الفصل الثاني والثلاثون(تاريخ أسود)

7.8K 300 0
                                    

ساد صمت ثقيل بين كل من أماني وهشام داخل سيارته الفارهة .. وهو يقطع بها الطرقات الداخلية للمدينة .. من ينظر إليهما وكل منهما منشغل بفكره عن الآخر لا يمكن ان يخمن على الإطلاق بأنهما سيعقدان قرانهما صباح اليوم التالي
تمنت أماني لو تعرف ما يدور في عقل هشام .. إذ بدا لها جافا وبعيدا منذ تبادلا تلك القبلة اليتيمة في شقتها قبل أيام
بالكاد رأته منذ انتقلت إلى شقة سمر .. لم يزرها أو حتى يتصل بها .. أمه وشقيقته فقط استمرتا في الاتصال بها وزيارتها لإنهاء ترتيبات الزفاف من شراء للفستان وإرسال للدعوات وغيرها من المهام الضرورية
معنويات اماني كانت تنحدر ببطء مع مرور الأيام .. وهي تتساءل عما اقترفته كي يجافيها بهذا الشكل .. هل ندم على تلك القبلة .؟ ألم تعجبه بما فيه الكفاية ؟ هل أحس فجأة بأنه قد علق في الفخ وتورط في الزواج من امرأة لا يريدها ؟
ألمها الشديد كان أكبر دليل على مدى عمق مشاعرها نحوه
إنها تحبه .. يا الله كم تحبه .. وعندما تصل بها قبل ساعات طالبا منها بجفاف أن تلاقيه بعد انتهاء ساعات العمل في مكتبه .. كادت تبكي لمجرد سماع صوته .. أذهلها التغيير الذي أحدثه حبها لهشام في نفسها
منذ متى كانت هي تلك الفتاة الهشة الضعيفة اليائسة إلى كلمة واحدة من حبيبها ؟ أين كانت حساسيتها هذه مختبئة منذ سنوات عندما ظنت نفسها باردة المشاعر والأحاسيس ؟
لم يطلعها على مقصدهما .. ولم تسأله عندما انضمت إليه في السيارة
ثقتها الضعيفة في نفسها وخوفها من الرفض جعلاها تلتزم الصمت مثله تماما .. وإن كانت تسترق النظر نحوه بين لحظة وأخرى .. تتأمل جانب وجهه الوسيم بشغف .. وتلاحظ وجوم ملامحه
عندما أوقف السيارة أدركت بأنهما قد وصلا إلى حارة شعبية فقيرة .. بدا الإهمال واضحا على المباني الآيلة للسقوط .. وفي شوارعها البعيدة عن النظافة .. تجمع الأطفال حول السيارة بفضول .. بينما ظهر عدم الاهتمام جليا على هشام بلفته الواضح للأنظار ..
ترجل من السيارة ودار حولها ليفتح لها الباب ويساعدها على النزول .. رفعت نظرها إليه بتساؤل فتحاشى عينيها قائلا :- طريقنا من هنا
أمسك بمرفقها وقادها فوق الرصيف المهترئ نحو مبنى متهالك أحست بقلبها ينقبض من مجرد النظر إليه .. مدخله كان مظلما وعفن الرائحة .. وسلالمه مهترئة بفعل الزمن .. اضطر للإمساك بذراعها كي لا تتعثر بإحدى الحفر أثناء صعودها .. ورغم قلقها وخوفها المتزايد .. أصرت على التمسك بموقفها ولم تطرح عليه أي سؤال
في الطابق الخامس .. أخرج أخيرا مفتاحا صغيرا .. ودسه في قفل باب كبير تقشر طلاءه .. احتاج إلى دفعة قوية من هشام كي يتحرك امامه .. ويفسح له الطريق للدخول .. فقال باقتضاب :- اتبعيني
تلمست طريقها وسط الظلام .. ثم زفرت بارتياح عندما وصل هشام إلى مفتاح الضوء وأداره .. .وسرعان ما بدد الظلام ضوء ضعيف أصفر صدر عن مصباح سقف بسيط .. تمكنت أخيرا من تأمل المكان من حولها بفضول .. فتبينت شقة صغيرة المساحة .. مزدحمة بأثاث بالي وقديم .. بعض القطع غطيت بالشراشف التي اصفر لونها .. بينما علت طبقات الغبار السميكة الأسطح في كل مكان .
