الفصل الرابع والاربعون والاخير (سيدتي انا)

16.2K 473 66
                                    

زفاف نورا كان مختلفا عن زفاف اماني .. فعائلة العريس الشديدة التحفظ أصرت على إقامة حفلين منفصلين .. أحدهما للنساء والآخر للرجال .. وقد ناسب هذا أماني إذ شجعها على ارتداء فستان سهرة رائع الجمال لا يتجاوز طوله الركبتين .. أبرز لونه الأسود جمال بشرتها البيضاء الناعمة .. ومنح جمالها ذلك الغموض الذي لطالما ميزه
اما جودي وبفستانها المشرق والمتعدد الالوان .. عكست مزاجها السعيد والمتفائل .. وبدت مدهشة خاصة في عيني تمام الذي ذهل لرؤيتها أثناء انتظاره لهما في الصالة
ارتدت أماني معطفا طويلا يخفي فستانها القصير .. ونظرت إلى نفسها في المرآة وهي تتمتم :- إنه آخر ظهور لك في المجتمع كزوجة هشام يا أماني .. تألقي ما استطعت .. كوني في نظر الناس المرأة المثالية لرجل كهشام .. إن لم أستطع رؤية هذا في عينيه فلأره في أعين الآخرين
انضمت إلى جودي وتمام في السيارة .. ثم اتجهوا جميعا إلى الفندق حيث يقام الزفاف
نورا .. السمراء الرائعة .. كانت تتألق بفستانها الأبيض الثمين .. السعادة كانت واضحة في العينين الشبيهتين بعيني هشام ..بينما قامت أماني بدور المضيفة إلى جوار حماتها .. ولفتت جميع الأنظار بجمالها .. ورقيها الفطري الموروث
..لاحظت بدقة إشارات النساء نحوها أينما تحركت .. هي ليست بحاجة لمن يخبرها بما يثرثرون به عنها .. فحكايتها القديمة مع والدها ما زالت شيقة رغم مرور وقت طويل عليها ..
انتهى الحفل بدخول العريس إلى صالة النساء في وقت متأخر .. وأخذه لعروسه بين الزغاريد وتحت بتلات الورود المنثورة فوق رأسيهما .. ثم بدأ المدعوون في العودة إلى منازلهم هانئين مطمئنين .. باستثناء أماني التي مازالت حائرة وقلقة نحو المستقبل
حماتها الباكية لوداع صغيرتها بدت منهارة .. فاصطحبتها سمر للمبيت في شقتها كي لا تعود إلى المنزل الخالي وتتذكر غياب أصغر أولادها
غادرت أماني صالة الاحتفال برفقة جودي التي لم تتوقف عن الثرثرة حتى رأت تمام في انتظارهما أمام سيارته الفارهة .. لوحت له وهي تنبه أماني لوجوده .. دون أن تدرك بان عيني شقيقتها كانتا معلقتين بالجسد الطويل لزوجها .. الذي انهمك في وداع ضيوفه أمام بوابة الفندق .. تتأملان رجولته الكاملة بملابس السهرة
بدا مرهقا رغم الابتسامة الدبلوماسية التي ارتسمت على شفتيه .. والتي اختفت فور التقاء نظراتهما ليحل محلها البرود الشديد وهو يعتذر من الرجال المحيطين به .. ويشق طريقه نحوها
شحب وجهها وهي تجر شقيقتها جرا نحو سيارة تمام قائلة بتوتر :- من الأفضل أن نعود إلى البيت .. فأنا متعبة
وقبل أن تعبر جودي عن حيرتها .. أمسكت يد قاسية بذراع أماني وانتزعتها من حماية أختها .. وأبعدتها عن سيارة تمام بينما دوى صوت هشام يقول بنعومة :- لم لا أوصلك أنا يا حبيبتي
