا إليه جميع الموظفين في أحد أفضل المطاعم .. لم يمنحها معاملة خاصة .. ولكنه كان يحدثها بعفوية وبساطة وكأنهما حقا خطيبين .. وما أدهشها هو تجاوبها الفوري معه ونسيانها فجأة لكل ما قررته حول عدم التعاطي معه وكرهه
وأثناء قيادته للسيارة في طريق العودة .. دخلا في نقاش ممتع حول الأدب وميولهما الروائية .. فلم تملك إلا أن تبتسم مما لفت نظره فقال:- ما الأمر ؟ تبدين مصدومة لاكتشافك بانني أجيد القراءة
قالت بسرعة :- لا تعتبر الأمر شخصيا .. ولكنني ظننت رجال الأعمال وكل من يهتم بالتجارة منغلق الفكر وجاف الأحاسيس .. ولم أتخيل أن أجدك مختلفا
رمقها بنظرة عابرة وهو يقول :- هل تتكلمين عن خبرة ؟
هزت كتفيها قائلة :- لقد خالطت عددا منهم .. أبي .. صلاح .. وصدقني .. مفهومهما عن القراءة لا يتجاوز الصفحات المالية والاقتصادية في الجرائد اليومية
قال بشيء من الحدة :- حسنا .. كما ترين ليس كل الرجال متشابهون
تأملته لوهلة ثم رددت :- لا .. ليس جميع الرجال متشابهون
عندما نظر إليها كانت قد عادت ترمق الطريق المظلم .. وبدت ساهمة وكأنها تتخيل الأرواح التي سبق ومرت من هنا .. فقال محاولا قطع اكتئابها :- من جهة أخرى انا ايضا لم اتوقع أن اجدك مدمنة كتب إلى هذا الحد .. لقد صرفت نصف راتبك تقريبا هذا النهار في شراء الكتب
ابتسمت بشحوب وقالت :- اعتدت الهروب من الواقع إلى خيال الكتب في سنوات المراهقة .. ولازمتني هذه العادة حتى الآن
تفكر بكلماتها قليلا .. ثم قال بهدوء :- القراءة وسيلة فعالة أحيانا كي ينسى الانسان قسوة الزمن
فهمت أيضا سبب اختلافه عن الآخرين .. وسبب التشابه الذي أحسته بينهما .. هو أيضا كان يهرب من حياته المريرة والقاسية بالخيال .. لامس هذا التشابه قلبها وأحست وهي تنظر إلى جانب وجهه الجامد بأنها في هذه اللحظة أقرب إليه من أي وقت مضى
صدر صوت مزعج من السيارة .. قطب هشام وظهر عليه القلق في اللحظة التي توقف فيها محرك السيارة عن العمل .. قال بجفاف :- عن إذنك
غادر السيارة فراقبته وهو يفتح الغطاء الأمامي لها .. ويلقي نظرة على المحرك .. وعندما تأخر ارتدت معطفها ولحقت به .. قالت وهي تنظر إلى الأبخرة التي تصاعدت من المحرك :-هل المشكلة كبيرة ؟
بدا لها منزعجا وهو يعبث بيده هنا وهناك ويقول :- للأسف .. المشكلة كبيرة بالفعل .. لقد احترق المحرك بالكامل
قالت بقلق :- وماذا سنفعل ؟
دون أن يجيبها .. استل هاتفه وسرعان ما كان يطلب سيارة لتقلهما من حيث يقفان .. أنهى المكالمة وهو يقول باقتضاب :- :- ستستغرق السيارة بعض الوقت لتصل
لم تستطع إخفاء ارتجاف شفتيها بابتسامة خبيثة أثارت غيظه فقال :- هل تجدين الموقف مسليا؟
سيطرت على نفسها عندما لاحظت غضبه ثم قالت برزانة :- لقد تذكرت فقط موقفك المزدري من سيارتي عندما رفضت أن أسافر بها وأصريت على اصطحابي معك .. بماذا وصفتها ؟ .. نعم .. قطعة خردة قديمة .. قيادتها في طريق سفر هي أسهل طريقة للانتحار
أشارت بيدها نحو سيارته الفارهة وقالت بتهكم :- انظر إلى ما فعلته بنا سيارتك الخارقة .. أعرف بأن الوقت ليس مناسبا .. ولكنني أستمتع بالمرة الأولى التي يخطئ فيها السيد هشام كبقية البشر