هذه الشقة مهجورة منذ سنوات طويلة .. طويلة جدا
نظرت إلى هشام فصدمتها النظرة المطلة من عينيه وهو يحدق عابسا في زوايا المكان .. لقد كان غاضبا .. ظهر هذا بوضوح من توتر جسده الضخم وانقباض يديه السمراوين وكأنه يقاوم رغبته في تحطيم شيء
ثم رأت تلك العاطفة المستترة في نظراته السوداء .. كمن يستعيد ذكريات قديمة غير سعيدة على الإطلاق
عندها .. فهمت اماني كل شيء .. وهمست اخيرا :- لقد كنت تقيم هنا
تناول إطارا لصورة قديمة .. ومسح الغبار عن زجاجها بأصابعه .. ثم اعادها إلى مكانها قائلا ببرود :- لقد أقمت هنا مع عائلتي لفترة طويلة حتى عشر سنوات خلت
لم تعرف اماني السبب الذي دفعه إلى إحضارها إلى هنا .. وإطلاعها على ماضيه القاسي الذي تجهل عنه الكثير .. ولكنها أدركت بانها تريد أن تعرف .. بل تحتاج إلى ان تعرف ما الذي جعل منه الرجل الذي هو عليه الآن ؟
أكمل كلامه بجفاف :- لقد انتقلنا إلى هنا عندما كنت في العاشرة من عمري .. عندما اضطررنا لبيع شقتنا القديمة الواسعة لسداد جزء من ديون ابي بثمنها
استدار إليها قائلا بسخرية :- لا تتظاهري بالجهل يا اماني .. تعرفين جيدا سمعة أبي السيئة كغيرك من الموظفين لدي .. وقد لمحت لي بها اكثر من مرة أثناء مشاجراتنا المتعددة
احمر وجهها حرجا وهي تقول :- أنا آسفة .. لم أقصد حقا ...
قاطعها بحزم :- أعرف ما كنت تقصدينه بالضبط .. وهو ليس موضوعنا الآن .. غدا سوف تصبحين زوجتي .. لذا فكرت بأنه من الأفضل ان تعرفي كل شيء عني مني انا .. وألا تكتفي بالشائعات التي لاحقتني منذ سنوات .. قد تطلعك سمر على القليل .. وقد تحكي لك أمي القليل .. ولكنهما لن تجدا الجراة على إخبارك بالحقيقة كاملة
فجاو لم تعد اماني راغبة بمعرفة المزيد .. أحست بالخوف مما ستسمعه .. ولكنها عرفت حاجته هو للبوح لها بما لم يبح به لشخص آخر
حاجته لوضع الحمل الثقيل الذي حمله لسنوات على ظهره
تمتمت :- أود حقا ان اعرف الحقيقة
اتجه نحو النافذة .. وفتحها كي يبدد شيئا من رائحة المكان الخانقة .. وسرعان ما تدفق الضجيج من الخارج حتى تلاشى ما احست به اماني بانهما منعزلين عن العالم .. نظر من علو إلى الشارع المزدحم .. إلى الأطفال المتراكضين هنا وهناك ..إلى بائع متجول يصيح معلنا عن بضاعته ثم قال :-
:- كان ابي وحيد رجل ثري .. عانى من طفولة متقشفة فأراد تعويض ابنه بتدليله ومنحه كل شيء .. فكبر فاسدا .. مدللا لا يعرف معنى المسؤولية .. وعندما أدرك والده خطاه فكر بأن تزويجه من فتاة صالحة سيعقله .. ويعيده إلى الطريق القويم .. ووقع اختياره على والدتي .. وكانت ما أراده بالضبط .. امراة صغيرة صالحة ومتدينة .. ولكنها لم تنجح حتى بعد انجابها ل 3 أطفال في إبعاده عن استهتاره وتهوره