قالت وهي ترتجف لإحساسها بجسده القريب منها بينما تضغط أصابعه على ذراعها محذرة :- لا داعي بأن تتعب نفسك .. سيوصلنا تمام .. لديك ما يكفي من المشاغل
نظر إلى تمام وحياه بسرعة .. ثم قال لها بلهجة مبطنة :- أنا متأكد بأن تمام وجودي لن يمانعا العودة وحدهما
نظرت جودي إلى أماني بقلق .. لقد خمنت منذ فترة بأن علاقة أختها مع زوجها ليست على ما يرام .. ورغم استجوابها الدائم لأماني .. فإن الأخيرة كانت تصمد دائما نافية وجود أي مشاكل بينها وبين زوجها
و الآن .. وهي ترى الذعر في عيني شقيقتها .. والغضب البارد في وجه صهرها .. تجهل إن كان عليها التدخل أم لا
إلا أن تمام هو من حسم الأمر قائلا :- لنذهب يا جودي .. سأوصلك قبل أن يتأخر الوقت أكثر
من الواضح أن بصيرة تمام كانت أكثر عمقا من بصيرة خطيبته .. لقد أدرك حاجة الزوجين إلى الكلام .. فأماني التي كان يراها خلال الأسابيع السابقة .. مختلفة تماما عن تلك التي قابلها أول مرة .. والتي بالكاد كانت قادرة على الابتعاد عن زوجها ..
بنظرة واحدة منه .. أذعنت جودي وهي تعتلي المقعد الأمامي .. بينما تبادل هو نظرة تفهم رجولية مع هشام الذي سحب زوجته المتمردة نحو سيارته السوداء
راقبت أماني بيأس من فوق كتفها سيارة تمام تبتعد .. ثم استسلمت لقدرها عندما فتح لها هشام باب المقعد الأمامي آمرا :- ادخلي إلى السيارة
رمقته بنظرة غاضبة لم تهز منه شعرة واحدة .. ثم نفذت أمره متأففة .. بينما دار هو حول السيارة .. وجلس خلف المقود قائلا بغلظة :- ضعي حزام الأمان
نفذت أمره وهي تقول بلهجة لاذعة :- ما ينقص الآن هو أن أناديك بسيدي كي يكتمل سيناريو السيد والأمة الذي تمثله
قال بخشونة :- اصمتي يا أماني .. من الأفضل لك بأن تصمتي وإلا دفعت ثمن تصرفاتك الطفولية .. والآن حالا
أطبقت فمها بغضب .. وعقدت ساعديها أمام صدرها بتمرد وهي تراقبه يقود السيارة بأعصاب باردة .. متناقضة تماما مع المشاعر العاصفة في عينيه..
قالت بعد دقائق وهي تنظر من النافذة :- هذا ليس طريق البيت
قال بحزم :- بل هذا هو بالضبط طريق البيت .. بيت زوجك أن كنت قد نسيت بأنك ما زلت متزوجة
قالت بتوتر :- هل تختطفني يا هشام ؟.. أنا لا أريد الذهاب إلى ذلك المكان مجددا
اشتدت أصابعه حول المقود وهو يقول كاتما غيظه :- سنذهب إلى هناك يا اماني .. وسنحظى بالخصوصية التامة دون أن يقاطعنا أحد .. أم تراك نسيت الحديث الجدي العالق بيننا ؟
تذكرت بالتأكيد الطريقة التي غادرت فيها مكتبه بعد أن أثارت غضبه كما لم تفعل من قبل .. حسنا .. في النهاية يجب أن يتحدثا .. ويضعا النقاط على الحروف ليحددا مسار علاقتهما
ترى .. هل سينطق هشام بتلك الكلمة أخيرا .. هل سيطلقها ويخرج من حياتها إلى الأبد ؟