نظر إليها ببرود حتى ظنته سيصرخ في وجهها غاضبا .. إلا أن شفتيه انفرجتا عن ابتسامة وهو يقول بهدوء :- استمتعي بلحظتك إذن لأن خطأ كهذا لن يتكرر
قالت باسمة :- تأكد بأنني سأفعل
فركت كفيها لتبث بهما بعض الدفء وهي تقول :- هل أنت متأكد بأن النجدة لن تتأخر ؟
أقفل الغطاء .. واستند إلى مقدمة السيارة قائلا بسخرية :-
:- هل يقلقك الانتظار في مكان موحش كهذا معي ؟
ردت عليه فورا :- وهل يجب أن أشعر بالقلق ؟
قال بجفاف :- أنت من يجب أن يخبرني .. ففي كل مناسبة نكون فيها وحدنا ترتجفين خوفا وكأنني أخطط لافتراسك
أدهشها اكتشافها بأنها لم تعد تشعر بالخوف منه كالسابق .. فتمتمت :- الأمر مختلف الآن .. أنت لم تعد غريبا
نظر إليها متمعنا قبل أن يقول :- إذا كان خوفك مقتصر على الغرباء فما سبب نوبة الذعر التي وجدتك تعانين منها أثناء وجود ابن عمك في شقتك ؟
ارتبكت وتجدد خوفها منه .. هذه المرة من محاولاته المتكررة للتوغل في أعماقها .. فقالت بتوتر :- هذا ليس من شأنك
ولكنه تجاهل تصريحها وقال بلطف :- أتكرهينه إلى هذا الحد؟
قالت بحدة :- الكراهية وصف باهت للغاية لما أحسه نحوه
صمت للحظات مرت خلالها سيارتين إلى جانبهما بسرعة كبيرة .. أضاء نورهما العابر وجهه الغامض .. قال بعدها :- هل كان والدك يعرف بمدى كراهيتك لابن عمك عندما أصر على زواجكما ؟
قالت ببرود :- كان أبي أكثر من يعرف بمشاعري اتجاه صلاح
اعتدل سائلا بحدة مفاجئة :- لماذا إذن أرغمك على قبوله؟
حمل صوته الغضب والحيرة .. وكادت هي تتجاهل سؤاله أو تمنحه ردا فظا .. ولكنها غيرت رأيها فجأة وضحكت بتهكم مرير وهي تقول :- لم يكن يثق باختياري لشريك حياتي بنفسي .. كان يخشى أن ينتهي أمري برفقة زوج حقير من أصل متواضع لا يرضي طموحاته
سألها بهدوء :- وهل لشكوكه هذه أسباب؟
التفتت إليه قائلة بحدة :- ما الذي تريدني أن أقوله ؟.. أن تجربة فاشلة لي كانت السبب ؟.. حسنا لقد قلتها .. هل أنت راض ؟
سألها بعد لحظة صمت :- ما الذي حدث ؟
ابتعدت عنه قائلة بعصبية :- لا أريد التحدث في الموضوع
:- قد يريحك أن تفعلي .. تعرفين بأنك قادرة تماما على الثقة بي
نظرت إليه بتردد وارتياب .. هل عليها اطلاعه على ما حدث ؟ شيء ما يحدثها بأنه جدير بالثقة .. ألم يكن الوحيد الذي وقف إلى جانبها في محنتها ؟
استندت إلى مقدمة السيارة إلى جانبه وهي تتمتم :- أشعر بالحرج لمجرد تذكر القصة .. ولكن ما يعزيني هو أنني كنت صغيرة .. مراهقة حمقاء تؤمن بالأحلام الوردية والأماني المستحيلة
لم يعلق خشية تغيير رأيها بالبوح له بسرها .. بل ظل ينظر إليها عبر الظلام الذي لم يبدده سوى مصابيح السيارة المضاءة
:- كان اسمه فراس .. التقينا خلال الدراسة في الجامعة .. وكما تتوقع كان شابا وسيما ورقيقا .. يكبرني بعامين .. ظننته الشخص الذي تمنيت دائما الارتباط به على أمل تحقيق حلمي الأكبر .. وهو الزواج برجل أحبه
فكرت بأسى .. حلمها وحلم أمها الضائع .. ضحكت بمرارة قائلة :- كما سبق وأخبرتك .. كنت رومانسية حمقاء .. لم يوفر أبي أي طريقة ليثبت لي هذا عندما اكتشف الأمر .. لم يعجبه اختياري لطالب فقير لا يملك والده إلا وظيفته البسيطة .. وعندما وجد مني إصرارا على موقفي ...