التفت إليها .. فبدا وجهه مظلما بسبب ضعف الإنارة .. ولم تستطع معرفة ما يفكر به .. ولكنه أكمل :- كما هو متوقع .. مات والده خائب الأمل .. وأضاع هو ميراثه على اللهو .. وعندما وجد نفسه مفتقرا إلى المال .. لجأ إلى الحل الوحيد الذي فكر به .. وهو النصب على الآخرين .. أقنع بعض معارفه بالاستثمار في مشروع كبير .. ثم أخذ اموالهم واختقى بلا أثر .. سافر فجاة بلا مقدمات أو توضيحات حتى لعائلته .. وسرعان ما وجدت زوجته نفسها وحيدة مع 3 أطفال .. وصفوف من الدائنين يقفون على عتبة بابها
كان لديها فكرة بسيطة عما عانته السيدة لميس من معاناة واضطهاد .. ولكنها فكرت الآن بالطفل ذي السنوات العشر الذي وجد أمه تعاني دون أن يقدر على مساعدتها
:- الأسوأ بالنسبة إليها كان موقف عائلتها .. رفضوا مساعدتها بكل بساطة .. بل اشترطوا عليها أن تتخلى عن أطفالها .. وتحصل على الطلاق كي يتسنى لهم تزويجها مجددا والخلاص من مسؤوليتها فرفضت بشكل قاطع .. ما كانت لتترك أطفالها يتنقلون بين الملاجئ تحت حماية الغرباء .. وما كانت لتطلب الطلاق من رجل رغم جميع مساوئه فقد كان زوجها وحبيبها ووالد أطفالها .. لم يتزعزع إخلاصها أو ثقتها بعودته .. حتى عندما اضطرت للتخلي عن مسكنها والإقامة في جحر حقير كهذا .. والكدح بحثا عن الرزق وهي التي لم تعمل يوما .. ولم تحمل مؤهلا يساعدها على أن تعمل .. لقد ذاقت الأمرين .. عرفت الذل والهوان .. لا يمكنك أبدا أن تتخيلي كيف كانت حياتها خلال السنوات الأولى .. ما زلت أذكر يوم اقتحم أحد الدائنين الشقة وتهجم عليها مصرا على أنها متواطئة مع زوجها .. ذلك اليوم بالذات أظنني قد كبرت .. وودعت طفولتي إلى الأبد .. عندما عرفت إلى أي حد يمكن لأي إنسان أن يكون قاسيا
صوته بدأ يزداد خشونة .. وكسا وجهه الوسيم توحش بدائي وهو يشير إلى الندبة الصغيرة التي قاطعت حاجبه وهو يقول :- هذه الندبة التي سألتني عنها مرارا .. أصبت بها على إثر رمي ذلك الرجل لي قوق طاولة زجاجية عندما حاولت حماية أمي منه ..أقسمت يومها بألا أكون ضعيفا بعدها أبدا .. وألا أسمح لمخلوق بأذية شخص أهتم لأمره حتى لو دفعت حياتي ثمنا لذلك
قالت بتوتر وهي تكبت ارتعاش جسدها :- لماذا تخبرني بهذا ؟ لماذا تعذب نفسك بهذا الشكل ؟
عاد ينظر عبر النافذة إلى الفراغ بعيدا عنها وقال :- سبق واخبرتك بالسبب .. سنعقد قراننا صباح الغد .. وأنت ستصبحين زوجتي .. أردتك أن تعرفي كل شيء عني قبل ان تتورطي معي كي أتيح لك فرصة التراجع قبل فوات الأوان
ساد الصمت لدقيقة كاملة قبل ان تقول بهدوء :- لماذا تظنني سأتراجع بعد معرفتي للحقيقة ؟
لم يجبها .. بل لم تصدر عنه أي حركة .. فاقتربت منه قائلة بحزم :- لقد أخذت فكرة عن ماضي والدك منذ فترة طويلة .. ولم افكر للحظة واحدة بانك تشبهه باي طريقة كانت