خلال لحظة .. كانت روحها القتالية قد خمدت .. وحل محلها الألم والمرارة .. ألم تكن هي من اقتحم مكتبه وعجل المحتوم ؟ .. كل ما أرادته هو دفعه لاتخاذ القرار النهائي .. مع علمها بأن رجلا مثل هشام ليس من النوع المتردد .. فهو إن أراد شيئا .. سعى نحوه دون مواربة .. وإن لم يرده .. فسيقولها مباشرة
أهذا ما يخطط له .. أن يخبرها مباشرة بأنه سيطلقها ويحررها أخيرا ؟
دخلت السيارة عبر البوابة المفتوحة .. فترجلت منها فور أن أوقفها أمام الفيلا.. سارت أمامه قبل أن يلمسها نحو المصعد الكهربائي .. حيث احتواهما بمساحته الضيقة المشحونة بالذبذبات الصادرة عنهما معا
تحاشى هشام النظر إليها حتى فتح المصعد .. هذه المرة .. أصر على أن يمسك بمرفقها ويدخلها بنفسه إلى شقتهما .. تحررت منه فور أن توسطا الصالة الواسعة .. رفضت النظر حولها وتذكر الأيام التي عاشتها هنا .. استدارت إليه قائلة بهدوء :- حسنا يا هشام ... ها قد انفردنا أخيرا .. وتستطيع أن تقولها لي بعيدا عن الشهود .. كلمة الطلاق سهلة للغاية ولن تكلفك الكثير من الجهد
ارتسم ذلك التعبير الصارم في وجهه وهو يقول ببرود :- أنا لن أطلقك يا أماني
استغرقت لحظات لتستوعب ما قاله قبل أن تقول بارتباك :- لماذا ؟
:- لم يحن الوقت لذلك بعد
ما الذي ظنته حقا ؟ أن يعترف بحبها وتمسكه بها ؟ استشاطت غيظا وهي تقول :- لست أنت من يحدد الوقت المناسب لطلاقنا يا هشام .. لقد اتفقنا منذ البداية على أن تطلقني فور أن أطلب منك الطلاق
حل ربطة عنقه وسحبها من حول رقبته وهو يقول ببرود :- لقد قلت وبوضوح بأنك حرة في طلب الطلاق متى شئت .. ولكنني لم أقل أبدا بأنني سأطلقك
اضطربت انفاسها وهي تراقبه يحل أزرار قميصه بنزق وكأنه يشعر بالاختناق .. بينما كانت هي مرتبكة الأحاسيس تسأله :- ولكن لماذا ترفض أن تطلقني ؟ ما الداعي للاستمرار في زواج لم يعد لأحدا أي فائدة منه ؟
أحنى رأسه قليلا وهو ينظر إليها قائلا بلهجة ناعمة :- إذن .. فقد انتفت حاجتك إلي يا أماني .. وما عدت بحاجة إلى خدماتي كحارس شخصي .. أليس كذلك ؟
قالت بعصبية وهي تتراجع إلى الخلف :- أنا لم أقل هذا
:- ولكنك عنيته بتلهفك للانفصال عني فور تأكدك من سلامة نية ابن عمك .. أليس هذا صحيحا ؟
قالت بحدة وهي تلاحظ كيف تغيرت لهجته .. وتبطنت بالتهديد المستتر :- لا تلعب دور الضحية يا هشام .. لقد كان الهدف من زواجنا هو حمايتي من صلاح .. ولكنك لم تخرج من هذا الزواج خالي الوفاض .. لقد أسكت والدتك التي تركض وراءك منذ سنوات متلهفة لزواجك .. بينما كنت أنت رافضا لمنح نفسك لأي امرأة وكأن استسلامك وجه من وجوه الضعف الذي تكرهه .. ترفض أن تشعر بالحب نحو امرأة تستغل مشاعرك وتذلك كما أذل أمك حبها لأبيك .. تخاف أن تجد نفسك في موقع تستجدي فيه العطف كما كنت وأنت طفل صغير في العاشرة من عمره
أصابته كلماتها في الصميم .. وكأن خنجرا مسموما غرز في صدره .. فقطع المسافة بينهما ممسكا لذراعها بقوة وهو يجذبها إليه .. ويزمجر بغضب :- أيتها ال....