صمتت للحظات تحاول خلالها البحث عن طريقة تشرح فيها ما حدث .. فتنهدت قائلة :- عدت ذات مساء إلى البيت لأجد أبي مجتمعا بفراس داخل مكتبه .. لم يشعر أحدهما بوصولي فسمعت أبي يعرض عليه مبلغا من المال ليبتعد عني .. مبلغا ليس بالكبير .. ولكنه كاف ليقرر فراس اولوياته .. لقد قبل بالمبلغ وانصرف .. ولم أره بعد ذلك أبدا
هبت نسمة باردة تخللت معطفها فارتعشت .. وأحاطت جسدها بذراعيها لتبث فيه بعض الدفء .. سمعت صوت هشام فتذكرت وجوده فجأة :- من الواضح بأن الذكرى ما زالت تؤلمك
قالت بمرارة :- تؤلم كرامتي وكبريائي .. لقد ظننته أحبني حقا .. ولكنه كما يبدو وجد بي صيدا ثمينا .. ابنة ثرية لرجل ثري .. وعندما فهم من أبي أنه لن ينال شيئا باستمراره في خداعي .. قبل بالمبلغ و تخلى عني ببساطة .. كانت مواجهتي لأبي أشبه بالكارثة .. لم يراعي مشاعري وكبريائي المجروحة .. لقد أعادني إلى الواقع بأقسى الطرق محطما كل قناعاتي السابقة .. آمالي وأحلامي .. ثم بدأ ضغطه علي لأتزوج من صلاح
قال هشام ببرود :- ولكن حبك لزميلك هذا منعك من الارتباط بغيره حتى بعد تخليه عنك
قالت ساخرة :- لم يكن حبا منذ البداية.. بل كان سعيا يائسا خلف حلم أحمق .. لقد كنت رومانسية بما يكفي لأخدع بكلمات طامع أحب أموالي قبلي .. ولكنني كبرت وصحوت من هذه الغفلة .. وأقسمت على ألا أقع في الفخ مجددا
:- فخ الزواج ؟
:- بل الوقوع في فخ مشاعر زائفة لن تؤدي إلا إلى إهانتي وتحطيم كبريائي مجددا .. أما بالنسبة للزواج .. فقد كنت مشغولة برفض صلاح لدرجة أنني لم أفكر به مطلقا
نظرت إليه فوجدته قريبا منها حتى أنها تمكنت من تمييز ملامحه الغامضة رغم الظلام
تمتمت :- لابد أنك تظنني حمقاء وتافهة بعد سماعك هذه القصة
قال بهدوء :- بل ناضجة كفاية كي تنسي ما حدث ولا تسمحي له بالتأثير على ما تبقى من حياتك .. كل منا مر بتجربة فاشلة ذات يوم .. هذا لا يعني أن نتخلى عن براءة أحلامنا بسببها
سألته بفضول :- وهل مررت أنمت بواحدة ؟
ضحك قائلا :- بل أكثر من واحدة .. المرحلة الجامعية لم تكن مسلية جدا بالنسبة إلي
تأملته مليا غير قادرة على تخيل هشام عطار مرفوضا .. قرأ أفكارها بسهولة وقال :- لم أكن يوما مثاليا يا أماني .. في تلك المرحلة كنت طالبا فقيرا يسخر زملاءه من ارتداءه لنفس القميص طوال أيام السنة .. وأنا لا اخجل من ماضيي أبدا لأن الفقر لم يكن عيبا في يوم من الأيام .. وهذه لم تكن فكرة الفتيات في تلك السن .. هل كنت لتقبلين بتودد شاب لا يملك قوت يومه .. ومسؤول عن عائلة كاملة عليه أن يطعمها وينفق عليها ؟
