الفصل الخامس (بلا قلب)

8.9K 314 3
                                    

كانت أماني مستغرقة تماما في عملها عندما ارتفع رنين الهاتف الداخلي .. رفعت السماعة لتسمع صوت (سحر) .. سكرتيرة المدير يقول :- ماذا دهاك ؟ أنا أحاول الاتصال بك منذ دقائق
اشتمت أماني رائحة المشاكل .. فزفرت قائلة :- لقد عدت منذ دقائق من استراحة الغداء ثم انهمكت في العمل ولم أسمع صوت الهاتف .. مالأمر ؟ هل يطلبني الكونت في مكتبه ؟
كانت قد أطلقت عليه منذ عام لقب الكونت كدلالة على تعجرفه واستبداده .. وقد أعجب اللقب باقي الموظفين ودفعهم لاستعماله بحرص فيما بينهم كي لا يصل الأمر الى المدير
قالت سحر بتوتر :- الكونت غاضب لتأخرك .. لذا أنصحك بترك ما في يدك والقدوم الى هنا فورا بكامل أسلحتك .. في حال قرر أن يلتهمك كتحلية بعد الغداء
أنهت أماني المكالمة .. وتنهدت بسأم .. لا مزاج لديها اليوم للشجار معه .. ولكن إن كان مصرا فهي مستعدة له دائما
تناولت بعض الأوراق التي طلبت منها سحر إحضارها معها .. وتأكدت من حسن مظهرها وأناقتها قبل أن تغادر مكتبها
وقبل أن تدخل إلى مكتب المدير .. أخذت سحر تلقي عليها عشرات التعليمات ( أرجوك .. كوني مهذبة – لا تغضبيه هذه المرة – فقط استمعي إلى ما يقوله و ........)
كان خوف سحر منه طبيعيا كأي موظف آخر في الشركة من المدير الصارم الذي أسس ثروته من لا شيء .. وفقا للقليل الذي أخبرتها به خالته سمر عنه .. فإنه لم يترك عملا شاقا أو مهينا إلا ومارسه منذ كان في العاشرة من عمره .. وهذا يفسر بالتأكيد صلابته .. وافتفاره التام إلى العاطفة في التعامل مع الغير
أخذت نفسا عميقا وطرقت الباب .. ثم دخلت عندما سمعت الصوت الصارم يدعوها إلى الدخول .. خطت إلى داخل المكتب الفسيح .. وركزت اهتمامها نحو مركز الغرفة حيث استقر (هشام عطار)
وقد ملأ مقعده الجلدي بكتفيه العريضتين .. منهمكا في إحدى مكالماته الهاتفية المهمة .. رفع بصره إليها .. وأشار لها بيده أن تقترب .. ثم تجاهلها تماما وهو يستمع إلى محدثه
أقفلت الباب ورائها بهدوء .. وظلت واقفة على بعد مترين على الأقل عن مكتبه بمنأى عن الخطر .. تململت بضيق عندما استغرق وقتا أطول مما توقعت في مكالمته .. وإن كان الحديث كما فهمت يتعلق بصفقة مهمة .. ظهرت على ملامحه السمراء الخشنة علامات الاهتمام وهو يتحدث بصوته الأجش المتسلط .. أشفقت على محدثه الذي يجفف عرقه الآن في الغالب محاولا مجاراة خصمه الذكي والحازم .. الذي اعتاد على الحصول على ما يريده بأي ثمن كان
أزاحت عينيها عنه نحو محتويات المكتب الخشبي الضخم الذي تراصت فوقه الأجهزة الحديثة بأنواعها .. ثم دارت ببصرها حول المكان تتأمل الأثات الفخم الذي ملأه .. وغيرها من مظاهر الثراء التي لا يتردد أمثاله في إظهارها للآخرين .. لم تدرك بأن نظرة الازدراء كانت مرتسمة بوضوح في عينيها حتى سمعت صوته البارد يقول :- هل انتهيت من تقييمك للمكان ؟
رفعت عينيها إليه بسرعة . وغضبت من نفسها عندما احمر وجهها بحرج .. متى أنهى مكالمته وبدأ بمراقبة تفحصها الدقيق لمحتويات مكتبه ؟ لم ترغب بزيادة الأمر سوءا فتنحنحت قائلة بتهذيب :- أخبرتني سمر أنك طلبت رؤيتي
تراجع فوق مقعده ورمقها بإحدى نظراته السوداء وهو يقول ببرود :- أنا لا أطلب في هذا المكان يا آنسة أماني .. ونعم لقد أمرت سحر باستدعائك منذ نصف ساعة على الأقل .. وأرغب بشدة في أن أعرف سبب هذا التأخير
تمالكت أعصابها وقد عرفت بأن مزاجه اليوم يتوق إلى توبيخ أحدهم وقد وقع اختياره كالعادة عليها .. قالت بصبر محافظة على تهذيبها :- لم تنته استراحة الغداء إلا منذ ربع ساعة ..
