هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب
والعناقيد تدلت كثريات الذهب؟هل فرشت العشب ليلًا، وتلحفت الفضا؟
زاهدًا فيما سيأتي، ناسيًا ما قد مضى.-المواكب-
-جبران خليل جبران-***
في قرية المواكب النائية كل غروب، اعتاد غيهب الجلوس يراقب جفنات العنب في الأفق القريب، أين تعكس الشمس الساقطة ألوانها الحادة على الكروم اللائحة، فتتدلى العناقيد كثريات من ذهبية، يجلس مفترشا العشب الطري ويراقب الشمس الهاوية تختفي تاركةً وراءها ليلًا غيهبًا شديد السواد، لكن ساكنًا شديد الجمال.
يسند ظهره على الشجرة المعمرة، حيث يحتك لحاؤها الخشن بظهره من فوق كنزته الصيفية الخفيفة، وتتغازل الحشائش الخضراء الرطبة مع ما تعرى من جلده فتتغلل الطبيعة في أعماقة، مانحة إياه لحظات خاطفة من الأبدية. نشوة قاصية.. كلذة محرمة، لكنها مباحة.
رافعًا رأسه يطالع الفضاء الموشى بالنجوم، يداعب فرو قطته الصغيرة ثم يغمض عينيه، يستمع إلى صوت الطبيعة الخالي من التشوهات الآدمية، ويتنهد بخشوع عندما تتمشى على وجهه أنامل الصبوات الصيفية المقدسة محملة برائحة الثرى.
غيهب شاب يافع، مضى على مولده تسعة عشر ربيعًا، لكن قلبه ما زال طفلا. هش جدًا، وحلو جدًا، يخفيه بمهارة خلف أفق الشمس، خلف نظراته الحادة.. خلف صمته المطبق، وعزلته الباهتة.
لأن غيهب أراد الحفاظ على قلبه -ما تبقى من قلبه-، انزوى بعيدًا عن ضوضاء العالم، مسندًا ظهره على جنة، الشجرة العجوز التي تضرب جذورها العريضة بكرم في المكان و تظلل بأوراقها الكبيرة مساحة شاسعة.
هي أكبر شجرة في قرية المواكب، وصديقة غيهب التليدة. جنة، هكذا أسماها في صغره؛ لأن تلك الشجرة كانت قادرة على أن تمنح السلام لروحه.
لكن بالإضافة إليها كانت هناك ريجينا، قطته الصغيرة ذات الفرو الأسود المنفوش والعينان اليشميتان، تضاهيان بجمالهما عيون الأطفال زهوًا وبراءة.
«آه!» تذمر عندما شعر بريجينا تضرب بمخالبها جانب وجهه بعد أن تسلقت جذعه الطويل فما كان منه إلا أن يحمل جثتها الضئيلة بين يديه الخشنتين، ويراقب لمعان عينيها تحت الضوء الشحيح للقمر.
أنت تقرأ
غَيْهَبْ
Espiritualبعد حادثة مؤلمة، تنتقل الممرضة الألمانية موج فؤاد جبران إلى قرية المواكب، متجاهلة تماما السبب الدفين الذي دفعها للقدوم إلى هذه القرية في المقام الأول. موج بعد أن عاشت طول حياتها وحيدة، آخر ما كانت تتوقعه هو أن تقع في شباك الحب والعائلة.. بل أن تتمز...