تمتمت :- لقد كنت مستعدة للزواج من فراس رغم فقر حاله وغموض مستقبله .. في ذلك الوقت .. كانت الثقة والعاطفة في نظري هما أساس أي ارتباط
صمت للحظات طويلة وهو ينظر إليها .. ثم قال باقتضاب :- أظنك كنت مختلفة عن باقي الفتيات وما زلت
التقت نظراتهما .. فأسرعت تشيح بوجهها عنه وقد سرى بينهما ذلك التوتر المألوف .. قالت مازحة لتخفي اضطرابها :- هل تفسر قصتك هذه سر الندبة التي تحملها فوق عينك ؟
قال على الفور :- قد أحكي لك سرها إن حكيت لي عن ندبتك أنت يا أماني
ارتبكت وقد أحست بأنه يعني ندبتها الداخلية .. التي تفضل الموت على البوح بها لأحد.. أنقذها من الرد استنشاقها لرائحة عطره الثمينة والتي أصابتها بنوبة سعال حادة منحتها العذر لتبتعد عنه .. سألها باهتمام :- هل أنت بخير ؟
أخذت نفسا عميقا من الهواء البارد النظيف ثم قالت بصوت مختنق :- إنها رائحتك
قال بدهشة :- ماذا ؟
التفتت إليه قائلة بحرج :- رائحة عطرك .. تسبب لي العطور حساسية شديدة فلا أستطيع احتمالها
قال بارتياب :- لا أصدقك .. فأنت لا تتأثرين برائحة عطرك
قالت ببساطة :- أنا لا أستعمل العطور أبدا ومنذ سنوات
ضاقت عينيه وهو يقف على بعد أمتار منها يراقبها .. فأدهشها أن تلاحظ اضطرابه .. نظر بعيدا وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره القاتم .. ويقول بتوتر :- أظن رائحتك الخاصة قد أربكتني
لأول مرة منذ سنوات تشعر أماني بأنوثتها تعود إلى الحياة من جديد أمام رجل يلاحظها ويغازلها بارتباك يتناقض تماما مع رجولته الطاغية وثقته الشديدة بنفسه .. أحست بالضعف واللذة لهذا الإحساس مما فاجأها .. راقبته يقاوم توتر اللحظة برفع هاتفه .. والاتصال بشخص ما .. سمعته يتحدث بعصبية .. ثم ينهي مكالمته قائلا بانزعاج :- لقد تأخر السائق
تمتمت :- لم تمض أكثر من ساعة
شعرت في تلك اللحظة بأول قطرة مطر تهطل فوق انفها .. فرفع رأسه وهو يقول بسخرية :- لنرى إلى متى ستجدين الساعة قصيرة
اتجه نحو السيارة وهو يشير لها قائلا : من الأفضل أن ننتظر في السيارة
فتح لها الباب الأمامي فقالت باستفزاز :- أتخشى البلل؟
ازداد المطر حدة فالتفت إليها قائلا بجفاف :- بل أخشى عليك من المرض .. كما أنني لن أحتمل نوبة ذعر نسائية منك بسبب إفساد المطر لشعرك وزينتك
ارتسمت على شفتيها ابتسامة باهتة .. ثم رفعت رأسها إلى السماء لتستقبل قطرات الماء الباردة .. وقالت بنشوة :-
:- لا تقلق .. لن أعرضك لموقف كهذا
نظر إليها مليا يتأمل شعرها الأشقر الرطب الذي التصقت أطرافه بجبينها ووجنتيها .. واسترخائها الكامل وكأنها قضت حياتها كاملة تحت المطر .. قال بهدوء :- سيدة الشتاء
أقفل باب السيارة .. فنظرت إليه بحيرة ورددت :- سيدة الشتاء !!!
