4..تحت رحمتي

2.3K 75 38
                                    

انهى ياغيز جولته في المصنع و أصدر تعليماته ثم خرج ليجد هزان تنتظره بجانب السيارة..ألقى عليها نظرة سريعة قبل ان يقول" سنذهب الآن الى الشركة" اكتفت بالايماء برأسها ثم ركبت بجانبه..انطلق مسرعا و قام بفتح الراديو فصادف أغنية كانت هزان تحبها..أغمضت عيونها و راحت تردد كلماتها بصوت خافت..رمقها لوهلة بنظرة باردة قبل ان يغلق الراديو لإغاظتها..فتحت عيونها و حملقت فيه بغضب و همت بالاعتراض لكنها تراجعت عن ذلك و خيرت الصمت..زم ياغيز شفتيه و سأل بنبرة ساخرة" ألن تعترضي؟ لماذا لم تبدي ردة فعل؟" هزت هزان كتفيها بلا مبالاة و ردت" لقد تعودت على هذه الحركات الصبيانية منذ الصغر..و تعودت كذلك على تجاهلها" انفجر ضاحكا ثم قال" أبهذه البساطة تقبلين و ترضين بالوضع؟ هذا رائع..هذا يعني بأنني سأهزمك دائما..و سأفعل معك ما يحلو لي دون أن تعترضي..اعجبني هذا..أنت فعلا فتاة مسالمة" نظرت اليه هزان و قالت تحذره" اياك و الاعتقاد بأنني سأخير الصمت دائما امام استفزازاتك و طريقتك الوقحة..بل سأجيبك بالطريقة المناسبة و في الوقت المناسب..أنا فتاة مسالمة كما قلت عني قبل قليل لكنني ايضا لن أرضى بأن تهينني او أن تتجاوز في حقي..لا تنسى هذا أبدا" ابتسم ياغيز و رد" سأنتظر هذا بفارغ الصبر" اتكأت هزان بمرفقها على زجاج النافذة و راحت تتأمل البنايات الشاهقة و الشوارع المكتظة..أما هو فكان يلقي ببصره ناحيتها بين الفينة و الأخرى ثم يعود لقيادة السيارة..بعد دقائق ..وصلا الى مقر شركة ايجمان للأجبان و الألبان..بناية شاهقة بواجهة بلورية جميلة و لافتة كبرى عُلّقت على المدخل..ترجل ياغيز من سيارته و تبعته هي الى الداخل..اعترضتهما فتاة جميلة بقامة متوسطة و ملابس انيقة و اقتربت من ياغيز قائلة" أهلا و سهلا سيد ياغيز..قهوتك جاهزة و السيد أنور ينتظرك في مكتبك" رد" شكرا لك إيزجي..هل جهزت لي ملف الميزانية؟" اجابت" نعم سيدي..ستجده على مكتبك..و لديك موعد على الساعة الواحدة مع ممثلين عن الشركة الألمانية" قال"حسنا..سلمت يداك" ثم تجاوزها و دخل الى المصعد..تبعته هزان و صعدا معا الى الطابق العلوي حيث يوجد المكتب..تأملت هزان البناء و المكاتب الموزعة هنا و هناك..الموظفون يعملون بجد و ترتسم على ملامحهم الجدية كلما مر بهم ياغيز..يقفون و يحيونه ثم يعودون الى عملهم..فتح ياغيز باب المكتب و دخل فوقف انور و اعترضه معانقا و هو يقول" اهلا و سهلا بصديق الروح..آسف على ليلة البارحة..لكنك كنت عصبيا جدا و لم تترك لي فرصة لشرح وجهة نظري" ربت ياغيز على ظهره و رد" لا عليك يا صديقي..لننسى الموضوع..كيف حالك؟" اجاب انور" انا بخير" ثم صمت و راح يتأمل هزان بنظرات فضولية متسائلة..لم يهتم ياغيز بتقديمها له فتقدمت هي نحوه و مدت يدها مصافحة و هي تقول" مرحبا..أنا هزان" صافحها انور بحرارة و قال" اهلا و سهلا..انا أنور..صديق ياغيز..تشرفت بمعرفتك..هل أنت السكرتيرة الجديدة؟" ابتسمت هزان و ردت" لا..أنا الابنة بالتبني..و أنا أيضا تشرفت بمعرفتك" رمق أنور صديقه بنظرات عاتبة و قال" عيب عليك يا هذا..أيعقل بأن تصبح لديك أخت بهذا الجمال و لا تعرفني عليها؟ سأحاسبك على هذا..آنسة هزان..تفضلي بالجلوس" جلست هزان قبالته فيما جلس ياغيز وراء مكتبه و راح يتصفح ملف الميزانية متجاهلا تعليق انور..قال انور" أهلا بك بيننا آنسة هزان..و حمدا لله على سلامتك..لقد علمت بأنك كنت تعانين من مرض في القلب و أجريت عملية زرع..أتمنى أن تكوني بخير الآن" ابتسمت هزان و اجابت" شكرا لك سيد أنور..الحمد لله..الأمور على خير ما يرام..أنا مدينة بالشكر لعائلة ايجمان و لذلك قبلت أن أكون عضوا فيها رغم معرفتي بأن الوضع الجديد لن يكون سهلا على كلينا" هز انور برأسه و قال" لا عليك..الوقت دواء لكل شيء..الوضع جديد بالنسبة اليكم و يلزمكم بعض الوقت للتعود عليه" رمقهما ياغيز بنظرات باردة و علق ساخرا" اذا انتهت محادثتكما اللطيفة فبإمكانكما الذهاب معا في جولة في الشركة..