:- كنت في صالة الطعام إذن
:- نعم .. برفقة باقي الزملاء
كست الصرامة ملامحه وهو يقول :- إذن .. فلتبلغي زملاءك بأن استراحة الغداء تعتبر ملغاة منذ هذه اللحظة و حتى شهر من الآن .. وأي تقاعس عن العمل خلالها أو مغادرة للشركة من أي موظف .. ستؤدي إلى تمديد العقوبة إلى أجل غير مسمى
صرت على أسنانها بغيظ .. سيقتلها زملاؤها في حال عرفو بالكارثة الجديدة التي جلبتها عليهم بسبب تأثيرها غير المسبوق على هذا الرجل .. لم تتمالك نفسها .. ورمت بتهذيبها عرض الحائط .. قائلة بحدة :-
:- مفهوم .. سأخبر الجميع بالحمية الإجبارية الجديدة .. وأنصحهم بتسريب سندويتشات منزلية داخل معاطفهم منذ الغد لاستراق اللقيمات من وراء ظهرك ريثما تصدر أوامرك التالية بمنعنا عن التنفس
.. رمى قلمه من يده فأجفلت لحركته المفاجئة .. لاحظت عينيه السوداوين تلمعان بغضب شديد .. ولكنه تأملها طويلا حتى أحست بنظراته ستقتلعها من مكانها .. ثم ارتفع صوته الجهوري فجأة :- أنت تستمتعين بهذا .. أليس كذلك ؟
قالت بحذر :- ماذا تقصد ؟
:- أنت تستمتعين باعتماد اللامبالاة في تصرفاتك .. وإحالة جو العمل إلى نوع من السخرية والفوضى
قالت بتوتر :- لقد سبق واعتذرت عما حدث الأسبوع الماضي .. ووعدتك بألا يتكرر
قال بجفاف :- وماذا عما حدث اليوم ؟
ارتفع حاجباها بدهشة وهي تقول :- ماذا ؟؟
لوى فمه القاسي بابتسامة بالكاد ظهرت .. بدا واضحا مدى استمتاعه بحيرتها .. نهض واقفا ودار حول المكتب فتراجعت تلقائيا عندما دنا منها بطوله الفارع وجسده الضخم المكسو بالبذلة الأنيقة .. توترت وهو يزيد من اقترابه ببطء قائلا :- دعيني أخمن .. هل تبادلت حديثا شيقا مع زملاءك أثناء تناولكم الغداء في كافيتيريا الشركة ؟
شحب وجهها وقد فهمت قصده .. لقد انخرطت في حديث ساخر مع مجموعة من زملائها .. وقد كانت أصواتهم مرتفعة بحيث سمع الحديث جميع الجالسين حول طاولتهم .. أخذت تقلد المدير الصارم بأسلوب
فكاهي أضحك الجميع .. ثم استرسلت في الحديث عن الجليد الذي يجري في عروقه بدلا من الدماء .. وافتقاره التام للإحساس .. وعن قناعتها بأن السبب في عزوفه عن الزواج رغم تجاوزه الثلاثين بسنوات هو هروب النساء من وجهه العابس الذي لا يبتسم إلا لكسب صفقة أو مال وفير كغيره من محدثي النعمة ..
لقد قالت الكثير من الكلام المسيء والمهين له .. ولكن من يلومها إذا كان صورة لا تختلف كثيرا عن والدها أو صلاح ؟
لقد كان هشام عطار نموذجا للرجل المستعد لفعل أي شيء لأجل زيادة ثروته .. قد تتفهم دوافعه نظرا إلى نشأته الصعبة .. ولكنها لن تتفهم أبدا تصرفاته المتسلطة والمتكبرة وقسوته الغير مبررة نحو موظفيه .. تمالكت أعصابها وقالت ببرود :- كيف عرفت هذا ؟
نظر إليها ببرود أخافها .. لطالما أخافتها نظراته الغير مفهومة والغامضة المطلة من عينيه الحادتين كعيني الصقر .. فال :- لدي مصادري
قال بحدة :- تقصد جواسيسك
رفع حاجبيه القاتمين فلاحظت بوضوح ذلك الأثر القديم لجرح طولي قاطع أحدهما .. مما ذكرها بندبتها المخفية تحت خصلات الشعر المسدلة بعناية حول وجهها وقال :- ربما
تراجعت خطوتين كي تجد الشجاعة لأن تقول بعصبية :- إن كنت تطالبني باعتذار فلن تحصل عليه .. عملي لديك لا يمنحك السلطة للتحكم بأفكاري ورأيي بك ..