لم ينطق بالشتيمة .. ولكنها فهمتها .. كالعادة عندما تجد أماني نفسها عاجزة ومحاصرة .. تفقد السيطرة على لسانها .. وهذه المرة .. أنساها يأسها وألمها الخوف و الحذر .. فهتفت به ببغض :- هيا قلها .. لماذا لم تفعل ؟.. ولتضربني أيضا إن استطعت .. ولكنك لن تؤذي دجاجتك التي تبيض ذهبا .. لقد وجدت امرأة تستمتع بمعاشرتها دون أن تكون مضطرا لأن تحبها .. فلماذا تتخلى عنها ما دامت تمنحك ما تحتاج إليه
هالته بشاعة كلماتها فهزها بعنف وهو يصرخ بها :- اخرسي
تحرر شعرها من عقاله تحت تأثير عنفه .. وتطاير في جميع الاتجاهات ليعود فيستقر ثائرا حول وجهها المتورد بفعل الغضب ليمنحها جمالا وحشيا هز كيانه .. تدفقت دموع القهر من عينيها وهي تقول صارخة :- ما الأمر يا هشام ؟ هل تخيفك الحقيقة .. أم أنها تقرفك كما تقرفني ... ربما أكون قد استغليتك لتحميني من صلاح .. ولكن استغلالك لي لم يكن أكثر بشاعة .. ما الأمر ؟ .. ألا تظن بأنك قد حصلت على ما يكفي ثمنا لخدماتك .. هل تريد المزيد يا هشام ؟
أسقطت معطفها عن كتفيها على الأرض .. لتتيح له النظر إلى جسدها المغطى بالفستان الرقيق .. تراجع مرتجفا وهو يشيح ببصره عنها .. وقد انحنى كتفاه وكأن ثقلا كبيرا يجثم فوقهما
أغمضت عينيها بقوة للحظات .. وكتمت أنفاسها كي لا يعلو نشيجها .. لا يمكن للحقيقة أن تكون أكثر وضوحا .. إنه حتى لم ينفي صحة كلماتها .. انحنت تلتقط معطفها .. ثم اتجهت نحو الباب بساقين ثقيلتين .. لم تعرف إلى أين ستذهب في هذا الوقت المتأخر .. ولكنها أرادت فقط أن تبتعد عنه .. أن تبكي دون أن يشهد هزيمتها
وقبل أن تعبر نصف الصالة .. أمسكت يده الخشنة بكتفها .. وأدارتها نحوه .. وسرعان ما وجدت نفسها بين ذراعيه .. قاومته بشراسة وهي تصرخ به :- ما الذي تفعله .. ما الذي تريده مني ؟
ارتفعت قدماها عن الأرض .. في اللحظة التي كتم فيها صراخها بفمه ... قبلها بعنف وقسوة كما لم يفعل من قبل .. شيئا فشيئا كانت مقاومتها تختفي .. وشوقها إليه يعود إلى الحياة مجددا .. ذراعيها التفتا حول عنقه وهو يحملها إلى غرفة النوم .. وكأنه يحاول إبقائها بالطريقة الوحيدة التي لم يستعملها معها .. لقائهما اتسم بالعنف واليأس .. كل منهما كان يظهر للآخر مشاعره بالفعل بعد أن عجز عن استخدام القول .. دموع أماني سالت أنهارا وهي تضمه إليها وتمنحه حبها الكامل .. لم تفكر على الإطلاق في مغبة استسلامها هذه المرة .. لقد أحبته إلى حد الجنون .. وأرادته إلى حد الألم .. وكل ما رغبت به في تلك اللحظات هو أن تنعم بقربه كما لو أنها لن تفعل بعد الآن