ابتسم بغموض قائلا:- تذكرينني بقصة قديمة عن فتاة أحبت الشتاء بجنون جعل أصدقائها يطلقون عليها اسم سيدة الشتاء لأنها ما كانت تمانع بالاغتسال تحت قطرات المطر مهما كان الجو باردا أو قارسا
أثار فضولها فسألته :- وما حكايتها ؟
:- كان لها حبيب يحمل في قلبه قسوة لم تناسبها .. تشاجرا ذات ليلة ممطرة وهو يقود سيارته بها في طريق مقفر .. فطلبت منه في لحظة غضب إنزالها من السيارة فلم يتردد في الإجابة على طلبها .. وسرعان ما تركها وحيدة في العراء ومضى في طريقه
تمتمت دون أن تفكر :- النذل
ابتسم ولم يعلق .. بل تابع :- بعد قيادته لبضع كيلو مترات وخزه ضميره وتذكر حبه العميق لفتاته .. ولم يستطع المضي أكثر .. فعاد أدراجه إلى حيث تركها ليفاجئ برؤية ملابسها وحذائها وجميع متعلقاتها .. ولكن بدون أي أثر لها
بالرغم منها .. أحست أماني بجسدها يقشعر من غرابة القصة .. سألت مترددة :- ما الذي حدث لها
:- اختلف الناس في تفسير ما حدث .. البعض قال بأنها قد سئمت من حبيبها وقررت الاختفاء من حياته ولكن ليس بدون تلقينه درسا وإثارة الذعر في نفسه .. وبما أن عائلتها لم تسمع عنها شيئا .. واستحالة تحركها بدون ملابسها .. عزا البعض ما حدث إلى ظاهرة الاحتراق الذاتي الشهيرة التي لم ينجح أحد في تفسيرها .. والبعض الآخر علل الحادث بهوسها القديم اتجاه المطر .. فدموع القهر والغضب التي ذرفتها بعد رحيل حبيبها امتزجت بقطرات المطر .. فحصل اتحاد مزج بين روحها وجوهر هذا الماء السماوي فذابت خلاياها معه .. وشربت الأرض العطشى بقاياها إلى آخر قطرة
صمت بعدها مراقبا وجهها المتصلب الذي فقد شيئا من لونه .. أحست أماني بأن الأمان الذي أحست به قبل دقائق قد اختفى .. وبدا لها المكان المقفر والمظلم الذي تخلل صمته صوت ضربات المطر الرتيبة على سطح الأرض الخشنة .... مخيفا
تحاشت النظر إليه وهي تقول بصوت مختنق :- لقد بدأت أشعر بالبرد .. أظنني سأعود إلى السيارة
فتح لها الباب من جديد فأسرعت تحتمي بحميمية ودفء السيارة
لم يلحق بها فورا .. بل بقي لدقيقة كاملة في الخارج .. يتأمل الطريق اللانهائي بعبوس قبل أن ينضم إليها دون أن يتكلم .. بعد دقائق طويلة من الصمت .. قال أخيرا بصوته العميق :- آسف لما سببته لك من الخوف
قالت بكبرياء :- لم أخف
ولكنها سألته بعد لحظات بتردد:- هل .. هل القصة حقيقية ؟
نظر إليها ففاجأها الحنان المطل من عينيه وهو يقول بحزم لطيف :- سواء كانت القصة حقيقية أم لا يا أماني .. فثمة حقيقة مؤكدة هي أنك لن تصابي بأي أذى ما دمت معي .. فهل تصدقين هذه الحقيقة؟
حاولت أن ترد عليه بالإيجاب ولكنها لم تستطع ... أبعدت نظرها عنه فزفر بقوة وامتنع عن قول أي كلمة إضافية حتى دوى رنين هاتفه المحمول .. وسرعان ما لمحا ضوء السيارة القادم من بعيد فقال باقتضاب :- لقد وصلت السيارة
أحست أماني بالراحة العميقة لانتهاء هذه الليلة الغريبة .. فقضاء الوقت مع هشام لم يزد مشاعرها نحوه إلا غموضا
وإحساسها بالخوف نحو المستقبل إلا قلقا وخوفا



سيدة الشتاء حيث تعيش القصص. اكتشف الآن