تابعت عندما لم يعلق :- قد لا يكون زواجنا حقيقيا .. ولكنني فخورة للغاية بأنك أنت من سيكون زوجي أمام الناس في الغد .. خلال الأشهر التي تلت وفاة أبي .. وقفت إلى جانبي وفهمتني وحميتني أيضا كما لم يفعل أقرب الناس إلي .. لا يهمني على الإطلاق من يكون والدك يا هشام .. ما يهمني هو أي رجل رائع وجدت فيك أنت
استدار إليها فرأت جمود وجهه .. فأسرعت تقول بانفعال :- أنا لا أقول هذا بسبب الامتنان .. مع أنني حقا ممتنة لكل ما فعلته معي
اقتربت منه أكثر حتى لم تعد تفصل بينهما سوى سنتيمترات قليلة
رفعت رأسها إليه .. فارتعش قلبها عندما التقت عيناها بعينيه السوداوين .. بالرغم من قربه منها إلا أنه بدا وكأنه على بعد أميال
دون أن تفكر .. رفعت يدها لتلمس أناملها صدره الصلب .. وقالت :- أتعرف ما الذي أراه عندما أنظر إليك ؟
أحست بتوتر عضلاته تحت أناملها .. ولمحت توتر شفتيه فهمست :-
:- رجل بنى نفسه بنفسه من الصفر .. بقوة وإصرار وشرف .. ليمنح أمه وشقيقتيه الحياة التي حرمن منها .. رجل أعمال فذ ذو عقل عبقري وطباع صعبة .. ولكنه رئيس عادل وكريم .. لم يقلل يوما من شأن أحد موظفيه .. كان لهم دائما كالأب والمرشد .. حسنا .. ليس جميع موظفيك .. نستطيع استثناء الموظفات الوقحات طويلات اللسان
ابتسمت باضطراب .. فكان الصدى الوحيد الذي لقيته منه هو اهتزاز طفيف في عينيه القاتمتين .. أكملت :-
:- رجل لم يتردد قبل ربط نفسه بفتاة أصبحت حديث المدينة بأكملها فقط كي يحميها من ظلم والدها وابن عمها .. أنا لا أعرف حقا لماذا تضحي بنفسك لأجل فتاة لا تعني لك الكثير .. ولكنني أتمنى ألا تندم في النهاية على تضحيتك هذه
أحست بخفقات قلبه تحت أصابعها .. وفجأة .. ساد ذلك التوتر الذي لطالما حل بينهما كلما انفردا .. غطا يدها بيده الكبيرة .. وقال بصوت خشن :- لا يهمني السبب الحقيقي لزواجك مني يا أماني .. ولكنك غدا صباحا ستصبحين زوجتي .. ولن أسمح لك بالتراجع
هزت رأسها هامسة :- لن أتراجع
داعب وجنتها بأنامله بينما يتأمل وجهها بعينين لامعتين ثم غمغم :- من الأفضل أن أعيدك إلى شقة سمر قبل أن تقلق
تركها فجأة فانكسر السحر ... وانتهت لحظات التقارب والمصارحة التي جمعت بينهما .. وعاد هشام إلى تحفظه وتباعده وهو يطفئ الأنوار ويقفل الباب .. وعندما ودعته تحت المبنى الذي تقيم فيه سمر .. رفض مرافقتها إلى الداخل .. بل اكتفى بأن قال لها وهي تغادر السيارة :- سأراك صباح الغد
لم ينطلق حتى تأكد بأنها قد غابت خلف البوابة .. وعندما أغلقت أماني الباب خلفها .. سمحت لدمعتين يتيمتين بتجاوز مقلتيها .. ثم مسحتهما وهي تهمس :- لا تلومي إلا نفسك يا أماني .. لقد كنت تعرفين ومنذ البداية بأن هشام مهما كان قريبا منك .. فإنه أبدا لن يكون لك

سيدة الشتاء حيث تعيش القصص. اكتشف الآن