البداية

18.5K 705 38
                                    

تويتة زرقاء عابرة، خرج صوت تغريدها الهادئ من داخل هاتفي لافتًا نظري إليها، فقرأتها بتمعن دُون النظر إلى هوية كاتبها، وكأنها مُوجهة لي بشكل شخصي مُذكِرة ..
" نحنُ لا نُحب حين ننبهر .. نحنُ نُحب حين نطمأن "

تسمَرت أمامها لثوان مُتذكرة قِرآتها من قَبل داخل إحدى المقالات الأدبية ذات يوم حين استوقفتني لأول مرة وتخللت عقلي ببطيء لترسو داخل وجداني دون أن أشعر حينها ..
إلا أنها في الحقيقة ترسبت في قاع ذلك الجزء الغير واع من عقلي، فلم أهتم بها أو أتذكرها وأنا أنساق وراء أول انبهار صادفني، بعد أن اعتقَدت أو أردت أن اعتقد حينها كونه هو الحُب المُنتظر ، مُتجاهلة تمامًا أهميه الاطمئنان لاستمرار ذلك الحُب ..
 
أما قبل ذلك ..
فكُنت أُحاول جاهدة التحكم بتلابيب فلبى وإمساكه عن الخفقان من جديد أو التعلق بأحدهم بعد فشل تجربتي الأولى وحصولي على لَقب (مُطلقة) تُمسك بيدها طفلة صغيرة لا تتجاوز السبع سنوات من غمرها مُتجهة بها إلى بيت أبيها، تلك الصغيرة التي تحججت بها مِرارًا للهروب من عروض الزواج المُتكررة، إلا إني في الحقيقة بداخلي ماكُنت أخشى ولا أَفِر سوى من فشل جديد، حيثُ أردت الإفلات من فكرة إعادة البناء مرة أُخرى، إعادة تكوين أُسرة مُتهالكة داخل بيت زوجية يهزمني ووهب قلبي لإنسان رُبما سيتلذذ بالعبث بجراحي الثخينة ويستنفرها للنزيف من جديد ..
كُنتُ قد اعتدت على لقب (مُطلقة) الذى لازمني في الآونة الأخيرة وأصبح مُلاصق لتعريفي الشخصي في أي مكان تطأه قدمي، لكنى لم أستطع الاعتياد أو تجاهل نظرات النساء لي قبل الرجال؛ حين يستمعون منى إلى ذلك اللفظ أو إلى تلك الوصمة على حد تعبيرهن !

فقليلاً مِنهُن من ترنو إلي بأعينها بكثير من الإشفاق والرثاء، وكأنني قد بُترت ساقى أو إحدى ذراعيّ، بينما أُخروات يتفحصنني بلا استحياء من رأسي حتى أخمص قدمي باحثات عن النقص الجسدي والشكلي في هيئتي والذى أدى بي إلى تلك العِلة من منظورهم المحدود  ..

أما من يعرفنني مِنهُن حق المعرفة وعايشن ما عانيته بل وشجعنني على اتخاذ تلك الخطوة ذات يوم، فلقد ابتعدن عنى بصورة ملحوظة مُتعمدة سواء كُن من صديقاتي المُقربات أو قريباتي الاتى تجمعني بهن صلة دم، خوفًا على أزواجِهن من تواجدي داخل حيز اجتماعاتهن، أو لربما كان ذلك بتحريض من الأزواج نفسهم لزوجاتهن حتى لا يحتذين حذوي ويتمردن على واقعهُن ..

فأولئك الأزواج أو الرجال بشكل عام لي عنهم حديث ليس بالقليل لا ينضب ولا ينته لكنى أكتف باختصار أفعالهم في قولي  .. (( لقد اعتقدوا أنى لُقمة سائغة بلا أي غطاء يحميها يستطيعون تذوقها في أي وقت متى يشاؤون )) ..
 
لكن ولم الاختصار على أية حال !
فتلك النوعية من الذكور لا يحل لهم سوى تعرية قذارتهم المُخبأة بين طيات المُجتمع، وأنا التي حسبت ذات يوم أن نصيبي أوقعني في أكثرهم بشاعة، لكن ومع انخراطي في العمل تبين لي الوجه الآخر لكل رجل تَصّنَع الوقار والأدب ذات يوم ..

فها هم يتفحصوني بأعين ذئاب لاهثة اعتقدت للحظة أنها قد فازت بفريستها المُنتظرة، فتخللت كِلماتهم إيحاءات غير مُلائمة مُتعمدة مزجوها بعباراتهم وكأنها قد خرجت سهوًا من بين شفاههم فيتبعها على الفور قولهم من بين ابتسامتهم الخبيثة الصفراء ( لا مؤاخذة يا مدام )، تلك العبارة يُصاحبها نظرات مؤذية مُنفرة إلى معالمي وكأنه يختبر تأثير قوله على قسماتي واستنباط إذا ماكُنت على استعداد للتساهل معه أم إيقافه عند هذا الحد ؟؟
 
أما من توسمت به بعض الأخلاق والتدين فلقد أراد العبث تحت إطار الزواج العرفي أو بسرية تامة حتى لا يترامى الخبر إلى مسامع زوجته فتنهدم أُسرته، ومنهم من طلبني لِنفسه جَهراً مُعلناً عن هدفه الأسمى ألا وهو خِدمة فلذات كبده ومساعدته في تربيتهم بعد وفاة زوجته الأولى أو طلاقُه، وآخر أراد الاستمتاع بما تبقى من سنوات عمره برفقة شابة جميلة تُنسيه سنون كهولته البائسة وتبُث بداخله بعض النشاط ..
 
حقًا لم يعبأ بحالي يومًا سوى أبوي، خاصةً أبى الذى عارض كثيرًا خروجي لمجال العمل خوفًا على ابنته الوحيدة من أولئك الأوغاد ..

كان يُشفق علىّ من مُقابلة الحمقى أو التعرض لكلمات ونظرات تُخدش حيائي ورُبما تُضعِف نفسى ..
هو عَلِم إني في حقيقتي ضعيفة هشة رغم تظاهري بالقوة، أَحَس بذلك الشيء بداخلي الذى لا يرضيه إلا إظهار الصلابة والشموخ والتعفف وعزة النفس، لكنى بالنهاية أزعنت لضعفي ...

 فرغمًا عنى في إحدى الليالِ وفى أوج احتياجي للاحتواء والحُب من جديد قابلت انبهاري الأول والذى طالما تمنيت مثيله، وأصدقكم القول إني حينها لم أُقاوم كثيرًا، ولِما أُقاوم ذلك الأربعينى صاحب القلم السحري الذى يأسر الفتيات بكلماته قبل طلَته ومظهره الأنيق الأخاذ ؟؟
كنجوم السينما ودنجوانات العصر الكلاسيكي ظهر هو أمامي من اللاشيء ليقتحم عالم أحلامي قبل دنياي جاذبًا إياي داخل روايته كبطلة في عالمه الخيالي الآسر الذى طالما وددت أن أعيش بداخله ..
والآن بعد خوضي تلك التجربة أعرض لكم حياتي بين أسطر روايتي الأولى المُوقعة بأسمي ...
 

" شمس محمود الرفاعي"

(كلهم مصطفى أبو حجر؟) النسخة الورقية حيث تعيش القصص. اكتشف الآن