هدر بصوت جمد الدماء في عروقها :- موقف آخر من هذا النوع وستجدين نفسك خارج جدران هذا المبنى دون رجعة
هتفت باستنكار :- هل تهدد بطردي ؟
:- ولم العجب ؟ أنا رجل عديم الإحساس والعاطفة .. ومحدث نعمة لا أخلاق له .. ما الذي يمنعني من إلقائك خارجا بدون أي تردد ؟
احمر وجهها وهي تستمع إلى صدى كلماتها المهينة من خلال صوته الغاضب .. إنه محق بغضبه بالتأكيد .. ولكن طردها لهذا السبب لن يكون عادلا
تراجع عنها وعاد إلى عرشه الواقع خلف المكتب وهو يقول بهدوء :- من حسن حظك أن علاقتك بسمر تشفع لك .. وإلا لكنت تبحثين عن عمل آخر منذ فترة طويلة
قالت بحدة :- أنت لا تبقيني هنا إكراما لسمر فأنا موظفة كفؤة وأنت تعرف هذا تماما
عاد يرسم على شفتيه تلك الابتسامة الساخرة .. ورفض منحها تأكيدا شافيا .. بل قال وهو يسترخي فوق مقعده :- في الواقع ..أستغرب أن يكون لامرأة مثلك أي علاقة صداقة بسمر .. فهي امرأة دافئة ورقيقة .. لا تكف أبدا عن العطاء .. أما أنت ...
ارتجفت عندما جرت عيناه السوداوان الحادتان فوق ملابسها الأنيقة بتقييم مشمئز وهو يقول :-
:- طفلة مدللة وثرية .. اعتادت الحصول على ماتريده بأي ثمن .. تكاد تدمرك عقدة التفوق التي ولدت معها .. وهذا واضح من طبيعتك العدوانية والمتهكمة .. التي لاتعرف أبدا كيف تحب أو تعطي
تمنت لو أنه لا يلاحظ شحوب وجهها .. فهو قد أصابها بالصميم دون أن يدري 00 بذلت جهدا خرافيا كي تحافظ على ثبات ملامحها وتحاشت النظر إليه كي لا يقرأ الألم في عينيها .. ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد .. بل تأملها طويلا قبل أن يقول بهدوء :- لقد كنت محقا .. أليس كذلك ؟ كلماتك التي قصدت وصمي بها لم تكن إلا انعكاس لك ولقلبك الميت .. كأمثالك ممن ولدوا وفي أفواههم ملعقة من ذهب ..يمتلكون كل شيء .. ولكن هذا يخلق داخلهم فراغا هائلا وافتقار إلى الإحساس والآدمية .. في المرة القادمة التي تتبجحين فيها وتبدأين بتعداد نواقص الغير .. تذكري نواقصك فهي أكثر مما تظهرين على ما يبدو
رفعت رأسها بصلابة لتواجهه .. كان قادرا على ملاحظة الحقد الوحشي يلمع في عينيها الواسعتين .. قالت ببرود :- هل أستطيع العودة إلى مكتبي الآن ؟
أشار بيده قائلا بتهكم :- لم أستدعيك لنتبادل حديثا اجتماعيا .. سنتحدث في العمل ثم تنصرفين إلى مكتبك
ثم اعتدل على كرسيه وهو يقول بجدية :- اجلسي من فضلك .. وأخبريني عن ......
اختفى تماما أي أثر لتهكمه وقسوته .. وعاد من جديد رجل الأعمال المحترف .. من يراهما الآن وهما يتناقشان بهدوء ماكان ليصدق مدى كراهية كل منهما للآخر
كان يتحدث .. ويلقي عليها بملاحظاته وتعليماته .. بينما تمنحه هي الإجابات المقتضبة وعقلها بعيد تماما عن العمل .. لقد كان غارقا بمدى إصابة هشام عطار للواقع في كلماته التي قصد بها إهانتها
ترى هل يعرف بأن قلب أماني قد مات حقا قبل سنوات قليلة ؟
وأنها لا تعرف إن كان سيعود يوما إلى الحياة .. أو أنها ستكمل ما تبقى من حياتها بلا قلب

سيدة الشتاء حيث تعيش القصص. اكتشف الآن