اريد أن انهي عملي لو سمحتما" رفع أنور حاجبه استغرابا و قال و هو يقف" اعذرنا على الازعاج سيادة المدير..لن نلهيك عن عملك أكثر من هذا" ثم التفت الى هزان و أضاف" تفضلي معي آنسة هزان..سأصطحبك في جولة في الشركة ثم سأدعوك لشرب فنجان قهوة في الكافيتيريا طبعا ان لم يكن لديك مانع" ردت" على العكس..هذا من دواعي سروري..شكرا لك" و خرجا معا فيما تابعهما ياغيز بعيون غاضبة..تجول انور و هزان بين الأقسام و المكاتب ثم جلسا معا في الكافيتيريا يحتسيان القهوة..قال انور" اتعلمين آنسة هزان..لديك وجه جميل و ذو طابع خاص..أتمنى ان تمنحيني شرف التقاط بعض الصور لك..نسيت أن أخبرك بأنني مصور فوتوغرافي محترف..لذلك أتمنى ان تشرفيني ذات مرة في الأستوديو الخاص بي" ارتشفت هزان رشفة من فنجانها ثم اجابت" و لم لا..أنا احب الصور كثيرا..لكنني لا املك الكثير منها..هي صورة وحيدة لأبويّ الحقيقيين و انا اتوسطهما..و بعض الصور الأخرى مع رفيقتيّ من الميتم بتول و جيداء..و أنت..هل كنت تحب التصوير منذ صغرك؟" ابتسم أنور و رد" نعم..كنت اعشق الصور و التصوير و الكاميرات الفوتوغرافية..أتذكر ذات مرة بأنني احتفظت بكاميرا قديمة وجدتها ملقاة في حاوية القمامة..و كنت اتظاهر بانني التقط الصور بها..انهيت دراستي ثم افتتحت الأستوديو الخاص بي و صرت مصورا محترفا..و أنا سعيد بعملي و شغوف به..و أنت؟ ماذا تعملين؟" قالت هزان" أنا طبيبة بيطرية..لطالما كانت علاقتي بالحيوانات جيدة..منذ أيام الميتم..و عندما كبرت قررت أن أعتني بهم بطريقة تساعدهم أكثر..لذلك تخصصت في الطب البيطري..و أتشارك عيادة صغيرة مع طبيب زميل" قال انور" هذا جميل..من المعروف عن الأطباء البيطريين بأنهم اناس مرهفوا الحس و قلوبهم كبيرة و يتحلون بإنسانية طاغية..و أنا واثق بأنك كذلك" طأطأت هزان رأسها خجلا و قالت" شكرا لك..هذا من لطفك سيد أنور" نظر انور الى ساعته و قال" لا بد بأن صديقي المتعجرف قد أنهى عمله..هل نعود اليه؟" هزت هزان كتفيها بلا مبالاة فأضاف أنور" اعلم بأنه يضايقك كثيرا..لكن صدقيني..ياغيز ليس كذلك..انه صاحب قلب طيب و اخلاق عالية..لكن خسارته لاخته كانت قاسية عليه جدا..و لا يستطيع تخيل حلول شخص آخر محلّها..حاولي أن تتفهميه و تعذريه..و كما أخبرتك سابقا..الوقت هو الدواء الوحيد" ابتسمت هزان و همت بالرد عليه عندما اقتربت منهما ايزجي و قالت"سيد أنور..السيد ياغيز يعتذر منك لأنه اضطر للانصراف فجأة و يطلب منك أن توصل الآنسة هزان الى المنزل" صفق انور كفيه و رد" حسنا ايزجي..شكرا لك" ثم التفت الى هزان و اضاف" تعالي معي..سأوصلك الى المنزل..و لا تهتمي لهذا المجنون..سأحاسبه على تصرفاته الصبيانية هذه" تبعت هزان انور بصمت الى سيارته ثم غادرا معا..
في شقته..فتح ياغيز زجاجة ويسكي سكب منها كأسا احتساه دفعة واحدة ثم سكب كاسا آخرا وضع فيه قطع ثلج صغيرة و ارتمى على الأريكة و مد ساقيه على الطاولة الصغيرة أمامه..كان مخنوقا من كل شيء..و هاربا من كل شيء..من المنزل..من الشركة..من العمل..من أبويه..من انور..و من هزان خاصة..طأطأ رأسه لوهلة ثم رفعه فالتقت عيونه بصورته مع أخته المرحومة..تلك الصورة التي أصرت يلدز على تكبيرها و وضعها في اطار و تعليقها على الحائط في شقته لكي تكون معه حتى عندما ينعزل لوحده هناك..تأمل ابتسامتها الرائعة..و عيونها اللامعة الجميلة..كانت تحب الحياة..و كلها طاقة و حيوية..كانت مجرد رؤيته لها تجعله يبتسم و يقبل على الحياة بكل حماس..كانت مشاغباتها تلون أيامه و تبعث الانشراح في نفسه..الآن لا شيء يسعده او يعدل مزاجه..فراغ اسود يحيط به و يطبق على أنفاسه..كل المعاني الجميلة و الأشكال الرائقة للحياة اختفت و ذهبت بذهاب غاليته يلدز..لم يستطع منع دموعه من الانهمار بغزارة على خديه و هو ينظر الى وجه اخته الضحوك..وضع يده على فمه لكي يخفي صوت بكاءه و كأنه يخجل من اظهار دموعه امام اخته التي كانت تكره البكاء و الحزن و الجو الكئيب..

لَسْنا إخوةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن