( تمام محفوظ) (تمام محفوظ )
ظلت جودي تخط الاسم لدقائق معدودة فوق أوراقها وهي تتظاهر بالدراسة .. منذ عودتها من عشائها الكارثي برفقة طارق وأصدقائها
لحسن حظها أن ريما لم تجد الفرصة لسؤالها عما حدث .. ولكنها ستراها غدا في الجامعة .. ولحظة الاستجواب قادمة لا محالة
(تمام محفوظ) .. (تمام ) اسم غريب .. تذكرت ملامح عازف الجيتار الوسيمة والخيالية .. وفكرت بأن أي اسم عادي لن يليق به .. فهو رجل غير عادي .. بحاجة الى اسم غير عادي ..
يا الهي .. إنها تفكر به منذ ساعات .. وهاهي تبدأ برسم خطوط وجهه التي حفظتها عن ظهر قلب فوق أوراقها البيضاء .. لماذا لا تفكر بطارق .. طارق .. طارق .. رددت الاسم مرارا بصوت عالي ولكنها لم تنجح إلا في العودة الى ذلك الوجه الساحر لتمام .. ما الذي أصابها ؟. أهو توتر طبيعي تواجهه كل فتاة مخطوبة قبل أشهر من موعد زفافها ؟ فتظل في شك بصحة اختيارها للشريك .. وتظل ترى في كل وجه ذكوري بديل عنه ؟
يا للهول من الأفضل أن تبدأ بتأليف كتاب عن حماقتها
أجفلت للطريقة العنيفة التي فتحت فيها أماني باب غرفتها ودخلت قائلة بلهجتها الساخرة والجافة :- أنت هنا إذن .. لم أتوقع عودتك باكرا .. لا تقولي لي بأنك قد تشاجرت مع عريس الهنا .. فلست في مزاج جيد لمواساتك
اعتدلت جودي بقلق .. لم يكن من عادتها السكوت عن سخرية أماني .. ولكنها لاحظت بأن عدائية أختها لم تكن طبيعية هذه المرة .. أو أنها طبيعية أكثر من اللازم ؟ سألتها :- مع من تشاجرت هذه المرة ؟ مع أبي أم مع صلاح ؟
قالت أماني وهي تدعك شعرها الرطب من تأثير الاستحمام بمنشفة صغيرة ناعمة :- الاثنين معا .. هل تصدقين هذا ؟ الواحد تلو الآخر كان في انتظاري ليحيل ليلتي الساحرة الى جحيم
تأملتها جودي للحظات ثم قالت بهدوء :- لقد سمعتك تتقيئين بالحمام
وقفت أماني أمام المرآة التي توسطت خزانة الملابس الضخمة بينما تساءلت جودي بخفوت :- هل حاول أن يلمسك ؟
هتفت أماني بخشونة أظهرت كل البغض الذي يملأ قلبها :- كنت قتلته قبل أن يفعل
صمتت للحظات طويلة وهي تنظر الى نفسها في المرآة .. ومن خلفها كانت جودي تتأمل بدورها أختها الكبرى .. ذات القامة الطويلة والنحيلة .. لقد فقدت الكثير من الوزن خلال السنوات السابقة .. ولكن نحولها لم يؤثر أبدا على جمال تكوين جسدها الأنثوي .. أو جمال وجهها المميز .. بل زاد من اخضرار لون عينيها الواسعتين .. ما منحها مظهرا جذابا وغامضا متناسقا مع شعرها النحاسي الأشقر القصير
كانت هذه هي إحدى المرات القليلة التي تبعد فيها أماني شعرها الكثيف عن صدغيها .. فظهرت لجودي وبكل وضوح آثار ذلك الجرح الذي امتد من منابت شعرها حتى أذنها اليسرى .. السنوات أحالتها الى مجرد ندبة بالكاد كانت ظاهرة للناظر عن قرب .. ولكن بالنسبة لأماني ما زال الجرح طازجا وينزف بغزارة
تمتمت أماني قبل أن تمنع نفسها :- أكرههما
قالت جودي بإشفاق :- لماذا تصرين على محاربتهما يا أماني ؟ لن تستطيعي التغلب على قوتهما ونفوذهما وتعرفين هذا جيدا
استدارت اليها أماني قائلة باستنكار :- أفضل الموت ألف مرة على منحهما ما يريدان
قالت جودي بتوتر :- إن فكرت في الأمر جيدا لما وجدته بذلك السوء .. صلاح شاب وسيم جدا وثري .. وأي فتاة تتمنى الارتباط به
قالت أماني بحدة :- أي فتاة غيري أنا .. وما دمت متحمسة إلى هذا الحد فلماذا لم تتزوجي أنت به ؟
هزت جودي كتفيها قائلة :- لقد كنت دائما بمثابة الأخت الصغرى لصلاح
:- لماذا لم يعتبرني أنا الأخرى أختا له ؟
تنهدت جودي قائلة :- لأنك ومنذ الطفولة كنت تكرهين صلاح .. تنفرين منه وتبعدينه عنك .. ربما هذا ما جعلك بالنسبة إليه تحدي يريد الفوز به
وجرت عيناها على الفيللا لأخذ القمامة .. فقدمني هدية لابن أخيه المفضل
قالت جودي بانزعاج :- أنت تفسرين الأمور بطريقة بشعة
قالت أماني بقسوة :- وأنت تحبين أبي بحيث لا ترين الوحش المختبئ داخله
أشاحت بوجهها بفتور قائلة :- لم لا ؟ لطالما كنت لبنته المدللة .. القطة الصغيرة الشبيهة بأمها .. أظن أحد أسباب كرهه لي هو شبهي الكبير به .. فأنا متأكدة بأنه لا يحتمل حتى نفسه
هزت جودي رأسها يائسة من التفاهم مع أختها حول هذا الموضوع .. ولكنها أقرت داخلها بأن أماني تشبه والدها تماما .. في قوته وعناده وكبريائه .. وهذا ما يسبب التصادم المستمر بينهما ..قالت لتغير من موضوع الحديث الكئيب :- كيف كان العمل لهذا اليوم ؟
تغيرت ملامح أماني بسرعة مذهلة .. وارتسم التفكه على وجهها وهي تقول :- كان مميزا
التقطت منها جودي روح الفكاهة وهي تسألها باسمة :-ما الذي فعلته لمديرك هذه المرة ؟
أطلقت أماني ضحكتها الجميلة النادرة وهي تقول :- لقد كان الأمر مذهلا .. لن تصدقي ما حدث
قطعت الطريق عبر الغرفة الفسيحة والأنثوية الديكور وجلست إلى جانب جودي على حافة السرير قائلة :-
:- أتذكرين تلك الصورة التي ظهر فيها مديري برفقة وزير الاقتصاد في جريدة صباح الأمس ؟ .. لقد علقت الصورة على جدار المكتب .. ودعوت باقي الموظفين لمشاركتي في رميها بالطائرات الورقية
اتسعت عينا جودي وهي تقول غير مصدقة :- لا تقولي بأنه قد ضبطك تسخرين منه علانية بين الموظفين ؟
كانت إجابة أماني ضحكة عالية .. فشاركتها جودي الضحك . أكملت أماني عندما هدأت :- لقد دخل السيد هشام الى المكتب فجأة بع أن وصلت إلى أسماعه الضجة التي عمت الطابق بأكمله .. لك أن تتخيلي الصدمة على وجوه الموظفين لرؤية رئيسهم أمامهم وجها لوجه يراقب ما يفعلونه بهدوء شديد متوعد
قالت جودي بقلق :- هل وبخك ؟
لوحت أماني بيدها قائلة بعدم اهتمام :- كالعادة .. استدعاني الى مكتبه دون أن ينسى توبيخي أمام الآخرين .. وأن يتبرع ساخرا بتوفير سهام حقيقية بدلا من الطائرات الورقية لأشفي بها غليلي .. ولم ينسى أن يذكرني بأنه لم يوظفني إلا إرضاء لخالته .. وأنه لن يتورع عن طردي إن اتضح له أي تقصير مني في عملي
فكرت جودي قائلة :- كوني صادقة مع نفسك .. أنت تستحقين هذا
هزت أماني كتفيها قائلة ببساطة :- أعرف هذا .. ولكنه لن يجرؤ على طردي .. فأنا كفؤة تماما في عملي .. مازلت غير فاهمة كيف يمكن أن يكون لامرأة بلطف سمر ابن أخت بسماجته وجفافه .. إنه أشبه بقطعة جليد تمشي على قدمين .. آه .. ومن يكون (تمام محفوظ) هذا ؟
تناولت إحدى الأوراق المتناثرة فوق السرير .. فانتزعتها جودي منها قائلة بارتباك :- لا شيء يذكر .. زميل في الكلية
راقبتها أماني بتسلية وهي تلملم أوراقها وتضعها جانبا ثم قالت :- يبدو من احمرار وجهك أنه أكثر من هذا بكثير
صاحت جودي بعصبية مفاجئة :- هلا غيرت الموضوع ؟
تفحصتها أماني بصمت للحظات ثم رفعت حاجبيها مستسلمة وسألتها :- كيف كان عشاءك مع طارق هذا المساء ؟
:- جيد .. استمتعنا كثيرا بصحبة بشار وريما كالعادة .. والمطعم كان مميزا
قالت أماني بتهكم :- بالتأكيد لن يختار طارق مطعما يقل فخامة عنه .. لن يهدر تأنقه المعتاد على الأماكن الرخيصة
نهضت جودي من السرير وسارت نحو النافذة لتتأمل الليل الهادئ الذي خيم على الحي الراقي الذي ولدت فيه .. وسمعت أماني تقول من خلفها :- حسنا .. ما الذي يشغل بالك حقا يا جودي ؟
استدارت جودي قائلة باضطراب :- كنت أرغب بطرح سؤال ما عليك .. أعرف بأنك لا تحبين طارق .. ولكنني أطلب إجابة محايدة عن سؤالي
فكرت أماني للحظات ثم هزت كتفيها قائلة :- أعدك أن أحاول
بدا على جودي التردد ما أقلق أماني حول ما يشغل بال شقيقتها الصغرى .. حسمت جودي أمرها وقالت:- هل من الطبيعي لفتاة مرتبطة أن تعجب برجل آخر .. أو تفكر به ؟
بالرغم من سرور أماني لشكوك جودي حول علاقتها بطارق .. إلا أنها لم تفصح عن أفكارها .. وقالت ببساطة :- حبيبتي .. هناك نساء متزوجات وأمهات مازلن يصرخن كلما ظهر نجمهن المفضل على شاشة التلفاز
قالت جودي بضيق :- لم أقصد هذا النوع من الاعجاب
عادت تجلس مقابلة لاماني كي تجذب انتباهها وقالت :- أقصد أن تقابلي رجلا جذابا يخطف بصرك وعقلك دون أن تكلميه .. إذا نظر الى عينيك تنسين الدنيا من حولك تماما .. حتى خطيبك الجالس الى جوارك يفقد وجوده معناه
أرجعت رأسها إلى الخلف وقد برقت عيناها وهي تكمل :- وإن حصل وكلمك .. فإنك تقضين الليل بطوله تستعيدين كلماته .. ونبرة صوته الجذابة .. فيقشعر بدنك من مجرد الذكرى
حدقت أماني في وجه شقيقتها المتأثر بذهول .. ثم تمتمت :- هل أنت متأكدة بأن لا علاقة للمدعو همام بحديثنا ؟
صاحت جودي بانزعاج قبل أن تفكر :- اسمه (تمام)
احمر وجهها عندما لاحظت جمود أماني .. قفزت مبتعدة وهي تخفي وجهها بين يديها فقالت أماني بهدوء :- من الواضح أن المشكلة أكبر بكثير مما ظننت
أنزلت جودي يديها توهي تقول بيأس :-المصيبة أنها أتفه بكثير مما تبدو عليه .. ولكنني لا أعرف لماذا لا أتوقف عن التفكير في ذلك الرجل ولا أستطيع نزع صورته عن عقلي
حكت لأماني باختصار عما حدث في المطعم وهي تتجول في أنحاء الغرفة بعصبية .. بينما أماني تستمع إليها وتراقبها بصمت .. قالت جودي في النهاية بغضب :- لا أعرف ما الذي أصابني ؟ أنا مخطوبة إلى شاب وسيم جدا .. ثري جدا .. ويحبني بجنون .. وخلال لحظة واحدة أرمي فيها كل هذا ورائي وأفكر كالبلهاء بشاب متسكع بالكاد يكسب قوت يومه من عزفه على الجيتار
قالت أماني بهدوء :- عازف الجيتار بشر مثلنا كما تعلمين يا جودي
زفرت جودي قائلة :- أعرف هذا بالتأكيد ..ولكن إعجابي وهوسي الغريب به لمجرد امتلاكه أجمل عينين رأيتهما في حياتي ولطريقة كلامه الجذابة المكتسبة من خبرة طويلة مع النساء كما يبدو .. ليس منطقيا .. صحيح ؟
تأملت أماني أختها التي تصغرها بأربع سنوات بتعاطف .. مهما كان ما تمر به جودي الآن فسببه تلك الطريقة الجافة التي قرر والدها تزويجها فيها .. طارق شاب جيد بشكل عام .. وعريس لقطة .. ولكن مهما ادعت جودي .. فهي ليست متأكدة تماما من مشاعرها نحوه .. أما رأي أماني .. فهو أن جودي تحتاج الى رجل أكثر عاطفية ورقة من طارق العملي البارد .. شخص قادر على تفهم الجانب الحساس والعاطفي من شخصيتها
نهضت أماني قائلة :- أنت تحملين الأمر أكثر من حجمه يا جودي .. أي فتاة طبيعية قد تضطرب للقاء شاب وسيم يعرف كيف يسمعها ما تحتاج إليه من كلمات الغزل .. قد تفكرين به ليوم أو اثنين .. ولكن الأمر سينتهي عند هذا الحد .. خاصة وأنك على الأغلب لن تقابليه مجددا
.. تذكرت جودي الطريقة التي حصل فيها على رقم هاتفها .. ولكنه على الأرجح فقده الآن مع الكم الهائل من أرقام هواتف الفتيات الذي يحتفظ به .. ما قالته أماني صحيح .. هي لن ترى ذلك الرجل مجددا .. خاصة إن امتنعت تماما عن زيارة ذلك المكان الذي يعمل فيه .. ولسبب ما شعرت بالحسرة لهذه الفكرة .. فجزء منها مهما حاولت الإنكار .. متشوق لرؤيته مجددا ..أو حتى لسماع صوته المثير
ربتت أماني على وجنتها برقة قائلة :- لا تشغلي عقلك الصغير بأوهام العروس التقليدية .. سأتركك لتنامي الآن وفي الصباح .. ستنسين تماما ما حصل .. وتعودين خطيبة مملة ومغرورة .. لخطيب أشد مللا وغرورا
.. وعندما غادرت الغرفة .. كانت جودي قد ارتاحت جزئيا لكلمات أماني البسيطة والمنطقية .. ولكنها عرفت تمامما بأنها لن تتمكن تلك الليلة من النوم .. ولا حتى ساعة واحدة
أنت تقرأ
سيدة الشتاء
Romanceنظر إليها بتامل شعرها الأشقر الرطب الذي إلتصقت أطرافه بجبينها ووجنتيها . واسترخائها الكامل وكأنها قضت حياتها كاملة تحت المطر . . فقال - سيدة الشتاء . . ردت باضطراب : سيدة الشتاء ابتسم بغموض قائلا - كان لها حبيب يحمل قسوة في قلبه . تشاجرا ذات ليلة...