لم تكن قد استعادت أنفاسها بعد ..عندما أحست به يبتعد عنها .. فتحت عينيها لتراه ذاهلة وهو يرتدي ملابسه .. فسألته باضطراب :- ما الذي تفعله ؟
نظر إليها من علو.. فحبست أنفاسها لما قرأته على ملامح وجهه المظلمة .. قال ببرود :- أرتدي ملابسي وأتركك في حالك يا عزيزتي .. أعتقد بأننا قد تساوينا الآن .. وأنا قد أخذت ثمنا عادلا لخدماتي لك .. وتستطيعين من الآن فصاعدا الذهاب حيث تشائين .. أنت حرة يا عزيزتي .. ولن أعيقك مجددا
غادر الغرفة دون أن يمنحها نظرة أخرى .. أو حتى الفرصة لتصحو من صدمتها .. سمعت صوت باب الشقة يصفق بعنف .. فجلست فوق السرير الذي شهد لتوه إعصار حبهما .. ونظرت حولها كالمجنونة قبل أن تطلق ضحكة هستيرية سرعان ما استحالت إلى بكاء مرير .. دفنت وجهها في الوسادة التي مازالت تعبق برائحته وأخذت تنشج بقوة لفترة طويلة لم تحسبها .. في النهاية .. وعندما بدأت تشعر بنفسها على وشك أن تموت تعبا وإرهاقا توقفت عن البكاء .. ولكنها لم تستطع أن تنام .. وكيف تنام في شقة رجل طردها لتوه من حياته .. سحبت نفسها من السرير .. ودخلت إلى الحمام .. وقفت تحت المياه الساخنة لساعات وهي ترفض حتى أن تفكر بما فعلته بنفسها .. هي لم تخطئ .. لقد أحبت زوجها ومنحته قلبها وجسدها .. وهو بكل بساطة خذلها ونبذها وكأن شيئا لم يكن
أوقفت شلال المياه .. ولفت نفسها بروب الحمام الطويل .. ستشرق الشمس بعد دقائق .. من الأفضل لها أن تجهز نفسها وتحزم بعض أغراضها وتخرج من هذا المكان قبل عودة هشام .. فهي لا تستطيع مواجهته مجددا .. بل هي ترفض أن تراه مجددا .. ستغادر الشقة وتبتعد أميالا عن كل ما يتعلق به .. وعندها .. ستتخذ قراراتها بهدوء وروية .. وتتذكر بأنها تحمل طفلا في أحشائها .. طفلا تقع على عاتقها مسؤولية توفير حياة آمنة ومريحة له ..حياة خالية من التعقيدات ..
بينما كانت تمشط شعرها أمام المرآة .. سمعت صوتا مكتوما من الصالة .. فسقط المشط من يدها وقد اعتراها الذعر .. أهو هشام ؟ هل عاد قبل أن يتيح لها فرصة الرحيل بكرامتها
انتظرت أن يقتحم عليها الغرفة .. إلا أنه لم يفعل .. وبعد دقائق حدثت نفسها بأنها إنما كانت تتوهم ذلك الصوت .. ورغم هذا .. سارت إلى الصالة لتتأكد بنفسها .. لتجد هشام هناك .. جالسا فوق الأريكة محنيا رأسه إلى الأسفل وقد احتضنه بيديه ..
أحس بوجودها فرفع رأسه إليها ... أذهلها ما رأته من إرهاق وتعاسة في وجهه وعينيه الحمراوين .. وبدلا من أن يبادرها بأي من الكلمات المهينة التي توقعتها .. التزم بالصمت .. وهو ينظر إليها بلا أي تعبير .. فتمتمت بخفوت :- لم أتوقع عودتك قريبا .. وإلا ما كنت وجدتني هنا
صمت للحظات طويلة قبل أن يقول بهدوء :- أعرف .. ولهذا بالضبط .. أنا لم أغادر الشقة على الإطلاق
ماذا ؟ .. وماذا عن صوت انصفاق الباب ..؟ هل كان موجودا هنا طوال الوقت ؟ هل استمع إليها وهي تبكي كالمجنونة ألما على فراقه ؟
شحب وجهها وضاقت أنفاسها حتى أحست بأنها ستفقد الوعي .. ولكن صوته أعاد لها التركيز وهو يقول :- لقد كنت على وشك الرجيل .. ولكنني لم أستطع .. عرفت بأنني ما أن أتجاوز عتبة هذا الباب حتى أفقد أي حق لي بالعودة
عرفت بأنه لم يقصد العودة إلى الشقة .. فنظرت إليه بذهول تنتظر منه أن يكمل ما بقول
هز رأسه وهو يقول :- جلست هنا لساعات .. أستمع إلى بكاءك .. غير قادر على الدخول إليك ومواساتك .. وكيف أفعل وأنا لا انفك أبعدك عني ببرودي وكبريائي السخيفين
نهض واقفا فشهقت بخفوت عندما استعادت كل ذكرى حميمة جمعت بينهما .. نظر إليها بتعاسة صدمتها وهو يقول بصوت أجش :- لقد كنت محقة يا أماني .. محقة في كل كلمة قلتها عني .. أنا فعلا أكثر رجال الأرض جبنا عندما يتعلق الأمر بالعاطفة .. رأيت أمي لسنوات تعاني من حب رجل لم يبادلها الحب بمثله .. لن تعرفي أبدا صعوبة أن تتعذبي في حب انسان لا يعيرك أي أهمية .. لم أسامح والدتي يوما على ضعفها هذا .. وأقسمت يوما على ألا أسمح لنفسي بأن أصل إلى هذا المستوى من الضعف و التخاذل .. في الواقع .. لم أشعر بهذا النوع من التهديد أبدا حتى قابلتك يا أماني
أغمضت عينيها وهي تتوسل إليه سرا ألا يقول شيئا .. لن تستطيع تحمل المزيد .. ولكنه قال :- لقد كنت مخطئة في شيء واحد فقط يا أماني ... وهو أنك ما كنت أبدا بالنسبة إلي مجرد امرأة أعاشرها دون أن أحبها .. لقد كنت دائما وابدا المرأة التي لم أحبب يوما كما أحببتها
تدفقت الدموع من عينيها غزيرة وهي تهمس :- توقف أرجوك .. لا تقل شيئا لا تعنيه .. لا تكن نبيلا إلى هذا الحد لأنك سمعتني أبكي فحسب.. بكائي لا يعني شيئا ..
قال بتوتر :- وقد يعني كل شيء .. كل ما أردته يا أماني ان أشعر منك بشيء من العاطفة .. شيء مختلف عن الخوف والتوتر الذي وصم علاقتنا في بدايتها .. والألفة والامتنان بعد زواجنا .. لم أعرف إن كنت سأجرؤ يوما على الإفصاح عن شعوري نحوك لأنني كنت قد قررت منذ خمس سنوات بأن أدفن كل ما أحمله من عاطفة اتجاهك وألا أظهره مهما كلفني الأمر
منذ خمس سنوات .. خمس سنوات طويلة .. منذ بدأت في العمل لديه .. أحست بالدوار وكادت تفقد توازنها لو لم ترتكز إلى إطار باب غرفة النوم الذي لم تجرؤ بعد على تجاوزه
لاحظ شحوب وجهها .. وصدمتها القوية .. ولكنه تابع قوله بصوته الجامد :- نعم يا أماني .. منذ خمس سنوات دخلت إلى مكتبي فتاة صغيرة .. رائعة الجمال .. إلا أنها كانت بقوة عشرة رجال .. لم تسمح لأحد باختراق حصونها والاقتراب منها مما أثار فضولي بداية .. ثم إعجابي بعد ذلك .. ليتطور مع معرفتي بك عن قرب إلى مرض لعين لم أستطع منه فكاكا
ألم تفكري حقا بالسبب الحقيقي الذي دفعني لعرض الزواج عليك ؟
تمتمت بصوت مختنق :- لقد أردت .. لقد أردت حمايتي من صلاح
:- لقد كان هذا أحد أسبابي .. لقد عجل هجوم صلاح ما كنت أخطط له منذ فترة .. كنت أهدف إلى كسب ثقتك أولا .. ثم حبك ثانية .. وبعدها أعرض عليك الزواج كأي رجل تقليدي .. ولكن خططي تغيرت مع تغير الظروف .. وفكرت بأنني سأسعى لكسب حبك مستعينا بألفة الزواج .. لم أفكر أبدا بانك لن تنظري إلي يوما إلا كوسيلة للخلاص من صلاح
اقترب منها وهو يقول :- ذلك اليوم في المستشفى .. عندما رفع عنك صلاح تهديده الدائم .. نظرت إلي بكل بساطة وتحدثت عن الطلاق .. هل تتخيلين كيف أحسست في تلك اللحظة ؟ .. عرفت بأن الوقت قد داهمني .. وأنك رغم كل شيء تريدين الطلاق .. فكرت بأنني في النهاية لم أترك لك خيارا عندما فرضت عليك الزواج .. وأنك تحتاجين إلى بعض الوقت فقط لتدركي بأنك أحببت العيش معي ولو قليلا .. وأنك لا تمانعين إن أكملت حياتك معي .. وفي الوقت المناسب ... ربما بعد أن تتزوج جودي .. سأجد كل الوقت لأهجم مجددا .. بطريقة مختلفة هذه المرة .. حتى اقتحمت علي المكتب ذلك النهار مطالبة إياي بالطلاق ..
أغمضت أماني عينيها غير قادرة على رؤية النظرة البائسة في عينيه .. ضم قبضتيه وهو يقول بانفعال :- رغبت بضربك وأنت تقدمين استقالتك بكل برود .. بل وتتكلمين عن العمل مع ذلك الحيوان .. أنا لا أهتم لو أنه أعاد إليك حقوقك أو حتى تنازل لك عن حقوقه هو .. ما كنت لأسمح له بالاقتراب منك إلا على جثتي ..
أمسك بذراعيها .. وهزها برفق ليجبرها على النظر إليه قائلا :- انظري إلي يا أماني
شهقت وهي تبعد وجهها عنه فكرر بيأس هذه المرة :- انظري إلي .. أرجوك
فتحت عينيها أخيرا لتنظر إلى وجهه الذي فقد لونه .. كان البؤس مرتسما على كل ملامحه وهو ينظر إلى تقاطيع وجهها بشغف .. قال بصوت أجش :- أحبك يا أماني .. أحبك كما لم أفعل من قبل .. وقد ظننت نفسي عاجزا عن حب أي انسان غير أفراد عائلتي .. كلماتك القاسية هنا قبل ساعات مستني في الصميم لمدى صحتها .. لم أدرك إلى ـأي حد أنا ضعيف وعاجز حتى واجهتني أنت بهذه الحقيقة .. الضعف الحقيقي هو أن أعجز عن الاعتراف بحبي للمرأة التي أحب أكثر من أي شيء آخر .. الضعف هو أن أراها ترحل وأعجز عن إيقافها بكلمة ..
