صفعة. شعرت موج أن الحياة، بعنف تصفعها. لم تكون مستعدة أبدًا لهذه الصفعة، ليس وهي في أكثر لحظاتها ضعفا. ابتلعت الرجل بعينيها تحاول تكذيبهما، ولكنه كان نفسه، بعينه.
العينان الخضراوان، والشعر الأشقر الذي خالطته شعرات الزمن الشاحبة، حاجباه الحادان اللذان تمعنت فيهما عددا لا يحصى من المرات. الأنف الدقيق ورسمة الفك تحت لحيته الخفيفة ذاتها.. هذا الرجل بدا أكبر سنًا وأكثر لينًا من ذاك لاغير.
وكأن قلبها يريد الدفاع عن نفسه ضد الألم، عادت الممرضة خطوة للوراء فاصطدمت بمبرد المياه وشعرت بأن جسدها على شفا حُفرة من الانهيار.
استغرب الرجل حالها فسأل: «آنستي، هل أنتِ بخير؟»
إنه لا يعرفها! لم يتعرف عليها، لم تبدُ له مألوفة ولو من قبيل الصدفة. جزت على أسنانها بغضب، احتدت عيناها وهاجت فيهما بِحارُ الغضب دون أن تُدرك مما زاد الاستغراب على ملامحه. قرر تجاهل حالها وإنهاء هذا الموقف الغريب بأسرع ما يمكن فبادر بالقول شاكرا: «أخبرتني أُختي بما فعلتِه، لقد أنقذت حياة أُمي..» بان شك مؤلم على وجهه ثم أكمل: «أو على الأقل أرجو أنك قد نجحتِ، لذلك مهما شكرتك فلن أفيكِ حقك.»
أرادت أن تخبره أنها لا تحتاج شُكره البائِر، أن تصرخ فيه ليغرب عن وجهها أو أنها لن تنتظر شيئا من أمثاله حتى وإن انطبقت الأرض على السماء ولكنها لم تفعل، كانت مشلولة.
أخرج الرجل بطاقة من سترته وقدمها إليها : «هذه بطاقتي، إن حدث واحتجت أي شيء من فضلك اتصلي أو شرفيني على هذا العنوان. أتمنى أن أستطيع رد جميلك في يوم من الأيام.»
نظرت موج إلى يده الممدودة وفي لمح البصر، انكسر الغضب في عينيها إلى حروب من التشتت. بصعوبة بالغة مدت يدها وأخذت البطاقة قبل أن تهمس بصوت مبحوح: «أعذرني.»
انسلت بعيدا متجاهلة النظر إلى وجهه واتجهت مُسرعة إلى دورة المياه. معدتها كانت فارغة ولكنها ما فتئت تنقبض بصورة مؤلمة وشعرت بالأحماض تصعد إلى حلقها. اقتحمتها وحبست نفسها في أقرب مرحاض. أرادت التقيؤ ولكنها لم تأكل شيئا منذ يوم كامل، وكلما حصلت عليه هو أحماض تجرح حلقها.
سعلت متألمة وخارت قواها حين انتهت فسقطت على الأرض قبل أن تدخل في نوبة بكاء هستيرية لم تعرف كيف تخرج منها. تكاد تُقسم أنها لم تختبر شعورا كهذا قطُ في حياتها. كانت تشعر بالألم كما لم يحدث من قبل. شعرت بأن صدرها المتهدج سينفجر من فرط الوجع والغضب والجزع. أرادت الصراخ، أرادت تحطيم العالم، أرادت محاكمتهم جميعًا على ما حدث لها ولكنها لم تفعل أيا من هذا، وإنما أمسكت بقلبها واستمرت في البكاء غير قادرة على التوقف.
أنت تقرأ
غَيْهَبْ
Espiritualبعد حادثة مؤلمة، تنتقل الممرضة الألمانية موج فؤاد جبران إلى قرية المواكب، متجاهلة تماما السبب الدفين الذي دفعها للقدوم إلى هذه القرية في المقام الأول. موج بعد أن عاشت طول حياتها وحيدة، آخر ما كانت تتوقعه هو أن تقع في شباك الحب والعائلة.. بل أن تتمز...