لمس وجنتها بيده متحسسا نعومة بشرتها التي بللتها الدموع .. ومنع نفسه بصعوبة من أن يضمها إليه .. ليس قبل أن يضع النقاط على الحروف .. ليس قبل أن يبسط أوراقه أمامها بكل وضوح .. لن يكون هناك التباس هذه المرة .. ستكون الحقيقة .. والحقيقة فقط ما يجمع بينهما
قال بصوت خشن :- رأيتك تسيرين نحو الباب فلم أفكر إلا بأنني يجب أن أمنعك من الخروج .. وعندما لمستك .. لم أستطع حتى أن أمنع نفسي من تقبيلك مجددا .. من الإحساس بجسدك .. بدفئك وبحبك .. وتجاوبك لم يساعدني حتى على المقاومة .. أدركت بعدها فداحة ما فعلت .. إذ أنني أسرق منك خياراتك مجددا .. لقد فرضت نفسي عليك من جديد بلا مراعاة لمشاعرك .. كلماتي الجارحة لم تبد لي كذلك وقتها .. كنت وكأنني أحاول محو ما حصل وكأنه لم يحدث قط .. ثم عرفت .. عرفت بأنني أخسرك مجددا .. وللابد هذه المرة .. سماعك تبكين وحدك جعلني أفكر بأنك ما كنت لتجرحي بهذا الشكل لو لم أكن أعني لك الكثير .. بل أنك ما كنت استسلمت لي ومنحتني تلك العاطفة الجياشة لو لم أحتل مكانا في قلبك .. أنت أماني النجار .. سيدة الجليد التي لا تهزها الرياح .. لن تسمحي لي أبدا باختراق حصونك لو لم تحبيني كما أحبك بالضبط
احمر وجهها وهي تشيح بوجهها بعيدا .. فأمسك بذقنها .. ورفع وجهها إليه .. نظر إلى عينيها الخضراوين الغارقتين في العاطفة .. ثم قال هامسا :- إن كنت مخطئا في تحليلي لمشاعرك ... قوليها لي فقط .. ولن أزعجك أبدا بعد الآن ..
عادت دموعها تتدفق على وجنتيها وهي تهمس :- أنت تعرف بأنني أحبك .. لربما كنت في معظم الأحيان موظفة سليطة اللسان .. وزوجة متمردة ومزعجة .. إلا أنك أنت من كان يحتل قلبي دائما .. حتى قبل أن أعرف بأنني أحبك .. لطالما كنت أنت .
نظر إلى وجهها المتورد غير مصدق ..ثم طبع على شفتيها قبلة قوية وهو يقول :- يا إلهي .. هل تقولين الحقيقة ؟ أتحبينني حقا ؟
هزت رأسها متمتمة :- . كل عنادي وتمردي وإصراري على الطلاق كان رغبة في اكتشاف مدى تمسكك بي .. أردتك زوجا وحبيبا .. وليس حاميا متذمرا من مسؤولية رميت فوق أكتافه بلا إنذار .. كلماتي القاسية لم أعنيها حقا .. لقد كنت غاضبة لأنني ظننتك عاجزا عن حبي كما أحبك بالضبط
أمسك وجهها بين يديه قائلا :- أنا لست آسفا لأنك قلتها .. لقد أيقظتني كلماتك من غفلتي .. حررتني من غيبوبة دامت لسنوات .. أنت بين يدي الآن .. حبيبتي ولي وحدي .. ولن أسمح للحظة أن تمر بعد الآن دون أن أعبر لك فيها عن حبي
قبلها بشغف كاد ينسيها الأخبار التي ما زال يجهلها .. ثم فكرت بأن معرفته بحملها .. ستسبب له صدمة كبيرة خاصة بعد الطريقة القاسية التي عاملها بها قبل ساعات .. قد تؤجل اطلاعه على الأخبار حتى صباح الغد .. أو ربما الصباح الذي يليه .. ستحظى به لنفسها لساعات طويلة قبل أن تسمح لطفلهما بان يكون جزءا من حياتهما
تمتمت بين قبلاته :- هل كنت حقا سترحل لو لم تسمع بكائي ؟
هز رأسه قائلا :- ما كنت لأستطيع الرحيل .. عرفت بانني إن غادرت الشقة .. فإنني لن أجدك عندما أعود .. ستختفين من حياتي وتتركينها باردة .. وخاوية كما كانت قبل أن أعرفك
تمتمت :- كما حدث في قصة سيدة الشتاء
نظر إلى عينيها وهو يبثها حبه الخالص بنظراته الحانية قائلا :- أنت ما كنت يوما سيدة للشتاء ..
لقد كنت دائما بالنسبة إلي سيدة كل الفصول
أنت سيدتي أنا

******** تمت*********
والي اللقاء في الجزء التاني من سلسلة للعشق فصول رواية مرت من هنا

سيدة الشتاء حيث تعيش القصص. اكتشف الآن